الآيات 102-103

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿102﴾ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿103﴾

اللغة:

تقاة من وقيت قال الزجاج يجوز فيه ثلاثة أوجه تقاة ووقاة وأقاة حمله على قياس وجوه وأجوه وإن كان هذا المثال لم يجيء منه شيء على الأصل نحو تخمة وتكأة غير أنه حمله على الأكثر من نظائره والحبل السبب الذي يوصل به إلى البغية كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر أو نحوها ومنه الحبل للأمان لأنه سبب النجاة قال الأعشى:

وإذا تجوزها حبال قبيلة

أخذت من الأخرى إليك حبالها

ومنه الحبل للحمل في البطن وأصل الحبل المفتول قال ذو الرمة:

هل حبل خرقاء بعد اليوم مرموم

أم هل لها آخر الأيام تكليم

وشفا الشيء مقصور حرفه ويثني شفوان وجمعه أشفاء وأشفى على الشيء أشرف عليه وأشفى المريض على الموت من ذلك.

الإعراب:

قوله ﴿وأنتم مسلمون﴾ جملة في موضع الحال وقوله ﴿جميعا﴾ نصب على الحال أيضا أي واعتصموا في حال اجتماعكم أي كونوا مجتمعين على الاعتصام لا تفرقوا أصله أي لا تتفرقوا فحذف أحد التاءين كراهة لاجتماع المثلين والمحذوفة الثانية لأن الأولى علامة للاستقبال وهو مجزوم بالنهي وعلامة الجزم سقوط النون وقوله تعالى ﴿فأنقذكم منها﴾ الكناية في منها عادت إلى الحفرة وترك شفا ومثله قول العجاج:

طول الليالي أسرعت في نقضي

طوين طولي وطوين عرضي فترك الطول وأخبر عن الليالي.

النزول:

قال مقاتل افتخر رجلان من الأوس والخزرج ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوسي منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ومنا حنظلة غسيل الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضي الله بحكمه في بني قريظة وقال الخزرجي منا أربعة أحكموا القرآن أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا فجاء الأوس إلى الأوسي والخزرج إلى الخزرجي ومعهم السلاح فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فركب حمارا وأتاهم فأنزل الله هذه الآيات فقرأها عليهم فاصطلحوا.

المعنى:

لما نهى تعالى عن قبول أقوال الكافرين بين في هذه الآية ما يجب قبوله فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته﴾ معناه واتقوا عذاب الله أي احترسوا وامتنعوا بالطاعة من عذاب الله كما يحق فكما يجب أن يتقي ينبغي أن يحترس منه وذكر في قوله ﴿حق تقاته﴾ وجوه (أحدها) إن معناه أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وثانيها) أنه اتقاء جميع معاصيه عن أبي علي الجبائي (وثالثها) أنه المجاهدة في الله تعالى وأن لا تأخذه فيه لومة لائم وأن يقام له بالقسط في الخوف والأمن عن مجاهد ثم اختلف فيه أيضا على قولين (أحدهما) أنه منسوخ بقوله ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ عن قتادة والربيع والسدي وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (والآخر) أنه غير منسوخ عن ابن عباس وطاووس وأنكر الجبائي نسخ الآية لما فيه من إباحة بعض المعاصي قال الرماني والذي عندي أنه إذا وجه قوله ﴿واتقوا الله حق تقاته﴾ على أن يقوموا له بالحق في الخوف والأمن لم يدخل عليه ما ذكره أبو علي لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله على كل حال ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس كما قال إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقوله ﴿ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ وقد ذكرنا في سورة البقرة أن معناه لا تتركوا الإسلام وكونوا عليه حتى إذا ورد عليكم الموت صادفكم عليه وإنما كان بلفظ النهي عن الموت من حيث أن الموت لا بد منه وإنما النهي في الحقيقة عن ترك الإسلام لأن لا يهلكوا بالانقطاع عن التمكن منه بالموت إلا أنه وضع كلام موضع كلام على جهة التصرف والإبدال بحسن الاستعارة وزوال اللبس وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وأنتم مسلمون بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مقادون له ﴿واعتصموا بحبل الله﴾ أي تمسكوا به وقيل امتنعوا به من غيره وقيل في معنى حبل الله أقوال (أحدها) أنه القرآن عن أبي سعيد الخدري وعبد الله وقتادة والسدي ويروي ذلك مرفوعا (وثانيها) أنه دين الله الإسلام عن ابن عباس وأبي زيد (وثالثها) ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال نحن حبل الله الذي قال ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا﴾ والأولى حمله على الجميع والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال أيها الناس إني قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ﴿ولا تفرقوا﴾ معناه ولا تتفرقوا عن دين الله الذي أمركم فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة وأثبتوا عليه عن ابن مسعود وقتادة وقيل معناه لا تتفرقوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الحسن وقيل عن القرآن بترك العمل به ﴿واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم﴾ قيل أراد ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بين قلوبهم بالإسلام فزالت تلك الأحقاد عن ابن عباس وقيل هو ما كان بين مشركي العرب من الطوائل عن الحسن والمعنى احفظوا نعمة الله ومنته عليكم بالإسلام وبالائتلاف ورفع ما كان بينكم من التنازع والاختلاف فهذا هو النفع الحاصل لكم في العاجل مع ما أعد لكم من الثواب الجزيل في الأجل ﴿إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم﴾ بجمعكم على الإسلام ورفع البغضاء والشحناء عن قلوبكم ﴿فأصبحتم بنعمته﴾ أي بنعمة الله ﴿إخوانا﴾ متواصلين وأحبابا متحابين بعد أن كنتم متحاربين متعادين وصرتم بحيث يقصد كل واحد منكم مراد الآخرين لأن أصل الأخ من توخيت الشيء إذا قصدته وطلبته ﴿وكنتم على شفا حفرة من النار﴾ أي وكنتم يا أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) على طرف حفرة من جهنم لم يكن بينها وبينكم إلا الموت فأنقذكم الله منها بأن أرسل إليكم رسولا وهداكم للإيمان ودعاكم إليه فنجوتم بإجابته من النار وإنما قال ﴿فأنقذكم منها﴾ وإن لم يكونوا فيها لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها من حيث كانوا مستحقين لدخولها قال أبو الجوزاء قرأ ابن عباس ﴿وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها﴾ وأعرابي يسمع فقال والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يقحمهم فيها فقال ابن عباس اكتبوها من غير فقيه ﴿كذلك يبين الله لكم آياته﴾ أي مثل البيان الذي تلي عليكم يبين الله لكم الآيات أي الدلالات والحجج فيما أمركم به ونهاكم عنه ﴿لعلكم تهتدون﴾ أي لكي تهتدوا إلى الحق والصواب.