الآيات 121-122
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿121﴾ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿122﴾
اللغة:
التبوئة اتخاذ الموضع للغير يقال بوأت القوم منازلهم وبوأت لهم أيضا أي أوطنتهم وأسكنتهم إياها وتبوأوهم أي توطنوا ومنه المباءة المراح لأنه رجوع إلى المستقر المتخذ ومنه بوأت بالذنب أي رجعت به محتملا له والفشل الجبن يقال فشل يفشل فشلا والفشل الرجل الضعيف.
الإعراب:
العامل في إذ محذوف وتقديره واذكر إذ غدوت وقيل هو عطف على ما تقدم في السورة من قوله قد كان لكم آية في فئتين التقتا أي في نصرة تلك الطائفة القليلة على الطائفة الكثيرة إذ غدا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن أبي مسلم وقيل العامل فيه قوله محيط وتقديره والله عالم بأحوالكم وأحوالهم إذ غدوت من أهلك وتبوىء حال من غدوت.
المعنى:
واذكر يا محمد ﴿إذ غدوت من أهلك﴾ أي خرجت من المدينة غدوة ﴿تبوىء المؤمنين مقاعد﴾ أي تهيىء للمؤمنين مواطن ﴿للقتال﴾ وقيل معناه تجلسهم وتقعدهم في مواضع القتال ليقفوا فيها ولا يفارقوها واختلف في أي يوم كان ذلك فقيل يوم أحد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن أبي إسحاق وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وقيل كان يوم الأحزاب عن مقاتل وقيل يوم بدر عن الحسن ﴿والله سميع﴾ أي يسمع ما يقوله النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿عليم﴾ بما يضمرونه لأنهم اختلفوا فمنهم من أشار بالخروج ومنهم من أشار بالمقام وفيه تزكية للزاكي وتهديد للغاوي وقيل سميع بقول المشيرين على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عليم بضمائرهم وقيل سميع بجميع المسموعات عليم بجميع المعلومات ﴿إذ همت﴾ أي قصدت وعزمت ﴿طائفتان﴾ أي فرقتان ﴿منكم﴾ أي من المسلمين ﴿أن تفشلا﴾ أي تجبنا والطائفتان هما بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الأنصار عن ابن عباس وجابر بن عبد الله والحسن وقتادة ومجاهد والربيع وأبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) وقال الجبائي نزلت في طائفة من المهاجرين وطائفة من الأنصار وكان سبب همهم بالفشل أن عبد الله بن أبي سلول دعاهما إلى الرجوع إلى المدينة عن لقاء المشركين يوم أحد فهما به ولم يفعلاه ﴿والله وليهما﴾ أي ناصرهما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال فينا نزلت وما أحب إنها لم تكن لقوله ﴿والله وليهما﴾ وقال بعض المحققين هذا هم خطرة لا هم عزيمة لأن الله تعالى مدحهما وأخبر أنه وليهما ولو كان هم عزيمة وقصد لكان ذمهم أولى من مدحهم ﴿وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ في جميع أحوالهم وأمورهم.
