الآيات 92-112
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴿92﴾ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ﴿93﴾ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴿94﴾ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴿95﴾ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ﴿96﴾ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿97﴾ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴿98﴾ لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿99﴾ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ﴿100﴾ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴿101﴾ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴿102﴾ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿103﴾ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴿104﴾ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴿105﴾ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴿106﴾ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴿107﴾ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿108﴾ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴿109﴾ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ﴿110﴾ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴿111﴾ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴿112﴾
بيان:
في الآيات رجوع إلى أول الكلام فقد بين فيما تقدم أن للبشر إلها واحدا وهو الذي فطر السماوات والأرض فعليهم أن يعبدوه من طريق النبوة وإجابة دعوتها ويستعدوا بذلك لحساب يوم الحساب، ولم تندب النبوة إلا إلى دين واحد وهو دين التوحيد كما دعا إليه موسى من قبل ومن قبله إبراهيم ومن قبله نوح ومن جاء بعد موسى وقبل نوح ممن أشار الله سبحانه إلى أسمائهم ونبذة مما أنعم به عليهم كأيوب وإدريس وغيرهما.
فالبشر ليس إلا أمة واحدة لها رب واحد هو الله عز اسمه ودين واحد هو دين التوحيد يعبد فيه الله وحده قطعت به الدعوة الإلهية لكن الناس تقطعوا أمرهم بينهم وتشتتوا في أديانهم واختلقوا لهم آلهة دون الله وأديانا غير دين الله فاختلف بذلك شأنهم وتباينت غاية مسيرهم في الدنيا والآخرة.
أما في الآخرة فإن الصالحين منهم سيشكر الله سعيهم ولا يشاهدون ما يسوؤهم ولن يزالوا في نعمة وكرامة، وأما غيرهم فإلى العذاب والعقاب.
وأما في الدنيا فإن الله وعد الصالحين منهم أن يورثهم الأرض ويجعل لهم عاقبة الدار والطالحون إلى هلاك ودمار وخسران وسعي وبوار.
قوله تعالى: ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾ - الأمة جماعة يجمعها مقصد واحد، والخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات - خطاب عام يشمل جميع الأفراد المكلفين من الإنسان، والمراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع واحد، وتأنيث الإشارة في قوله ﴿هذه أمتكم﴾ لتأنيث الخبر.
والمعنى: أن هذا النوع الإنساني أمتكم معشر البشر وهي أمة واحدة وأنا - الله الواحد عز اسمه - ربكم إذ ملكتكم ودبرت أمركم فاعبدوني لا غير.
وفي قوله: ﴿أمة واحدة﴾ إشارة إلى حجة الخطاب بالعبادة لله سبحانه فإن النوع الإنساني لما كان نوعا واحدا وأمة واحدة ذات مقصد واحد وهو سعادة الحياة الإنسانية لم يكن له إلا رب واحد إذ الربوبية والألوهية ليست من المناصب التشريفية الوضعية حتى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء وكم يشاء وكيف يشاء بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره، والإنسان حقيقة نوعية واحدة، والنظام الجاري في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض، أجزائه ببعض ونظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الآخر أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون فالإنسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا هو رب بحقيقة الربوبية.
وهو الله عز اسمه.
وقيل: المراد بالأمة الدين، والإشارة بهذه إلى دين الإسلام الذي كان دين الأنبياء والمراد بكونه أمة واحدة اجتماع الأنبياء بل إجماعهم عليه، والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وهي ملة اتفقت الأنبياء (عليهم السلام) عليها.
وهو بعيد فإن استعمال الأمة في الدين لو جاز لكان تجوز الإيصال إليه إلا بقرينة صارفة ولا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقي بعد صحته واستقامته وتأيده بسائر كلامه تعالى كقوله: ﴿وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا﴾ يونس: 19 وهو - كما ترى - يتضمن إجمال ما يتضمنه هذه الآية والآية التي تليها.
على أن التعبير في قوله: ﴿وأنا ربكم﴾ بالرب دون الإله يبقى على ما ذكروه بلا وجه بخلاف أخذ الأمة بمعنى الجماعة فإن المعنى عليه إنكم نوع واحد وأنا المالك المدبر لأمركم فاعبدوني لتكونوا متخذين لي إلها.
وفي الآية وجوه كثيرة أخر ذكروها لكنها جميعا بعيدة من السياق تركنا إيرادها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: ﴿وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون﴾ - التقطع على ما قال في مجمع البيان، بمعنى التقطيع وهو التفريق، وقيل: هو بمعناه المتبادر وهو التفرق والاختلاف و﴿أمرهم﴾ منصوب بنزع الخافض، والتقدير فتقطعوا في أمرهم وقيل ﴿تقطعوا﴾ مضمن معنى الجعل ولذا عدي إلى المفعول بنفسه.
