الآيات 42-60

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ﴿42﴾ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44﴾ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿45﴾ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿46﴾ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿47﴾ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴿48﴾ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿49﴾ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿50﴾ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿51﴾ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿52﴾ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿53﴾ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿54﴾ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿55﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿56﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿57﴾ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴿58﴾ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿59﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴿60﴾

بيان:

قوله تعالى: ﴿إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفيك وطهرك﴾ الجملة معطوفة على قوله: ﴿إذ قالت امرأة عمران﴾ فتكون شرحا مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى: ﴿إن الله اصطفى﴾ الآية.

وفي الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضا قوله في سورة مريم: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا إلى آخر الآيات، وسيأتي الكلام في المحدث.

وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿فتقبلها ربها بقبول حسن﴾ الآية: أن ذلك بيان لاستجابة دعوة أم مريم: وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، الآية وأن قول الملائكة لمريم: إن الله اصطفيك وطهرك إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك.

فاصطفاؤها تقبلها لعبادة الله، وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة، وربما قيل: إن المراد من تطهيرها جعلها بتولا لا تحيض فيتهيأ لها بذلك أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة، ولا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات.

قوله تعالى: ﴿واصطفاك على نساء العالمين﴾ قد تقدم في قوله تعالى: ﴿إن الله اصطفى﴾ إلى قوله: على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم، وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن.

وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك الآية، وقوله تعالى: ﴿والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين﴾ الأنبياء: 91 وقوله تعالى: ﴿ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين﴾ التحريم: 12، حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عليه السلام) أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين.

وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه، والقنوت وكونها محدثة فهي أمور لا تختص بها بل يوجد في غيرها، وأما ما قيل: إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.

قوله تعالى: ﴿يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين﴾ القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل، والسجدة معروفة.

والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل.

ولما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى اسم مفعول وتوجيه فهمه نحو المنادي اسم فاعل كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها: إن لك عندنا نبأ بعد نبإ فاستمعي لهما وأصغي إليهما: أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو ما لك عند الله، والثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة، وهو ما لله سبحانه عندك، فيكون هذا إيفاء للعبودية وشكرا للمنزلة فيئول معنى الكلام إلى كون قوله: يا مريم اقنتي الخ بمنزلة التفريع لقوله: يا مريم إن الله اصطفيك الخ أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين، ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعا لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل.

قوله تعالى: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك﴾ عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف (عليه السلام) من أنباء الغيب التي توحى إلى رسول الله، قال تعالى: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون﴾ يوسف: 102، وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيرا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.

ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية: وما كنت لديهم إذ يلقون الخ.

على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقومه كانوا أميين غير عالمين بهذه القصص ولا أنهم قرءوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح: ﴿تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا﴾ هود: 49، والوجه الأول أوفق بسياق الآية.

قوله تعالى: ﴿وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم﴾ الخ، القلم بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة، ويسمى سهما أيضا، وجمعه أقلام، فقوله: يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم.

وفي هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله: وما كنت لديهم إذ يختصمون إنما هو اختصامهم وتشاحهم في كفالة مريم، وأنهم لم يتناهوا حتى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله: وكفلها زكريا، الآية.

وربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريا عن كفالتها، وكان منشؤه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريا في أثنائها، فيكونان واقعتين اثنتين.

وفيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون﴾ يوسف: 102 يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة.

﴿إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة - إلى أن قال- لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين﴾ يوسف: 10.

قوله تعالى: ﴿إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك﴾ الخ، الظاهر أن هذه البشارة هي التي يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر: ﴿فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا الآيات﴾ مريم: 19، فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هاهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.

وقد قيل في وجهه إن المراد بالملائكة هو جبرئيل، عبر بالجمع عن الواحد تعظيما لأمره كما يقال: سافر فلان فركب الدواب وركب السفن، وإنما ركب دابة واحدة وسفينة واحدة، ويقال: قال له الناس كذا، وإنما قاله واحد وهكذا، ونظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة: فنادته الملائكة ثم قوله: قال كذلك الله يفعل ما يشاء الآية.

وربما قيل: إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.

والذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدما وتأخرا من حيث مقام القرب، وأن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة، عين فعل المتقدم، وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول: رأته عيناي وسمعته أذناي، ورأيته وسمعته، ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدي ورسمته أناملي وفعلته أنا وكتبته أنا، وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لأمره بعينه، وقوله قولهم من غير اختلاف، وبالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله، كما قال تعالى: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها﴾ الزمر: 42، فنسب التوفي إلى نفسه، وقال: ﴿قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم﴾ السجدة: 11، فنسبه إلى ملك الموت وقال: ﴿حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا﴾ الأنعام: 61، فنسبه إلى جمع من الملائكة.

ونظيره قوله تعالى: ﴿إنا أوحينا إليك﴾ النساء: 163، وقوله: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك﴾ الشعراء: 194، وقوله: ﴿من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك﴾ البقرة:97، وقوله: ﴿كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة﴾ عبس: 16.

فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين﴾ التكوير: 21، وسيأتي زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر إن شاء الله تعالى.

ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية: قال كذلك الله يخلق ما يشاء، فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح، قال تعالى: ﴿قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين الآيات﴾ مريم: 21.

وفي تكلم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها: ﴿فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا﴾ مريم: 17، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته، وسيجيء تمام الكلام في المعنى في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

قوله تعالى: ﴿بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم﴾ قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله: ﴿تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض﴾ البقرة: 253.

والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى، وعلى الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائما، هذا بحسب اللغة، وأما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد وهو قوله تعالى لشيء أراده: كن، أو كلمة الوحي والإلهام ونحو ذلك.

وأما المراد بالكلمة فقد قيل: إن المراد به المسيح (عليه السلام) من جهة أن من أسبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل، يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها، ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى (عليه السلام): ﴿وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا﴾ الأعراف: 137، وفيه أن ذلك وإن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به، على أن سياق قوله: اسمه المسيح لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلا لا نفس عيسى، وظاهر قوله: اسمه المسيح، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة.

وربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام) لإيضاحه مراده تعالى بالتوراة، وبيانه تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل: ﴿ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه﴾ الزخرف: 63، وفيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن.

وربما قيل: إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها، وهي الإخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله: ﴿يبشرك بكلمة منه﴾ يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر، وفيه أن سياق الذيل أعني قوله: اسمه المسيح لا يلائمه وهو ظاهر.

وربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام) من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله: كن وإنما اختص عيسى (عليه السلام) بذلك مع كون كل إنسان بل كل شيء موجودا بكلمة كن التكوينية لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث، وعمل العوامل المقارنة في ذلك، ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها، ولما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى: ﴿وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه﴾ النساء: 171، وقوله تعالى في آخر هذه الآيات: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ الآية، وهذا أحسن الوجوه.

والمسيح هو الممسوح سمي به عيسى (عليه السلام) لأنه كان مسيحا باليمن والبركة أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو لأنه كان يمسح رءوس اليتامى، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برأ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.

لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعا في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم (عليهما السلام) على ما يحكيه تعالى بقوله:﴿إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم﴾ ، وهذا اللفظ بعينه معرب (مشيحا) الواقع في كتب العهدين.

والذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحا فمعناه: إما الملك وإما المبارك.

وقد يظهر من كتبهم أنه (عليه السلام) إنما سمي مشيحا من جهة كون بشارته متضمنا لملكه، وأنه سيظهر في بني إسرائيل ملكا عليهم منجيا لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم، قال: (فلما دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما هذا السلام، فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله، وأنت تحبلين وتلدين ابنا وتدعين اسمه يسوع، هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى ويعطيه الرب له كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء) لوقا 1 - 34.

ولذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى (عليه السلام) لأنه لم ينل الملك أيام دعوته وفي حيوته، ولذلك أيضا ربما وجهته النصارى وتبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري.

أقول: وليس من البعيد أن يقال: إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركا فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك، ويؤيده قوله تعالى: ﴿قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت﴾ مريم: 31.

وعيسى أصله يشوع، فسروه بالمخلص وهو المنجي، وفي بعض الأخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين هذين النبيين.

وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب، ويكون معروفا بهذا النعت، وأن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى: ﴿وجعلناها وابنها آية للعالمين﴾ الأنبياء: 91.

قوله تعالى: ﴿وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين﴾ الوجاهة هي المقبولية، وكونه (عليه السلام) مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه، وكذا في الآخرة بنص القرآن.

ومعنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء والمقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله: ﴿لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون﴾ النساء: 172، وقد عرف تعالى معنى التقريب بقوله: ﴿إذا وقعت الواقعة - إلى أن قال - وكنتم أزواجا ثلثة - إلى أن قال- والسابقون السابقون أولئك المقربون﴾ الواقعة: 11، والآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب وهو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شيء، قال تعالى: ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه﴾ الانشقاق: 6، وقال تعالى: ﴿ألا إلى الله تصير الأمور﴾ الشورى: 53.

وأنت إذا تأملت كون المقربين صفة الأفراد من الإنسان وصفة الأفراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاما اكتسابيا فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهية والمقربون من الإنسان بالعمل.

وقوله وجيها في الدنيا والآخرة، حال، وكذا ما عطف عليه من قوله: ومن المقربين، ويكلم اه، ومن الصالحين، ويكلمه اه، رسولا اه.

قوله تعالى: ﴿ويكلم الناس في المهد وكهلا﴾ المهد ما يهيأ للصبي من الفراش، والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلا تاما قويا، ولذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، وربما قيل: إن الكهل من بلغ أربعا وثلاثين.

وكيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة أخرى لمريم.

وفي التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه ولذا ربما قيل: إن تكليمه للناس كهلا إنما هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة، وربما قيل: إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى (عليه السلام) عاش نحوا من أربع وستين سنة خلافا لما يظهر من الأناجيل.

والذي يظهر من سياق قوله: في المهد وكهلا، أنه لا يبلغ سن الشيخوخة، وإنما ينتهي إلى سن الكهولة، وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره: الصبا والكهولة.

والمعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالبا، وهو سن الكلام فكلام الصبي في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم الناس في المهد كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل، وبعبارة أخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلا، والكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة.

على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لأول ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبي لأول يوم ولادته آية خارقة لا محالة، قال تعالى: ﴿فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت﴾ مريم: 31.

قوله تعالى: ﴿قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر﴾ خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بناء على ما تقدم أن خطاب الملائكة وخطاب الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربها ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى: ﴿قال رب ارجعون﴾ المؤمنون: 99، فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.

قوله سبحانه: قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون قد مرت الإشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله: ﴿قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا﴾ مريم: 21، يفيد أن يكون قوله هاهنا: كذلك كلاما تاما تقديره: الأمر كذلك ومعناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له.

وأما التعجب من هذا الأمر فإنما يصح لو كان هذا الأمر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء وأما صعوبته ومشقته فإن العسر والصعوبة إنما يتصور إذا كان الأمر مما يتوسل إليه بالأسباب فكلما كثرت المقدمات والأسباب وعزت وبعد منالها اشتد الأمر صعوبة، والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

فقد ظهر أن قوله كذلك كلام تام أريد به رفع اضطراب مريم وتردد نفسها، وقوله: الله يخلق ما يشاء، رفع العجز الذي يوهمه التعجب، وقوله: إذا قضى، رفع لتوهم العسر والصعوبة.

قوله تعالى: ﴿ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ اللام في الكتاب والحكمة للجنس.

وقد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس، والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل، وعلى هذا فعطف التوراة والإنجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لأهمية في اختصاصه بالذكر، وليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى: ﴿ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون﴾ الزخرف: 63، وقد مر بيانه.

وأما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى (عليه السلام) في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف، وأما الذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بخت نصر من ملوك بابل وكورش من ملوك الفرس، غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلية وإن لعبت بها يد التحريف، ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.

وأما الإنجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على عيسى فهو الوحي المختص به، قال تعالى ﴿وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس﴾ آل عمران: 4، وأما هذه الأناجيل المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا فهي كتب مؤلفة بعده (عليه السلام).

ويدل أيضا على أن الأحكام إنما هي في التوراة، وأن الإنجيل لا تشتمل إلا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات: مصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم الآية، وقوله: ﴿وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه﴾ المائدة: 47، ولا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الأحكام الإثباتية.

ويدل أيضا على أن الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالتوراة قال، تعالى: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل﴾ الأعراف: 157.

قوله تعالى: ﴿ورسولا إلى بني إسرائيل﴾ ظاهره أنه (عليه السلام) كان مبعوثا إلى بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى (عليه السلام)، وقد مر في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين﴾ البقرة: 213، أن عيسى (عليه السلام) كموسى من أولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة.

لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبي أن النبوة هي منصب البعث والتبليغ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس، إما بالبقاء والنعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى: ﴿ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط﴾ يونس: 47.

وبعبارة أخرى النبي هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، والرسول هو المبعوث لأداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيده بل يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم (عليهم السلام).

وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم، وكان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبيا مبعوثا إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى (عليهما السلام).

وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون، قال تعالى: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ طه: 24، وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل، قال تعالى: ﴿قالوا آمنا برب هارون وموسى﴾ طه: 70، ودعوة قوم فرعون، قال تعالى: ﴿ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم﴾ الدخان: 17، ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به (عليه السلام) قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الروم وأمم عظيمة من الغربيين كالإفرنج والنمسا والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل، والقرآن لم يخص - فيما يذكر فيه النصارى - نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع.

قوله تعالى: ﴿أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين - إلى قوله - وأحيي الموتى بإذن الله﴾ الخلق جمع أجزاء الشيء، وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضا قوله تعالى: ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ المؤمنون: 14.

والأكمه هو الذي يولد مطموس العين، وقد يقال لمن تذهب عينه قال: كمهت عيناه حتى ابيضتا، قاله الراغب، والأبرص من كان به برص وهو مرض جلدي معروف.

وفي قوله: ﴿وأحيي الموتى﴾ حيث علق الإحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقل من الإشعار بالكثرة والتعدد.

وكذا قوله: ﴿بإذن الله﴾ سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه (عليه السلام) مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى (عليه السلام) بشيء من ذلك، وإنما كرر تكرارا يشعر بالإصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بألوهيته استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه (عليه السلام)، ولذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله: ﴿إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم﴾.

وظاهر قوله: ﴿أني أخلق لكم﴾ الخ أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج والتحدي، ولو كان مجرد قول لقطع العذر وإتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك.

على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه الآيات أتم الدلالة، قال: ﴿إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك - إلى أن قال- وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى﴾ المائدة: 110.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر، وأنه احتج على الناس بذلك، وأتم الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لأتى به، أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك.

قوله تعالى: ﴿وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم﴾ وهذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى، ومن خصه من رسله بالوحي، وهو آية أخرى وإخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك والريب فإن الإنسان لا يشك عادة فيما أكله ولا فيما ادخره في بيته.

وإنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما قال: ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله﴾ المؤمنون: 78، لأن هذه الآية عبر عنها بالإنباء وهو كلام قائم بعيسى (عليه السلام) يعد فعلا له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والإحياء فإنها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه.

