الآيات 21-28

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿21﴾ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿22﴾ قَالَ إِنَّمَا مُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴿23﴾ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿24﴾ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴿25﴾ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون ﴿26﴾ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿27﴾ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿28﴾

بيان:

لما قسم الناس على قسمين وانتهى الكلام إلى الإنذار عقب ذلك بالإشارة إلى قصتين قصة قوم عاد وهلاكهم ومعها الإشارة إلى هلاك القرى التي حول مكة وقصة إيمان قوم من الجن صرفهم الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستمعوا القرآن فآمنوا ورجعوا إلى قومهم منذرين وإنما أورد القصتين ليعتبر بهما من شاء أن يعتبر منهم، وهذه الآيات المنقولة تتضمن أولى القصتين.

قوله تعالى: ﴿واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه﴾ إلخ، أخو القوم هو المنسوب إليهم من جهة الأب، والمراد بأخي عاد هود النبي (عليه السلام)، والأحقاف مسكن قوم عاد والمتيقن أنه في جنوب جزيرة العرب ولا أثر اليوم باقيا منهم، واختلفوا أين هو؟ فقيل: واد بين عمان ومهرة، وقيل رمال بين عمان إلى حضرموت، وقيل: رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن وقيل غير ذلك.

وقوله: ﴿وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه﴾ النذر جمع نذير والمراد به الرسول على ما يفيده السياق، وأما تعميم بعضهم الندر للرسول ونوابهم من العلماء ففي غير محله.

وفسروا ﴿من بين يديه﴾ بالذين كانوا قبله و﴿من خلفه﴾ بالذين جاءوا بعده ويمكن العكس بأن يكون المراد بالنذر بين يديه من كانوا في زمانه، ومن خلفه من كان قبله، والأولى على الأول أن يكون المراد بخلو النذر من بين يديه ومن خلفه أن يكون كناية عن مجيئه إليهم وإنذاره لهم على فترة من الرسل.

وقوله: ﴿ألا تعبدوا إلا الله﴾ تفسير للإنذار وفيه إشارة إلى أن أساس دينه الذي يرجع إليه تفاصيله هو التوحيد.

وقوله: ﴿إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم﴾ تعليل لدعوتهم إلى التوحيد، والظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم عذاب الاستئصال لا يوم القيامة يدل على ذلك ما سيأتي من قولهم: ﴿فائتنا بما تعدنا﴾ وقوله: ﴿بل هو ما استعجلتم به﴾ والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا﴾ إلخ، جواب القوم له قبال إنذاره، وقوله: ﴿لتأفكنا عن آلهتنا﴾ بتضمين الإفك وهو الكذب والفرية معنى الصرف والمعنى: قالوا أجئتنا لتصرفنا عن آلهتنا إفكا وافتراء.

وقوله: ﴿فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين﴾ أمر تعجيزي منهم له زعما منهم أنه (عليه السلام) كاذب في دعواته آفك في إنذاره.

قوله تعالى: ﴿قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به﴾ إلخ، جواب هود عن قولهم ردا عليهم، فقوله: ﴿إنما العلم عند الله﴾ قصر العلم بنزول العذاب فيه تعالى لأنه من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله جل شأنه، وهو كناية عن أنه (عليه السلام) لا علم له بأنه ما هو؟ ولا كيف هو؟ ولا متى هو؟ ولذلك عقبه بقوله: ﴿وأبلغكم ما أرسلت به﴾ أي إن الذي حملته وأرسلت به إليكم هو الذي أبلغكموه ولا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به ما هو؟ وكيف هو؟ ومتى هو؟ ولا قدرة لي عليه.

وقوله: ﴿ولكني أراكم قوما تجهلون﴾ إضراب عما يدل عليه الكلام من نفيه العلم عن نفسه، والمعنى: لا علم لي بما تستعجلون به من العذاب ولكني أراكم قوما تجهلون فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم وخيركم من شركم حين تردون دعوة الله وتكذبون بآياته وتستهزءون بما يوعدكم به من العذاب.

قوله تعالى: ﴿فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا﴾ إلخ، صفة نزول العذاب إليهم بادىء ظهوره عليهم.

والعارض هو السحاب يعرض في الأفق ثم يطبق السماء وهو صفة العذاب الذي يرجع إليه ضمير ﴿رأوه﴾ المعلوم من السياق، وقوله: ﴿مستقبل أوديتهم﴾ صفة أخرى له، والأودية جمع الوادي، وقوله: ﴿قالوا هذا عارض ممطرنا﴾ أي استبشروا ظنا منهم أنه سحاب عارض ممطر لهم فقالوا: هذا الذي نشاهده سحاب عارض ممطر إيانا.

وقوله: ﴿بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم﴾ رد لقولهم: ﴿هذا عارض ممطرنا﴾ بالإضراب عنه إلى بيان الحقيقة فبين أولا على طريق التهكم أنه العذاب الذي استعجلتم به حين قلتم: ﴿فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين﴾ وزاد في البيان ثانيا بقوله: ﴿ريح فيها عذاب أليم﴾.

والكلام من كلامه تعالى وقيل: هو كلام لهود النبي (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿تدمر كل شيء بإذن ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين﴾ التدمير الإهلاك، وتعلقه بكل شيء وإن كان يفيد عموم التدمير لكن السياق يخصصه بنحو الإنسان والدواب والأموال، فالمعنى: أن تلك الريح ريح تهلك كل ما مرت عليه من إنسان ودواب وأموال.