وكيف كان فقوله: ﴿وتقطعوا أمرهم بينهم﴾ استعارة بالكناية والمراد به أنهم جعلوا هذا الأمر الواحد وهو دين التوحيد المندوب إليه من طريق النبوة وهو أمر وحداني قطعا متقطعة وزعوه فيما بينهم أخذ كل منهم شيئا منه وترك شيئا كالوثنيين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين على اختلاف طوائفهم وهذا نوع تقريع للناس وذم لاختلافهم في الدين وتركهم الأمر الإلهي أن يعبدوه وحده.
وقوله: ﴿كل إلينا راجعون﴾ فيه بيان أن اختلافهم في أمر الدين لا يترك سدى لا أثر له بل هؤلاء راجعون إلى الله جميعا وهم مجزيون حسب ما اختلفوا كما يلوح إليه التفصيل المذكور في قوله بعد: ﴿فمن يعمل من الصالحات﴾ إلخ.
والفصل في جملة: ﴿كل إلينا راجعون﴾ لكونها في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإلى م ينتهي اختلافهم في أمر الدين؟ وما ذا ينتج؟ فقيل: كل إلينا راجعون فنجازيهم كما علموا.
قوله تعالى: ﴿فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون﴾ تفصيل لحال المختلفين بحسب الجزاء الأخروي وسيأتي ما في معنى تفصيل جزائهم في الدنيا من قوله: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾.
فقوله: ﴿فمن يعمل من الصالحات﴾ أي من يعمل منهم شيئا من الأعمال الصالحات وقد قيد عمل بعض الصالحات بالإيمان إذ قال: ﴿وهو مؤمن﴾ فلا أثر للعمل الصالح بغير إيمان.
والمراد بالإيمان - على ما يظهر من السياق وخاصة قوله في الآية الماضية: ﴿وأنا ربكم فاعبدون﴾ - الإيمان بالله قطعا غير أن الإيمان بالله لا يفارق الإيمان بأنبيائه من دون استثناء لقوله: ﴿إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض - إلى قوله - أولئك هم الكافرون حقا﴾ النساء: 151.
وقوله: ﴿فلا كفران لسعيه﴾ أي لا ستر على ما عمله من الصالحات والكفران يقابل الشكر ولذا عبر عن هذا المعنى في موضع آخر بقوله: ﴿وكان سعيكم مشكورا﴾ الدهر: 22.
وقوله: ﴿وإنا له كاتبون﴾ أي مثبتون في صحائف الأعمال إثباتا لا ينسى معه فالمراد بقوله: ﴿فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون﴾ إن عمله الصالح لا ينسى ولا يكفر.
والآية من الآيات الدالة على أن قبول العمل الصالح مشروط بالإيمان كما تؤيده آيات حبط الأعمال مع الكفر، وتدل أيضا على أن المؤمن العامل لبعض الصالحات من أهل النجاة.
قوله تعالى: ﴿وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون﴾ الذي يستبق من الآية إلى الذهن بمعونة من سياق التفصيل أن يكون المراد أن أهل القرية التي أهلكناها لا يرجعون ثانيا إلى الدنيا ليحصلوا على ما فقدوه من نعمة الحياة ويتداركوا ما فوتوه من الصالحات وهو واقع محل أحد طرفي التفصيل الذي تضمن طرفه الآخر قوله: ﴿فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن﴾ إلخ.
فيكون الطرف الآخر من طرفي التفصيل أن من لم يكن مؤمنا قد عمل من الصالحات فليس له عمل مكتوب وسعي مشكور وإنما هو خائب خاسر ضل سعيه في الدنيا ولا سبيل له إلى حياة ثانية في الدنيا يتدارك فيها ما فاته.
غير أنه تعالى وضع المجتمع موضع الفرد إذ قال: ﴿وحرام على قرية أهلكناها﴾ ولم يقل: وحرام على من أهلكناه لأن فساد الفرد يسري بالطبع إلى المجتمع وينتهي إلى طغيانهم فيحق عليهم كلمة العذاب فيهلكون كما قال: ﴿وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا﴾ الإسراء: 58.
ويمكن - على بعد - أن يكون المراد بالإهلاك الإهلاك بالذنوب بمعنى بطلان استعداد السعادة والهدى كما في قوله: ﴿وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون﴾ الأنعام: 26 فتكون الآية في معنى قوله: ﴿فإن الله لا يهدي من يضل﴾ النحل: 37، والمعنى وحرام على قوم أهلكناهم بذنوبهم وقضينا عليهم الضلال أن يرجعوا إلى التوبة وحال الاستقامة.