على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه في الإنباء فإن القلوب الساذجة تقبل ألوهية خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة ومغلطة بخلاف ألوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمرا مبتذلا جائز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة، وكذا الإبراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله، وخاصة إذا ألقي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون، ولذلك ذيل الكلام بقوله: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان.

قوله تعالى: ﴿ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم﴾ عطف على قوله: ورسولا إلى بني إسرائيل، وكون المعطوف مبنيا على التكلم مع كون المعطوف عليه مبنيا على الغيبة أعني كون عيسى (عليه السلام) في قوله: ﴿ومصدقا لما بين يدي﴾ متكلما وفي قوله: ﴿ورسولا إلى بني إسرائيل﴾ غائبا ليس مما يضر بالعطف بعد تفسير قوله: ﴿ورسولا إلى بني إسرائيل﴾ بقول عيسى: أني قد جئتكم، فإن وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.

وتصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة، وهو التوراة الأصل النازلة على موسى (عليه السلام) فلا دلالة لكونه مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة.

قوله تعالى: ﴿ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم﴾ فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات، قال تعالى: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾ النساء: 160.

والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه (عليه السلام) لأحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقة المكتوبة على اليهود، ولذا قيل: إن الإنجيل غير مشتمل على الشريعة، وقوله: ولأحل، معطوف على قوله: بآية من ربكم، واللام للغاية، والمعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم.

قوله تعالى: ﴿وجئتكم بآية من ربكم﴾ الظاهر أنه لبيان أن قوله: فاتقوا الله وأطيعون، متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم، ويمكن أن يكون هو مراد من قال: إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها فإن مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.

قوله تعالى: ﴿إن الله ربي وربكم فاعبدوه﴾ فيه قطع لعذر من اعتقد ألوهيته لتفرسه (عليه السلام) ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله: فيكون طيرا، وقوله وأحيي الموتى، بقوله: بإذن الله لكن الظاهر من قوله تعالى فيما يحكي قول عيسى (عليه السلام): ﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾ المائدة: 117، إن ذلك كان بأمر من ربه ووحي منه.

قوله تعالى: ﴿فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله﴾ لما كانت البشارة التي بشر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى (عليه السلام) من حين حمله إلى حين رسالته ودعوته اقتصر عليها اقتصاصا إيجازا في الكلام وفرع عليها تتمة الجملة من قصته وهو انتخابه حوارييه ومكر قومه به ومكر الله بهم في تطهيره منهم وتوفيه ورفعه إليه، وهو تمام القصة.

وقد اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقاؤه إلى النصارى حين نزول الآيات، وهم نصارى نجران: الوفد الذين أتوا المدينة للبحث والاحتجاج، ولذلك أسقط منها بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة النساء والمائدة والأنبياء والزخرف والصف.

وفي استعمال لفظ الإحساس في مورد الكفر مع كونه أمرا قلبيا إشعار بظهوره منهم حتى تعلق به الإحساس أو أنهم هموا بإيذائه وقتله بسبب كفرهم فأحس به فقوله: فلما أحس عيسى أي استشعر واستظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله؟ وإنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه فيتمحضوا للحق فتستقر فيهم عدة الدين، وتتمركز فيهم قوته ثم تنتشر من عندهم دعوته، وهذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية والاجتماعية وغيرها، أنها إذا شرعت في الفعل ونشر التأثير وبث العمل كان من اللازم أن تتخذ لنفسها كانونا تجتمع فيه وتعتمد عليه وتستمد منه ولو لا ذلك لم تستقر على عمل، وذهبت سدى لا تجدي نفعا.

ونظير ذلك في دعوة الإسلام بيعة العقبة وبيعة الشجرة أراد بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ركوز القدرة وتجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة.

فلما أيقن عيسى (عليه السلام) أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أو جلهم، وأنهم كافرون به لا محالة، وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريون على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالإيمان فكان ذلك أساسا لتميز الإيمان من الكفر وظهوره عليه بنشر الدعوة وإقامة الحجة كما قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين﴾ الصف: 14.

