الآيات 92-95

لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿92﴾ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿93﴾ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿94﴾ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿95﴾

بيان:

ارتباط الآية الأولى بما قبلها غير واضح ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات التي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، وقد عرفت نظير هذا الإشكال في قوله تعالى: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا﴾ آل عمران: 64، من حيث تاريخ النزول.

وربما يقال: إن الخطاب في الآية موجه إلى بني إسرائيل، ولا يزال موجها إليهم، ومحصل المعنى بعد ما مر من توبيخهم ولومهم على حب الدنيا وإيثار المال والمنال على دين الله: أنكم كاذبون في دعواكم أنكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنكم أهل البر والتقوى، فإنكم تحبون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها ولا تنفقون منها إلا الردي الذي لا تتعلق به النفوس مما لا يعبأ بزواله وفقده مع أنه لا ينال البر إلا بإنفاق الإنسان ما يحبه من كرائم ماله، ولا يفوت الله سبحانه حفظه، هذا محصل ما قيل: وفيه تمحل ظاهر!.

وأما بقية الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.

قوله تعالى: ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ النيل هو الوصول، والبر هو التوسع في فعل الخير، قال الراغب: البر خلاف البحر، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير، انتهى.

ومراده من فعل الخير أعم مما هو فعل القلب كالاعتقاد الحق والنية الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله والإنفاق في سبيل الله تعالى، وقد اشتمل على القسمين جميعا قوله تعالى: ﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وآتى الزكوة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس﴾ البقرة: 177.

ومن انضمام الآية إلى قوله: لن تنالوا البر الآية، يتبين أن المراد بها أن إنفاق المال على حبه، أحد أركان البر التي لا يتم إلا باجتماعها نعم جعل الإنفاق غاية لنيل البر لا يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلق القلبي بما جمعه من المال، وعده كأنه جزء من نفسه إذا فقده فكأنه فقد جزء من حيوة نفسه بخلاف سائر العبادات والأعمال التي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه.

ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إن البر هو الإنفاق مما تحبون، وكان هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتى تأكل، ونحو ذلك، لكنه محجوج بما مر من الآية.

ويتبين من آية البقرة المذكورة أيضا أن المراد بالبر هو ظاهر معناه اللغوي أعني التوسع في الخير فإنها بينته بمجامع الخيرات الاعتقادية والعملية، ومنه يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالبر هو إحسان الله وإنعامه، وما في قول آخرين: إن المراد به الجنة.

قوله تعالى: ﴿وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم﴾ تطييب لنفوس المنفقين أن ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدورا من غير أجر فإن الله الذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم وما ينفقونه.

قوله تعالى: ﴿كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة﴾ الطعام كل ما يطعم ويتغذى به وكان يطلق عند أهل الحجاز على البر خاصة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق، والحل مقابل الحرمة، وكأنه مأخوذ من الحل مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الإطلاق، وإسرائيل هو يعقوب النبي (عليه السلام) سمي به لأنه كان مجاهدا في الله مظفرا به، ويقول أهل الكتاب: إن معناه المظفر الغالب على الله سبحانه لأنه صارع الله في موضع يسمى فنيئيل فغلبه على ما في التوراة وهو مما يكذبه القرآن ويحيله العقل.

وقوله: ﴿إلا ما حرم إسرائيل على نفسه﴾ استثناء من الطعام المذكور آنفا، وقوله: ﴿من قبل أن تنزل التوراة﴾ متعلق بكان في الجملة الأولى، والمعنى لم يحرم الله قبل نزول التوراة شيئا من الطعام على بني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.

وفي قوله تعالى: ﴿قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين﴾ دلالة على أنهم كانوا ينكرون ذلك، أعني حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، ويدل عليه أنهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مر ذكره في ذيل قوله تعالى: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها﴾ البقرة: 106، فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾ النساء: 160.

وكذا يدل قوله تعالى بعد: ﴿قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا﴾ أنهم كانوا يجعلون ما ينكرونه من حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، وكون التحريم إنما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحل بالحرمة وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ربه أن دينه هو ملة إبراهيم الحنيف، وهي ملة فطرية لا إفراط فيها ولا تفريط، كيف؟ وهم كانوا يقولون: إن إبراهيم كان يهوديا على شريعة التوراة، فكيف يمكن أن تشتمل ملته على حلية ما حرمتها التوراة، والنسخ غير جائز؟.

فقد تبين أن الآية إنما تتعرض لدفع شبهة أوردتها اليهود، ويظهر من عدم تعرض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى: ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة﴾ المائدة: 64، وقوله: ﴿وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة﴾ البقرة: 80، وقوله ﴿وقالوا قلوبنا غلف﴾ البقرة: 88 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وكذا قوله تعالى بعد عدة آيات: ﴿قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن - إلى أن قال - يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين﴾.