ومعنى الآية والقرية التي لم تعمل من الصالحات وهي مؤمنة وأنجز أمرها إلى الإهلاك ممتنع عليهم أن يرجعوا فيتداركوا ما فاتهم من السعي المشكور والعمل المكتوب المقبول.
وأما قوله: ﴿أنهم لا يرجعون﴾ وكان الظاهر أن يقال: إنهم يرجعون فالحق أنه مجاز عقلي وضع فيه نتيجة تعلق الفعل بشيء - أعني ما يئول إليه حال المتعلق بعد تعلقه به - موضع نفس المتعلق فنتيجة تعلق الحرمة برجوعهم عدم الرجوع فوضعت هذه النتيجة موضع نفس الرجوع الذي هو متعلق الحرمة وفي هذا الصنع إفادة نفوذ الفعل كأن الرجوع يصير بمجرد تعلق الحرمة عدم رجوع من غير تخلل فصل.
ونظيره أيضا قوله: ﴿ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك:﴾ الأعراف: 12 حيث إن تعلق المنع بالسجدة يئول إلى عدم السجدة فوضع عدم السجدة الذي هو النتيجة موضع نفس السجدة التي هي متعلق المنع.
ونظيره أيضا قوله: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا﴾ الأنعام: 151 حيث إن تعلق التحريم بالشرك ينتج عدم الشرك فوضع عدم الشرك الذي هو النتيجة مكان نفس الشرك الذي هو المتعلق وقد وجهنا هاتين الآيتين فيما مر بتوجيه آخر أيضا.
وللقوم في توجيه الآية وجوه: منها: أن لا زائدة والأصل أنهم يرجعون.
ومنها: أن الحرام بمعنى الواجب أي واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون واستدل على إتيان الحرام بمعنى الواجب بقول الخنساء: وإن حراما لا أرى الدهر باكيا.
على شجوة إلا بكيت على صخر.
ومنها: أن متعلق الحرمة محذوف والتقدير حرام على قرية أهلكناها بالذنوب أي وجدناها هالكة بها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون إلى التوبة.
ومنها: أن المراد بعدم الرجوع عدم الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث لا عدم الرجوع إلى الدنيا والمعنى - على استقامة اللفظ - وممتنع على قرية أهلكناها بطغيان أهلها أن لا يرجعوا إلينا للمجازاة وأنت خبير بما في كل من هذه الوجوه من الضعف.
قوله تعالى: ﴿حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون﴾ الحدب بفتحتين الارتفاع من الأرض بين الانخفاض، والنسول الخروج بإسراع ومنه نسلان الذئب، والسياق يقتضي أن يكون قوله: ﴿حتى إذا فتحت﴾ إلخ.
غاية للتفصيل المذكور في قوله: ﴿فمن يعمل من الصالحات﴾ إلى آخر الآيتين، وأن يكون ضمير الجمع راجعا إلى يأجوج ومأجوج.
والمعنى: لا يزال الأمر يجري هذا المجرى نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين ونشكر سعيهم ونهلك القرى الظالمة ونحرم رجوعهم بعد الهلاك إلى الزمان الذي يفتح فيه يأجوج ومأجوج أي سدهم أو طريقهم المسدود وهم أي يأجوج ومأجوج يخرجون إلى سائر الناس من ارتفاعات الأرض مسرعين نحوهم وهو من أشراط الساعة وأمارات القيامة كما يشير إليه بقوله: ﴿فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا﴾ الكهف: 99 وقد استوفينا الكلام في معنى يأجوج ومأجوج والسد المضروب دونهم في تفسير سورة الكهف.
وقيل: ضمير الجمع للناس والمراد خروجهم من قبورهم إلى أرض المحشر.
وفيه أن سياق ما قبل الجملة ﴿حتى إذا فتحت﴾ إلخ.
وما بعدها ﴿واقترب الوعد الحق﴾ لا يناسب هذا المعنى، وكذا نفس الجملة من جهة كونها حالا.
على أن النسول من كل حدب - وقد اشتملت عليه الجملة - لا يصدق على الخروج من القبور ولذا قرأ صاحب هذا القول وهو مجاهد الجدث بالجيم والثاء المثلثة وهو القبر.
قوله تعالى: ﴿واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا﴾ إلخ.
المراد بالوعد الحق الساعة، وشخوص البصر نظره بحيث لا تطرف أجفانه، كذا ذكره الراغب وهو لازم كمال اهتمام الناظر بما ينظر إليه بحيث لا يشتغل بغيره ويكون غالبا في الشر الذي يظهر للإنسان بغتة.
