الآيات 16-33

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴿16﴾ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴿17﴾ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴿18﴾ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ﴿19﴾ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴿20﴾ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ﴿21﴾ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿22﴾ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴿23﴾ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ﴿24﴾ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴿25﴾ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴿26﴾ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴿27﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴿28﴾ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴿29﴾ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴿30﴾ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴿31﴾ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴿32﴾ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴿33﴾

بيان:

أول الآيات يوجه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة وأن الله لم يله بإيجاد السماء والأرض وما بينهما حتى يكونوا مخلين بأهوائهم يفعلون ما يشاءون ويلعبون كيفما أرادوا من غير أن يحاسبوا على أعمالهم بل إنما خلقوا ليرجعوا إلى ربهم فيحاسبوا فيجازوا على حسب أعمالهم فهم عباد مسئولون إن تعدوا عن طور العبودية أوخذوا بما تقتضيه الحكمة الإلهية وإن الله لبالمرصاد.

وإذ كان هذا البيان بعينه حجة على المعاد انتقل الكلام إليه وأقيمت الحجة عليه فيثبت بها المعاد وفي ضوئه النبوة لأن النبوة من لوازم وجوب العبودية وهو من لوازم ثبوت المعاد فالآيتان الأوليان كالرابط بين السياق المتقدم والمتأخر.

والآيات تشتمل على بيان بديع لإثبات المعاد وقد تعرض فيها لنفي جميع الاحتمالات المنافية للمعاد كما ستعرف.

قوله تعالى: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين﴾ الآيتان توجهان نزول العذاب على القرى الظالمة التي ذكر الله سبحانه قصمها، وهما بعينهما - على ما يعطيه السياق السابق - حجة برهانية على ثبوت المعاد ثم في ضوئه النبوة وهي الغرض الأصيل من سرد الكلام في السورة.

فمحصل ما تقدم - أن هناك معادا سيحاسب فيه أعمال الناس فمن الواجب أن يميزوا بين الخير والشر وصالح الأعمال وطالحها بهداية إلهية وهي الدعوة الحقة المعتمدة على النبوة ولو لا ذلك لكانت الخلقة عبثا وكان الله سبحانه لاعبا لاهيا بها تعالى عن ذلك.

فمقام الآيتين - كما ترى - مقام الاحتجاج على حقية المعاد لتثبت بها حقية دعوة النبوة لأن دعوة النبوة - على هذا - من مقتضيات المعاد من غير عكس.

وحجة الآيتين - كما ترى - تعتمد على معنى اللعب واللهو واللعب هو الفعل المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان التي لا أثر لها إلا مفاهيم خيالية من تقدم وتأخر وربح وخسارة ونفع وضرر كلها بحسب الفرض والتوهم وإذ كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الأعمال الواقعية فهو من مصاديق اللهو هذا.

فلو كان خلق العالم المشهود لا لغاية يتوجه إليها ويقصد لأجلها وكان الله سبحانه لا يزال يوجد ويعدم ويحيي ويميت ويعمر ويخرب لا لغاية تترتب على هذه الأفعال ولا لغرض يعمل لأجله ما يعمل بل إنما يفعلها لأجل نفسها ويريد أن يراها واحدا بعد واحد فيشتغل بها دفعا لضجر أو ملل أو كسل أو فرارا من الوحدة أو انطلاقا من الخلوة كحالنا نحن إذا اشتغلنا بعمل نلعب به ونتلهى لندفع به نقصا طرأ علينا وعارضة سوء لا نستطيبها لأنفسنا من ملال أو كلال أو كسل أو فشل ونحو ذلك.

فاللعب بنظر آخر لهو، ولذلك نراه سبحانه عبر في الآية الأولى باللعب ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين﴾ ثم بدله - في الآية الثانية التي هي في مقام التعليل لها - لهوا فوضع اللهو مكان اللعب لتتم الحجة.

وتلهيه تعالى بشيء من خلقه محال لأن اللهو لا يتم لهوا إلا برفع حاجة من حوائج اللاهي ودفع نقيصة من نقائصه نفسه فهو من الأسباب المؤثرة، ولا معنى لتأثير خلقه تعالى فيه واحتياجه إلى ما هو محتاج من كل جهة إليه فلو فرض تلهيه تعالى بلهو لم يجز أن يكون أمرا خارجا من نفسه، وخلقه فعله وفعله، خارج من نفسه، بل وجب أن يكون بأمر غير خارج من ذاته.

وبهذا يتم البرهان على أن الله ما خلق السماء والأرض وما بينهما لعبا ولهوا وما أبدعها عبثا ولغير غاية وغرض، وهو قوله: ﴿لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا﴾.

وأما اللهو بأمر غير خارج من ذاته فهو وإن كان محالا في نفسه لاستلزامه حاجة في ذاته إلى ما يشغله ويصرفه عما يجده في نفسه فيكون ذاته مركبة من حاجة حقيقية متقررة فيها وأمر رافع لتلك الحاجة، ولا سبيل للنقص والحاجة إلى ذاته المتعالية لكن البرهان لا يتوقف عليه لأنه في مقام بيان أن لا لعب ولا لهو في فعله تعالى وهو خلقه، وأما أنه لا لعب ولا لهو في ذاته تعالى فهو خارج عن غرض المقام وإنما أشير إلى نفي هذا الاحتمال بالتعبير بلفظة ﴿لو﴾ الدالة على الامتناع ثم أكده بقوله: ﴿إن كنا فاعلين﴾ فافهم ذلك.

وبهذا البيان يظهر أن قوله: ﴿لو أردنا﴾ إلخ، في مقام التعليل للنفي في قوله: ﴿وما خلقنا﴾ إلخ، وأن قوله: ﴿من لدنا﴾ معناه من نفسنا، وفي مرحلة الذات دون مرحلة الخلق الذي هو فعلنا الخارج من ذاتنا، وأن قوله: ﴿إن كنا فاعلين﴾ إشارة استقلالية إلى ما يدل عليه لفظة ﴿لو﴾ في ضمن الجملة فيكون نوعا من التأكيد.

وبهذا البيان يتم البرهان على المعاد ثم النبوة ويتصل الكلام بالسياق المتقدم ومحصله أن للناس رجوعا إلى الله وحسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا وعقابا فمن الواجب أن يكون هناك نبوة ودعوة ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من الاعتقاد والعمل فالمعاد هو الغرض من الخلقة الموجب للنبوة ولو لم يكن معاد لم يكن للخلقة غرض وغاية فكانت الخلقة لعبا ولهوا منه تعالى وهو غير جائز، ولو جاز عليه اتخاذ اللهو لوجب أن يكون بأمر غير خارج من نفسه لا بالخلق الذي هو فعل خارج من ذاته لأن من المحال أن يؤثر غيره فيه ويحتاج إلى غيره بوجه وإذ لم يكن الخلق لعبا فهناك غاية وهو المعاد ويستلزم ذلك النبوة ومن لوازمه أيضا نكال بعض الظالمين إذا ما طغوا وأسرفوا وتوقف عليه إحياء الحق كما يشير إليه قوله بعد: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾.

وللقوم في تفسير قوله: ﴿لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا﴾ وجوه: منها ما ذكره في الكشاف، ومحصله أن قوله: ﴿من لدنا﴾ معناه بقدرتنا، فالمعنى: أن لو شئنا اتخاذ اللهو لاتخذناه بقدرتنا لعمومها لكنا لا نشاء وذلك بدلالة ﴿لو﴾ على الامتناع.

وفيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال واللهو - ومعناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه وجه - محال عليه تعالى.

على أن دلالة ﴿من لدنا﴾ على القدرة لا تخلو من خفاء.

ومنها قول بعضهم: المراد بقوله: ﴿من لدنا﴾ من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فكان ستره أولى.

وفيه أن ستر النقص إنما هو للخوف من اللائمة عليه وإنما يخاف من لا يخلو من سمة العجز لا من هو على كل شيء قدير فإذ رفع نقصا باللهو فليرفع آخر بما يناسبه، على أنه إن امتنع عليه إظهاره لكونه نقصا فامتناع أصله عليه لكونه نقصا أقدم من امتناع الإظهار فيئول المعنى إلى أنا لو فعلنا هذا المحال لسترناه عنكم لأن إظهاره محال وهو كما ترى.

ومنها قول بعضهم إن المراد باللهو المرأة والولد والعرب تسمي المرأة لهوا والولد لهوا لأن المرأة والولد يستروح بهما واللهو ما يروح النفس، فالمعنى: لو أردنا أن نتخذ صاحبة وولدا - أو أحدهما - لاتخذناه من المقربين عندنا فهو كقوله: ﴿لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء﴾.

وقيل: لاتخذناه من المجردات العالية لا من الأجسام والجسمانيات السافلة، وقيل: لاتخذناه من الحور العين، وكيف كان فهو رد على مثل النصارى المثبتين للصاحبة والولد وهما مريم والمسيح (عليه السلام).

وفيه أنه إن صح من حيث اللفظ استلزم انقطاع الكلام عن السياق السابق.

ومنها ما عن بعضهم أن المراد بقوله: ﴿من لدنا﴾ من جهتنا، ومعنى الآية: لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع ومحصله أن جهته تعالى لا تقبل إلا الجد والحكمة فلو أراد لهوا صار جدا وحكمة أي يستحيل إرادة اللهو منه تعالى.

وفيه أنه وإن كان معنى صحيحا في نفسه غير خال من الدقة لكنه غير مفهوم من لفظ الآية كما هو ظاهر.

وقوله: ﴿إن كنا فاعلين﴾ الظاهر أن ﴿إن﴾ شرطية كما تقدمت الإشارة إليه، وعلى هذا فجزاؤه محذوف يدل عليه قوله: ﴿لاتخذناه من لدنا﴾ وقال بعضهم: إن ﴿إن﴾ نافية والجملة نتيجة البيان السابق، وعن بعضهم أن إن النافية لا تفارق غالبا اللام الفارقة، وقد ظهر مما تقدم من معنى الآية أن كون إن شرطية أبلغ بحسب المقام من كونها نافية.

قوله تعالى: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون﴾ القذف الرمي البعيد، والدمغ - على ما في مجمع البيان، - شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، يقال: دمغه يدمغه إذا أصاب دماغه، وزهوق النفس تلفها وهلاكها، يقال: زهق الشيء يزهق أي هلك.

والحق والباطل مفهومان متقابلان، فالحق هو الثابت العين، والباطل ما ليس له عين ثابتة لكنه يتشبه بالحق تشبها فيظن أنه هو حتى إذا تعارضا بقي الحق وزهق الباطل كالماء الذي هو حقيقة من الحقائق، والسراب الذي ليس بالماء حقيقة لكنه يتشبه به في نظر الناظر فيحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

وقد عد سبحانه في كلامه أمثلة كثيرة من الحق والباطل فعد الاعتقادات المطابقة للواقع من الحق وما ليس كذلك من الباطل وعد الحياة الآخرة حقا والحياة الدنيا بجميع ما يراه الإنسان لنفسه فيها ويسعى له سعيه من ملك ومال وجاه وأولاد وأعوان ونحو ذلك باطلا وعد ذاته المتعالية حقا وسائر الأسباب التي يغتر بها الإنسان ويركن إليها من دون الله باطلا، والآيات في ذلك كثيرة لا مجال لنقلها في المقام.

والذي يستند إليه تعالى بالأصالة هو الحق دون الباطل كما قال: ﴿الحق من ربك﴾ آل عمران: 60، وقال: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا﴾ ص: 27، وأما الباطل من حيث إنه باطل فليس ينتسب إليه بالاستقامة وإنما هو لازم نقص بعض الأشياء إذا قيس الناقص منها إلى الكامل، فالعقائد الباطلة لوازم نقص الإدراك وسائر الأمور الباطلة لوازم الأمور إذا قيس إلى ما هو أكمل منها، وهي تنتسب إليه تعالى بالإذن بمعنى أن خلقه تعالى الأرض السبخة الصيقلية بحيث يتراءى للناظر في لون الماء وصفائه إذن منه تعالى في أن يتخيل عنده ماء وهو تحقق السراب تحققا تخيليا باطلا.

ومن هنا يظهر أن لا شيء في الوجود إلا وفيه شوب بطلان إلا الله سبحانه فهو الحق الذي لا يخالطه بطلان ولا سبيل له إليه قال: ﴿إن الله هو الحق﴾ النور: 25.

ويظهر أيضا أن الخلقة على ما فيها من النظام بامتزاج من الحق والباطل، قال تعالى يمثل أمر الخلقة: ﴿أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ الرعد: 17، وتحت هذا معارف جمة.

وقد جرت سنة الله تعالى أن يمهل الباطل حتى إذا اعترض الحق ليبطله ويحل محله قذفه بالحق فإذا هو زاهق فالاعتقاد الحق لا يقطع دابره وإن قلت حملته أحيانا أو ضعفوا، والكمال الحق لا يهلك من أصله وإن تكاثرت أضداده، والنصر الإلهي لا يتخطى رسله وإن كانوا ربما بلغ بهم الأمر إلى أن استيئسوا وظنوا أنهم قد كذبوا.

وهذا معنى قوله تعالى: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾ فإنه إضراب عن عدم خلق العالم لعبا أو عن عدم إرادة اتخاذ اللهو المدلول عليه بقوله: ﴿لو أردنا أن نتخذ لهوا﴾ إلخ، وفي قوله: ﴿نقذف﴾ المفيد للاستمرار دلالة على كونه سنة جارية، وفي قوله: ﴿نقذف فيدمغه﴾ دلالة على علو الحق على الباطل، وفي قوله: ﴿فإذا هو زاهق﴾ دلالة على مفاجاة القذف ومباغتته في حين لا يرجى للحق غلب ولا للباطل انهزام، والآية مطلقة غير مقيدة بالحق والباطل في الحجة أو في السيرة والسنة أو في الخلقة فلا دليل على تقييدها بشيء من ذلك.

والمعنى: ما خلقنا العالم لعبا أو لم نرد اتخاذ اللهو بل سنتنا أن نرمي بالحق على الباطل رميا بعيدا فيهلكه فيفاجئه الذهاب والتلف، فإن كان الباطل حجة أو عقيدة فحجة الحق تبطلها، وإن كان عملا وسنة كما في القرى المسرفة الظالمة فالعذاب المستأصل يستأصله ويبطله، وإن كان غير ذلك فغير ذلك.

وقد فسر الآية بعضهم بقوله: لكنا لا نريد اتخاذ اللهو بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، وهو خطأ فإن فيه اعترافا بوجود اللهو ولم يرد في سابق الكلام إلا اللهو المنسوب إليه تعالى الذي نفاه الله عن نفسه فالحق أن الآية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجد واللهو إذ لا وجود للهو حتى تشمله الآية وتشمل ما يقابله.