ذكر غزوة أحد:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال كان سبب غزوة أحد أن قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر لأنه قتل منهم سبعون وأسر سبعون قال أبو سفيان يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم فإن الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمد فلما غزوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء والنوح وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل وأخرجوا معهم النساء فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ذلك جمع أصحابه وحثهم على الجهاد فقال عبد الله بن أبي سلول يا رسول الله لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح فما أرادها قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودروبنا وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا كان الظفر لهم علينا فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا وأنت فينا لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فمن قتل منا كان شهيدا ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله فقبل رسول الله رأيه وخرج مع نفر من أصحابه يتبوءون موضع القتال كما قال تعالى ﴿وإذ غدوت من أهلك﴾ الآية وقعد عنه عبد الله بن أبي سلول وجماعة من الخزرج اتبعوا رأيه ووافت قريش إلى أحد وكان رسول الله عبا أصحابه وكانوا سبع مائة رجل ووضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب وأشفق أن يأتي كمينهم من ذلك المكان فقال لعبد الله بن جبير وأصحابه أن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا وقال إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم وعبا رسول الله أصحابه ودفع الراية إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ووقع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في سوادهم وانحط خالد بن الوليد في مائتي فارس على عبد الله بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع ونظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد الله بن جبير قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة فقال لهم عبد الله اتقوا الله فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد تقدم إلينا أن لا نبرح فلم يقبلوا منه وأقبلوا ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم وبقي عبد الله بن جبير في اثني عشر رجلا وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبد الدار فقتله علي (عليه السلام) وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي وسقطت الراية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي حتى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار حتى صار لواهم إلى عبد لهم أسود يقال له ثواب فانتهى إليه علي (عليه السلام) فقطع يده اليمني فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره ثم التفت إلى أبي سفيان فقال هل أعذرت في بني عبد الدار فضربه علي على رأسه فقتله وسقط اللواء فأخذتها عمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها وانحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير وقد فر أصحابه وبقي في نفر قليل فقتلهم على باب الشعب ثم أتى المسلمين من أدبارهم ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها وانهزم أصحاب رسول الله هزيمة عظيمة وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه فلما رأى رسول الله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال إلي أنا رسول الله إلى أين تفرون عن الله تعالى وعن رسوله وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر فكلما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا ومكحلة وقالت إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد وكانت هند قد أعطت وحشيا عهدا لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لأعطينك كذا وكذا وكان وحشي عبدا لجبير بن مطعم حبشيا فقال وحشي أما محمد فلم أقدر عليه وأما علي فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هدا فمر بي فوطىء على جرف نهر فسقط وأخذت حربتي فهززتها ورميته بها فوقعت في خاصرته وخرجت من ثنته فسقط فأتيته فشققت بطنه وأخذت كبده وجئت به إلى هند فقلت هذه كبد حمزة فأخذتها في فمها فلاكتها فجعله الله في فمها مثل الداعضة وهي عظم رأس الركبة فلفظتها ورمت بها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فبعث الله ملكا فحمله ورده إلى موضعه قال فجاءت إليه فقطعت مذاكيره وقطعت أذنيه وقطعت يده ورجله ولم يبق مع رسول الله إلا أبو دجانة سماك بن خرشة وعلي فكلما حملت طائفة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) استقبلهم علي فدفعهم عنه حتى تقطع سيفه فدفع إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سيفه ذا الفقار وانحاز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى ناحية أحد فوقف وكان القتال من وجه واحد فلم يزل علي (عليه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في رأسه ووجهه ويديه وبطنه ورجليه سبعون جراحة كذا أورده علي بن إبراهيم في تفسيره فقال جبرائيل إن هذه لهي المواساة يا محمد فقال محمد أنه مني وأنا منه فقال جبرائيل وأنا منكما قال أبو عبد الله نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى جبرائيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي وروى ابن أبي إسحاق والسدي والواقدي وابن جرير وغيرهم قالوا كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء في شوال سنة ثلاث من الهجرة وخرج رسول الله إليهم يوم الجمعة وكان القتال يوم السبت للنصف من الشهر وكسرت رباعية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وشج في وجهه ثم رجع المهاجرون والأنصار بعد الهزيمة وقد قتل من المسلمين سبعون وشد رسول الله بمن معه حتى كشفهم وكان الكفار مثلوا بجماعة وكان حمزة أعظم مثلة وضربت يد طلحة فشلت وسعد بن أبي وقاص كان يرمي بين يديه وهو (عليه السلام) يقول ارم فداك أبي وأمي.
النظم:
لما أمر تعالى بالصبر في قوله وأن تصبروا وتتقوا عقبه بنصرة المسلمين يوم بدر وصبرهم على القتال ثم ذكر امتحانهم يوم أحد لما تركوا الصبر وقيل نظمه وإن تصبروا ينصركم كما نصركم يوم بدر وإن لم تصبروا نزل بكم ما نزل يوم أحد حيث خالفتم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وذكر أبو مسلم أنه متصل بقوله قد كان لكم آية في فئتين كما تقدم ذكره.