وبالجملة يظهر من ذلك أنها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.

وحاصلها: أنه كيف يكون النبي صادقا وهو يخبر بالنسخ، وأن الله إنما حرم الطيبات على بني إسرائيل لظلمهم، وهذا نسخ لحل سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرمات محرمة دائما من غير إمكان تغيير لحكم الله، وحاصل الجواب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعليم من الله تعالى: أن التوراة ناطقة بكون كل الطعام حلا قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، وهو قوله تعالى: ﴿كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلى قوله - إن كنتم صادقين﴾.

فإن أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنكم المفترون على الله الكذب وأنكم الظالمون، وذلك قوله تعالى: ﴿فمن افترى - إلى قوله- الظالمون﴾.

وقد تبين بذلك أني صادق في دعوتي فاتبعوا ملتي وهي ملة إبراهيم حنيفا، وذلك قوله تعالى: ﴿قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم﴾ إلى آخر الآية.

وللمفسرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنهم على أي حال ذكروا أن الآية متعرضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مر.

وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أن الآية متعرضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ، وتقريرها: أن اليهود كأنها قالت: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين بعده - كما تدعي - فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر فتقول: إني أولى به.

ومحصل الجواب: أن كل الطعام كان حلا لعامة الناس ومنهم بنو إسرائيل لكن بني إسرائيل حرموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي، والسيئات كما قال تعالى: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾ النساء: 160، فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده، ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيئات فكانت سببا للتحريم، وقوله: من قبل أن تنزل التورية متعلق بقوله: حرم إسرائيل، ولو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: من قبل أن تنزل التورية لغوا زائدا من الكلام لبداهه أن يعقوب كان قبل التوراة زمانا فلا وجه لذكره.

هذا محصل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلا أنه قال: إن المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعا من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهلية تفعل ذلك على ما قصه الله تعالى في كتابه.

وقد ارتكبا جميعا من التكلف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه، وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: من قبل أن تنزل التورية على أنه متعلق بقوله: حرم إسرائيل، مع كونه متعلقا بقوله: كان حلا، في صدر الكلام وقوله إلا ما حرم، استثناء معترض.

ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.

على أن إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزا على حد قولهم: بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب وبني نزار وبني عدنان لكنه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، ولا أن القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة في غير هذا المورد الذي يدعيانه مع أن بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعا، ومن جملتها نفس هذه الآية: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبر عنهم أولا ببني إسرائيل، ثم أردف ذلك بقوله: إسرائيل، مع أن المقام من أوضح مقامات الالتباس، وناهيك في ذلك أن الجم الغفير من المفسرين فهموا منه أن المراد به يعقوب لا بنوه.

ومن أحسن الشواهد على أن المراد به يعقوب قوله تعالى: على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.

قوله تعالى: ﴿قل فأتوا بالتورية فاتلوها إن كنتم صادقين﴾ أي حتى يتبين أن أي الفريقين على الحق، أنا أم أنتم، وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون﴾ ظاهره أنه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن أعداءه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله، وتعريض لليهود، والكلام يجري مجرى الكناية.

وأما احتمال كون الكلام من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: من بعد ذلك، وعلى هذا أيضا يجري الكلام مجرى الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى: ﴿إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾ سبأ: 24، والمشار إليه بذلك هو البيان والحجة.

وإنما قال: من بعد ذلك مع أن المفتري ظالم على أي حال لأن الظلم لا يتحقق قبل التبين كما قيل، والقصر في قوله: ﴿فأولئك هم الظالمون﴾ قصر قلب على أي حال.

قوله تعالى: ﴿قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا﴾ الخ أي فإذا كان الحق معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتبعوا ديني واعترفوا بحلية لحم الإبل وغيره من الطيبات التي أحلها الله، وإنما كان حرمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به.

فقوله: ﴿فاتبعوا﴾ الخ كالكناية عن اتباع دينه، وإنما لم يذكره بعينه لأنهم كانوا معترفين بملة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفا فطريا لأن الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيبات من اللحوم وسائر الرزق.

بحث روائي:

في الكافي، وتفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): أن إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل وذلك قبل أن تنزل التوراة فلما نزلت التوراة لم يحرمه ولم يأكله.

أقول: وما يقرب منه مروي من طرق أهل السنة والجماعة.

وقوله في الرواية: لم يحرمه ولم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه، والمعنى لم يحرمه موسى ولم يأكله، ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل، ويظهر من التاج، أن التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد.