الآيات 34-47

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴿34﴾ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴿35﴾ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿36﴾ خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴿37﴾ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿38﴾ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿39﴾ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿40﴾ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون ﴿41﴾ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ ﴿42﴾ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ﴿43﴾ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴿44﴾ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ ﴿45﴾ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿46﴾ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴿47﴾

بيان:

من تتمة الكلام حول النبوة يذكر فيها بعض ما قاله المشركون في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كقولهم: سيموت فنتخلص منه ونستريح وقولهم استهزاء به: أ هذا الذي يذكر آلهتكم، وقولهم استهزاء بالبعث والقيامة التي أنذروا بها: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وفيها جواب أقاويلهم وإنذار وتهديد لهم وتسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون﴾ يلوح من الآية أنهم كانوا يسلون أنفسهم بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سيموت فيتخلصون من دعوته وتنجو آلهتهم من طعنه كما حكى ذلك عنهم في مثل قولهم: ﴿نتربص به ريب المنون﴾ الطور: 30، فأجاب عنه بأنا لم نجعل لبشر من قبلك الخلد حتى يتوقع ذلك لك بل إنك ميت وإنهم ميتون، ولا ينفعهم موتك شيئا فلا أنهم يقبضون على الخلود بموتك، فالجميع ميتون، ولا أن حياتهم القصيرة المؤجلة تخلو من الفتنة والامتحان الإلهي فلا يخلو منه إنسان في حياته الدنيا، ولا أنهم خارجون بالآخرة من سلطاننا بل إلينا يرجعون فنحاسبهم ونجزيهم بما عملوا.

وقوله: ﴿أفإن مت فهم الخالدون﴾ ولم يقل: فهم خالدون والاستفهام للإنكار يفيد نفي قصر القلب كأنه قيل: إن قولهم: نتربص به ريب المنون كلام من يرى لنفسه خلودا أنت مزاحمه فيه فلو مت لذهب بالخلود وقبض عليه وعاش عيشة خالدة طيبة ناعمة وليس كذلك بل كل نفس ذائقة الموت، والحياة الدنيا مبنية على الفتنة والامتحان، ولا معنى للفتنة الدائمة والامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى ربهم فيجازيهم على ما امتحنهم وميزهم.

قوله تعالى: ﴿كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون﴾ لفظ النفس - على ما يعطيه التأمل في موارد استعماله - أصل معناه هو معنى ما أضيف إليه فنفس الشيء معناه الشيء ونفس الإنسان معناه هو الإنسان ونفس الحجر معناه هو الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصل، وعلى هذا المعنى يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لإفادة معناه كقولنا: جاءني نفس زيد.

وبهذا المعنى يطلق على كل شيء حتى عليه تعالى كما قال: ﴿كتب على نفسه﴾ الرحمة الأنعام: 12، وقال: ﴿ويحذركم الله نفسه﴾ آل عمران: 28، وقال: ﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك﴾ المائدة: 116.

ثم شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصة وهو الموجود المركب من روح وبدن فصار ذا معنى في نفسه وإن قطع عن الإضافة قال تعالى: ﴿هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها﴾ أي من شخص إنساني واحد، وقال: ﴿من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ المائدة: 32، أي من قتل إنسانا ومن أحيا إنسانا، وقد اجتمع المعنيان في قوله: ﴿كل نفس تجادل عن نفسها﴾ فالنفس الأولى بالمعنى الثاني والثانية بالمعنى الأول.

ثم استعملوها في الروح الإنساني لما أن الحياة والعلم والقدرة التي بها قوام الإنسان قائمة بها ومنه قوله تعالى: ﴿أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون﴾ الأنعام: 93.

ولم يطرد هذان الإطلاقان أعني الثاني والثالث في غير الإنسان كالنبات وسائر الحيوان إلا بحسب الاصطلاح العلمي فلا يقال للواحد من النبات والحيوان عرفا نفس ولا للمبدإ المدبر لجسمه نفس نعم ربما سميت الدم نفسا لأن للحياة توقفا عليها ومنه النفس السائلة.

وكذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني والثالث على الملك والجن وإن كان معتقدهم أن لهما حياة، ولم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضا وإن نطقت الآيات بأن للجن تكليفا كالإنسان وموتا وحشرا قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ الذاريات: 56، وقال في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس: الأحقاف: 18، وقال: ﴿ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس﴾ الأنعام: 128، هذا ما يتحصل من معنى النفس بحسب عرف اللغة.

وأما الموت فهو فقد الحياة وآثارها من الشعور والإرادة عما من شأنه أن يتصف بها قال تعالى: ﴿وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم﴾ البقرة: 28، وقال في الأصنام: ﴿أموات غير أحياء﴾ النحل: 21، وأما أنه مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلقها التدبيري كما يعرفه الأبحاث العقلية أو أنه الانتقال من دار إلى دار كما في الحديث النبوي فهو معنى كشف عنه العقل أو النقل غير ما استقر عليه الاستعمال ومن المعلوم أن الموت بالمعنى الذي ذكر إنما يتصف به الإنسان المركب من الروح والبدن باعتبار بدنه فهو الذي يتصف بفقدان الحياة بعد وجدانه وأما الروح فلم يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، وأما قوله: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ القصص: 88، وقوله: ﴿ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض﴾ الزمر: 68 فسيجيء إن شاء الله أن الهلاك والصعق غير الموت وإن انطبقا عليه أحيانا.

فقد تبين مما قدمناه أولا: أن المراد بالنفس في قوله: ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ الإنسان - وهو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث - دون الروح الإنساني إذ لم يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتى تحمل عليه.

وثانيا: أن الآية إنما تعم الإنسان لا غير كالملك والجن وسائر الحيوان وإن كان بعضها مما يتصف بالموت كالجن والحيوان، ومن القرينة على اختصاص الآية بالإنسان قوله قبله: ﴿وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد﴾ وقوله بعده: ﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة﴾ على ما سنوضحه.

وقد ذكر جمع منهم أن المراد بالنفس في الآية الروح، وقد عرفت خلافه وأصر كثير منهم على عموم الآية لكل ذي حياة من الإنسان والملك والجن وسائر الحيوانات حتى النبات إن كان لها حياة حقيقة وقد عرفت ما فيه.

ومن أعجب ما قيل في تقرير عموم الآية ما ذكره الإمام الرازي في التفسير الكبير، بعد ما قرر أن الآية عامة لكل ذي نفس: أن الآية مخصصة فإن له تعالى نفسا كما قال حكاية عن عيسى (عليه السلام): ﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك﴾ مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه، وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت.

ثم قال: والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، وذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية أنها لا تموت.

وفيه أولا: أن النفس بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى وعلى كل شيء هي النفس بالاستعمال الأول من الاستعمالات الثلاث التي قدمناها لا تستعمل إلا مضافة كما في الآية التي استشهد بها والتي في الآية مقطوعة عن الإضافة فهي غير مرادة بهذا المعنى في الآية قطعا فتبقى النفس بأحد المعنيين الآخرين وقد عرفت أن المعنى الثالث أيضا غير مراد فيبقى الثاني.

وثانيا: أن نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى: ﴿كنتم أمواتا فأحياكم﴾ وقوله: ﴿أموات غير أحياء﴾ وغير ذلك.

وثالثا: أن قوله: إن عموم الآية يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية خطأ فإن هذه مسائل عقلية يرام السلوك إليها من طريق البرهان، والبرهان حجة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج التي أقاموها عليها كلها أو بعضها براهين كما ادعوها لم ينعقد من الآية في مقابلها ظهور والظهور حجة ظنية وكيف يتصور اجتماع العلم مع الظن بالخلاف، وإن لم تكن براهين لم تثبت المسائل ولا حاجة معه إلى ظن بالخلاف.

ثم إن قوله: ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ كما هو تقرير وتثبيت لمضمون قوله قبلا: ﴿وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد﴾ إلخ، كذلك توطئة وتمهيد لقوله بعد ﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة﴾ - أي ونمتحنكم بما تكرهونه من مرض وفقر ونحوه وما تريدونه من صحة وغنى ونحوهما امتحانا - كأنه قيل: نحيي كلا منكم حياة محدودة مؤجلة ونمتحنكم فيها بالشر والخير امتحانا ثم إلى ربكم ترجعون فيقضي عليكم ولكم.

وفيه إشارة إلى علة تحتم الموت لكل نفس حية، وهي أن حياة كل نفس حياة امتحانية ابتلائية، ومن المعلوم أن الامتحان أمر مقدمي ومن الضروري أن المقدمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد ومن الضروري أن وراء كل مقدمة ذا مقدمة وبعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حية موت محتوم ثم لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء.