وقوله: ﴿ولكم الويل مما تصفون﴾ وعيد للناس المنكرين للمعاد والنبوة على ما تقدم من توضيح مقتضى السياق.

ويظهر من الآية حقيقة الرجوع إلى الله تعالى وهو أنه تعالى لا يزال يقذف بالحق على الباطل فيحق الحق ويخلصه من الباطل الذي يشوبه أو يستره حتى لا يبقى إلا الحق المحض وهو الله الحق عز اسمه قال: ﴿ويعلمون أن الله هو الحق المبين﴾ النور: 25، فيسقط يومئذ ما كان يظن للأسباب من استقلال التأثير ويزعم لغيره من القوة والملك والأمر كما قال: ﴿لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون﴾ الأنعام: 94، وقال: ﴿إن القوة لله جميعا﴾ البقرة: 165 وقال: ﴿لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾ المؤمنون: 16، وقال: ﴿والأمر يومئذ لله﴾ الانفطار: 19، والآيات المشيرة إلى هذا المعنى كثيرة.

قوله تعالى: ﴿وله من في السموات والأرض﴾ دفع لأحد الاحتمالات المنافية للمعاد في الجملة وهو أن لا يتسلط سبحانه على بعض أو كل الناس فينجو من لا يملكه من الرجوع إليه والحساب والجزاء فأجيب بأن ملكه تعالى عام شامل لجميع من في السماوات والأرض فله أن يتصرف فيها أي تصرف أراد.

ومن المعلوم أن هذا الملك حقيقي من لوازم الإيجاد بمعنى قيام الشيء بسببه الموجد له بحيث لا يعصيه في أي تصرف فيه، والإيجاد يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره حتى عند الوثنيين المثبتين لآلهة أخرى للتدبير والعبادة فكل من في السماوات والأرض مملوك لله لا مالك غيره.

قوله تعالى: ﴿ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون﴾ إلى آخر الآية التالية، قال في مجمع البيان،: الاستحسار الانقطاع عن الإعياء يقال: بعير حسير أي معي، وأصله من قولهم: حسر عن ذراعيه، فالمعنى أنه كشف قوته بإعياء.

والمراد بقوله: ﴿ومن عنده﴾ المخصوصون بموهبة القرب والحضور وربما انطبق على الملائكة المقربين، وقوله: ﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ بمنزلة التفسير لقوله: ﴿ولا يستحسرون﴾ أي لا يأخذهم عي وكلال بل يسبحون الليل والنهار من غير فتور، والتسبيح بالليل والنهار كناية عن دوام التسبيح من غير انقطاع.

يصف تعالى حال المقربين من عباده والمكرمين من ملائكته أنهم مستغرقون في عبوديته مكبون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل ولا يصرفهم صارف، وكأن الكلام مسوق لبيان خصوصية مالكيته وسلطنته المذكورة في صدر الآية.

وذلك أن السنة الجارية بين الموالي وعبيدهم في الملك الاعتباري أن العبد كلما زاد تقربا من مولاه خفف عنه بالإغماض عن كثير من الوظائف والرسوم الجارية على عامة العبيد، وكان معفوا عن الحساب والمؤاخذة، وذلك لكون الاجتماع المدني الإنساني مبنيا على التعاون بمبادلة المنافع بحسب مساس الحاجة، والحاجة قائمة دائما، والمولى أحوج إلى مقربي عبيده من غيرهم كما أن الملك أحوج إلى مقربي حضرته من غيرهم، فإذا كان انتفاع المولى من عبده المقرب أكثر من غيره فليكن ما يبذله من الكرامة بإزاء منافع خدمته كذلك ولذا يرفع عنه كثير مما يوضع لغيره ويعفي عن بعض ما يؤاخذ به غيره فإنما هي معاملة ومبايعة.

وهذا بخلاف ملكه تعالى لعبيده فإنه ملك حقيقي مالكه في غنى مطلق عن مملوكه، ومملوكه في حاجة مطلقة إلى مالكه ولا يختلف الحال فيه بالقرب والبعد وعلو المقام ودنوه بل كلما زاد العبد فيه قربا كانت العظمة والكبرياء والعزة والبهاء عنده أظهر والإحساس بذلة نفسه ومسكنتها وحاجتها أكثر ويلزمها الإمعان في خشوع العبودية وخضوع العبادة.

فكان قوله: ﴿ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون﴾ إلخ إشارة إلى أن ملكه تعالى - وقد أشار قبل إلى أنه مقتض للعبادة والحساب والجزاء - على خلاف الملك الدائر في المجتمع الإنساني، فلا يطمعن طامع أن يعفى عنه العمل أو الحساب والجزاء.

ويمكن أن يكون الجملة في مقام الترقي والمعنى له من في السماوات والأرض فعليهم أن يعبدوا وسيحاسبون من غير استثناء حتى أن من عنده من مقربي عباده وكرام ملائكته لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون بل يسبحونه تسبيحا دائما غير منقطع.

وقد تقدم في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: ﴿إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون﴾ استفادة أن المراد بقوله: ﴿الذين عند ربك﴾ أعم من الملائكة المقربين فلا تغفل.

قوله تعالى: ﴿أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون﴾ الإنشار إحياء الموتى فالمراد به المعاد، وفي الآية دفع احتمال آخر ينافي المعاد والحساب المذكور سابقا وهو الرجوع إلى الله بأن يقال: إن هناك آلهة أخرى دون الله يبعثون الأموات ويحاسبونهم وليس لله سبحانه من أمر المعاد شيء حتى نخافه ونضطر إلى إجابة رسله واتباعهم في دعوتهم بل نعبدهم ولا جناح؟.

وتقييد قوله: ﴿أم اتخذوا آلهة﴾ بقوله ﴿من الأرض﴾ قيل: ليشير به إلى أنهم إذا كانوا من الأرض كان حكمهم حكم عامة أهل الأرض من الموت ثم البعث فمن الذي يميتهم ثم يبعثهم؟.

ويمكن أن يكون المراد اتخاذ آلهة من جنس الأرض كالأصنام المتخذة من الحجارة والخشب والفلزات فيكون فيه نوع من التهكم والتحقير ويئول المعنى إلى أن الملائكة الذين هم الآلهة عندهم إذا كانوا من عباده تعالى وعباده وانقطع هؤلاء عنهم ويئسوا من ألوهيتهم ليلتجئوا إليهم في أمر المعاد فهل يتخذون أصنامهم وتماثيلهم آلهة من دون الله مكان أرباب الأصنام والتماثيل.

قوله تعالى: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون﴾ قد تقدم في تفسير سورة هود وتكررت الإشارة إليه بعده أن النزاع بين الوثنيين والموحدين ليس في وحدة الإله وكثرته بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته الموجد لغيره فهذا مما لا نزاع في أنه واحد لا شريك له، وإنما النزاع في الإله بمعنى الرب المعبود والوثنيون على أن تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوضة إلى موجودات شريفة مقربين عند الله ينبغي أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبادهم عند الله ويقربوهم إليه زلفى كرب السماء ورب الأرض ورب الإنسان وهكذا وهم آلهة من دونهم والله سبحانه إله الآلهة وخالق الكل كما يحكيه عنهم قوله: ﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله﴾ الزخرف: 87 وقوله: ﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم﴾ الزخرف: 9.

