الآيات 156-158

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿156﴾ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿157﴾ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴿158﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وأهل الكوفة غير عاصم بما يعملون بالياء والباقون بالتاء وقرأ نافع وأهل الكوفة غير عاصم متم بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا هاهنا وقرأ الباقون ﴿متم﴾ بضم الميم وقرأ ﴿مما يجمعون﴾ بالياء حفص عن عاصم والباقون تجمعون بالتاء.

الحجة:

قال أبو علي حجة من قرأ بالتاء قوله ﴿ولا تكونوا كالذين كفروا﴾ وحجة من قرأ بالياء أن قبلها أيضا غيبة وهو قوله ﴿وقالوا لإخوانهم﴾ وما بعده فحمل الكلام على الغيبة والأشهر الأقيس في متم ضم الميم والكسر شاذ في القياس ونحوه مما شذ فضل يفضل في الصحيح وأنشدوا:

ذكرت ابن عباس بدار ابن عامر

وما مر من عمري ذكرت وما فضل

وأما ﴿تجمعون﴾ بالتاء فالمعنى على تجمعون أيها المقتولون في سبيل الله أو المائتون ومعنى الياء أنه لمغفرة من الله خير مما يجمعه غيركم.

اللغة:

الضرب في الأرض السير فيها وأصله الضرب باليد وقيل هو الإيغال في السير وغزى جمع غاز نحو ضارب وضرب وطالب وطلب.

الإعراب:

قوله ﴿وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض﴾ وضع إذا موضع إذ لأحد أمرين إما لأنه متصل بلا تكونوا كهؤلاء إذا ضرب إخوانهم في الأرض وإما لأن (الذي) إذا كان مبهما غير موقت يجري مجرى ما في الجزاء فيقع الماضي فيه موضع المستقبل نحو إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله معناه يكفرون ويصدون ويجوز لأكرمن الذي أكرمك إذا زرته لإبهام الذي ولا يجوز لأكرمن هذا الذي أكرمك إذا زرته لتوقيت الذي من أجل الإشارة إليه بهذا وقوله ﴿ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم﴾ اللام فيه يتعلق بلا تكونوا أي لا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذا القول ﴿ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم﴾ دونكم وقيل أنه يتعلق بقوله ﴿و قالوا لإخوانهم﴾ فيكون لام العاقبة عن أبي علي الجبائي وقوله ﴿لئن قتلتم﴾ استغنى عن جواب الجزاء فيه بجواب القسم في قوله ﴿لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون﴾ وقد اجتمع شيئان كل واحد منهما يحتاج إلى جواب وكان جواب القسم أولى بالذكر لأن له صدر الكلام مما يذكر في حشوه واللام في قوله ﴿و لئن متم﴾ تحتمل أمرين (أحدهما) أن يكون خلفا من القسم ويكون اللام في قوله ﴿لألى الله﴾ جوابا كقولك (والله إن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله) (والثاني) أن تكون مؤكدة لما بعدها كما تؤكد أن ما بعدها وتكون الثانية جوابا لقسم محذوف والنون لا بد منها في الفعل المضارع مع لام القسم لأن القسم أحق بالتأكيد من كل ما يدخله النون من جهة أن ذكر القسم دليل على أنه من مواضع التأكيد فإذا جازت في غيره من الأمر والنهي والاستفهام والعرض والجزاء مع ما لزمت في القسم لأنه أحق بها من غيره والفرق بين لام القسم ولام الابتداء إن لام الابتداء يصرف الاسم إليه فلا يعمل فيه ما قبلها نحو قد علمت لزيد خير منك وقد علمت أن زيدا ليقوم وليس كذلك لام القسم لأنها لا تدخل على الاسم ولا يكسر لها إن نحو قد علمت أن زيدا ليقومن ويلزمها النون في المستقبل.

المعنى:

ثم نهى الله سبحانه المؤمنين عن الاقتداء بالمنافقين في أقوالهم وأفعالهم فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا﴾ يريد عبد الله بن أبي سلول وأصحابه من المنافقين عن السدي ومجاهد وقيل هو عام ﴿وقالوا لإخوانهم﴾ من أهل النفاق ﴿إذا ضربوا في الأرض﴾ أي سافروا فيها لتجارة أو طلب معاش فماتوا عن السدي وابن إسحاق وإنما خص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر وقيل اكتفي بذكر البر عن ذكر البحر كقوله تعالى ﴿سرابيل تقيكم الحر﴾ وقيل لأن الأرض تشتمل على البر والبحر ﴿أو كانوا غزى﴾ أي غزاة محاربين للعدو فقتلوا ﴿لو كانوا﴾ مقيمين ﴿عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم﴾ معناه قالوا هذا القول ليثبطوا المؤمنين عن الجهاد فلم يقبل المؤمنون ذلك وخرجوا ونالوا العز والغنيمة فصار حسرة في قلوبهم واللام على هذا في ليجعل لام العاقبة وقيل معناه ولا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذه المقالة لكي يجعل الله تلك المقالة سببا لإلزام الحسرة والحزن في قلوبهم لما يحصل لهم من الخيبة فيما أملوا من الموافقة ولما فاتهم من عز الظفر والغنيمة ﴿والله يحيي ويميت﴾ أي هو الذي يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل لا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم ولا راد لما قضى ولا محيص عما قدر وهذا يتضمن منع الناس عن التخلف في الجهاد خشية القتل فإن الإحياء والإماتة بيد الله سبحانه فلا حياة لمن قدر الله موته ولا موت لمن قدر الله حياته ﴿والله بما تعملون بصير﴾ أي مبصر وقيل عليم وهذا يتضمن الترغيب في الطاعة والترهيب عن المعصية ثم حث سبحانه على الجهاد وبين أن الشهادة خير من أموال الدنيا المستفادة بأن قال ﴿ولئن قتلتم﴾ أيها المؤمنون ﴿في سبيل الله﴾ أي في الجهاد ﴿أو متم﴾ قاصدين مجاهدة الكفار استوجبتم ﴿مغفرة من الله ورحمة﴾ والمغفرة الصفح عن الذنوب والرحمة الثواب والجنة وهاتان ﴿خير مما يجمعون﴾ من الأموال والمقاصد الدنيوية وهذا يتضمن تعزية المؤمنين وتسليتهم عما أصابهم في سبيل الله وفيه تقوية لقلوبهم وتهوين للموت والقتل عليهم ثم قال ﴿ولئن متم أو قتلتم لألى الله تحشرون﴾ أي سواء متم أو قتلتم فإن مرجعكم إلى الله فيجزي كلا منكم كما يستحقه المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته ف آثروا ما يقربكم منه ويوجب لكم رضاه من العمل بطاعته والجهاد في سبيله ولا تركنوا إلى الدنيا وفي هذا المعنى البيت الذي ينسب إلى الإمام الحسين بن علي:

فإن تكن الأبدان للموت أنشئت

فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل

(سؤال) إن قيل كيف عادل بين مغفرة الله ورحمته وبين حطام الدنيا مع تفاوت ما بينهما ولا يقول أحد الدرة خير من البعرة (فجوابه) إن الناس يؤثرون الدنيا على الآخرة حتى أنهم يتركون الجهاد في سبيل الله محبة للاستكثار من الدنيا وإيثارا للمقام فيها فعلى هذا جاز ذلك.