قوله تعالى: ﴿وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون﴾ إن نافية والمراد بقوله: ﴿إن يتخذونك إلا هزوا﴾ قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزوا أي لم يتخذوك إلا هزوا يستهزأ به.

وقوله: ﴿أهذا الذي يذكر آلهتكم﴾ - والتقدير يقولون أو قائلين: أهذا الذي إلخ - حكاية كلمة استهزائهم، والاستهزاء في الإشارة إليه بالوصف، ومرادهم ذكره آلهتهم بسوء ولم يصرحوا به أدبا مع آلهتهم وهو نظير قوله: ﴿قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم﴾ الآية: 60 من السورة.

وقوله: ﴿وهم بذكر الرحمن هم كافرون﴾ في موضع الحال من ضمير ﴿إن يتخذونك﴾ أو من فاعل يقولون المقدر وهو أقرب ومحصله أنهم يأنفون لآلهتهم عليك إذ تقول فيها أنها لا تنفع ولا تضر - وهو كلمة حق - فلا يواجهونك إلا بالهزء والإهانة ولا يأنفون لله إذ يكفر بذكره والكافرون هم أنفسهم.

والمراد بذكر الرحمن ذكره تعالى بأنه مفيض كل رحمة ومنعم كل نعمة ولازمه كونه تعالى هو الرب الذي تجب عبادته، وقيل: المراد بالذكر القرآن.

والمعنى: وإذا رآك الذين كفروا وهم المشركون ما يتخذونك ولا يعاملون معك إلا بالهزء والسخرية قائلين بعضهم لبعض أهذا الذي يذكر آلهتكم أي بسوء فيأنفون لآلهتهم حيث تذكرها والحال أنهم بذكر الرحمن كافرون ولا يعدونه جرما ولا يأنفون له.

قوله تعالى: ﴿خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون﴾ كان المشركون على كفرهم بالدعوة النبوية يستهزءون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلما رأوه، وهو زيادة في الكفر والعتو، والاستهزاء بشيء إنما يكون بالبناء على كونه هزلا غير جد فيقابل الهزل بالهزل لكنه تعالى أخذ استهزاءهم هذا أخذ جد غير هزل فكان الاستهزاء بعد الكفر تعرضا للعذاب الإلهي بعد تعرض وهو الاستعجال بالعذاب فإنهم لا يقنعون بما جاءتهم من الآيات وهم في عافية ويطلبون آيات تجازيهم بما صنعوا، ولذلك عد سبحانه استهزاءهم بعد الكفر استعجالا برؤية الآيات وهي الآيات الملازمة للعذاب وأخبرهم أنه سيريهم إياها.

فقوله: ﴿خلق الإنسان من عجل﴾ كناية عن بلوغ الإنسان في العجل كأنه خلق من عجل ولا يعرف سواه نظير ما يقال: فلان خير كله أو شر كله وخلق من خير أو من شر وهو أبلغ من قولنا، ما أعجله وما أشد استعجاله، والكلام وارد مورد التعجيب.

وفيه استهانة بأمرهم وأنه لا يعجل بعذابهم لأنهم لا يفوتونه.

وقوله: ﴿سأريكم آياتي فلا تستعجلون﴾ الآية الآتية تشهد بأن المراد بإراءة الآيات تعذيبهم بنار جهنم وهي قوله ﴿لو يعلم الذين كفروا حين﴾ إلخ.

قوله تعالى: ﴿ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ القائلون هم الذين كفروا والمخاطبون هم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون وكان مقتضى الظاهر أن يقولوا؟ إن كنت من الصادقين لكنهم عدلوا إلى ما ترى ليضيفوا إلى تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمطالبته ما لا يقدر عليه إضلال المؤمنين به وإغراؤهم عليه والوعد هو ما اشتملت عليه الآية السابقة وتفسره الآية اللاحقة.

قوله تعالى: ﴿لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون﴾ ﴿لو﴾ للتمني و﴿حين﴾ مفعول يعلم على ما قيل وقوله ﴿لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم﴾ أي لا يدفعونها حيث تأخذهم من قدامهم ومن خلفهم وفيه إشارة إلى إحاطتها بهم.

وقوله: ﴿ولا هم ينصرون﴾ معطوف على ما تقدمه لرجوع معناه إلى الترديد بالمقابلة والمعنى لا يدفعون النار باستقلال من أنفسهم ولا بنصر من ينصرهم على دفعه.