وقوله: ﴿يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا﴾ حكاية قول الكفار إذا شاهدوا الساعة بغتة فدعوا لأنفسهم بالويل مدعين أنهم غفلوا عما يشاهدونه كأنهم أغفلوا إغفالا ثم أضربوا عن ذلك بالاعتراف بأن الغفلة لم تنشأ إلا عن ظلمهم بالاشتغال بما ينسي الآخرة ويغفل عنها من أمور الدنيا فقالوا: ﴿بل كنا ظالمين﴾ .
قوله تعالى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون﴾ الحصب الوقود، وقيل: الحطب، وقيل: أصله ما يرمى في النار فيكون أعم.
و المراد بقوله: ﴿وما تعبدون من دون الله﴾ ولم يقل: ومن تعبدون - مع تعبيره تعالى عن الأصنام في أغلب كلامه بألفاظ تختص بأولي العقل كما في قوله بعد: ﴿ما وردوها﴾ - الأصنام والتماثيل التي كانوا يعبدونها دون المعبودين من الأنبياء والصلحاء والملائكة كما قيل ويدل على ذلك قوله بعد: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى﴾ إلخ.
والظاهر أن هذه الآيات من خطابات يوم القيامة للكفار وفيها القضاء بدخولهم في النار وخلودهم فيها لا أنها إخبار في الدنيا بما سيجري عليهم في الآخرة واستدلال على بطلان عبادة الأصنام واتخاذهم آلهة من دون الله.
وقوله: ﴿أنتم لها واردون﴾ اللام لتأكيد التعدي أو بمعنى إلى، وظاهر السياق أن الخطاب شامل للكفار والآلهة جميعا أي أنتم وآلهتكم تردون جهنم أو تردون إليها.
قوله تعالى: ﴿لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون﴾ تفريع وإظهار لحقيقة حال الآلهة التي كانوا يعبدونها لتكون لهم شفعاء، وقوله: ﴿وكل فيها خالدون﴾ أي كل منكم ومن الآلهة.
قوله تعالى: ﴿لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون﴾ الزفير هو الصوت برد النفس إلى داخل ولذا فسر بصوت الحمار، وكونهم لا يسمعون جزاء عدم سمعهم في الدنيا كلمة الحق كما أنهم لا يبصرون جزاء لإعراضهم عن النظر في آيات الله في الدنيا.
وفي الآية عدول عن خطاب الكفار إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إعراضا عن خطابهم ليبين سوء حالهم لغيرهم، وعليه فضمائر الجمع للكفار خاصة لا لهم وللآلهة معا.
قوله تعالى: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون﴾ الحسنى مؤنث أحسن وهي وصف قائم مقام موصوفه والتقدير العدة أو الموعدة الحسنى بالنجاة أو بالجنة والموعدة بكل منهما وارد في كلامه تعالى قال: ﴿ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا﴾ مريم: 72 وقال: ﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات﴾ التوبة: 72.
قوله تعالى: ﴿لا يسمعون حسيسها - إلى قوله - توعدون﴾ الحسيس الصوت الذي يحس به، والفزع الأكبر الخوف الأعظم وقد أخبر سبحانه عن وقوعه في نفخ الصور حيث قال: ﴿ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض﴾ النمل: 87.
وقوله: ﴿وتتلقاهم الملائكة﴾ أي بالبشرى وهي قولهم: ﴿هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾.
قوله تعالى: ﴿يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده﴾ إلى آخر الآية، قال في المفردات: والسجل قيل: حجر كان يكتب فيه ثم سمي كل ما يكتب فيه سجلا قال تعالى: ﴿كطي السجل للكتب﴾ أي كطيه لما كتب فيه حفظا له.
وهذا أوضح معنى قيل في معنى هذه الكلمة وأبسطه.
وعلى هذا فقوله: ﴿للكتب﴾ مفعول طي كما أن السجل فاعله والمراد أن السجل وهو الصحيفة المكتوب فيها الكتاب إذا طوي انطوى بطيه الكتاب وهو الألفاظ أو المعاني التي لها نوع تحقق وثبوت في السجل بتوسط الخطوط والنقوش فغاب الكتاب بذلك ولم يظهر منه عين ولا أثر كذلك السماء تنطوي بالقدرة الإلهية كما قال: ﴿والسماوات مطويات بيمينه﴾ الزمر: 67 فتغيب عن غيره ولا يظهر منها عين ولا أثر غير أنها لا تغيب عن عالم الغيب وإن غاب عن غيره كما لا يغيب الكتاب عن السجل وإن غاب عن غيره.