وقد قيد الأنصار في قوله: من أنصاري بقوله: إلى الله ليتم به معنى التشويق والتحريص الذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى: ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا﴾ البقرة: 245.

والظرف متعلق بقوله: ﴿أنصاري﴾ بتضمين النصرة معنى السلوك والذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله: ﴿إني ذاهب إلى ربي سيهدين﴾ الصافات: 99.

وأما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه ولا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصرا كما يعده ناصرا، ولا يساعد عليه أدب عيسى (عليه السلام) اللائح مما يحكيه القرآن من قوله، على أن قوله تعالى: قال الحواريون نحن أنصار الله، أيضا لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا: نحن أنصارك مع الله فليتأمل.

قوله تعالى: ﴿قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون﴾ حواري الإنسان من اختص به من الناس، وقيل أصله من الحور وهو شدة البياض، ولم يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى (عليه السلام) من أصحابه.

وقولهم: ﴿آمنا بالله﴾ بمنزل التفسير لقولهم: نحن أنصار الله وهذا مما يؤيد كون قوله: أنصاري إلى الله جاريا مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله، والإيمان طريق.

وهل هذا أول إيمانهم بعيسى (عليه السلام)؟ ربما استفيد من قوله تعالى: كما قال عيسى بن مريم للحواريين ﴿من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة﴾ الصف: 14، أنه إيمان، بعد إيمان ولا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الإيمان والإسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض.

بل ربما دل قوله تعالى: ﴿وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون﴾ المائدة: 111، أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله تعالى إليهم، وأنهم كانوا أنبياء فيكون الإيمان الذي أجابوه به هو الإيمان بعد الإيمان.

على أن قولهم: ﴿واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول﴾ وهذا الإسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم وفيهم - يدل أيضا على ذلك فإن هذا الإسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد بالتوحيد والنبوة مجرد شهادة، بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الإيمان والإسلام: أن كل مرتبة من الإيمان تسبقها مرتبة من مراتب الإسلام كما يدل عليه قولهم: آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون، حيث أتوا في الإيمان بالفعل وفي الإسلام بالصفة فأول مراتب الإسلام هو التسليم والشهادة على أصل الدين إجمالا، ويتلوه الإذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في الجملة، ويتلوه وهو المرتبة الثانية من الإسلام التسليم القلبي لمعنى الإيمان وينقطع عنده السخط والاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله ورسوله وهو الاتباع العملي في الدين، ويتلوه وهو المرتبة الثانية من الإيمان خلوص العمل واستقرار وصف العبودية في جميع الأعمال والأفعال، ويتلوه وهو المرتبة الثالثة من الإسلام التسليم لمحبة الله وإرادته تعالى فلا يحب ولا يريد شيئا إلا بالله، ولا يقع هناك إلا ما أحبه الله وأراده ولا خبر عن محبة العبد وإرادته في نفسه، ويتلوه وهو المرتبة الثالثة من الإيمان شيوع هذا التسليم العبودي في جميع الأعمال.

فإذا تذكرت هذا الذي ذكرناه، وتأملت في قوله (عليه السلام) فيما نقل من دعوته: فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم الآية، وجدت أنه (عليه السلام) أمر أولا بتقوى الله وإطاعة نفسه ثم علل ذلك بقوله: إن الله ربي وربكم، أي إن الله ربكم معشر الأمة ورب رسوله الذي أرسله إليكم، فيجب عليكم أن تتقوه بالإيمان، وأن تطيعوني بالاتباع، وبالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى وطاعة الرسول أي الإيمان والاتباع، فهذا هو المستفاد من هذا الكلام، ولذا بدل التقوى والإطاعة في التعليل من قوله: فاعبدوه وإنما فعل ذلك ليتضح ارتباط الأمر بالله لظهور الارتباط به في العبودية ثم ذكر أن هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلا ينتهي بسالكه إلى الله سبحانه.