والآية في موضع الجواب لسؤالهم عن الموعد، والمعنى ليت الذين كفروا يعلمون الوقت الذي لا يدفعون النار عن وجوههم ولا عن ظهورهم لا باستقلال من أنفسهم ولا هم ينصرون في دفعها.

قوله تعالى: ﴿بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون﴾ الذي يقتضيه السياق أن فاعل تأتيهم ضمير راجع إلى النار دون الساعة كما ذهب إليه بعضهم، والجملة إضراب عن قوله في الآية السابقة: ﴿لا يكفون﴾ إلخ.

لا عن مقدر قبله تقديره لا تأتيهم الآيات بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، ولا عن قوله: ﴿لو يعلم الذين كفروا﴾ بدعوى أنه في معنى النفي والتقدير لا يعلمون ذلك بل تأتيهم بغتة فإن هذه كلها وجوه يأبى عنها السياق.

ومعنى إتيان النار بغتة أنها تفاجئهم حيث لا يدرون من أين تأتيهم وتحيط بهم فإن ذلك لازم ما وصفه الله من أمرها بقوله: ﴿نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة﴾ الهمزة: 7، وقوله: ﴿النار التي وقودها الناس﴾ البقرة: 24، وقوله: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ الآية: 98 من السورة، والنار التي هذا شأنها تأخذ باطن الإنسان كظاهره على حد سواء لا كنار الدنيا حتى تتوجه من جهة إلى جهة وتأخذ الظاهر قبل الباطن والخارج قبل الداخل حتى تمهلهم بقطع مسافة أو بتدرج في عمل أو مفارقة في جهة فيحتال لدفعها بتجاف أو تجنب أو إبداء حائل أو الالتجاء إلى ركن بل هي معهم كما أن أنفسهم معهم لا تستطاع ردا إذ لا اختلاف جهة ولا تقبل مهلة إذ لا مسافة بينها وبينهم فلا تسمح لهم في نزولها عليهم إلا البهت والحيرة.

فمعنى الآية - والله أعلم - لا يدفعون النار عن وجوههم وظهورهم بل تأتيهم من حيث لا يشعرون بها ولا يدرون فتكون مباغتة لهم فلا يستطيعون ردها ولا يمهلون في إتيانها.

قوله تعالى: ﴿ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون﴾ قال في المجمع، الفرق بين السخرية والهزء أن في السخرية معنى طلب الذلة لأن التسخير التذليل فأما الهزء فيقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول.

انتهى والحيق الحلول، والمراد بما كانوا به يستهزءون، العذاب وفي الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتخويف وتهديد للذين كفروا.

قوله تعالى: ﴿قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون﴾ الكلاءة الحفظ والمعنى أسألهم من الذي يحفظهم من الرحمن إن أراد أن يعذبهم ثم أضرب عن تأثير الموعظة والإنذار فيهم فقال: ﴿بل هم عن ذكر ربهم﴾ أي القرآن ﴿معرضون﴾ فلا يعتنون به ولا يريدون أن يصغوا إليه إذا تلوته عليهم وقيل المراد بالذكر مطلق المواعظ والحجج.

قوله تعالى: ﴿أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون﴾ أم منقطعة والاستفهام للإنكار، وكل من ﴿تمنعهم﴾ و﴿من دوننا﴾ صفة آلهة، والمعنى بل أسألهم ألهم آلهة من دوننا تمنعهم منا.

وقوله: ﴿لا يستطيعون نصر أنفسهم﴾ إلخ تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري ولذا جيء بالفصل والتقدير ليس لهم آلهة كذلك لأنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم بأن ينصر بعضهم بعضا ولا هم منا يجأرون ويحفظون فكيف ينصرون عبادهم من المشركين أو يجيرونهم، وذكر بعضهم أن ضمائر الجمع راجعة إلى المشركين والسياق يأباه.

قوله تعالى: ﴿بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر﴾ إلى آخر الآية هو إضراب عن مضمون الآية السابقة كما كان قوله: ﴿بل هم عن ذكر ربهم معرضون﴾ إضرابا عما تقدمه والمضامين - كما ترى - متقاربة.