فطي السماء على هذا رجوعها إلى خزائن الغيب بعد ما نزلت منها وقدرت كما قال تعالى: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر: 21 وقال مطلقا: ﴿وإلى الله المصير﴾ آل عمران: 28 وقال: ﴿إن إلى ربك الرجعى﴾ العلق: 8.
ولعله بالنظر إلى هذا المعنى قيل: إن قوله: ﴿كما بدأنا أول خلق نعيده﴾ ناظر إلى رجوع كل شيء إلى حاله التي كان عليها حين ابتدأ خلقه وهي أنه لم يكن شيئا مذكورا كما قال تعالى: ﴿وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا﴾ مريم: 9، وقال ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا﴾ الدهر: 1.
وهذا معنى ما نسب إلى ابن عباس أن معنى الآية يهلك كل شيء كما كان أول مرة وهو وإن كان مناسبا للاتصال بقوله: ﴿يوم نطوي السماء﴾ إلخ.
ليقع في مقام التعليل له لكن الأغلب على سياق الآيات السابقة بيان الإعادة بمعنى إرجاع الأشياء بعد فنائها لا الإعادة بمعنى إفناء الأشياء وإرجاعها إلى حالها قبل ظهورها بالوجود.
فظاهر سياق الآيات أن المراد نبعث الخلق كما بدأناه فالكاف في قوله: ﴿كما بدأنا أول خلق نعيده﴾ للتشبيه و﴿ما﴾ مصدرية و﴿أول خلق﴾ مفعول ﴿بدأنا﴾ والمراد أنا نعيد الخلق كابتدائه في السهولة من غير أن يعز علينا.
وقوله: ﴿وعدا علينا إنا كنا فاعلين﴾ أي وعدناه وعدا ألزمنا ذلك ووجب علينا الوفاء به وإنا كنا فاعلين لما وعدنا وسنتنا ذلك.
قوله تعالى: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ الظاهر أن المراد بالزبور كتاب داود (عليه السلام) وقد سمي بهذا الاسم في قوله: ﴿وآتينا داود زبورا﴾ النساء: 163، الإسراء: 55، وقيل: المراد به القرآن، وقيل: مطلق الكتب المنزلة على الأنبياء أو على الأنبياء بعد موسى ولا دليل على شيء من ذلك.
والمراد بالذكر قيل: هو التوراة وقد سماها الله به في موضعين من هذه السورة وهما قوله: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ الآية: 7 وقوله: ﴿وذكرا للمتقين﴾ الآية: 48 منها، وقيل: هو القرآن وقد سماه الله ذكرا في مواضع من كلامه وكون الزبور بعد الذكر على هذا القول بعدية رتبية لا زمانية وقيل: هو اللوح المحفوظ وهو كما ترى.
وقوله: ﴿إن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ الوراثة والإرث على ما ذكره الراغب انتقال قنية إليك من غير معاملة.
والمراد من وراثة الأرض انتقال التسلط على منافعها إليهم واستقرار بركات الحياة بها فيهم، وهذه البركات إما دنيوية راجعة إلى الحياة الدنيا كالتمتع الصالح بأمتعتها وزيناتها فيكون مؤدى الآية أن الأرض ستطهر من الشرك والمعصية ويسكنها مجتمع بشري صالح يعبدون الله ولا يشركون به شيئا كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض - إلى قوله - يعبدونني لا يشركون بي شيئا﴾ النور: 55.
وإما أخروية وهي مقامات القرب التي اكتسبوها في حياتهم الدنيا فإنها من بركات الحياة الأرضية وهي نعيم الآخرة كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: ﴿وقالوا الحمد لله الذي أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء﴾ الزمر: 74 وقوله: ﴿أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس﴾ المؤمنون: 11.
ومن هنا يظهر أن الآية مطلقة ولا موجب لتخصيصها بإحدى الوراثتين كما فعلوه فهم بين من يخصها بالوراثة الأخروية تمسكا بما يناسبها من الآيات، وربما استدلوا لتعينه بأن الآية السابقة تذكر الإعادة ولا أرض بعد الإعادة حتى يرثها الصالحون، ويرده أن كون الآية معطوفة على سابقتها غير متعين فمن الممكن أن تكون معطوفة على قوله السابق: ﴿فمن يعمل من الصالحات﴾ كما سنشير إليه.
وبين من يخصها بالوراثة الدنيوية ويحملها على زمان ظهور الإسلام أو ظهور المهدي (عليه السلام) الذي أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأخبار المتواترة المروية من طرق الفريقين، ويتمسك لذلك بالآيات المناسبة له التي أومأنا إلى بعضها.
