الآيات 18 - 19

شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ العِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿18﴾ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿19﴾

القراءة:

قرأ الكسائي أن الدين بفتح الألف والباقون بالكسر قال الزجاج وروي عن ابن عباس قال إنه لا إله إلا هو بكسر الألف والقراءة ﴿أنه﴾ بالفتح.

الحجة:

قال أبو علي الوجه الكسر في إن لأن الكلام الذي قبله قد تم ومن فتح أن جعله بدلا والبدل وإن كان في تقدير جملتين فإن العامل لما لم يظهر أشبه الصفة فإذا جعلته بدلا جاز أن تبدله من شيئين (أحدهما) من قوله ﴿أنه لا إله إلا هو﴾ فكان التقدير شهد الله أن الدين عند الله الإسلام فيكون البدل من الضرب الذي الشيء فيه هو هو وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل وإن شئت جعلته من القسط لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل فيكون من البدل الذي الشيء فيه هو هو وقال غيره إن الأولى والثانية يجوز في العربية فتحهما جميعا وكسرهما جميعا وفتح الأولى وكسر الثانية وكسر الأولى وفتح الثانية فمن فتحهما أوقع الشهادة على أن الثانية وحذف الإضافة من الأولى وتقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام ومن كسرهما اعترض بالأولى على التعظيم لله تعالى به كما قيل لبيك إن الحمد والنعمة لك وكسر الثانية على الحكاية لأن معنى شهد معنى قال قال المؤرج شهد بمعنى قال في لغة قيس عيلان ومن فتح الأولى وكسر الثانية وهو الأجود وعليه أكثر القراء أوقع الشهادة على الأولى واستأنف الثانية ومن كسر الأولى أو فتح الثانية اعترض بالأولى وأوقع الشهادة على الثانية.

اللغة:

حقيقة الشهادة الإخبار بالشيء عن مشاهدة أو ما يقوم مقام المشاهدة ومعنى الدين هاهنا الطاعة وأصله الجزاء وسميت الطاعة دينا لأنها للجزاء ومنه الدين لأنه كالجزاء في وجوب القضاء والإسلام أصله السلم معناه دخل في السلم وأصل السلم السلامة لأنها انقياد على السلامة ويصلح أن يكون أصله التسليم لأنه تسليم لأمر الله والتسليم من السلامة لأنه تأدية الشيء على السلامة من الفساد فالإسلام هو تأدية الطاعات على السلامة من الإدغال والإسلام والإيمان بمعنى واحد عندنا وعند المعتزلة غير أن عندهم الواجبات من أفعال الجوارح من الإيمان وعندنا الإيمان من أفعال القلوب الواجبة وليس من أفعال الجوارح وقد شرحناه في أول البقرة والإسلام يفيد الانقياد لكل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من العبادات الشرعية والاستسلام به وترك النكير عليه فإذا قلنا دين المؤمن هو الإيمان وهو الإسلام فالإسلام هو الإيمان ونظير ذلك قولنا الإنسان بشر والإنسان حيوان على الصورة الإنسانية فالحيوان على الصورة الإنسانية بشر والاختلاف ذهاب أحد النفسين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر فهذا الاختلاف في الأديان فأما الاختلاف في الأجناس فهو امتناع أحد الشيئين أن يسد مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته والبغي طلب الاستعلاء بالظلم وأصله من بغيت الحاجة إذا طلبتها.

الإعراب:

قيل في نصب قائما قولان (أحدهما) أنه حال من اسم الله تعالى مؤكدة لأن الحال المؤكدة يقع مع الأسماء في غير الإشارة تقول أنه زيد معروفا وهو الحق مصدقا وشهد الله قائما بالقسط أي قائما بالعدل (والثاني) أنه حال من هو من قوله ﴿لا إله إلا هو﴾ وبغيا نصب على وجهين (أحدهما) على أنه مفعول له والمعنى ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب﴾ للبغي بينهم مثل حذر الشر ونحو ذلك وقيل أنه منصوب بما دل عليه وما اختلف كأنه لما قيل ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب﴾ دل على (وما بغى الذين أوتوا الكتاب) فحمل بغيا عليه.

المعنى:

لما قدم تعالى ذكر أرباب الدين أتبعه بذكر أوصاف الدين فقال ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو﴾ أي أخبر الله بما يقوم مقام الشهادة على وحدانيته من عجيب صنعته وبديع حكمته وقيل معنى شهد الله قضى الله عن أبي عبيدة قال الزجاج وحقيقته علم الله وبين ذلك فإن الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه ومنه شهد فلان عند القاضي أي بين ما علمه فالله تعالى قد دل على توحيده بجميع ما خلق وبين أنه لا يقدر أحد أن ينشىء شيئا واحدا مما أنشأه ﴿والملائكة﴾ أي وشهدت الملائكة بما عاينت من عظيم قدرته ﴿وأولوا العلم﴾ أي وشهد أولوا العلم بما ثبت عندهم وتبين من صنعه الذي لا يقدر عليه غيره وروي عن الحسن أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير شهد الله أنه لا إله إلا هو ﴿قائما بالقسط﴾ وشهدت الملائكة أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط وشهد أولوا العلم أنه ﴿لا إله إلا هو﴾ قائما بالقسط والقسط العدل الذي قامت به السماوات والأرض ورواه أصحابنا أيضا في التفسير وأولوا العلم هم علماء المؤمنين عن السدي والكلبي وقيل معنى قوله ﴿قائما بالقسط﴾ أنه يقوم بإجراء الأمور وتدابير الخلق وجزاء الأعمال بالعدل كما يقال فلان قائم بالتدبير أي يجري أفعاله على الاستقامة وإنما كرر قوله ﴿لا إله إلا هو﴾ لأنه بين بالأول أنه المستحق للتوحيد لا يستحقه سواه وبالثاني أنه القائم برزق الخلق وتدبيرهم بالعدل لا ظلم في فعله ﴿العزيز الحكيم﴾ من تفسيره وتضمنت الآية الإبانة عن فضل العلم والعلماء لأنه تعالى قرن العلماء بالملائكة وشهادتهم بشهادة الملائكة وخصهم بالذكر كأنه لم يعتد بغيرهم والمراد بهذا العلم التوحيد وما يتعلق به من علوم الدين لأن الشهادة وقعت عليه و مما جاء في فضل العلم والعلماء من الحديث ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ساعة من عالم يتكىء على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاما.

وروى أنس بن مالك عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة وتذكرة لأهله لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبيل الجنة والنار والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والقرب عند الغرباء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة يقتدى بهم ويقتفي آثارهم وينتهي إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم وفي صلاتهم تستغفر لهم وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحار وهوامها وسباع الأرض وأنعامها والسماء ونجومها ألا وإن العلم حياة القلوب ونور الأبصار وقوة الأبدان يبلغ بالعبد منازل الأحرار ومجلس الملوك والفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام وبه يعرف الحلال والحرام وبه توصل الأرحام والعلم إمام العمل والعمل تابعه يلهم السعداء ويحرم الأشقياء ومما جاء في فضل هذه الآية ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأ ﴿شهد الله﴾ الآية عند منامه خلق الله منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة ، الزبير بن العوام قال قلت لأدنون هذه العشية من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهي عشية عرفة حتى أسمع ما يقوله فحبست ناقتي بين ناقة رسول الله وناقة رجل كان إلى جنبه فسمعته يقول ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو﴾ الآية فما زال يرددها حتى رفع.

غالب القطان قال أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أختلف إليه فلما كنت ذات ليلة أردت أن انحدر إلى البصرة قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو﴾ الآية ثم قال الأعمش وأنا أشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ قالها مرارا قلت لقد سمع فيها شيئا فصليت معه وودعته ثم قلت آية سمعتك ترددها فما بلغك فيها ؟ قال لا أحدثك بها إلى سنة فكتبت على بابه ذلك اليوم أقمت سنة فلما مضت السنة قلت يا أبا محمد قد مضت السنة فقال حدثني أبو وائل عن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يجاء بصاحبها يوم القيامة فتقول الله إن لعبدي هذا عهدا عندي وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي هذا الجنة وقال سعيد بن جبير كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فلما نزلت ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو﴾ الآية خررن سجدا وقوله ﴿إن الدين﴾ أي الطاعة ﴿عند الله﴾ هو ﴿الإسلام﴾ وقيل المراد بالإسلام التسليم لله ولأوليائه وهو التصديق وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له أنه قال لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل رواه علي بن إبراهيم في تفسيره قال ثم قال إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفرانه بإنكاره أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب﴾ معناه وما اختلف اليهود والنصارى في صدق نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما كانوا يجدونه في كتبهم بنعته وصفته ووقت خروجه ﴿إلا من بعد ما جاءهم العلم﴾ بعد ما جاءهم للعلم ثم أخبر عن علة اختلافهم فقال ﴿بغيا بينهم﴾ أي حسدا وتقديره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم والعلم المذكور يجوز أن يراد به البينات التي هي طرق العلم فيدخل فيه المبطلون من أهل الكتاب علموا أو لم يعلموا ويحتمل أن يراد به نفس العلم فلا يدخل فيه إلا من علم بصفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكتمه عنادا وقيل المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والكتاب التوراة لما عهد موسى (عليه السلام) إليهم وأقام فيهم يوشع بن نون ومضى ثلاثة قرون واختلفوا عن الربيع وقيل المراد ب ﴿الذين أوتوا الكتاب﴾ النصارى والكتاب الإنجيل واختلفوا في أمر عيسى (عليه السلام) عن محمد بن جعفر بن الزبير وقيل خرج مخرج الجنس ومعناه كتب الله المتقدمة واختلفوا بعدها في الدين عن الجبائي ﴿ومن يكفر ب آيات الله﴾ أي بحججه وقيل بالتوراة والإنجيل وما فيهما من صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقيل بالقرآن وما دل عليه ﴿فإن الله سريع الحساب﴾ أي لا يفوته شيء من أعمالهم وقيل معناه سريع الجزاء وحقيقة الحساب أن تأخذ ما لك وتعطي ما عليك.