الآيات79-80

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴿79﴾ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿80﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة ﴿تعلمون﴾ بالتشديد والباقون تعلمون وقرأ عاصم غير الأعشى والبرجمي وحمزة وابن عامر ويعقوب ﴿ولا يأمركم﴾ بنصب الراء والباقون بالرفع.

الحجة:

حجة من قال ﴿تعلمون﴾ بالتشديد أن التعليم أبلغ في هذا الموضع لأنه إذا علم الناس ولم يعمل بعلمه كان مع استحقاق الذم بترك عمله داخلا في جملة من وبخ بقوله ﴿أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم﴾ وحجة من قرأ تعلمون أن العالم الدارس قد يدرك بعلمه ودرسه مما يكون داعيا إلى التمسك بعلمه والعمل به ما لا يدركه العالم المعلم في تدريسه ومن قرأ يأمركم فعلى القطع من الأول أراد ولا يأمركم الله ومن نصبه فعلى قوله ﴿ما كان لبشر﴾ أن ﴿يأمركم أن تتخذوا﴾ ومما يقوي الرفع ما روي في حرف ابن مسعود يأمركم فهذا يدل على الانقطاع من الأول ومما يقوي النصب ما جاء في السير أن اليهود قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا محمد أ تريد أن نتخذك ربا فقال الله عز وجل ﴿ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب﴾ ولا أن يأمركم.

اللغة:

البشر يقع على القليل والكثير فهو بمنزلة المصدر مثل الخلق تقول هذا بشر وهؤلاء بشر كما تقول هذا خلق وهؤلاء خلق وإنما وقع المصدر على القليل والكثير لأنه جنس الفعل فصار كأسماء الأجناس مثل الماء والتراب ونحوه والرباني هو الرب يرب أمر الناس بتدبيره وإصلاحه إياه يقال رب فلان أمره ربابة وهو ربان إذا دبره وأصلحه ونظيره نعس ينعس وهو نعسان وأكثر ما يجيء فعلان من فعل يفعل فيكون العالم ربانيا لأنه بالعلم رب الأمر ويصلحه وقيل أنه مضاف إلى علم الرب وهو علم الدين الذي يأمره به إلا أنه غير في الإضافة ليدل على هذا المعنى كما قيل في الإضافة إلى البحرين بحراني وكما قيل للعظيم الرقبة رقباني وللعظيم اللحية لحياني فقيل لصاحب علم الدين الذي أمر به الرب رباني.

النزول:

قيل أن أبا رافع القرضي من اليهود ورئيس وفد نجران قالا يا محمد أ تريد أن نعبدك ونتخذك إلها فقال معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فأنزل الله الآية عن ابن عباس وعطاء وقيل نزلت في نصارى نجران عن الضحاك ومقاتل وقيل أن رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك قال لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فأنزل الله الآية.

المعنى:

لما تقدم ذكر أهل الكتاب وأنهم أضافوا ما يتدينون به إلى الأنبياء نزههم الله عن ذلك فقال ﴿ما كان لبشر﴾ يعني ما ينبغي لبشر كقوله ﴿وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا﴾ ﴿وما يكون لنا أن نتكلم بهذا﴾ أي لا ينبغي وقيل لا يجوز معناه لبشر ولا يحل له ﴿أن يؤتيه الله﴾ أن يعطيه الله ﴿الكتاب والحكمة والنبوة﴾ أي العلم أو الرسالة إلى الخلق ﴿ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله﴾ أي اعبدوني من دونه أو اعبدوني معه عن الجبائي وقيل معناه ليس من صفة الأنبياء الذين خصهم الله لرسالته واجتباهم لنبوته وأنزل عليهم كتبه وجعلهم حكماء علماء أن يدعوا الناس إلى عبادتهم وإنما قال ذلك على جهة التنزيه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن مثل هذا القول لا على وجه النهي وقوله ﴿عبادا﴾ هو من العبادة قال القاضي وعبيد بخلافه لأنه بمعنى العبودية ولا يمتنع أن يكونوا عبادا لغيره ﴿ولكن كونوا ربانيين﴾ فيه حذف أي لا ينبغي لهذا النبي أن يقول للناس اعبدوني ولكن ينبغي أن يقول لهم كونوا ربانيين وفيه أقوال (أحدها) أن معناه كونوا علماء فقهاء عن علي وابن عباس والحسن (وثانيها) كونوا علماء حكماء عن قتادة والسدي وابن أبي رزين (وثالثها) كونوا حكماء أتقياء عن سعيد بن جبير (ورابعها) كونوا مدبري أمر الناس في الولاية بالإصلاح عن ابن زيد (وخامسها) كونوا معلمين للناس من علمكم كما يقال أنفق بمالك أي أنفق من مالك عن الزجاج وروي عن النبي أنه قال ما من مؤمن ولا مؤمنة ولا حر ولا مملوك إلا ولله عليه حق واجب أن يتعلم من العلم ويتفقه فيه وقال أبو عبيدة سمعت رجلا عالما يقول الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي وما كان وما يكون وقال أبو عبيدة لم تعرف العرب الرباني وهذا فاسد لأن القرآن نزل بلغتهم وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال يوم مات ابن عباس مات رباني هذه الأمة وقد ذكرنا اشتقاقه قبل ﴿بما كنتم تعلمون الكتاب﴾ أي القرآن ﴿وبما كنتم تدرسون﴾ أي الفقه ومن قرأ بالتشديد أراد تعلمونه لسواكم فيفيد أنهم يعلمون ويعلمون غيرهم والتخفيف لا يفيد أكثر من كونهم عالمين ودخلت الباء في قوله ﴿بما كنتم تعلمون﴾ لأحد ثلاثة أشياء إما أن يريد كونوا معلمي الناس بعلمكم كما يقال أنفقوهم بمالكم أو يريد كونوا ربانيين في علمكم ودراستكم ووقعت الباء موقع في أو يريد كونوا ممن يستحق أن يطلق له صفة عالم بعلمه على جهة المدح بأن تعملوا بما علمتم وذلك أن الإنسان إنما يستحق الوصف بأنه عالم إذا عمل بعلمه ويدل عليه قوله ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ ﴿ولا يأمركم﴾ أي ولا يأمركم الله عن الزجاج وقيل ولا يأمركم محمد عن ابن جريج وقيل ولا يأمركم عيسى ومن نصب الراء عطفه على ﴿أن يؤتيه الله﴾ فمعناه ولا كان لهذا النبي أن يأمركم ﴿أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا﴾ أي آلهة كما فعله الصابئون والنصارى ﴿أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون﴾ ألف إنكار أصله الاستفهام وإنما استعمل في الإنكار لأنه مما لو أقر به المخاطب لظهرت فضيحته فلذلك جاء على السؤال وإن لم يكن الغرض تعرف الجواب ومعناه أن الله تعالى إنما يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليدعو الناس إلى الإيمان فلا يبعث من يدعو المسلمين إلى الكفر.