وبالجملة الآية مطلقة تعم الوراثتين جميعا غير أن الذي يقتضيه الاعتبار بالسياق أن تكون معطوفة على قوله السابق: ﴿فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن﴾ إلخ.
المشير إلى تفصيل حال المختلفين في أمر الدين من حيث الجزاء الأخروي وتكون هذه الآية مشيرة إلى تفصيلها من حيث الجزاء الدنيوي، ويكون المحصل أنا أمرناهم بدين واحد لكنهم تقطعوا واختلفوا فاختلف مجازاتنا لهم أما في الآخرة فللمؤمنين سعي مشكور وعمل مكتوب وللكافرين خلاف ذلك، وأما في الدنيا فللصالحين وراثة الأرض بخلاف غيرهم.
قوله تعالى: ﴿إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين﴾ البلاغ هو الكفاية، وأيضا ما به بلوغ البغية، وأيضا نفس البلوغ، ومعنى الآية مستقيم على كل من المعاني الثلاثة، والإشارة بهذا إلى ما بين في السورة من المعارف.
والمعنى: أن فيما بيناه في السورة أن الرب واحد لا رب غيره يجب أن يعبد من طريق النبوة ويستعد بذلك ليوم الحساب، وأن جزاء المؤمنين كذا وكذا وجزاء الكافرين كيت وكيت - كفاية لقوم عابدين إن أخذوه وعملوا به كفاهم وبلغوا بذلك بغيتهم.
قوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ أي أنك رحمة مرسلة إلى الجماعات البشرية كلهم - والدليل عليه الجمع المحلى باللام - وذلك مقتضى عموم الرسالة.
وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لأهل الدنيا من جهة إتيانه بدين في الأخذ به سعادة أهل الدنيا في دنياهم وأخراهم.
وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لأهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة التي سرت من قيامه بالدعوة الحقة في مجتمعاتهم مما يظهر ظهورا بالغا بقياس الحياة العامة البشرية اليوم إلى ما قبل بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطبيق إحدى الحياتين على الأخرى.
قوله تعالى: ﴿قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون﴾ أي إن الذي يوحى إلي من الدين ليس إلا التوحيد وما يتفرع عليه وينحل إليه سواء كان عقيدة أو حكما والدليل على هذا الذي ذكرنا ورود الحصر على الحصر وظهوره في الحصر الحقيقي.
قوله تعالى: ﴿فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء﴾ الإيذان - كما قيل - إفعال من الإذن وهو العلم بالإجازة في شيء وترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم واشتق منه الأفعال وكثيرا ما يتضمن معنى التحذير والإنذار.
وقوله: ﴿على سواء﴾ الظاهر أنه حال من مفعول ﴿آذنتكم﴾ والمعنى فإن أعرضوا عن دعوتك وتولوا عن الإسلام لله بالتوحيد فقل: أعلمتكم أنكم على خطرها لكونكم مساوين في الإعلام أو في الخطر، وقيل: أعلمتكم بالحرب وهو بعيد في سورة مكية.
قوله تعالى: ﴿وإن أدري أ قريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون﴾ تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المأمور به.
والمراد بقوله: ﴿ما توعدون﴾ ما يشير إليه قوله: ﴿آذنتكم على سواء﴾ من العذاب المهدد به أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا أن يعلمهم الخطر إن تولوا عن الإسلام، وثانيا أن ينفي عن نفسه العلم بقرب وقوعه وبعده ويعلله بقصر العلم بالجهر من قولهم - وهو طعنهم في الإسلام واستهزاؤهم علنا - وما يكتمون من ذلك في الله سبحانه فهو العالم بحقيقة الأمر.
ومنه يعلم أن منشأ توجه العذاب إليهم هو ما كانوا يطعنون به في الإسلام في الظاهر وما يبطنون من المكر كأنه قيل: إنهم يستحقون العذاب بإظهارهم القول في هذه الدعوة الإلهية وإضمارهم المكر عليه فهددهم به لكن لما كنت لا تحيط بظاهر قولهم وباطن مكرهم ولا تقف على مقدار اقتضاء جرمهم العذاب من جهة قرب الأجل وبعده فأنف العلم بخصوصية قربه وبعده عن نفسك وأرجع العلم بذلك إلى الله سبحانه وحده.
وقد علم بذلك أن المراد بالجهر من القول ما أظهره المشركون من القول في الإسلام طعنا واستهزاء، وبما كانوا يكتمون ما أبطنوه عليه من المكر والخدعة.
