الآيات 169-171

وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴿169﴾ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿170﴾ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿171﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد والباقون بالتخفيف وقرأ الكسائي وحده إن الله لا يضيع بكسر الألف والباقون بالفتح.

الحجة:

من قرأ ﴿قتلوا﴾ بالتخفيف فالوجه فيه إن التخفيف يصلح للقليل والكثير ووجه الفتح في أن أن المعنى ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجرهم ويتوفر ذلك عليهم ويوصله إليهم من غير نقص وبخس ووجه الكسر على الاستئناف.

اللغة:

أصل البشارة من البشرة لظهور السرور فيها ومنه البشر لظهور بشرته والمستبشر من طلب السرور في البشارة فوجده ولحقت الشيء وألحقته غيري وقيل لحقت وألحقت لغتان بمعنى واحد وجاء في الدعاء أن عذابك بالكفار ملحق بكسر الحاء أي لاحق والنعمة هي المنفعة التي يستحق بها الشكر إذا كانت خالية من وجوه القبح لأن المنفعة على ضربين - (أحدهما) - منفعة اغترار وحيلة - (والآخر) - منفعة خالصة من شائبة الإساءة والنعمة تعظم بفعل غير المنعم كنعمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على من دعاه إلى الإسلام فاستجاب له لأن دعاءه أنفع من وجهين - (أحدهما) - حسن النية في دعائه إلى الحق ليستجيب له (والآخر) بقصده الدعاء إلى حق يعلم أن يستجيب له المدعو وإنما يستدل بفعل غير المنعم على موضع النعمة في الجلالة وعظم المنزلة.

الإعراب:

أحياء رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف أي بل هم أحياء ولا يجوز النصب فيه بحال لأنه يصير التقدير فيه بل احسبهم أحياء والمراد بل أعلمهم أحياء ويرزقون في موضع رفع صفة لأحياء وفرحين نصب على الحال من يرزقون وهو أولى من رفعه عطفا على بل أحياء لأن النصب ينبئ عن اجتماع الرزق والفرح في حال واحدة ولو رفع على الاستئناف لكان جائزا وقال الخليل موضع ﴿ألا خوف عليهم﴾ جر بالباء على تقدير بأن لا خوف عليهم وقال غيره موضعه نصب على أنه بدل من قوله ﴿الذين لم يلحقوا﴾ وهو بدل الاشتمال مثل قوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه.

النزول:

قيل نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين وقيل نزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار عن ابن مسعود والربيع وقتادة وقال الباقر (عليه السلام) وكثير من المفسرين أنها تتناول قتلي بدر وأحد معا وقيل نزلت في شهداء بئر معونة وكان سبب ذلك ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار بإسناده عن أنس بن مالك وغيره قالوا قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة وكان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول الله المدينة وأهدى له هدية فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يقبلها وقال يا أبا براء لا أقبل هدية مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يعد وقال يا محمد إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إني أخشى عليهم أهل نجد فقال أبو براء أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن صلت السلمي ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد فساروا حتى نزلوا بئر معونة فلما نزلوا قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله أهل هذه الماء فقال حرام بن ملحان أنا فخرج بكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى عامر بن الطفيل فلما أتاهم لم ينظر عامر في كتاب رسول الله فقال حرام يا أهل بئر معونة أني رسول رسول الله إليكم وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ف آمنوا بالله تعالى ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقدا وجوارا فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية ورعلا وذكوانا فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير يحوم حول العسكر فقالوا والله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا لينظرا إليه فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية ما ذا ترى قال أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر فقال الأنصاري لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبرهم أنه من ضمر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أبيه فقدم عمرو بن أمية على رسول الله وأخبره الخبر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هذا عمل أبي براء وقد كنت لهذا كارها متخوفا فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله بسببه فقال حسان بن ثابت يحرض أبا براء على عامر بن الطفيل:

بني أم البنين أ لم يرعكم

وأنتم من ذوائب أهل نجد

تهكم عامر بأبي براء

ليخفره وما خطأ كعمد

ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي

فما أحدثت في الحدثان بعدي

أبوك أبو الحروب أبو براء

وخالك ماجد حكم بن سعد وقال كعب بن مالك:

لقد طارت شعاعا كل وجه

خفارة ما أجار أبو براء

بني أم البنين أ ما سمعتم

دعاء المستغيث مع النساء

وتنوية الصريخ بلى ولكن

عرفتم أنه صدق اللقاء فلما بلغ ربيعة بن أبي براء قول حسان وقول كعب حمل على عامر بن الطفيل وطعنه فخر عن فرسه فقال هذا عمل أبي براء إن مت فدمي لعمي ولا يتبعن سواي وإن عشت فسأرى فيه رأيي قال فأنزل الله في شهداء بئر معونة قرآنا بلغوا قومنا عنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت ورفعت بعد ما قرأناها وأنزل الله تعالى ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله﴾ الآية.

