الآيات 35 - 36

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ يمُ ﴿35﴾ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿36﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بما وضعت بضم التاء وروي عن علي (عليه السلام) وقرأ الباقون ﴿وضعت﴾ على الحكاية.

الحجة:

من قرأ بضم التاء جعله من كلام أم مريم ومن قرأ بإسكان التاء جعل ذلك من قول الله تعالى ويقوي قول من أسكن التاء قوله ﴿والله أعلم بما وضعت﴾ ولو كان من قول أم مريم لقالت (وأنت أعلم بما وضعت) لأنها تخاطب الله تعالى.

اللغة:

معنى المحرر في اللغة يحتمل أمرين (أحدهما) المعتق من الحرية يقال حررته تحريرا أعتقته أي جعلته حرا (والآخر) من تحرير الكتاب يقال حررت الكتاب تحريرا أي أخلصته من الفساد وأصلحته والتقبل أخذ الشيء على الرضا به كتقبل الهدية وأصل التقبل المقابلة وأصل الوضع الحط وضعت المرأة الولد بمعنى ولدت والموضع مكان الوضع والضعة الخساسة لأنها تضع من قدر صاحبها والإيضاع في السير الرفق فيه لأنه حط عن شدة الإسراع والشيطان الرجيم مر تفسيرهما في أول الكتاب.

الإعراب:

في موضع ﴿إذ قالت﴾ أقوال (أحدها) أنه نصب باذكر عن الأخفش والمبرد (والثاني) أنه متعلق باصطفى آل عمران عن الزجاج (والثالث) أنه متعلق بسميع عليم فيعمل فيه معنى الصفتين تقديره والله مدرك لقولها ونيتها إذ قالت عن علي بن عيسى (والرابع) أن إذ زائدة فلا موضع لها من الإعراب عن أبي عبيدة وهذا خطأ عند البصريين ومحررا نصب على الحال من ما وتقديره نذرت لك الذي في بطني محررا والعامل فيه نذرت وقوله ﴿أنثى﴾ نصب على الحال.

المعنى:

لما ذكر سبحانه اصطفى آل عمران عقبه بذكر مريم بنت عمران فقال ﴿إذ قالت امرأة عمران﴾ وقد مضى القول فيه واسمها حنة جدة عيسى وكانتا أختين إحداهما عند عمران بن الهشم من ولد سليمان بن داود وقيل هو عمران بن ماثان عن ابن عباس ومقاتل وليس بعمران أبي موسى وبينهما ألف وثمانمائة سنة وكان بنو ماثان رءوس بني إسرائيل والأخرى كانت عند زكريا واسمها اشياع واسم أبيها قاقود بن قبيل فيحيى ومريم ابنا خالة ﴿رب إني نذرت لك ما في بطني﴾ أي أوجبت لك بأن أجعل ما في بطني ﴿محررا﴾ أي خادما للبيعة يخدم في متعبداتنا عن مجاهد وقيل محررا للعبادة مخلصا لها عن الشعبي وقيل عتيقا خالصا لطاعتك لا أستعمله في منافعي ولا أصرفه في الحوائج عن محمد بن جعفر بن الزبير قالوا وكان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير فإن أحب أن يقيم فيه أقام وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء قالوا وكانت حنة قد أمسك عنها الولد فدعت حتى أيست فبينا هي تحت شجرة إذ رأت طائرا يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يرزقها ولدا فحملت بمريم وروي عن أبي عبد الله قال أوحى الله تعالى إلى عمران إني واهب لك ذكرا مباركا يبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل فحدث امرأته حنة بذلك وهي أم مريم فلما حملت بها قالت ﴿رب إني نذرت لك ما في بطني محررا﴾ ﴿فتقبل مني﴾ أي نذري قبول رضا ﴿إنك أنت السميع﴾ لما أقوله ﴿العليم﴾ بما أنوي فلهذا صحت الثقة لي ﴿فلما وضعتها﴾ قيل أن عمران هلك وهي حامل فوضعت بعد ذلك يعني ولدت مريم وكانت ترجو أن يكون غلاما فلما وضعتها خجلت واستحيت و﴿قالت﴾ منكسة رأسها ﴿رب إني وضعتها أنثى﴾ وقيل فيه قولان (أحدهما) إن المراد به الاعتذار من العدول عن النذر لأنها أنثى (والآخر) إن المراد تقديم الذكر في السؤال لها بأنها أنثى لأن سعيها أضعف وعقلها أنقص فقدم ذكرها ليصح القصد لها في السؤال بقولها ﴿وإني أعيذها بك﴾ ﴿و الله أعلم بما وضعت﴾ إخبار منه تعالى بأنه أعلم بوضعها لأنه هو الذي خلقها وصورها وعلى القراءة الأخرى وأنت يا رب أعلم مني بما وضعت ﴿وليس الذكر كالأنثى﴾ لأنها لا تصلح لما يصلح الذكر له وإنما كان يجوز لهم التحرير في الذكور دون الإناث لأنها لا تصلح لما يصلح له الذكر من التحرير لخدمة بيت المقدس لما يلحقها من الحيض والنفاس والصيانة عن التبرج للناس وقال قتادة لم يكن التحرير إلا في الغلمان فيما جرت به العادة وقيل أرادت أن الذكر أفضل من الأنثى على العموم وأصلح للأشياء والهاء في قوله ﴿وضعتها﴾ كناية عن ما في قوله ﴿ما في بطني﴾ وجاز ذلك لوقوع ما على مؤنث ويحتمل أن يكون كناية عن معلوم دل عليه الكلام ﴿وإني سميتها﴾ أي جعلت اسمها ﴿مريم﴾ وهي بلغتهم العابدة والخادمة فيما قيل وكانت مريم أفضل النساء في وقتها وأجلهن وروى الثعلبي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ﴿وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم﴾ خافت عليها ما يغلب على النساء من الآفات فقالت ذلك وقيل إنما استعاذتها من طعنة الشيطان في جنبها التي لها يستهل الصبي صارخا فوقاها الله تعالى وولدها عيسى منه بحجاب فقد روى أبو هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستدل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها وقيل إنها استعاذت من إغواء الشيطان الرجيم إياها عن الحسن.