قوله تعالى: ﴿وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين﴾ من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المأمور به وضمير ﴿لعله﴾ على ما قيل كناية عن غير مذكور ولعله راجع إلى الإيذان المأمور به، والمعنى وما أدري لعل هذا الإيذان الذي أمرت به أي مراده تعالى من أمره لي بإعلام الخطر امتحان لكم ليظهر به ما في باطنكم في أمر الدعوة فهو يريد به أن يمتحنكم ويمتعكم إلى حين وأجل استدراجا وإمهالا.
قوله تعالى: ﴿قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون﴾ الضمير في ﴿قال﴾ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والآية حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن دعوتهم إلى الحق وردهم له وتوليهم عنه فكأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دعاهم وبلغ إليهم ما أمر بتبليغه فأنكروا وشددوا فيه أعرض عنهم إلى ربه منيبا إليه وقال: ﴿رب احكم بالحق﴾ وتقييد الحكم بالحق توضيحي لا احترازي فإن حكمه تعالى لا يكون إلا حقا فكأنه قيل: رب احكم بحكمك الحق والمراد ظهور الحق لمن كان وعلى من كان.
ثم التفت (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم وقال: ﴿وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون﴾ وكأنه يشير به إلى سبب إعراضه عنهم ورجوعه إلى الله سبحانه وسؤاله أن يحكم بالحق فهو سبحانه ربه وربهم جميعا فله أن يحكم بين مربوبيه، وهو كثير الرحمة لا يخيب سائله المنيب إليه، وهو الذي يحكم لا معقب لحكمه وهو الذي يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمته: ﴿رب احكم بالحق﴾ راجع الذي هو ربه وربهم وسأله برحمته أن يحكم بالحق واستعان به على ما يصفونه من الباطل وهو نعتهم دينهم بما ليس فيه وطعنهم في الدين الحق بما هو بريء من ذلك.
وقد ظهر بما تقدم بعض ما في مفردات الآية الكريمة من النكات كالالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ﴿قال﴾ والتعبير عنه تعالى أولا بربي وثانيا بربنا وتوصيفه بالرحمن والمستعان إلى غير ذلك.
بحث روائي:
وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿وحرام على قرية أهلكناها﴾ الآية: روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: كل قرية أهلكها الله بعذاب فإنهم لا يرجعون.
وفي تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية يعني قوله: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ وجد منها أهل مكة وجدا شديدا فدخل عليهم عبد الله بن الزبعري وكفار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعري: أ محمد تكلم بهذه الآية؟ فقالوا: نعم قال ابن الزبعري: لئن اعترف بها لأخصمنه فجمع بينهما.
فقال: يا محمد أرأيت الآية التي قرأت آنفا فينا وفي آلهتنا خاصة أم الأمم وآلهتهم؟ فقال: بل فيكم وفي آلهتكم وفي الأمم وفي آلهتهم إلا من استثنى الله فقال ابن الزبعري: خصمتك والله أ لست تثني على عيسى خيرا؟ وقد عرفت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه وأن طائفة من الناس يعبدون الملائكة أ فليس هؤلاء مع الآلهة في النار: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا فضجت قريش وضحكوا قالت قريش: خصمك ابن الزبعري.
فقال رسول الله: قلتم الباطل أ ما قلت: إلا من استثنى الله وهو قوله تعالى: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها - وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون﴾ .
أقول: وقد روي الحديث أيضا من طرق أهل السنة لكن المتن في هذا الطريق أمتن مما ورد من طريقهم وأسلم وهو ما عن ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم - أنتم لها واردون﴾ شق ذلك على أهل مكة وقالوا شتم الآلهة فقال ابن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعي فقال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ قال: بل لكل من عبد من دون الله فقال ابن الزبعري: خصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة.
ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد صالح وأن عزير عبد صالح وأن الملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا وهذه بنو مليح تعبد الملائكة فضج أهل مكة وفرحوا.
فنزلت: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى﴾ عزير وعيسى والملائكة ﴿أولئك عنها مبعدون﴾ ونزلت ﴿ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون﴾.
وفي هذا المتن أولا: ذكر اسم عزير والواقعة في أوائل البعثة بمكة ولم يذكر اسمه في شيء من السور المكية وإنما ذكر في سورة التوبة وهي من أواخر ما نزلت بالمدينة.
وثانيا: قوله: (وهذه اليهود تعبد عزيرا واليهود لا تعبد عزيرا وإنما قالوا عزير ابن الله تشريفا كما قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه).