وقوله: ﴿حتى طال عليهم العمر﴾ غاية لدوام التمتع المدلول عليه بالجملة السابقة والتقدير بل متعنا هؤلاء المشركين وآباءهم ودام لهم التمتع حتى طال عليهم العمر فاغتروا بذلك ونسوا ذكر الله وأعرضوا عن عبادته، وكذلك كان مجتمع قريش فإنهم كانوا بعد أبيهم إسماعيل قاطنين في حرم آمن متمتعين بأنواع النعم التي تحمل إليهم حتى تسلطوا على مكة وأخرجوا جرهما منها فنسوا ما هم عليه من دين أبيهم إبراهيم وعبدوا الأصنام.

وقوله: ﴿أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ الأنسب للسياق أن يكون المراد من نقص الأرض من أطرافها هو انقراض بعض الأمم التي تسكنها فإن لكل أمة أجلا ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون - وقد تقدمت الإشارة إلى أن المراد بطول العمر عليهم طول عمر مجتمعهم.

والمعنى: أ فلا يرون أن الأرض تنقص منها أمة بعد أمة بالانقراض بأمر الله فما ذا يمنعه أن يهلكهم أ فهم الغالبون إن أرادهم الله سبحانه بضر أو هلاك وانقراض.

وقد مر بعض الكلام في الآية في نظيرتها من سورة الرعد فراجع.

واعلم أن في هذه الآيات وجوها من الالتفات لم نتعرض لها لظهورها.

قوله تعالى: ﴿قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون﴾ أي إن الذي أنذركم به وحي إلهي لا ريب فيه وإنما لا يؤثر فيكم أثره وهو الهداية لأن فيكم صمما لا تسمعون الإنذار فالنقص في ناحيتكم لا فيه.

قوله تعالى: ﴿ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين﴾ النفحة الوقعة من العذاب، والمراد أن الإنذار بآيات الذكر لا ينفعهم بل هؤلاء يحتاجون إلى نفحة من العذاب حتى يضطروا فيؤمنوا ويعترفوا بظلمهم.

قوله تعالى: ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا﴾ القسط العدل وهو عطف بيان للموازين أو صفة للموازين بتقدير مضاف والتقدير الموازين ذوات القسط، وقد تقدم الكلام في معنى الميزان المنصوب يوم القيامة في تفسير سورة الأعراف.

وقوله: ﴿وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها﴾ الضمير في ﴿وإن كان﴾ للعمل الموزون المدلول عليه بذكر الموازين أي وإن كان العمل الموزون مقدار حبة من خردل في ثقله أتينا بها وكفى بنا حاسبين وحبة الخردل يضرب بها المثل في دقتها وصغرها وحقارتها، وفيه إشارة إلى أن الوزن من الحساب.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: لما نعى جبريل للنبي نفسه قال: يا رب فمن لأمتي؟ فنزلت: ﴿وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد﴾ الآية.

أقول: سياق الآيات وهو سياق العتاب لا يلائم ما ذكر.

على أن هذا السؤال لا يلائم موقع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، على أن النعي كان في آخر حياة النبي والسورة من أقدم السور المكية.

وفيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون ليكون لبني عبد مناف نبي؟ فسمعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوفه وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية فنزلت هذه الآية ﴿وإذا رآك الذين كفروا أن يتخذونك إلا هزوا﴾ الآية.

أقول: هو كسابقه في عدم انطباق القصة على الآية ذاك الانطباق.

وفي المجمع، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مرض فعاده إخوانه فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشر.

قالوا: ما هذا كلام مثلك قال: إن الله تعالى يقول: ﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة﴾ فالخير الصحة والغنى والشر المرض والفقر.

وفيه، في قوله: ﴿أ فلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ وقيل: بموت العلماء وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نقصانها ذهاب عالمها.

أقول؟ وتقدم في تفسير سورة الأعراف كلام في معنى الحديث.

وفي التوحيد، عن علي (عليه السلام): في حديث وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات وأما قوله تبارك وتعالى ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة - فلا تظلم نفس شيئا﴾ فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم ببعض بالموازين.

وفي المعاني، بإسناده إلى هشام قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل؟ ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا﴾ قال؟ هم الأنبياء والأوصياء: أقول: ورواه في الكافي، بسند فيه رفع عنه (عليه السلام) وقد أوردنا روايات أخر في هذه المعاني في تفسير سورة الأعراف وتكلمنا فيها بما تيسر.