والآية الكريمة إنما تنفي الآلهة من دون الله في السماء والأرض بهذا المعنى لا بمعنى الصانع الموجد الذي لا قائل بتعدده، والمراد بكون الإله في السماء والأرض تعلق ألوهيته بالسماء والأرض لا سكناه فيهما فهو كقوله تعالى: ﴿هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله﴾ الزخرف: 84.

وتقرير حجة الآية أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتا متباينين حقيقة وتباين حقائقهم يقضي بتباين تدبيرهم فيتفاسد التدبيرات وتفسد السماء والأرض لكن النظام الجاري نظام واحد متلائم الأجزاء في غاياتها فليس للعالم آلهة فوق الواحد وهو المطلوب.

فإن قلت: يكفي في تحقق الفساد ما نشاهده من تزاحم الأسباب والعلل وتزاحمها في تأثيرها في المواد هو التفاسد.

قلت: تفاسد العلتين تحت تدبيرين غير تفاسدهما تحت تدبير واحد، ليحدد بعض إثر بعض وينتج الحاصل من ذلك وما يوجد من تزاحم العلل في النظام من هذا القبيل فإن العلل والأسباب الراسمة لهذا النظام العام على اختلافها وتمانعها وتزاحمها لا يبطل بعضها فعالية بعض بمعنى أن ينتقض بعض القوانين الكلية الحاكمة في النظام ببعض فيختلف عن مورده مع اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع فهذا هو المراد من إفساد مدبر عمل مدبر آخر بل السببان المختلفان المتنازعان حالهما في تنازعهما حال كفتي الميزان المتنازعتين بالارتفاع والانخفاض فإنهما في عين اختلافهما متحدان في تحصيل ما يريده صاحب الميزان ويخدمانه في سبيل غرضه وهو تعديل الوزن بواسطة اللسان.

فإن قلت: آثار العلم والشعور مشهودة في النظام الجاري في الكون فالرب المدبر له يدبره عن علم وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يفرض هناك آلهة فوق الواحد يدبرون أمر الكون تدبيرا تعقليا وقد توافقوا على أن لا يختلفوا ولا يتمانعوا في تدبيرهم حفظا للمصلحة.

قلت: هذا غير معقول، فإن معنى التدبير التعقلي عندنا هو أن نطبق أفعالنا الصادرة منا على ما تقتضيه القوانين العقلية الحافظة لتلائم أجزاء الفعل وانسياقه إلى غايته، وهذه القوانين العقلية مأخوذة من الحقائق الخارجية والنظام الجاري فيها الحاكم عليها فأفعالنا التعقلية تابعة للقوانين العقلية وهي تابعة للنظام الخارجي لكن الرب المدبر للكون فعله نفس النظام الخارجي المتبوع للقوانين العقلية، فمن المحال أن يكون فعله تابعا للقوانين العقلية وهو متبوع، فافهم ذلك.

فهذا تقرير حجة الآية وهي حجة برهانية مؤلفة من مقدمات يقينية تدل على أن التدبير العام الجاري بما يشتمل عليه ويتألف منه من التدابير الخاصة صادر عن مبدإ واحد غير مختلف، لكن المفسرين قرروها حجة على نفي تعدد الصانع واختلفوا في تقريرها وربما أضاف بعضهم إليها من المقدمات ما هو خارج عن منطوق الآية وخاضوا فيها حتى قال القائل منهم إنها حجة إقناعية غير برهانية أوردت إقناعا للعامة.

قوله تعالى: ﴿فسبحان الله رب العرش عما يصفون﴾ تنزيه له تعالى عن وصفهم وهو أن معه آلهة هم ينشرون أو أن هناك آلهة من دونه يملكون التدبير في ملكه فالعرش كناية عن الملك، وقوله: ﴿عما يصفون﴾ ﴿ما﴾ فيه مصدرية والمعنى: عن وصفهم.

قوله تعالى: ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾ الضمير في ﴿لا يسأل﴾ له تعالى بلا إشكال، والضمير في ﴿وهم يسألون﴾ للآلهة الذين يدعونهم أو للآلهة والناس جميعا أو للناس فقط، وأحسن الوجوه أولها لأن ذلك هو المناسب للسياق والكلام في الآلهة الذين يدعونهم من دونه، فهم المسئولون والله سبحانه لا يسأل عن فعله.

والسؤال عن الفعل هو قولنا لفاعله: لم فعلت كذا؟ وهو سؤال عن جهة المصلحة في الفعل فإن الفعل المقارن للمصلحة لا مؤاخذة عليه عند العقلاء، والله سبحانه لما كان حكيما على الإطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه، والحكيم هو الذي لا يفعل فعلا إلا لمصلحة مرجحة لا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله بخلاف غيره فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق والباطل وأن يقارن فعلهم المصلحة والمفسدة فجاز في حقهم السؤال حتى يؤاخذوا بالذم العقلي أو العقاب المولوي إن لم يقارن الفعل المصلحة.

هذا ما ذكره جماعة من المفسرين في توجيه الآية وهو معنى صحيح في الجملة لكن يبقى عليه أمران: الأمر الأول: أن الآية مطلقة لا دليل فيها من جهة اللفظ على كون المراد فيها هو هذا المعنى فإن كون المعنى صحيحا في نفسه لا يستلزم كونه هو المراد من الآية.

ولذلك وجه بعضهم عدم السؤال بأنه مبني على كون أفعال الله لا تعلل بالأغراض لأن الغرض ما يبعث الفاعل إلى الفعل ليستكمل به وينتفع به وإذ كان تعالى أجل من أن يحتاج إلى ما هو خارج عن ذاته ويستكمل بالانتفاع من غيره فلا يقال له: لم فعلت كذا سؤالا عن الغرض الذي دعاه إلى الفعل.

وإن رد بأن الفاعل التام الفاعلية إنما يصدر عنه الفعل لذاته فذاته هي غايته وغرضه في فعله من غير حاجة إلى غرض خارج عن ذاته كالإنسان البخيل الذي يكثر الإنفاق ليحصل ملكة الجود حتى إذا حصلت الملكة صدر عنها الإنفاق لذاتها لا لتحصيل ما هو حاصل فنفسها غاية لها في فعلها.

ولذلك أيضا وجه بعض آخر عدم السؤال في الآية بأن عظمته تعالى وكبرياءه وعزته وبهاءه تقهر كل شيء من أن يسأله عن فعله أو يعترض له في شيء من شئون إرادته فغيره تعالى أذل وأحقر من أن يجترىء عليه بسؤال أو مؤاخذة على فعل لكن له سبحانه أن يسأل كل فاعل عن فعله ويؤاخذ كل من حقت عليه المؤاخذة هذا.

وإن كان مردودا بأن عدم السؤال من جهة أن ليس هناك من يتمكن من سؤاله اتقاء من قهره وسخطه كالملوك الجبارين والطغاة المتفرعنين غير كون الفعل بحيث لا يتسم بسمة النقص والفتور ولا يعتريه عيب وقصور، والذي يدل عليه عامة كلامه تعالى أن فعله من القبيل الثاني دون الأول كقوله: ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه﴾ الم السجدة: 7، وقوله: ﴿له الأسماء الحسنى﴾ الحشر: 24، وقوله: ﴿إن الله لا يظلم الناس شيئا﴾ يونس: 44، إلى غير ذلك من الآيات.