وثالثا: ما اشتمل عليه من نزول قوله: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون﴾ بعد اعتراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعموم قوله: ﴿إنكم وما تعبدون﴾ لكل معبود من دون الله، ونقض ابن الزبعري ذلك بعيسى وعزير والملائكة وهذا من ورود البيان بعد وقت الحاجة وأشد تأييدا لوقوع التهمة.
ورابعا: اشتماله على نزول قوله: ﴿ولما ضرب ابن مريم مثلا﴾ الآية في الواقعة ولا ارتباط لمضمونها بها أصلا.
ونظيره ما شاع بينهم أن ابن الزبعري اعترض بذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت: وما تعبدون، وما لم يعقل، ولم أقل: ومن تعبدون.
وفيه من الخلل ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: إني قلت كذا ولم أقل كذا ومن الواجب أن يجل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يتلفظ في آية قرآنية بمثل (قلت كذا ولم أقل كذا) ونقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له ولم يوجد في شيء من كتب الحديث لا مسند ولا غير مسند.
ونظيره في الضعف ما ورد في حديث آخر يقص هذه القصة أن ابن الزبعري قال: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم قال: قد خصمتك ورب الكعبة أ ليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى﴾ الحديث وذلك أن الحجة المنسوبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث تنفع ابن الزبعري أكثر مما تضره فإن الحجة كما تخرج عزيرا وعيسى والملائكة عن شمول الآية كذلك تخرج الآلهة التي هي أصنام فإنها تشارك المذكورين في أنها لا خبر لها عن عبادة عابديها ولا رضى منها بذلك إذ لا شعور لها فتختص الآية بالشياطين ولا تشمل الأصنام وهو خلاف ما نسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من دعوى شمول الآية لآلهتهم وتصديقه.
ونظيره في الضعف ما في الدر المنثور، عن البزار عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم - أنتم لها واردون﴾ ثم نسخها قوله: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون﴾.
ووجه الضعف ظاهر ولو كان هناك شيء فهو التخصيص.
وفي أمالي الصدوق، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: يا علي أنت وشيعتك على الحوض تسقون من أحببتم وتمنعون من كرهتم وأنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظل العرش، يفزع الناس ولا تفزعون، ويحزن الناس ولا تحزنون فيكم نزلت هذه الآية ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون﴾ وفيكم نزلت ﴿لا يحزنهم الفزع الأكبر - وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾.
أقول: معنى نزولها فيهم جريها فيهم أو دخولهم فيمن نزلت فيه وقد وردت روايات كثيرة في جماعة من المؤمنين عدوا ممن تجري فيه الآيتان وخاصة الثانية كمن قرأ القرآن محتسبا، وأم به قوما محتسبا، ورجل أذن محتسبا ومملوك أدى حق الله وحق مواليه رواه في المجمع، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والمتحابين في الله والمدلجين في الظلم والمهاجرين روى في الدر المنثور، الأول عن أبي الدرداء، والثاني عن أبي أمامة، والثالث عن الخدري جميعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد عد في أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ممن تجري فيه الآية خلق كثير.
وفي الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن علي: في قوله: ﴿كطي السجل﴾ قال: ملك.
أقول: ورواه أيضا عن ابن أبي حاتم وابن عساكر عن الباقر (عليه السلام) في حديث.
وفي تفسير القمي، وأما قوله: ﴿يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب﴾ قال: السجل اسم الملك الذي يطوي الكتب، ومعنى يطويها يفنيها فتتحول دخانا والأرض نيرانا.
وفي نهج البلاغة، في وصف الأموات: استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة والدار الباقية كما قال سبحانه: ﴿كما بدأنا أول خلق نعيده - وعدا علينا إنا كنا فاعلين﴾.
أقول: استشهاده (عليه السلام) بالآية يقبل الانطباق على كل من معنيي الإعادة أعني إعادة الخلق إلى ما بدءوا منه وإعادة الخلق بمعنى إحيائهم بعد موتهم كما كانوا قبل موتهم، وقد تقدم المعنيان في بيان الآية.
وفي المجمع، ويروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: تحشرون يوم القيامة حفاة عراة عزلا ﴿كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين﴾ أقول: وروى مثله في نور الثقلين عن كتاب الدوريستي بإسناده عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي تفسير القمي، وقوله: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر﴾ قال الكتب كلها ذكر ﴿إن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ قال: القائم وأصحابه قال: والزبور فيه ملاحم والتحميد والتمجيد والدعاء.
أقول: والروايات في المهدي (عليه السلام) وظهوره وملئه الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا من طرق العامة والخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالغة حد التواتر، من أراد الوقوف عليها فليراجع مظانها من كتب العامة والخاصة.
وفي الدر المنثور، أخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما أنا رحمة مهداة.