ثم لما أحس منهم الكفر ولاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال من أنصاري إلى الله فطلب أنصارا لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه، وهو العبودية أعني التقوى والإطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا: نحن أنصار الله، ثم ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا: آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون، ومرادهم بالإسلام إطاعته وتبعيته، ولذا لما خاطبوا ربهم خطاب تذلل والتجاء، وذكروا له ما وعدوا به عيسى (عليه السلام) قالوا: ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول، فبدلوا الإسلام من الاتباع، ووسعوا في الإيمان بتقييده بجميع ما أنزل الله.

فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، واتبعوا الرسول في ذلك، وهذا كما ترى ليس أول درجة من الإيمان بل من أعلى درجاته وأسماها.

وإنما استشهدوا عيسى (عليه السلام) في إسلامهم واتباعهم ولم يقولوا: آمنا بالله وإنا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم إذ قالوا: ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول، فكأنهم قالوا: ربنا حالنا هذا الحال، ويشهد بذلك رسولك.

قوله تعالى: ﴿ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين﴾ مقول قول الحواريين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة وهو من الأساليب اللطيفة في القرآن الكريم، وقد مر بيانه، وقد سألوا ربهم أن يكتبهم من الشاهدين، وفرعوا ذلك على إيمانهم وإسلامهم جميعا لأن تبليغ الرسول رسالته إنما يتحقق ببيانه ما أنزله الله عليه قولا وفعلا، أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها، فالشهادة على التبليغ إنما يكون بتعلمها من الرسول واتباعه عملا حتى يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا يتخطاه ولا يتعداه.

والظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومىء إليها قوله تعالى: ﴿فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين﴾ الأعراف: 6، وهي الشهادة على التبليغ، وأما قوله تعالى: ﴿وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين﴾ المائدة: 83، فهو شهادة على حقية رسالة الرسول دون التبليغ، والله أعلم.

وربما أمكن أن يستفاد من قولهم: فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أن المسئول: أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك مما حكاه الله تعالى في دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام): ﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا﴾ البقرة: 128، وليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية.

قوله تعالى: ﴿ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين﴾ الماكرون هم بنو إسرائيل، بقرينة قوله: ﴿فلما أحس عيسى منهم الكفر﴾ وقد مر الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ البقرة: 26.

قوله تعالى: ﴿إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك﴾ التوفي أخذ الشيء أخذا تاما، ولذا يستعمل في الموت لأن الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى: ﴿توفته رسلنا﴾ الأنعام: 61، أي أماتته، وقال تعالى: ﴿وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد - إلى أن قال - قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم﴾ السجدة: 11، وقال تعالى: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى﴾ الزمر: 42، والتأمل في الآيتين الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الأخذ والحفظ، وبعبارة أخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أن نفس الإنسان لا يبطل ولا يفنى بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء وبطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه، وإلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى: ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾ آل عمران: 144، وقوله تعالى: ﴿لا يقضى عليهم فيموتوا﴾ الفاطر: 36، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا حتى ما ورد في عيسى (عليه السلام) بنفسه كقوله: ﴿والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا﴾ مريم: 33، وقوله: ﴿وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا﴾ النساء: 159، فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت.

على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود: ﴿وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا﴾ النساء: 159، يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعي أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) وكذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم (عليهما السلام) بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل، والآيات كما ترى تكذب قصة القتل والصلب صريحا.

والذي يعطيه ظاهر قوله: وإن من أهل الكتاب الآية أنه حي عند الله ولن يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، على هذا فيكون توفيه (عليه السلام) أخذه من بين اليهود لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنما هو الظهور، وسيجيء تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء.

قوله تعالى: ﴿ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا﴾ الرفع خلاف الوضع، والطهارة خلاف القذارة، وقد مر الكلام في معنى الطهارة.

