الآيات 139-140
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿139﴾ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿140﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة غير حفص قرح بضم القاف فيهما وكذلك قوله (من بعد ما أصابهم القرح) والباقون بفتح القاف.
الحجة:
قال أبو علي قرح وقرح مثل ضعف وضعف والكره والكره والدفء والدفء والشهد والشهد قال أبو الحسن قرح يقرح قرحا وقرحا فهذا يدل على أنهما مصدران ومن قال أن القرح الجراحات بأعيانها والقرح ألم الجراحات قبل ذلك منه إذا أتى فيه برواية لأن ذلك مما لا يعلم بالقياس.
اللغة:
الوهن الضعف والوهن والموهن ساعة تمضي في الليل الأعلون واحده الأعلى ومؤنثه العلياء وجمعه العليات والعلى والفرق بين اللمس والمس أن اللمس لصوق بإحساس والمس لصوق فقط والدولة الكرة لفريق بنيل المراد وأدال الله فلانا من فلان إذا جعل الكرة له عليه وتداول القوم الشيء إذا صار من بعضهم إلى بعض وضم الدال في الدولة وفتحها لغتان وقيل الضم في المال والفتح في الحرب.
الإعراب:
﴿وأنتم الأعلون﴾ جملة في موضع الحال كأنه قال لا تحزنوا عالين أي منصورين على الأعداء ويحتمل أن يكون لا موضع لها في الإعراب لأنها اعتراض بوعد مؤكد وتقديره ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون مع ذلك وقوله ﴿وليعلم الله﴾ العامل في اللام محذوف يدل عليه أول الكلام وتقديره وليعلم الله الذين آمنوا نداولها ويجوز أن يعمل فيه نداولها الذي في اللفظ وتقديره نداولها بين الناس بضروب من التدبير وليعلم الله الذين آمنوا.
النزول:
قيل نزلت الآية تسلية للمؤمنين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح وقيل لما انهزم المسلمون في الشعب وأقبل خالد بن الوليد بخيل من المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال النبي اللهم لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة إلا هؤلاء النفر فأنزل الله تعالى الآية وتاب نفر رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم وعلا المسلمون الجبل فذلك قوله ﴿وأنتم الأعلون﴾ عن ابن عباس وقيل نزلت الآية بعد يوم أحد حين أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أصحابه بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم وقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الكلبي ودليله قوله تعالى ﴿ولا تهنوا في ابتغاء القوم﴾ الآية.
المعنى:
ثم حث الله تعالى المسلمين على النجدة ونهاهم عن الوهن والحزن ووعدهم الغلبة في الحال وحسن العاقبة في المال فقال ﴿ولا تهنوا﴾ أي ولا تضعفوا عن قتال عدوكم ﴿ولا تحزنوا﴾ بما يصيبكم في أموالكم وأبدانكم وقيل لا تضعفوا بما نالكم من الجراح ولا تحزنوا على ما نالكم من المصائب بقتل الإخوان وقيل لا تهنوا بما نالكم من الهزيمة ولا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ﴿وأنتم الأعلون﴾ أي الظافرون المنصورون الغالبون عليهم في العاقبة وقيل أراد وأنتم الأعلون في المكان ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ معناه إن من كان مؤمنا يجب أن لا يهن ولا يحزن لثقته بالله ويحتمل أن يكون معناه إن كنتم مصدقين بوعدي لكم بالنصرة والظفر على عدوكم فلا تهنوا ولا تحزنوا ثم أخذ سبحانه في تسلية المؤمنين فقال ﴿إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله﴾ معناه إن يصبكم جراح فقد أصاب القوم جراح مثله عن ابن عباس وقيل إن يصبكم ألم وجراح يوم أحد فقد أصاب القوم ذلك يوم بدر وقال أنس بن مالك أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعلي (عليه السلام) يومئذ وفيه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن وعن ابن عباس قال لما كان يوم أحد صعد أبو سفيان الجبل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) اللهم أنه ليس لهم أن يعلونا فمكث أبو سفيان ساعة وقال يوما بيوم وأن الأيام دول وإن الحرب سجال فقال (عليه السلام) أجيبوه فقالوا لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فقال لنا عزى ولا عزى لكم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والله مولانا ولا مولى لكم فقال أبو سفيان أعل هبل فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) الله تعالى أعلى وأجل ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾ أي نصرفها مرة لفرقة ومرة عليها عن الحسن وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وإنما يصرف الله الأيام بين المسلمين وبين الكفار بتخفيف المحنة عن المسلمين أحيانا وتشديدها عليهم أحيانا لا بنصرة الكفار عليهم لأن الله لا ينصر الكفار على المسلمين لأن النصرة تدل على المحبة والله تعالى لا يحب الكافرين وإنما جعل الله الدنيا متقلبة لكيلا يطمئن المسلم إليها ولتقل رغبته فيها أو حرصه عليها إذ تفنى لذاتها ويطعن مقيمها ويسعى للآخرة التي يدوم نعيمها وإنما جعل الدولة مرة للمؤمنين ومرة عليهم ليدخل الناس في الإيمان على الوجه الذي يجب الدخول فيه كذلك وهو قيام الحجة فإنه لو كانت الدولة أبدا للمؤمنين لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفال على أن كل موضع حضره النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يخل من ظفر إما في ابتداء الأمر وإما في انتهائه وإنما لم يستمر ذلك لما بيناه وقوله ﴿وليعلم الله الذين آمنوا﴾ المفعول الثاني ليعلم محذوف وتقديره وتلك الأيام نداولها بين الناس لوجوه من المصالح وضروب من الحكمة وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالإيمان من غيرهم وعلى هذا لا يكون يعلم بمعنى يعرف لأنه ليس المعنى أنه يعرف الذوات بل المعنى أنه يعلم تميزها بالإيمان ويجوز أن يكون المعنى ليعلم الله الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي يعاملهم معاملة من يعرفهم بهذه الحال وإذا كان الله تعالى يعلمهم قبل إظهارهم الإيمان كما يعلمهم بعده فإنما يعلم قبل الإظهار أنهم سيميزون فإذا أظهروه علمهم متميزين ويكون التغير حاصلا في المعلوم لا في العالم كما أن أحدنا يعلم الغد قبل مجيئه على معنى أنه سيجيء فإذا جاء علمه جائيا وعلمه يوما لا غدا فإذا انقضى فإنما يعلمه الأمس لا يوما ولا غدا ويكون التغير واقعا في المعلوم لا في العالم وقيل معناه وليعلم أولياء الله الذين آمنوا وإنما أضاف إلى نفسه تفخيما وقيل معناه ليظهر المعلوم من صبر من يصبر وجزع من يجزع وإيمان من يؤمن وقيل ليظهر المعلوم من الإخلاص والنفاق ومعناه ليعلم الله المؤمن من المنافق فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر وقوله ﴿ويتخذ منكم شهداء﴾ قيل فيه قولان (أحدهما) إن معناه ليكرم بالشهادة من قتل يوم أحد عن الحسن وقتادة وابن إسحاق (والآخر) ويتخذ منكم شهداء على الناس بما يكون منهم من العصيان لما لكم في ذلك من جلالة القدر وعلو المرتبة والشهداء يكون جمع شاهد وجمع شهيد عن أبي علي الجبائي وإنما سموا شهداء لمشاهدتهم الأعمال التي يشهدون بها وأما في جمع الشهيد فلأنهم بذلوا الروح عند شهود الوقعة ولم يفروا ﴿والله لا يحب الظالمين﴾ ظاهر المعنى وفائدته أنه تعالى بين أنه لا يمكن الظالمين منهم لمحبته لهم ولكن لأحد المعاني التي ذكرها وليمحص ذنوب المؤمنين كما قاله فيما بعد.