الآيات86-89

كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿86﴾ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿87﴾ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴿88﴾ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿89﴾

اللغة:

الخلود في اللغة طول المكث ولذلك يقال خلد فلان في السجن وقيل للأتافي خوالد ما دامت في مواضعها وإذا زالت لا يسمى خوالد والفرق بين الخلود والدوام أن الخلود يقتضي طول المكث في نحو قولك خلد فلان في الحبس ولا يقتضي ذلك الدوام ولذلك وصف سبحانه بالدوام دون الخلود إلا أن خلود الكفار المراد به التأبيد بلا خلاف بين الأمة والإنظار التأخير للعبد لينظر في أمره والفرق بينه وبين الإمهال أن الإمهال هو تأخيره لتسهيل ما يتكلفه من عمله.

الإعراب:

كيف أصله الاستفهام والمراد به هنا الإنكار لأنه لا تقع هذه الهداية من الله أي لا يهديهم الله كقوله كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله أي لا يكون قال الشاعر:

كيف نوما على الفراش ولما

يشمل الشام غارة شعواء

وإنما دخله معنى الإنكار مع أن أصله الاستفهام لأن المسئول يسأل عن أغراض مختلفة فقد يسأل للتعجيز عن إقامة البرهان وقد يسأل للتوبيخ مما يظهر من معنى الجواب في السؤال وقد يسأل لما يظهر فيه من الإنكار وإنما عطف قوله ﴿شهدوا﴾ وهو فعل على إيمانهم وهو اسم لأن الإيمان مصدر والمراد به الفعل والتقدير بعد أن آمنوا وشهدوا وأجمعين تأكيد للناس ودخلت الفاء في قوله ﴿فإن الله غفور رحيم﴾ لأنه يشبه الجزاء إذ كان الكلام قد تضمن معنى إن تابوا فإن الله يغفر لهم ولا يجوز أن يكون في موضع خبر الذين لأن الذين في موضع نصب بالاستثناء من الجملة التي هي قوله ﴿أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله﴾ ولا يحمل على المنقطع مع حسن الاتصال لأنه الأصل في الكلام والأسبق إلى الأفهام.

النزول:

قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا وهرب وارتد عن الإسلام ولحق بمكة ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هل لي من توبة فسألوا فنزلت الآية إلى قوله ﴿إلا الذين تابوا﴾ فحملها إليه رجل من قومه فقال إني لأعلم أنك لصدوق ورسول الله أصدق منك وأن الله أصدق الثلاثة ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه عن مجاهد والسدي وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل نزلت في أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل مبعثه ثم كفروا بعد البعثة حسدا وبغيا عن الحسن والجبائي وأبي مسلم.

المعنى:

لما بين تعالى أن الإسلام هو الدين الذي به النجاة بين حال من خالفه فقال ﴿كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم﴾ فيه وجوه (أحدها) أن معناه كيف يسلك الله بهم سبيل المهتدين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد كفروا بعد إيمانهم - (وثانيها) أنه على طريق التبعيد كما يقال كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا طريق يهديهم به إلى الإيمان إلا من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره - (وثالثها) أن المراد كيف يهديهم الله إلى الجنة ويثيبهم والحال هذه وقوله ﴿وشهدوا أن الرسول حق﴾ عطف على قوله ﴿بعد إيمانهم﴾ دون قوله ﴿كفروا﴾ وتقديره بعد أن آمنوا وشهدوا أن الرسول حق ﴿وجاءهم البينات﴾ أي البراهين والحجج وقيل القرآن وقيل جاءهم ما في كتبهم من البشارة لمحمد ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ أي لا يسلك بالقوم الظالمين مسلك المهتدين ولا يثيبهم ولا يهديهم إلى طريق الجنة لأن المراد الهداية المختصة بالمهتدين دون الهداية العامة المرادة في قوله ﴿وأما ثمود فهديناهم﴾ والمراد بالإيمان هاهنا إظهار الإيمان دون الإيمان الذي يستحق به الثواب وليس في الآية ما يدل على أنهم قد كانوا في باطنهم مؤمنين مستحقين الثواب فزال ذلك بالكفر فلا متعلق للمخالف به ﴿أولئك جزاؤهم﴾ على أعمالهم ﴿إن عليهم لعنة الله﴾ وهي إبعاده إياهم من رحمته ومغفرته ﴿والملائكة والناس أجمعين﴾ وهي دعاؤهم عليهم باللعنة وبأن يبعدهم الله من رحمته ﴿خالدين فيها﴾ أي في اللعنة لخلودهم فيما استحقوا باللعنة وهو العذاب ﴿ولا يخفف عنهم العذاب﴾ ولا يسهل عليهم ﴿ولا هم ينظرون﴾ أي ولا يمهلون للتوبة ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر وإنما نفى إنظارهم للتوبة والإنابة لما علم من حالهم أنهم لا ينيبون ولا يتوبون كما قال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه على أن التبقية ليست بواجبة وإن علم أنه لو أبقاه لتاب وأناب عند أكثر المتكلمين ﴿إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا﴾ أي تابوا من الكفر ورجعوا إلى الإيمان وأصلحوا ضمائرهم وعزموا على أن يثبتوا على الإسلام وهذا أحسن من قول من قال وأصلحوا أعمالهم بعد التوبة وصلوا وصاموا فإن ذلك ليس بشرط في صحة التوبة إذ لو مات قبل فعل الصالحات مات مؤمنا بالإجماع ﴿فإن الله غفور﴾ يغفر ذنوبهم ﴿رحيم﴾ يوجب الجنة لهم وذكر المغفرة دليل على أن إسقاط العقاب بالتوبة تفضل منه سبحانه وأن ما لا يجوز المؤاخذة به أصلا لا يجوز تعليقه بالمغفرة وإن ما يعلق بالمغفرة ما يكون له المؤاخذة به.