وبالجملة قولهم: إنه تعالى إنما لا يسأل عن فعله لكونه حكيما على الإطلاق يئول إلى أن عدم السؤال عن فعله ليس لذات فعله بما هو فعله بل لأمر خارج عن ذات الفعل وهو كون فاعله حكيما لا يفعل إلا ما فيه مصلحة مرجحة، وقوله: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا دلالة في لفظه على التقييد بالحكمة فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا.

ولو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الآية عن لفظها لكان أقرب منه التمسك بقوله - وهو متصل بالآية - ﴿سبحان الله رب العرش عما يصفون﴾ فإن الآية تثبت له الملك المطلق والملك متبع في إرادته مطاع في أمره لأنه ملك - أي لذاته - لا لأن فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة وإلا لم يكن فرق بينه وبين أدنى رعيته وكانت المصلحة هي المتبعة ولم تكن طاعته مفترضة في بعض الأحيان، وكذلك المولى متبع ومطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده منه ويأمره به عن وجه الحكمة والمصلحة فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات وسلطنة عليها لذاته.

فالله سبحانه ملك ومالك للكل والكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وليس لغيره ذلك، وله أن يسألهم عما يفعلون وليس لغيره أن يسألوه عما يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة ولا يريد إلا ذلك فليس لنا أن نسيء به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الإجمالي بحكمته المطلقة فضلا عن سؤاله عما يفعل، ومن ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم: ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾ المائدة: 118 حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له ويوجه مغفرتهم بكونه حكيما.

ومن هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله: ﴿لا يسأل عما يفعل﴾ بخلاف الملك فالملك أقرب إلى توجيه الآية منها كما أشرنا إليه.

الأمر الثاني: أن الآية على ما وجهوها به خفية الاتصال بالسياق السابق وغاية ما قيل في اتصالها بما قبلها ما في مجمع البيان: أنه تعالى لما بين التوحيد عطف عليه بيان العدل، وأنت خبير بأن مآله الاستطراد ولا موجب له.

ونظيره ما نقل عن أبي مسلم أنها تتصل بقوله في أول السورة: ﴿اقترب للناس حسابهم﴾ والحساب هو السؤال عما أنعم الله عليهم به، وهل قابلوا نعمه بالشكر أم قابلوها بالكفر؟ وفيه أن للآيات التالية لهذه الآية اتصالا واضحا بما قبلها فلا معنى لاتصالها وحدها بأول السورة.

على أن قوله على تقدير تسليمه يوجه اتصال ذيل الآية والصدر باق على ما كان.

وأنت خبير أن توجيه الآية بالملك دون الحكمة كما قدمناه يكشف عن اتصال الآية بما قبلها من قوله: ﴿سبحان الله رب العرش عما يصفون﴾ فالعرش - كما تقدم - كناية عن الملك فتتصل الآيتان ويكون قوله: ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾ بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى كما أن ملكه وعدم مسئوليته برهان على ربوبيته، وبرهانا على مملوكيتهم كما أن مملوكيتهم ومسئوليتهم برهان على عدم ربوبيتهم فإن الفاعل الذي ليس بمسئولين عن فعله بوجه هو الذي يملك الفعل مطلقا لا محالة، والفاعل الذي هو مسئول عن فعله هو الذي لا يملك الفعل إلا إذا كان ذا مصلحة والمصلحة هي التي تملكه وترفع المؤاخذة عنه، ورب العالم أو جزء من أجزائه هو الذي يملك تدبيره باستقلال من ذاته أي لذاته لا بإعطاء من غيره فالله سبحانه هو رب العرش وغيره مربوبون له.

بحث في حكمته تعالى ومعنى كون فعله مقارنا للمصلحة وهو بحث فلسفي وقرآني الحركات المتنوعة المختلفة التي تصدر منا إنما تعد فعلا لنا إذا تعلقت نوعا من التعلق بإرادتنا فلا تعد الصحة والمرض والحركة الاضطرارية بالحركة اليومية أو السنوية مثلا أفعالا لنا، ومن الضروري أن إرادة الفعل تتبع العلم برجحانه والإذعان بكونه كمالا لنا، بمعنى كون فعله خيرا من تركه ونفعه غالبا على ضرره فما في الفعل من جهة الخير المترتب عليه هو المرجح له أي هو الذي يبعثنا نحو الفعل أي هو السبب في فاعلية الفاعل منا وهذا هو الذي نسميه غاية الفاعل في فعله وغرضه من فعله وقد قطعت الأبحاث الفلسفية أن الفعل بمعنى الأثر الصادر عن الفاعل إراديا كان أو غير إرادي لا يخلو من غاية.

وكون الفعل مشتملا على جهة الخيرية المترتبة على تحققه هو المسمى بمصلحة الفعل فالمصلحة التي يعدها العقلاء وهم أهل الاجتماع الإنساني مصلحة هي الباعثة للفاعل على فعله، وهي سبب إتقان الفعل الموجب لعد الفاعل حكيما في فعله، ولولاها لكان الفعل لغوا لا أثر له.

ومن الضروري أن المصلحة المترتبة على الفعل لا وجود لها قبل وجود الفعل، فكونها باعثة للفاعل نحو الفعل داعية له إليه إنما هو بوجودها علما لا بوجودها خارجا بمعنى أن الواحد منا عنده صورة علمية مأخوذة من النظام الخارجي بما فيه من القوانين الكلية الجارية والأصول المنتظمة الحاكمة بانسياق الحركات إلى غاياتها والأفعال إلى أغراضها وما تحصل عنده بالتجربة من روابط الأشياء بعضها مع بعض، ولا ريب أن هذا النظام العلمي تابع للنظام الخارجي مترتب عليه.

وشأن الفاعل الإرادي منا أن يطبق حركاته الخاصة المسماة فعلا على ما عنده من النظام العلمي ويراعي المصالح المتقررة فيه في فعله ببناء إرادته عليها فإن أصاب في تطبيقه الفعل على العلم كان حكيما في فعله متقنا في عمله وإن أخطأ في انطباق العلم على المعلوم الخارجي وإن لم يصب لقصور أو تقصير لم يسم حكيما بل لاغيا وجاهلا ونحوهما.

فالحكمة صفة الفاعل من جهة انطباق فعله على النظام العلمي المنطبق على النظام الخارجي واشتمال فعله على المصلحة هو ترتبه على الصورة العلمية المترتبة على الخارج، فالحكمة بالحقيقة صفة ذاتية للخارج وإنما يتصف الفاعل أو فعله بها من جهة انطباق الفعل عليه بوساطة العلم، وكذا الفعل مشتمل على المصلحة بمعنى تفرعه على صورتها العلمية المحاكية للخارج.

وهذا إنما يتم في الفعل الذي أريد به مطابقة الخارج كأفعالنا الإرادية وأما الفعل الذي هو نفس الخارج وهو فعل الله سبحانه فهو نفس الحكمة لا لمحاكاته أمرا آخر هو الحكمة وفعله مشتمل على المصلحة بمعنى أنه متبوع المصلحة لا تابع للمصلحة بحيث تدعوه إليه وتبعثه نحوه كما عرفت.

وكل فاعل غيره تعالى يسأل عن فعله بقول (لم فعلت كذا) والمطلوب به أن يطبق فعله على النظام الخارجي بما عنده من النظام العلمي ويشير إلى وجه المصلحة الباعثة له نحو الفعل، وأما هو سبحانه فلا مورد للسؤال عن فعله إذ فعله نفس النظام الخارجي الذي يطلب بالسؤال تطبيق الفعل عليه ولا نظام خارجي آخر حتى يطبق هو عليه، وفعله هو الذي تكون صورته العلمية مصلحة داعية باعثة نحو الفعل ولا نظام آخر فوقه - كما سمعت - حتى تكون الصورة العلمية المأخوذة منه مصلحة باعثة نحو هذا النظام فافهم.

وأما ما ذكره بعضهم أن له تعالى علما تفصيليا بالأشياء قبل إيجادها والعلم تابع للمعلوم فللأشياء ثبوت ما في نفسها قبل الإيجاد يتعلق بها العلم بحسب ذلك الثبوت ولها مصالح مترتبة واستعدادات أزلية على الوجود والخير والشر يعلم تعالى بها بحسب ذلك الثبوت ثم يفيض عليها الوجود هاهنا على ما علم.

فغير سديد أما أولا: فلابتنائه على كون علمه تعالى التفصيلي بالأشياء قبل الإيجاد حصوليا وقد بين بطلانه في محله، بل هو علم حضوري وليس هو بتابع للمعلوم بل الأمر بالعكس.

وأما ثانيا: فلعدم تعقل الثبوت قبل الوجود إذ الوجود مساوق للشيئية فما لا وجود له لا شيئية له وما لا شيئية له لا ثبوت له.

وأما ثالثا: فلأن إثبات الاستعداد هناك لا يتم إلا مع فرض فعلية بإزائه وكذا فرض المصلحة لا يتم إلا مع فرض كمال ونقص، وهذه آثار خارجية تختص بالوجودات الخارجية فيعود ما فرض ثبوتا قبل الإيجاد وجودا عينيا بعده وهذا خلف.

هذا ما يعطيه البحث العقلي ويؤيده البحث القرآني وكفى في ذلك قوله تعالى: ﴿ويوم يقول كن فيكون قوله الحق﴾ الأنعام: 73، فقد عد كلمة ﴿كن﴾ التي هي ما به يوجد الأشياء أي وجودها المنسوب إليه قولا لنفسه وذكر أنه الحق أي العين الثابت الخارجي فقوله هو وجود الأشياء الخارجي وهو فعله أيضا فقوله فعله وقوله وفعله وجود الأشياء خارجا، وقال: ﴿الحق من ربك فلا تكن من الممترين﴾ آل عمران: 60، والحق هو القول أو الاعتقاد من جهة أن الخارج يطابقه فالخارج حق بالأصالة والقول أو الاعتقاد حق يتبع مطابقته، وإذا كان الخارج هو فعله تعالى والخارج هو مبدأ القول والاعتقاد فالحق منه تعالى يبتدأ وإليه يعود، ولذا قال: ﴿الحق من ربك﴾ ولم يقل: الحق مع ربك كما نقول في المخاصمات التي فيها بيننا: الحق مع فلان.

ومن هنا يظهر أن كل فعل ففيه سؤال إلا فعله سبحانه لأن المطلوب بالسؤال بيان كون الفعل مطابقا - بصيغة اسم المفعول - للحق وهذا إنما يجري في غير نفس الحق وأما الحق نفسه فهو حق بذاته من غير حاجة إلى مطابقة.

قوله تعالى: ﴿أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم﴾ إلى آخر الآية.

﴿هاتوا﴾ اسم فعل بمعنى ائتوا به، والبرهان الدليل المفيد للعلم، والمراد بالذكر - على ما يستفاد من السياق - الكتاب المنزل من عند الله فالمراد بذكر من معي القرآن المنزل عليه الذي هو ذكر أمته إلى يوم القيامة وبذكر من قبلي كتب الأنبياء السابقين كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها.

ويمكن أن يكون المراد به الوحي النازل عليه في القرآن وهو ذكر من معه (صلى الله عليه وآله وسلم) والوحي النازل على من قبله في أمر توحيد العبادة المنقول في القرآن فالمشار إليه بهذا هو ما في القرآن من الأمر بتوحيد العبادة النازل عليه والنازل على من تقدمه من الأنبياء (عليهم السلام)، وربما فسر الذكر بالخبر وغيره ولا يعبأ به.

وفي الآية دفع احتمال آخر من الاحتمالات المنافية لإثبات المعاد والحساب المذكور سابقا وهو أن يتخذوا آلهة من دون الله سبحانه فيعبدوهم ويستغنوا بذلك عن عبادة الله وولايته المستلزمة للمعاد إليه وحسابه ووجوب إجابة دعوة أنبيائه، ودفع هذا الاحتمال بعدم الدليل عليه وقد خاصمهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطالبهم بالدليل بقوله: ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ إلخ.

وقوله: ﴿قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي﴾ من قبيل المنع مع السند - باصطلاح فن المناظرة - ومحصل معناه طلب الخصم من المدعي الدليل على مدعاه غير المدلل مستندا في طلبه ذلك إلى أن عنده دليلا يدل على خلافه.

يقول تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهؤلاء المتخذين الآلهة من دون الله هاتوا برهانكم على دعواكم فإن الدعوى التي لا دليل عليها لا تسمع ولا يجوز عقلا أن يركن إليها، والذي استند إليه في طلب الدليل أن الكتب السماوية النازلة من عند الله سبحانه لا يوافقكم على ما ادعيتم بل يخالفكم فيه فهذا القرآن وهو ذكر من معي وهذه سائر الكتب كالتوراة والإنجيل وغيرهما وهي ذكر من قبلي تذكر انحصار الألوهية فيه تعالى وحده ووجوب عبادته.

أو أن ما في القرآن من الوحي النازل علي وهو ذكر من معي والوحي النازل على من سبقني من الأنبياء وهو ذكر من قبلي في أمر عبادة الإله يحصر الألوهية والعبادة فيه تعالى.

وقوله: ﴿بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون﴾ رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإشارة إلى أن أكثرهم لا يميزون الحق من الباطل فليسوا من أهل التمييز الذين لا يتبعون إلا الدليل فهم معرضون عن الحق واتباعه.

قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون﴾ تثبيت لما قيل في الآية السابقة أن الذكر يذكر توحيده ووجوب عبادته ولا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني من معنيي الذكر.

وقوله: ﴿نوحي إليه﴾ مفيد للاستمرار، وقوله: ﴿فاعبدون﴾ خطاب للرسل ومن معهم من أممهم والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون﴾ ظاهر السياق يشهد أنه حكاية قول الوثنيين أن الملائكة أولاده سبحانه فالمراد بالعباد المكرمين الملائكة، وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: ﴿سبحانه﴾ ثم ذكر حقيقة حالهم بالإضراب.

وإذ كان قوله بعد: ﴿لا يسبقونه بالقول﴾ إلخ بيان كمال عبوديتهم من حيث الآثار وصفائها من جهة الخواص والتبعات وقد ذكر قبلا كونهم عبادا كان ظاهر ذلك أن المراد بإكرامهم إكرامهم بالعبودية لا بغيرها فيئول المعنى إلى أنهم عباد بحقيقة معنى العبودية ومن الدليل عليه صدور آثارها الكاملة عنهم.