وقوله: ﴿فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم﴾ بيان لنتيجة نزول العذاب، وقوله: ﴿كذلك نجزي القوم المجرمين﴾ إعطاء ضابط كلي في مجازاة المجرمين بتشبيه الكلي بالفرد الممثل به والتشبيه في الشدة أي إن سنتنا في جزاء المجرمين على هذا النحو الذي قصصناه من الشدة فهو كقوله تعالى: ﴿وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد﴾ هود: 102.

قوله تعالى: ﴿ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه﴾ إلخ، موعظة لكفار مكة مستنتجة من القصة.

والتمكين إقرار الشيء وإثباته في المكان، وهو كناية عن إعطاء القدرة والاستطاعة في التصرف و﴿ما﴾ في ﴿فيما﴾ موصولة أو موصوفة و﴿إن﴾ نافية، والمعنى: ولقد جعلنا قوم هود في الذي - أو في شيء - ما مكناكم معشر كفار مكة ومن يتلوكم فيه من بسطة الأجسام وقوة الأبدان والبطش الشديد والقدرة القومية.

وقوله: ﴿وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة﴾ أي جهزناهم بما يدركون به ما ينفعهم وما يضرهم وهو السمع والأبصار وما يميزون به ما ينفعهم مما يضرهم فيحتالون لجلب النفع ولدفع الضر بما قدروا كما أن لكم ذلك.

وقوله: ﴿فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله﴾ ما في ﴿فما أغنى﴾ نافية لا استفهامية، و﴿إذ﴾ ظرف متعلق بالنفي الذي في قوله: ﴿فما أغنى﴾.

ومحصل المعنى: أنهم كانوا من التمكن على ما ليس لكم ذلك وكان لهم من أدوات الإدراك والتمييز ما يحتال به الإنسان لدفع المكاره والاتقاء من الحوادث المهلكة المبيدة لكن لم يغن عنهم ولم ينفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئا عند ما جحدوا آيات الله فما الذي يؤمنكم من عذاب الله وأنتم جاحدون لآيات الله.

وقيل: معنى الآية: ولقد مكناهم في الذي أو في شيء ما مكناكم فيه من القوة والاستطاعة وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ليستعملوها فيما خلقت له ويسمعوا كلمة الحق ويشاهدوا آيات التوحيد ويعتبروا بالتفكر في العبر، ويستدلوا بالتعقل الصحيح على المبدإ والمعاد فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء حيث لم يستعملوها فيما يوصل إلى معرفة الله سبحانه، هذا ولعل الذي قدمناه من المعنى أنسب للسياق.

وقد جوزوا في مفردات الآية وجوها لم نوردها لعدم جدوى فيها.

وقد تقدم في نظائر قوله: ﴿سمعا وأبصارا وأفئدة﴾ أن إفراد السمع - والمراد منه الجمع - لمكان مصدريته في الأصل نظير الضيف والقربان والجنب، قال تعالى: ﴿ضيف إبراهيم المكرمين﴾ الذاريات: 24 وقال: ﴿إذ قربا قربانا﴾ المائدة: 27، وقال: ﴿وإن كنتم جنبا﴾ المائدة: 6.

وقوله: ﴿وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون﴾ عطف على قوله: ﴿ما أغنى عنهم﴾ إلخ.

قوله تعالى: ﴿ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى﴾ تذكرة إنذارية متفرعة على العظة التي في قوله: ﴿ولقد مكناهم﴾ إلخ، فهي معطوفة عليه على ما يفيده السياق لا على قوله: ﴿واذكر أخا عاد﴾.

وقوله: ﴿وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون﴾ أي وصيرنا الآيات المختلفة من معجزة أيدنا بها الأنبياء ووحي أنزلناه عليهم ونعم رزقناهموها ليتذكروا بها ونقم ابتليناهم بها ليتوبوا وينصرفوا عن ظلمهم لعلهم يرجعون من عبادة غير الله سبحانه إلى عبادته.

والضمير في ﴿لعلهم يرجعون﴾ راجع إلى القرى والمراد بها أهل القرى.

قوله تعالى: ﴿فلو لا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة﴾ إلخ، ظاهر السياق أن آلهة مفعول ثان لاتخذوا ومفعوله الأول هو الضمير الراجع إلى الموصول و﴿قربانا﴾ بمعنى ما يتقرب به، والكلام مسوق للتهكم، والمعنى: فلو لا نصرهم الذين اتخذوهم آلهة حال كونهم متقربا بهم إلى الله كما كانوا يقولون: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾.

وقوله: ﴿بل ضلوا عنهم﴾ أي ضل الآلهة عن أهل القرى وانقطعت رابطة الألوهية والعبودية التي كانوا يزعمونها ويرجون بذلك أن ينصروهم عند الشدائد والمكاره فالضلال عنهم كناية عن بطلان مزعمتهم.

وقوله: ﴿وذلك إفكهم وما كانوا يفترون﴾ مبتدأ وخبر والإشارة إلى ضلال آلهتهم، والمراد بالإفك أثر الإفك أو بتقدير مضاف، و﴿ما﴾ مصدرية، والمعنى: وذلك الضلال أثر إفكهم وافترائهم.

ويمكن أن يكون الكلام على صورته من غير تقدير مضاف أو تجوز والإشارة إلى إهلاكهم بعد تصريف الآيات وضلال آلهتهم عند ذلك، ومحصل المعنى: أن هذا الذي ذكرناه من عاقبة أمرهم هو حقيقة زعمهم أن الآلهة يشفعون لهم ويقربونهم من الله زعمهم الذي أفكوه وافتروه، والكلام مسوق للتهكم.