الآيات 121-129

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿121﴾ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿122﴾ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿123﴾ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ﴿124﴾ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴿125﴾ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿126﴾ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ﴿127﴾ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴿128﴾ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿129﴾

بيان:

رجوع إلى ما بدأت به السورة من تنبيه المؤمنين بما هم عليه من الموقف الصعب، وتذكيرهم بنعم الله عليهم من إيمان ونصر وكفاية، وتعليمهم ما يسبقون به إلى شريف مقصدهم، وهدايتهم إلى ما يسعدون به في حياتهم وبعد مماتهم.

وفيها قصة غزوة أحد، وأما الآيات المشيرة إلى غزوة بدر فإنما هي من قبيل الضميمة المتممة ومحلها محل شاهد القصة وليست مقصودة بالأصالة على ما سيجيء.

قوله تعالى: ﴿وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال﴾ إذ ظرف متعلق بمحذوف كاذكر ونحوه، وغدوت من الغدو وهو الخروج غداة، والتبوئة تهيئة المكان للغير أو إسكانه وإيطانه المكان، والمقاعد جمع، وأهل الرجل كما ذكره الراغب - من يجمعه وإياهم نسب أو بيت أو غيرهما كدين أو بلد أو صناعة، يقال: أهل الرجل لزوجته ولمن في بيته من زوجة وولد وخادم وغيرهم، وللمنتسبين إليه من عشيرته وعترته، ويقال: أهل بلد كذا لقاطنيه، وأهل دين كذا لمنتحليه، وأهل صناعة كذا لصناعها وأساتيدها، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع ويختص استعماله بالإنسان فأهل الشيء خاصته من الإنسان.

والمراد بأهل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصته وهم جمع، وليس المراد به هاهنا شخص واحد بدليل قوله: غدوت من أهلك إذ يجوز أن يقال: خرجت من خاصتك ومن جماعتك ولا يجوز أن يقال: خرجت من زوجتك وخرجت من أمك، ولذا التجأ بعض المفسرين إلى تقدير في الآية فقال: إن التقدير: خرجت من بيت أهلك، لما فسر الأهل بالمفرد، ولا دليل يدل عليه من الكلام.

وسياق الآيات مبني على خطاب الجمع وهو خطاب المؤمنين على ما تدل عليه الآيات السابقة واللاحقة ففي قوله: ﴿وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين﴾ التفات من خطابهم إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان الوجه فيه ما يلوح من آيات القصة من لحن العتاب فإنها لا تخلو من شائبة اللوم والعتاب والأسف على ما جرى وظهر من المؤمنين من الفشل والوهن في العزيمة والقتال، ولذلك أعرض عن مخاطبتهم في تضاعيف القصة وعدل إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يخص به فقال: وإذ غدوت من أهلك، وقال: إذ تقول للمؤمنين أ لن يكفيكم، وقال: ليس لك من الأمر شيء، وقال: قل إن الأمر كله لله، وقال: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم، وقال: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية.

فغير خطاب الجمع في هذه الموارد إلى خطاب المفرد، وهي موارد تحبس المتكلم الجاري في كلامه عن الجري فيه لما تغيظه وتهيج وجده، بخلاف مثل قوله في ضمن الآيات: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم، وقوله: والرسول يدعوكم في أخريكم، لأن العتاب فيهما بخطاب الجمع أوقع دون خطاب المفرد، وبخلاف مثل قوله في ضمن الآيات: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم الآية، لأن الامتنان ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أخذه غائبا أوقع وأشد تأثيرا في النفوس، وأبعد من الوهم والخطور، فتدبر في الآيات تجد صحة ما ذكرناه.

ومعنى الآية: واذكر إذ خرجت بالغداة من أهلك تهيىء للمؤمنين مقاعد للقتال أو تسكنهم وتوقفهم فيها والله سميع لما قيل هناك، عليم بما أضمرته قلوبهم، والمستفاد من قوله: وإذ غدوت من أهلك، قرب المعركة من داره (صلى الله عليه وآله وسلم) فيتعين بذلك أن الآيتين ناظرتان إلى غزوة أحد فتتصل الآيتان بالآيات الآتية النازلة في شأن أحد لانطباق المضامين على وقائع هذه الغزوة، وبه يظهر ضعف ما قيل: إن الآيتين في غزوة بدر، وكذا ما قيل: إنهما في غزوة الأحزاب، والوجه ظاهر.

قوله تعالى: ﴿والله سميع عليم﴾ أي سميع يسمع ما قيل هناك، عليم يعلم ما كان مضمرا في قلوبكم، وفيه دلالة على كلام جرى هناك بينهم، وأمور أضمروها في قلوبهم، والظاهر أن قوله: إذ همت، متعلق بالوصفين.

قوله تعالى: ﴿إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما﴾ الهم ما هممت به في نفسك وهو القصد، والفشل ضعف مع الجبن.

وقوله ﴿والله وليهما﴾ حال والعامل فيه قوله: ﴿همت﴾ والكلام مسوق للعتاب واللوم، وكذا قوله: ﴿وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ والمعنى: أنهما همتا بالفشل مع أن الله وليهما ولا ينبغي لمؤمن أن يفشل وهو يرى أن الله وليه، ومع أن المؤمنين ينبغي أن يكلوا أمرهم إلى الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

ومن ذلك يظهر ضعف ما قيل: إن هذا الهم هم خطرة لا هم عزيمة لأن الله تعالى مدحهما، وأخبر أنه وليهما، ولو كان هم عزيمة وقصد لكان ذمهم أولى إلى مدحهم.

وما أدري ما ذا يريد بقوله: إنه هم خطرة، أمجرد الخطور بالبال وتصور مفهوم الفشل؟ فجميع من هناك كان يخطر ببالهم ذلك، ولا معنى لذكر مثل ذلك في القصة قطعا، ولا يسمى ذلك هما في اللغة، أم تصورا معه شيء من التصديق، وخطورا فيه شوب قصد؟ كما يدل عليه ظهور حالهما عند غيرهما، ولو كان مجرد خطور من غير أي أثر لم يظهر أنهما همتا بالفشل، على أن ذكر ولاية الله لهم ووجوب التوكل على المؤمن إنما يلائم هذا الهم دون مجرد الخطور، على أن قوله: والله وليهما، ليس مدحا بل لوم وعظة على ما يعطيه السياق كما مر.

ولعل منشأ هذا الكلام ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: فينا نزلت، وما أحب أنها لم تكن، لقوله: والله وليهما ففهم من الرواية أن جابرا فهم من الآية المدح.

ولو صحت الرواية فإنما يريد جابر أن الله تعالى قبل إيمانهم وصدق كونهم مؤمنين حيث عد نفسه وليا لهم، والله ولي الذين آمنوا والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، لا أن الجملة واقعة موقع المدح في هذا السياق الظاهر في العتاب.

قوله تعالى: ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة﴾ إلى آخر الآية ظاهر السياق أن تكون الآية مسوقة سوق الشاهد لتتميم العتاب وتأكيده فتكون تؤدي معنى الحال كقوله: والله وليهما، والمعنى: وما كان ينبغي أن يظهر منكم الهم بالفشل وقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، وليس من البعيد أن يكون كلاما مستقلا سيق مساق الامتنان بذكر نصر عجيب من الله بإنزال الملائكة لإمدادهم ونصرهم يوم بدر.

ولما ذكر تعالى نصره إياهم يوم بدر وقابل ذلك بما هم عليه من الحال - ومن المعلوم أن كل من اعتز فإنما يعتز بنصر الله وعونه فليس للإنسان من قبل نفسه إلا الفقر والذلة - ولذلك قال: وأنتم أذلة.

ومن هنا يعلم أن قوله: ﴿وأنتم أذلة لا ينافي﴾ أمثال قوله تعالى: ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ المنافقون: 8 فإن عزتهم إنما هي بعزة الله، قال تعالى: ﴿فإن العزة لله جميعا﴾ النساء: 139 وذلك بنصر الله المؤمنين كما قال تعالى: ﴿ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين﴾ الروم: 47 فإذا كان الحال هذا الحال فلو اعتبر حال المؤمنين من حيث أنفسهم لم يكن لهم إلا الذلة.

على أن واجهة حال المؤمنين أيضا يوم بدر كانت تقضي بكونهم أذلة قبال ما كان عليه المشركون من القوة والشوكة والزينة، ولا ضير في إضافة الذلة النسبية إلى الأعزة وقد أضافها الله سبحانه إلى قوم مدحهم كل المدح حيث قال: ﴿فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين﴾ المائدة: 54.

قوله تعالى: ﴿إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم﴾ الإمداد من المد وهو إيصال المدد على نعت الاتصال.

قوله تعالى: ﴿بلى أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا﴾ بلى كلمة تصديق والفور والفوران: الغليان يقال: فار القدر إذا غلا وجاش، ثم استعير للسرعة والعجلة فاستعمل في الأمر الذي لا ريث فيه ولا مهلة فمعنى من فورهم هذا من ساعتهم هذه.

والظاهر أن مصداق الآية هو يوم بدر، وإنما هو وعد على الشرط وهو ما يتضمنه قوله: إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا.