المعنى:

لما حكى الله سبحانه قول المنافقين في المقتولين الشهداء تثبيطا للمؤمنين عن جهاد الأعداء ذكر بعده ما أعد الله للشهداء من الكرامة وخصهم به من النعيم في دار المقامة فقال ﴿ولا تحسبن﴾ والخطاب للنبي أو يكون على معنى لا تحسبن أيها السامع أو أيها الإنسان ﴿الذين قتلوا في سبيل الله﴾ أي في الجهاد وفي نصرة دين الله ﴿أمواتا﴾ أي موتى كما مات من لم يقتل في سبيل الله في الجهاد ﴿بل أحياء﴾ أي بل هم أحياء وقد مر تفسيره في سورة البقرة عند قوله ﴿ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات﴾ الآية وقوله ﴿عند ربهم﴾ فيه وجهان (أحدهما) أنهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا ربهم وليس المراد بذلك قرب المسافة لأن ذلك من صفة الأجسام وذلك مستحيل على الله تعالى (والآخر) أنهم عند ربهم أحياء من حيث يعلمهم كذلك دون الناس عن أبي علي الجبائي وروي عن ابن عباس وابن مسعود وجابر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وروي عنه أنه قال لجعفر بن أبي طالب وقد استشهد في غزاة موته رأيته وله جناحان يطير بهما مع الملائكة في الجنة وأنكر بعضهم حديث الأرواح وقال الروح عرض لا يجوز أن يتنعم وهذا لا يصح لأن الروح جسم رقيق هوائي مأخوذ من الريح ويدل على ذلك أنه يخرج من البدن ويرد إليه وهي الحساسة الفعالة دون البدن وليست من الحياة في شيء لأن ضد الحياة الموت وليس كذلك الروح وهذا قول علي بن عيسى ﴿يرزقون﴾ من نعيم الجنة غدوا وعشيا وقيل يرزقون النعيم في قبورهم ﴿فرحين بما آتاهم الله من فضله﴾ أي يسرون بما أعطاهم الله من ضروب نعمه في الجنة وقيل في قبورهم وقيل معناه فرحين بما نالوا من الشهادة وجزائها ﴿ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم﴾ أي يسرون بإخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من الإيمان والجهاد لعلمهم بأنهم إن استشهدوا لحقوا بهم وصاروا من كرامة الله إلى مثل ما صاروا هم إليه يقولون إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من النعيم مثل ما أصبنا عن ابن جريج وقتادة وقيل أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه فيسر بذلك ويستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا عن السدي وقيل معناه لم يلحقوا بهم في الفضل إلا أن لهم فضلا عظيما بتصديقهم وإيمانهم عن الزجاج ﴿ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ أي يستبشرون بأن لا خوف عليهم وذلك لأنه بدل من قوله ﴿الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم﴾ لأن الذين يلحقون بهم مشتملون على عدم الحزن فالاستبشار هنا إنما يقع بعدم خوف هؤلاء اللاحقين ومعناه لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم لأن الله تعالى يتولاهم ولا هم يحزنون على ما خلفوا من أموالهم لأن الله قد أجزل ما عوضهم وقيل معناه لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه لأن الله محص ذنوبهم بالشهادة ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة ﴿يستبشرون﴾ يعني هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله الذين وصفهم الله بأنهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله ﴿بنعمة من الله وفضل﴾ الفضل والنعمة عبارتان يعبر بهما عن معنى واحد قيل في تكراره قولان (أحدهما) إن المراد أنها ليست نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة السرور واللذة فالنعمة ما استحقوه بطاعتهم والفضل ما زادهم من المضاعفة في الأجر (والآخر) إنه للتأكيد وتمكين المعنى في النفس والمبالغة ﴿وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ أي يوفر جزاءهم وإنما ذكر ذلك وإن كان غيرهم يعلم ذلك لأنهم يعلمونه بعلم الموت ضرورة وإنما يعلمونه في دار التكليف استدلالا وليس الاستدلال كالمشاهدة ولا الخبر كالمعاينة فإن مع الضرورة والعيان يتضاعف سرورهم ويشتد ارتباطهم وفيه دلالة على أن الثواب مستحق وإن الله لا يبطله البتة وإن الإثابة لا تكون إلا من قبله تعالى ولذلك أضاف نفي الإضاعة إلى نفسه وما روي في الأخبار من ثواب الشهداء أكثر من أن يحصى أعلاها إسنادا ما رواه علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال بينما أمير المؤمنين يخطب ويحضهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله فقال كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل فسألته عما سألتني عنه فقال الغزاة إذا هموا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت ويخرجون من الذنوب كما تخرج الحية من سلخها ويوكل الله بكل رجل أربعين ملكا يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ولا يعمل حسنة إلا ضعف له ويكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله ألف سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما اليوم مثل عمر الدنيا وإذا صاروا بحضرة عدوهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم فإذا برزوا لعدوهم وأشرعت الأسنة وفوقت السهام وتقدم الرجل إلى الرجل حفتهم الملائكة بأجنحتها يدعون الله بالنصرة والتثبيت فينادي مناد الجنة تحت ظلال السيوف فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض مرحبا بالروح الطيب الذي أخرج من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويقول الله عز وجل أنا خليفته في أهله من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث يشاء تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش ويعطي الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس سلوك كل غرفة ما بين صنعاء والشام يملأ نورها ما بين الخافقين في كل غرفة سبعون بابا على كل باب سبعون مصراعا من ذهب على كل باب سبعون غرفة مسبلة في كل غرفة سبعون خيمة في كل خيمة سبعون سريرا من ذهب قوائمها الدر والزبرجد مرمولة بقضبان الزمرد على كل سرير أربعون فراشا غلظ كل فراش أربعون ذراعا على كل فراش زوجة من الحور العين عربا أترابا فقال أخبرني يا أمير المؤمنين عن العروبة فقال هي الغنجة الرضية الشهية لها سبعون ألف وصيف وسبعون ألف وصيفة صفر الحلي بيض الوجوه عليهن تيجان اللؤلؤ على رقابهم المناديل بأيديهم الأكوبة والأباريق فإذا كان يوم القيامة فو الذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجلوا لهم لما يرون من بهائهم حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفا من أهل بيته وجيرانه حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جوارا فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد فينظرون إلى الله عز وجل في كل يوم بكرة وعشيا.