الآية 7

هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ﴿7﴾

اللغة:

المحكم مأخوذ من قولك أحكمت الشيء إذا ثقفته وأتقنته وأم الكتاب أصله ومكة أم القرى ويقال لعلم الجيش أم وأصله أمهة ولذلك يجمع على أمهات وقد يقال أمات أيضا والمتشابه الذي يشبه بعضه بعضا فيغمض أخذ من الشبه لأنه يشتبه به المراد والزيغ الميل وإزاغة إمالة والتزايغ التمايل في الأسنان والابتغاء الطلب والفتنة أصلها الاختبار من قولهم فتنت الذهب بالنار أي اختبرته وقيل معناه خلصته والتأويل والتفسير وأصله المرجع والمصير من قولهم آل أمره إلى كذا يؤول أولا إذا صار إليه وأولته تأويلا إذا صيرته إليه قال الأعشى:

على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا أي

كان حبها صغيرا ف آل إلى العظم كما آل السقب وهو الصغير من أولاد النوق إلى الكبر والراسخون الثابتون يقال رسخ رسوخا إذا ثبت في موضعه وأرسخه غيره.

الإعراب:

منه آيات جملة من مبتدإ وخبر في موضع النصب على الحال من أنزل وتقديره أنزل الكتاب محكما ومتشابها ﴿هن أم الكتاب﴾ جملة في موضع الرفع لكونها صفة لآيات وآخر عطف على آيات وهو صفة مبتدأ محذوف وتقديره ومنه آيات أخر ومتشابهات صفة بعد صفة وأخر غير منصرف قال سيبويه أن أخر فارقت أخواتها والأصل الذي عليه بناء أخواتها لأن أخر أصلها أن يكون صفة بالألف واللام كما يقال الصغرى والصغر فلما عدل عن مجرى الألف واللام وأصل أفعل منك وهي مما لا تكون إلا صفة منعت الصرف وقال الكسائي إنما لم تصرف لأنه صفة وهذا غلط لأن قولهم مال لبد وحطم منصرفان مع كونهما صفة وابتغاء نصب لأنه مفعول له في الموضعين ﴿وكل من عند ربنا﴾ مبتدأ وخبر وهو اسم دال على المضاف إليه كثير في الكلام حذف المضاف إليه منه عند البصريين ولا يجيزون إنا كلا فيها على الصفة وأجازه الكوفيون لأنه إنما حذف عندهم لدلالته عليه اسما كان أو صفة وإنما بني قبل على الغاية ولم يبن كل وإن حذف من كل واحد منهما المضاف إليه لأن قبل ظرف يعرف وينكر ففرق بين ذلك بالبناء الذي يدل على تعريفه بالمضاف إليه والإعراب الذي يدل على تنكيره بالانفصال وليس كذلك كل لأنه معرفة في الأفراد دون نكرة فأما ليس غير فمشبه بحسب لما فيه من معنى الأمر.

المعنى:

لما تقدم بيان إنزال القرآن عقبه بيان كيفية إنزاله فقال ﴿هو الذي أنزل عليك﴾ يا محمد ﴿الكتاب﴾ أي القرآن ﴿منه﴾ أي من الكتاب ﴿آيات محكمات هن أم الكتاب﴾ أي أصل الكتاب ﴿وأخر متشابهات﴾ قيل في المحكم والمتشابه أقوال (أحدها) أن المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه نحو قوله تعالى ﴿إن الله لا يظلم الناس شيئا﴾ و﴿لا يظلم مثقال ذرة﴾ ونحو ذلك مما لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دليل والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه نحو قوله ﴿وأضله الله على علم﴾ فإنه يفارق قوله وأضلهم السامري لأن إضلال السامري قبيح وإضلال الله تعالى حسن وهذا معنى قول مجاهد المحكم ما لم تشتبه معانيه والمتشابه ما اشتبهت معانيه وإنما يقع الاشتباه في أمور الدين كالتوحيد ونفي التشبيه والجور أ لا ترى أن قوله ﴿ثم استوى على العرش﴾ يحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على سريره وأن يكون بمعنى القهر والاستيلاء والوجه الأول لا يجوز عليه سبحانه (وثانيها) أن المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ عن ابن عباس (وثالثها) إن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا عن محمد بن جعفر بن الزبير وأبي علي الجبائي (ورابعها) إن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه والمتشابه ما تكرر ألفاظه كقصة موسى وغير ذلك عن ابن زيد (وخامسها) إن المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله كقيام الساعة عن جابر بن عبد الله وإنما وحد أم الكتاب ولم يقل هن أمهات الكتاب لوجهين (أحدهما) أنه على وجه الجواب كأنه قيل ما أم الكتاب فقال هن أم الكتاب كما يقال من نظير زيد فيقال نحن نظيره (والثاني) إن الآيات بمجموعها أصل الكتاب وليست كل آية محكمة أم الكتاب وأصله لأنها جرت مجرى شيء واحد في البيان والحكمة ومثله قوله ﴿وجعلنا ابن مريم وأمه﴾ آية ولم يقل آيتين لأن شأنهما واحد في أنها جاءت به من غير ذكر فلم تكن الآية لها إلا به ولا له إلا بها ولو أراد أن كل واحد منهما آية على التفصيل لقال آيتين ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ﴾ أي ميل عن الحق وإنما يحصل الزيغ بشك أو جهل ﴿فيتبعون ما تشابه منه﴾ أي يحتجون به على باطلهم ﴿ابتغاء الفتنة﴾ أي لطلب الضلال والإضلال وإفساد الدين على الناس وقيل لطلب التلبيس على ضعفاء الخلق عن مجاهد وقيل لطلب الشرف والمال كما سمى الله المال فتنة في مواضع من كتابه وقيل المراد بالفتنة هاهنا الكفر وهو المروي عن أبي عبد الله وقول الربيع والسدي ﴿وابتغاء تأويله﴾ ولطلب تأويله على خلاف الحق وقيل لطلب مدة أكل محمد على حساب الجمل وابتغاء معاقبته ويدل على ذلك قوله ذلك خير وأحسن تأويلا أي عاقبة وقول العرب تأول الشيء إذا انتهى وقال الزجاج معنى ابتغائهم تأويله أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم فأعلم الله أن ذلك لا يعلمه إلا الله ويدل على ذلك قوله هل ينظرون إلا تأويله واختلف في الذين عنوا بهذا فقيل عني به وفد نجران لما حاجوه في أمر عيسى وسألوه فقالوا أليس هو كلمة الله وروحا منه فقال بلى فقالوا حسبنا فأنزل الله ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه﴾ يعني أنهم قالوا أن الروح ما فيه بقاء البدن فأجروه على ظاهره والمسلمون يحملونه على أن بقاء البدن كان في وقته به كما أن بقاء البدن بالروح وقد قامت الدلالة على أن القديم تعالى ليس بذي أجزاء وأعضاء وإنما يضاف الروح إليه تشريفا للروح كما يضاف البيت إليه ثم أنزل أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب عن الربيع وقيل هم اليهود طلبوا علم أكل هذه الأمة واستخرجه بحساب الجمل عن الكلبي وقيل هم المنافقون عن ابن جريح وقيل بل كل من احتج بالمتشابه لباطله فالآية فيه عامة كالحرورية والسبائية عن قتادة ﴿وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم﴾ أي الثابتون في العلم الضابطون له المتقنون فيه واختلف في نظمه وحكمه على قولين ( أحدهما ) أن الراسخون معطوف على الله بالواو على معنى أن تأويل المتشابة لا يعلمه إلا الله وإلا الراسخون في العلم فإنهم يعلمونه ﴿و يقولون﴾ على هذا في موضع النصب على الحال وتقديره قائلين ﴿آمنا به كل من عند ربنا﴾ كقول ابن المفرغ الحميري:

الريح تبكي شجوة

والبرق يلمع في غمامة

أي والبرق يبكي أيضا لامعا في غمامة وهذا قول ابن عباس والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير واختيار أبي مسلم وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) فإنه قال كان رسول الله أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل والتنزيل وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله وهو وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله ومما يؤيده هذا القول أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن ولم نرهم توقفوا على شيء منه ولم يفسروه بأن قالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا الله وكان ابن عباس يقول في هذه الآية أنا من الراسخين في العلم والقول الآخر أن الواو في قوله ﴿والراسخون﴾ واو الاستئناف فعلى هذا القول يكون تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى والوقف عند قوله ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾ ويبتدي ﴿والراسخون في العلم يقولون آمنا به﴾ فيكون مبتدأ وخبرا وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير والحسن ومالك واختيار الكسائي والفراء والجبائي وقالوا إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يؤمنون به فالآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بمدة أكل هذه الأمة ووقت قيام الساعة وفناء الدنيا ووقت طلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى وخروج الدجال ونحو ذلك مما استأثر الله بعلمه ويكون التأويل على هذا القول بمعنى المتأول كقوله هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يعني الموعود به وقوله ﴿كل من عند ربنا﴾ معناه المحكم والمتشابه جميعا من عند ربنا ﴿وما يذكر﴾ أي وما يتفكر في آيات الله ولا يرد المتشابه إلى المحكم ﴿إلا أولوا الألباب﴾ أي ذوو العقول فإن قيل لم أنزل الله تعالى في القرآن المتشابه وهلا جعله كله محكما فالجواب أنه لو جعل جميعه محكما لا تكل الناس كلهم على الخبر واستغنوا عن النظر ولكان لا يتبين فضل العلماء على غيرهم ولكان لا يحصل لهم ثواب النظر وإتعاب الخواطر في استنباط المعاني وقال القاضي الماوردي قد وصف الله تعالى جميع القرآن بأنه محكم بقوله ﴿الر كتاب أحكمت آياته﴾ ووصف جميعه أيضا بأنه متشابه بقوله الله ﴿نزل أحسن الحديث كتابا متشابها﴾ فمعنى الأحكام الإتقان والمنع أي هو ممنوع بإتقانه وإحكام معانيه عن اعتراض خلل فيه فالقرآن كله محكم من هذا الوجه وقوله متشابها أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق والثواب والبعد عن الخلل والتناقض فهو كله متشابه من هذا الوجه.