وأما ما يظهر من بعض المفسرين أنه وعد بإنزال الملائكة إن جاءوهم بعد فورهم هذا يعني يوم بدر بأن يكون المراد من فورهم هذا هو يوم بدر لا في يوم بدر، وكذا ما يظهر من بعض آخر أنه وعد بإنزالهم في سائر الغزوات بعد بدر كأحد وحنين والأحزاب فمما لا دليل عليه من لفظ الآية.

أما يوم أحد فلا محل لاستفادة نزول الملائكة فيه من الآيات وهو ظاهر، وأما يوم الأحزاب ويوم حنين فالقرآن وإن كان يصرح بنزول الملائكة فيهما فقد قال في قصة الأحزاب: ﴿إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها﴾ الأحزاب: 9 وقال: ﴿ويوم حنين﴾ إلى أن قال ﴿وأنزل جنودا لم تروها﴾ التوبة: 26 إلا أن لفظ هذه الآية: بلى أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا، قاصر عن إفادة عموم الوعد.

وأما نزول ثلاثة آلاف يوم بدر فلا ينافي قوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين﴾ الأنفال: 9 لمكان قوله: مردفين أي متبعين لآخرين وهم الألفان الباقيان المكملان للعدد على ما ذكر في هذه الآيات.

قوله تعالى: ﴿وما جعله الله إلا بشرى لكم﴾ الضمير راجع إلى الإمداد، ولفظة عند ظرف يفيد معنى الحضور، وقد كان أولا مستعملا في القرب والحضور المكاني المختص بالأجسام ثم توسع فاستعمل في القرب الزماني ثم في مطلق القرب والحضور المعنوي كيفما كان، وقد استعمل في القرآن في مختلف الفنون.

والذي يفيده في هذا المقام أعني قوله: وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم بالنظر إلى ما سبقه من قوله: وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به هو المقام الربوبي الذي ينتهي إليه كل أمر وحكم، ولا يكفي عنه ولا يستقل دونه شيء من الأسباب، فالمعنى: أن الملائكة الممدين ليس لهم من أمر النصر شيء بل هم أسباب ظاهرية يجلبون لكم البشرى وطمأنينة القلب، وإنما حقيقة النصر من الله سبحانه لا يغني عنه شيء، وهو الله الذي ينتهي إليه كل أمر، العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي لا يجهل.

قوله تعالى: ﴿ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم﴾ إلى آخر الآيات، اللام متعلق بقوله: ولقد نصركم الله، وقطع الطرف كناية عن تقليل عدتهم وتضعيف قوتهم بالقتل والأسر كما وقع يوم بدر فقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون، والكبت هو الإخزاء والإغاظة.

وقوله: ﴿ليس لك من الأمر شيء معترضة﴾ وفائدتها بيان أن الأمر في القطع والكبت لله، وليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه صنع حتى يمدحوه ويستحسنوا تدبيره إذا ظفروا على عدوهم ونالوا منه، ويلوموه ويوبخوه إذا دارت الدائرة عليهم ويهنوا ويحزنوا كما كان ذلك منهم يوم أحد على ما حكاه الله تعالى.

وقوله: ﴿يتوب عليهم﴾ معطوف على قوله: يقطع، والكلام متصل، وقوله: ﴿ولله ما في السموات وما في الأرض﴾ بيان لرجوع أمر التوبة والمغفرة إلى الله تعالى، والمعنى: أن هذا التدبير المتقن منه تعالى إنما هو ليقطع طرفا من المشركين بالقتل والأسر أو ليخزيهم ويخيبهم في سعيهم أو ليتوب عليهم أو ليعذبهم، أما القطع والكبت فلأن الأمر إليه لا إليك حتى تمدح أو تذم، وأما التوبة والعذاب فلأن الله هو المالك لكل شيء فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ومع ذلك فإن مغفرته ورحمته تسبقان عذابه وغضبه فهو الغفور الرحيم.

وإنما أخذنا قوله: ﴿ولله ما في السموات وما في الأرض﴾ في موضع التعليل للفقرتين الأخيرتين أعني قوله: ﴿يتوب﴾ اه، لما في ذيله من اختصاص البيان بهما أعني قوله: ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾.

وقد ذكر المفسرون وجوها أخر في اتصال قوله: ﴿ليقطع طرفا﴾ وفي معنى العطف في قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم، وكذا في ما يعلله قوله: ليس لك من الأمر شيء، وما يعلله قوله: ﴿ولله ما في السموات وما في الأرض﴾ أغمضنا عن التعرض لها والبحث عنها لقلة الجدوى فيها لمخالفتها ما يفيده ظاهر الآيات بسياقها الجاري، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير.