فالمراد بكونهم عبادا - وجميع أرباب الشعور عباد الله - إكرامهم في أنفسهم بالعبودية فلا يشاهدون من أنفسهم إلا أنهم عباد، والمراد بكونهم مكرمين إكرامه تعالى لهم بإفاضة العبودية الكاملة عليهم، وهذا نظير كون العبد مخلصا - بكسر اللام - لربه ومقابلته تعالى ذلك بجعله مخلصا - بفتح اللام - لنفسه، وإنما الفرق بين كرامة الملائكة والبشر أنها في البشر اكتسابي بخلاف ما في الملائكة، وأما إكرامه تعالى فهو موهبي في القبيلين جميعا فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ لا يسبق فلان فلانا بالقول أي لا يقول شيئا قبل أن يقوله فقوله تبع، وربما يكنى به عن الإرادة والمشية أي إرادته تبع إرادته، وقوله: ﴿وهم بأمره يعملون﴾ الظرف متعلق بيعملون قدم عليه لإفادة الحصر أي يعملون بأمره لا بغير أمره، وليس المراد لا يعملون بأمر غيره ففعلهم تابع لأمره أي لإرادته كما أن قولهم تابع لقوله فهم تابعون لربهم قولا وفعلا.

وبعبارة أخرى إرادتهم وعملهم تابعان لإرادته نظرا إلى كون القول كناية عن الإرادة - فلا يريدون إلا ما أراد ولا يعملون إلا ما أراد وهو كمال العبودية فإن لازم عبودية العبد أن يكون إرادته وعمله مملوكين لمولاه.

هذا ما يفيده ظاهر الآية على أن يكون المراد بالأمر ما يقابل النهي، وتفيد الآية أن الملائكة لا يعرفون النهي إذ النهي فرع جواز الإتيان بالفعل المنهي عنه وهم لا يفعلون إلا عن أمر.

ويمكن أن يستفاد من قوله تعالى: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء﴾ يس: 83، وقوله: ﴿وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر﴾ القمر: 50، حقيقة معنى أمره تعالى وقد تقدم في بعض المباحث السابقة كلام في ذلك وسيجيء استيفاء البحث في كلام خاص بالملائكة فيما يعطيه القرآن في حقيقة الملك.

قوله تعالى: ﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون﴾ فسروا ﴿ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ بما قدموا من أعمالهم وما أخروا، والمعنى: يعلم ما عملوا وما هم عاملون.

فقوله: ﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ استئناف في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: ﴿لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ كأنه قيل: إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه يعلم ما قدموا من قول وعمل وما أخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك.

وهو معنى جيد في نفسه لكنه إنما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية لا لتعليل قصر عملهم على مورد الأمر وهو المطلوب، على أن لفظ الآية لا دلالة فيه على أنهم يعلمون ذلك ولو لا ذلك لم يتم البيان.

وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا﴾ مريم: 64، أن الأوجه حمل قوله: ﴿ما بين أيدينا﴾ على الأعمال والآثار المتفرعة على وجودهم، وقوله: ﴿وما خلفنا﴾ على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم وتحقق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الآية على ما حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلا واضحا لمجموع قوله: ﴿بل عباد مكرمون - إلى قوله - بأمره يعملون﴾ الذي يذكرهم بشرافة الذات وشرافة آثار الذات من القول والفعل ويكون المعنى: إنما أكرم الله ذواتهم وحمد آثارهم لأنه يعلم أعمالهم وأقوالهم وهي ما بين أيديهم ويعلم السبب الذي به وجدوا والأصل الذي عليه نشئوا وهو ما خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لأنه مرضي الأعمال من أسرة كريمة.

وقوله: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ تعرض لشفاعتهم لغيرهم وهو الذي تعلق به الوثنيون في عبادتهم الملائكة كما ينبىء عنه قولهم: ﴿هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾ ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ فرد تعالى عليهم بأن الملائكة إنما يشفعون لمن ارتضاه الله والمراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ النساء: 48، فالإيمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، والوثنيون مشركون، ومن عجيب أمرهم أنهم يشركون بنفس الملائكة الذين لا يشفعون إلا لغير المشركين من الموحدين.

وقوله: ﴿وهم من خشيته مشفقون﴾ هي الخشية من سخطه وعذابه مع الأمن منه بسبب عدم المعصية وذلك لأن جعله تعالى إياهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم من العصمة لا يحدد قدرته تعالى ولا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الأمن عين ما كان يملكه قبله، وهو على كل شيء قدير، وبذلك يستقيم معنى الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين﴾ أي من قال كذا كان ظالما ونجزيه جهنم لأنها جزاء الظالم، والآية قضية شرطية والشرطية لا تقتضي تحقق الشرط.

قوله تعالى: ﴿أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون﴾ المراد بالرؤية العلم الفكري وإنما عبر بالرؤية لظهوره من حيث إنه نتيجة التفكير في أمر محسوس.

والرتق والفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات،: الرتق الضم والالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى: ﴿كانتا رتقا ففتقناهما﴾ وقال: الفتق الفصل بين المتصلين وهو ضد الرتق.

وضمير التثنية في ﴿كانتا رتقا ففتقناهما﴾ للسماوات والأرض بعد السماوات طائفة والأرض طائفة فهما طائفتان اثنتان، ومجيء الخبر أعني رتقا مفردا لكونه مصدرا وإن كان بمعنى المفعول والمعنى كانت هاتان الطائفتان منضمتين متصلتين ففصلناهما.

وهذه الآية والآيات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيته للعالم كله أوردها بمناسبة ما انجر الكلام إلى توحيده ونفي ما اتخذوها آلهة من دون الله وعدوا الملائكة وهم من الآلهة عندهم أولادا له، بانين في ذلك على أن الخلقة والإيجاد لله والربوبية والتدبير للآلهة.

فأورد سبحانه في هذه الآيات أشياء من الخليقة خلقتها ممزوجة بتدبير أمرها فتبين بذلك أن التدبير لا ينفك عن الخلقة فمن الضروري أن يكون الذي خلقها هو الذي يدبر أمرها وذلك كالسماوات والأرض وكل ذي حياة والجبال والفجاج والليل والنهار والشمس والقمر في خلقها وأحوالها التي ذكرها سبحانه.

فقوله: ﴿أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما﴾ المراد بالذين كفروا - بمقتضى السياق - هم الوثنيون حيث يفرقون بين الخلق والتدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه والتدبير إلى الآلهة من دونه وقد بين خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات والأرض بعد رتقهما فإن في ذلك خلقا غير منفك عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد وقيام تدبيرهما بآخرين.

لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضية والجوية بعضها من بعض وانفصال أنواع النباتات من الأرض والحيوان من الحيوان والإنسان من الإنسان وظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار وخواص جديدة بعد ما كان متصلا بأصله الذي انفصله منه غير متميز الوجود ولا ظاهر الأثر ولا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة مودعة الذوات في المادة رتقا من غير فتق حتى فتقت بعد الرتق وظهرت بفعلية ذواتها وآثارها.

والسماوات والأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها وهذه الأجرام العلوية والأرض التي نحن عليها وإن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكن المادة هي المادة وأحكامها هي أحكامها والقوانين الجارية فيها لا تختلف ولا تتخلف.

فتكرار انفصال جزئيات المركبات والمواليد من الأرض ونظير ذلك في الجو يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقا منضمة غير منفصلة من الأرض وكذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء والأرض وكانت الجميع رتقا ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات وآثارها.

فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية والسفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع وقد قربت الأبحاث العلمية الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أن الأجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر معدودة مشتركة ولكل منها بقاء محدود وعمر مؤجل وإن اختلفت بالطول والقصر.