بحث روائي:

في المجمع، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال كان سبب غزوة أحد أن قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، لأنه قتل منهم سبعون وأسر سبعون قال أبو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم تبكين على قتلاكم فإن الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمد فلما غزوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء والنوح، وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل وأخرجوا معهم النساء. فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك جمع أصحابه وحثهم على الجهاد فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا، وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا كان الظفر لهم علينا. فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا وأنت فينا؟ لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فمن قتل منا كان شهيدا، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله. فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأيه، وخرج مع نفر من أصحابه يتبوءون موضع القتال كما قال تعالى: وإذ غدوت من أهلك الآية وقعد عنه عبد الله بن أبي بن سلول، وجماعة من الخزرج اتبعوا رأيه. ووافت قريش إلى أحد وكان رسول الله عبأ أصحابه وكانوا سبعمائة رجل ووضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب، وأشفق أن يأتي كمينهم من ذلك المكان، فقال لعبد الله بن جبير وأصحابه: إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم. ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا، وقال: إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم. وعبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه، ودفع الراية إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة، ووضع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سوادهم وانحط خالد بن الوليد في مائتي فارس على عبد الله بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع، ونظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد الله بن جبير: قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد الله: اتقوا الله فإن رسول الله قد تقدم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، وأقبلوا ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم، وبقي عبد الله بن جبير في اثني عشر رجلا. وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبد الدار فقتله علي، وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي وسقطت الراية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي حتى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار حتى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صواب فانتهى إليه علي فقطع يده اليمنى فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره، ثم التفت إلى أبي سفيان فقال: هل عذرت في بني عبد الدار؟ فضربه علي على رأسه فقتله، وسقط اللواء فأخذتها غمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها.

وانحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير وقد فر أصحابه وبقي في نفر قليل فقتلهم على باب الشعب ثم أتى المسلمين من أدبارهم، ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها، وانهزم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هزيمة عظيمة، وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه.

فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال: إلي أنا رسول الله إلى أين تفرون عن الله وعن رسوله؟ وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر فكلما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا ومكحلة، وقالت: إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا. وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد، وكانت هند قد أعطت وحشيا عهدا لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لأعطينك كذا وكذا، وكان وحشي عبدا لجبير بن مطعم حبشيا فقال وحشي: أما محمد فلم أقدر عليه، وأما علي فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه، فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هدا فمر بي فوطىء على جرف نهر فسقط، وأخذت حربتي فهززتها ورميته بها فوقعت في خاصرته وخرجت من ثنته فسقط فأتيته فشققت بطنه، وأخذت كبده، وجئت به إلى هند فقلت هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها فجعله الله في فمها مثل الداعضة وهي عظم رأس الركبة فلفظتها ورمت بها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فبعث الله ملكا فحمله ورده إلى موضعه قال: فجاءت إليه فقطعت مذاكيره، وقطعت أذنيه، وقطعت يده ورجله ولم يبق مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أبو دجانة سماك بن خرشة وعلي، فكلما حملت طائفة على رسول الله استقبلهم علي فدفعهم عنه حتى تقطع سيفه فدفع إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيفه ذا الفقار، وانحاز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ناحية أحد فوقف فلم يزل علي (عليه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في رأسه ووجهه وبدنه وبطنه ورجليه سبعون جراحة، كذا أورده علي بن إبراهيم في تفسيره فقال جبرائيل: إن هذه لهي المواساة يا محمد، فقال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه مني وأنا منه فقال جبرائيل: وأنا منكما. قال أبو عبد الله: نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جبرائيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.

وفي رواية القمي وبقيت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نسيبة بنت كعب المازنية وكانت تخرج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزواته تداوي الجرحى وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه وقالت: يا بني إلى أين تفر عن الله وعن رسوله، فردته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بارك الله فيك يا نسيبة، وكانت تقي رسول الله بصدرها وثدييها حتى أصابتها جراحات كثيرة.

وحمل ابن قمئة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: أروني محمدا لا نجوت إن نجا، فضربه على حبل عاتقه، ونادى: قتلت محمدا واللات والعزى.

أقول: وفي القصة روايات أخر ربما تخالف هذه الرواية في بعض فقراتها.

منها: ما في هذه الرواية أن عدة المشركين كانت خمسة آلاف فإن غالب الروايات أنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل.

ومنها: ما فيها أن عليا (عليه السلام) قتل حاملي الراية وهم تسعة ويوافقها فيه روايات أخر، ورواه ابن الأثير في الكامل عن أبي رافع، وبقية الروايات تنسب قتل بعضهم إلى غيره (عليه السلام) والتدبر في القصة يؤيد ما في هذه الرواية.

ومنها: ما فيها أن هندا أعطت وحشيا عهدا في قتل حمزة فإن ما روته أهل السنة أن الذي أعطاه العهد مولاه جبير بن مطعم وعده تحريره على الشرط، وإتيانه بكبد حمزة إلى هند دون جبير يؤيد ما في هذه الرواية.

ومنها: ما فيها أن جميع المسلمين تفرقوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا علي وأبو دجانة وهو الذي اتفقت عليه الروايات، وفي بعضها ذكر لغيرهما حتى أنهي من ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ثلاثين رجلا لكن هذه الروايات ينفي بعضها ما في بعض، وعليك بالتدبر في أصل القصة والقرائن التي تبين الأحوال حتى يخلص لك الحق، فإن هذه القصص والروايات شهدت مواقف موافقة ومخالفة ومرت بأجواء نيرة ومظلمة حتى انتهت إلينا.

ومنها: ما فيها أن الله بعث ملكا فحمل كبد حمزة فرده إلى موضعه، وليس في غالب الروايات، وفي بعضها كما في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر عن ابن مسعود في حديث قال: ثم قال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة وإن كانت لمن غير ملإ منا ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، : قال فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ أكلت شيئا؟ قالوا: لا قال: ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة النار، الحديث.

وفي روايات أصحابنا وغيرهم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصيب يومئذ بشجة في جبهته، وكسرت رباعيته: واشتكت ثنيته رواه مغيرة.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن شهاب، ومحمد بن يحيى بن حيان، وعاصم بن عمرو بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم كل قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد.

قالوا: لما أصيب قريش أو من ناله منهم يوم بدر من كفار قريش ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب، ففعلوا فأجمعت قريش لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرجت بجدتها وجديدها، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة ولئلا يفروا، وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السنجة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة.

فلما سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون بالمشركين قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني رأيت بقرا تنحر، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا المدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.

ونزلت قريش منزلها أحدا يوم الأربعاء فأقاموا ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة، وراح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من أحد فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث.

وكان رأي عبد الله بن أبي مع رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين - ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر وحضوره -: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله أقم بالمدينة فلا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر، وإن دخلوا قاتلهم النساء والصبيان والرجال بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا، ولم يزل الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل.

فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد تحول عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب ذباب سيفه فاستله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - وكان يحب الفال ولا يعتاف - لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى السيوف ستستل اليوم، ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزل بالشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وتعبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للقتال وهو في سبعمائة رجل.

وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الرماة عبد الله بن جبير - والرماة خمسون رجلا - فقال: انضح عنا الجبل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فأنت مكانك لنؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين درعين.

وفي الدر المنثور، أيضا عن ابن جرير عن السدي في حديث: وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح أن يصبروا فرجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه، وقالوا له: ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا لترجعن معنا. وقال: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، وهم بنو سلمة وبنو حارثة هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي فعصمهم الله، وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سبعمائة.

أقول: بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الأنصار فبنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس.

وفي المجمع، روى ابن أبي إسحاق والسدي والواقدي وابن جرير وغيرهم وقالوا: كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء في شوال سنة ثلاث من الهجرة، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم يوم الجمعة، وكان القتال يوم السبت النصف من الشهر، وكسرت رباعية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشج في وجهه ثم رجع المهاجرون والأنصار بعد الهزيمة وقد قتل من المسلمين سبعون، وشد رسول الله بمن معه حتى كشفهم، وكان المشركون مثلوا بجماعة، وكان حمزة أعظم مثلة.

أقول: الروايات في قصة أحد كثيرة جدا ولم نرو من بينها فيما تقدم ويأتي إلا النزر اليسير الذي يتوقف عليها فهم معاني الآيات النازلة فيها، فالآيات في شأن القصة أقسام: فمنها: ما تتعرض لفشل من فشل من القوم وتنازع أو هم أن يفشل يومئذ.

ومنها: ما نزل ولحنه العتاب واللوم على من انهزم وانكشف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان الله حرم عليهم ذلك.

ومنها: ما يتضمن الثناء على من استشهد قبل انهزام الناس، ومن ثبت ولم ينهزم وقاتل حتى قتل.

ومنها: ما يشتمل على الثناء الجميل على من ثبت إلى آخر الغزوة وقاتل ولم يقتل.