هذا لو أريد برتق السماوات والأرض عدم تميز بعضها من بعض وبالفتق تميز السماوات من الأرض ولو أريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كل منهما في نفسه حتى ينزل من السماء شيء أو يخرج من الأرض شيء وبفتقها خلاف ذلك كان المعنى أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ففتقناها بالإمطار والأرض كانت رتقا لا تنبت ففتقناها بالإنبات وتم البرهان وربما أيده قوله بعد: ﴾ جعلنا من الماء كل شيء حي﴾ لكنه يختص من بين جميع الحوادث بالإمطار والإنبات، بخلاف البرهان على التقريب الأول.

وذكر بعض المفسرين وارتضاه آخرون أن المراد برتق السماوات والأرض عدم تميز بعضها من بعض حال عدمها السابق، وبفتقها تميز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجا بحدوث السماوات والأرض على وجود محدثها وهو الله سبحانه.

وفيه أن الاحتجاج بالحدوث على المحدث تام في نفسه، لكنه لا ينفع قبال الوثنيين المعترفين بوجوده تعالى واستناد الإيجاد إليه ووجه الكلام إليهم، وإنما ينفع قبالهم من الحجة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى آلهتهم ويعلقون العبادة على ذلك.

وقوله: ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾ ظاهر السياق أن الجعل بمعنى الخلق و﴿كل شيء حي﴾ مفعوله والمراد أن للماء دخلا تاما في وجود ذوي الحياة كما قال: ﴿والله خلق كل دابة من ماء﴾ النور: 45، ولعل ورود القول في سياق تعداد الآيات المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة ومن يحذو حذوهم، وقد اتضح ارتباط الحياة بالماء بالأبحاث العلمية الحديثة.

قوله تعالى: ﴿وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون﴾ قال في المجمع، الرواسي الجبال رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها، والميد الاضطراب بالذهاب في الجهات، والفج الطريق الواسع بين الجبلين.

والمعنى: وجعلنا في الأرض جبالا ثوابت لئلا تميل وتضطرب الأرض بهم وجعلنا في تلك الجبال طرقا واسعة هي سبل لعلهم يهتدون منها إلى مقاصدهم ومواطنهم.

وفيه دلالة على أن للجبال ارتباطا خاصا بالزلازل ولولاها لاضطربت الأرض بقشرها.

قوله تعالى: ﴿وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون﴾ كأن المراد بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال: ﴿وحفظناها من كل شيطان رجيم﴾ الحجر: 17، والمراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماوية التي تدل على وحدة التدبير واستناده إلى موجدها الواحد.

قوله تعالى: ﴿وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون﴾ الآية ظاهرة في إثبات الفلك لكل من الليل وهو الظل المخروطي الملازم لوجه الأرض المخالف لمسامتة الشمس، والنهار وهو خلاف الليل، وللشمس والقمر فالمراد بالفلك مدار كل منها.

والمراد مع ذلك بيان الأوضاع والأحوال الحادثة بالنسبة إلى الأرض وفي جوها وإن كانت حال الأجرام الأخر على خلاف ذلك فلا ليل ولا نهار يقابله للشمس وسائر الثوابت، التي هي نيرة بالذات وللقمر وسائر السيارات الكاسبة للنور من الليل والنهار غير ما لنا.

وقوله: ﴿يسبحون﴾ من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل وإنما قال: يسبحون لأنه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال: ﴿والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾ يوسف: 4.

بحث روائي:

في المحاسن، بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلا غلب الحق الباطل وذلك قول الله: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾.

وفيه، بإسناده عن أيوب بن الحر قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أيوب ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه وذلك أن الله يقول في كتابه: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل - فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون﴾.

أقول: والروايتان مبنيتان على تعميم الآية.

وفي العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في هاروت وماروت في حديث: أن الملائكة معصومون محفوظون عن الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى قال الله تعالى فيهم: ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ وقال عز وجل: ﴿وله من في السماوات والأرض ومن عنده يعني الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون - يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾.

وفي نهج البلاغة، قال (عليه السلام) في وصف الملائكة: ومسبحون لا يسأمون، ولا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان.

أقول: وبه يضعف ما في بعض الروايات أن الملائكة ينامون كما في كتاب كمال الدين بإسناده عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله: أنه سئل عن الملائكة أ ينامون؟ فقال: ما من حي إلا وهو ينام خلا الله وحده: فقلت: يقول الله عز وجل: ﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ قال: أنفاسهم تسبيح.

على أن الرواية ضعيفة.

وفي التوحيد، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما الدليل على أن الله واحد؟ قال: اتصال التدبير وتمام الصنع كما قال عز وجل: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾.

أقول: وهو يؤيد ما قدمناه في تقرير الدليل.

وفيه، بإسناده عن عمرو بن جابر قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام): يا بن رسول الله إنا نرى الأطفال منهم من يولد ميتا، ومنهم من يسقط غير تام، ومنهم من يولد أعمى وأخرس وأصم، ومنهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض، ومنهم من يبقى إلى الاحتلام، ومنهم من يعمر حتى يصير شيخا فكيف ذلك وما وجهه؟ فقال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم وهو الخالق والمالك لهم فمن منعه التعمير فإنما منعه ما ليس له، ومن عمره فإنما أعطاه ما ليس له فهو المتفضل بما أعطى وعادل فيما منع ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

قال جابر: فقلت له: يا بن رسول الله وكيف لا يسأل عما يفعل؟ قال: لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا، وهو المتكبر الجبار والواحد القهار، فمن وجد في نفسه حرجا في شيء مما قضى كفر ومن أنكر شيئا من أفعاله جحد.

أقول: وهي رواية شريفة تعطي أصلا كليا في الحسنات والسيئات وهو أن الحسنات أمور وجودية تستند إلى إعطائه وفضله تعالى، والسيئات أمور عدمية تنتهي إلى عدم الإعطاء لما لا يملكه العبد.

وما ذكره (عليه السلام) أنه تعالى أولى بما لعبده منه وجهه أنه تعالى هو المالك لذاته والعبد إنما يملك ما يملك بتمليك منه تعالى وهو المالك لما ملكه وملك العبد في طول ملكه.

وقوله: ﴿لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا﴾ إشارة إلى التقريب الأول الذي قدمناه، وقوله: ﴿وهو المتكبر الجبار والواحد القهار﴾ إشارة إلى التقريب الثاني الذي أوردناه في تفسير الآية.

وفي نور الثقلين، عن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي أديت إلي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني وذلك أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿هذا ذكر من معي وذكر من قبلي﴾ قال أبو عبد الله (عليه السلام): يعني بذكر من معي ما هو كائن وبذكر من قبلي ما قد كان.

وفي العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثم قال (عليه السلام): إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل.

قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز وجل: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ قال: لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه.

وفي الدر المنثور، أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن جابر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا قول الله: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ فقال: إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.

وفي الاحتجاج، وروي: أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) لامتحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: ﴿أولم ير الذين كفروا - إن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما﴾ ما هذا الرتق والفتق؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): كانت السماء رتقا لا تنزل القطر وكانت الأرض رتقا لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر وفتق الأرض بالنبات فانقطع عمرو بن عبيد ولم يجد اعتراضا ومضى.

أقول: وروي هذا المعنى في روضة الكافي عنه (عليه السلام) بطريقين.

وفي نهج البلاغة، قال (عليه السلام): وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.