وحيث قيد الرفع بقوله: إلى، أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام والجسمانيات بالحلول فيها، والقرب والبعد منها، فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية: ثم إلي مرجعكم، وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه، نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله: ﴿أحياء عند ربهم﴾ آل عمران: 169، وما ذكره في حق إدريس (عليه السلام): ﴿ورفعناه مكانا عليا﴾ مريم: 57.

وربما يقال: إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيا إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه، ومحل نزول البركات، ومسكن الملائكة المكرمين، ولعلنا نوفق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والتطهير من الكافرين حيث أتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنوي دون الظاهري الصوري فهو إبعاده من الكفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود.

قوله تعالى: ﴿وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة﴾ وعد منه تعالى له (عليه السلام) أنه سيفوق متبعي عيسى (عليه السلام) على مخالفيه الكافرين بنبوته، وأن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى (عليه السلام) أو غير ذلك.

غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام ونسخه دين عيسى، والمسلمون بعد ظهور الإسلام فإنهم هم أتباعه على الحق، وعلى هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة دون السلطنة والسيطرة، فمحصل معنى الجملة: أن متبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة، هذا ما ذكره وارتضاه المفسرون في معنى الآية.

والذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإن ظاهر قوله إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك، أنه إخبار عن المستقبل وأنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف ورفع وتطهير وجعل على أن قوله: وجاعل الذين اتبعوك، وعد حسن وبشرى، وما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي، ومن المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى (عليه السلام) إلا حجة عيسى نفسه، وهي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم، وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع، وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه (عليه السلام) أقطع لعذر الكفار ومنبت خصومتهم، وأوضح في رفع شبههم، فما معنى وعده (عليه السلام) أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوق بقوله: إلى يوم القيامة، مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.

فإن قلت: لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس أسمع لحجة المتبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعا وأوثق ركنا وأشد قوة.

قلت: مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة والقوة والواقع خلافه، واحتمال أن يكون إخبارا عن ظهور للمتبعين وتفوق منهم سيتحقق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية، وإما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه (عليه السلام) سيفوقون الكافرين أي يكون أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل، ففيه مضافا إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرنا أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية وخاصة من جهة كون المقام مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهي على اليهود وشمول الغضب عليهم إنما يناسب القهر والاستعلاء إما من حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة والقوة وأما من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر.

والذي ينبغي أن يقال أن الذي أخذ في الآية معرفا للفرقتين هو قوله: الذين اتبعوك، وقوله الذين كفروا، والفعل إنما يدل على التحقق والحدوث دون التلبس الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين والكافرين، ومجرد صدور فعل من بعض أفراد أمة مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم، كما أن القرآن يؤنب اليهود ويوبخهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الأنبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف آيات الكتاب، وغير ذلك.

وعلى هذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود، وبالذين اتبعوا النصارى لما صدر من صدرهم وسلفهم من الإيمان بعيسى (عليه السلام) واتباعه - وقد كان إيمانا مرضيا واتباعا حقا - وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له (عليه السلام) بعد ظهور الإسلام، ولا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية.

فالمراد جعل النصارى - وهم الذين اتبع أسلافهم عيسى (عليه السلام) - فوق اليهود وهم الذين كفروا بعيسى (عليه السلام) ومكروا به، والغرض في المقام بيان نزول السخط الإلهي على اليهود، وحلول المكر بهم، وتشديد العذاب على أمتهم، ولا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى.

ويؤيد هذا المعنى تغيير الأسلوب في الآية الآتية أعني قوله: وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق والنجاة من النصارى والمسلمين فقط كان الأنسب أن يقال: وأما الذين اتبعوك فيوفيهم أجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى.

وهاهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة، والتقريب عين التقريب، وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر.

قوله تعالى: ﴿ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون﴾ وقد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى وبين الذين اتبعوه والذين كفروا به وهذا مآل أمرهم يوم القيامة، وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبأه.

قوله تعالى: ﴿فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة﴾ ظاهره أنه متفرع على قوله: ﴿فأحكم بينكم﴾ تفرع التفصيل على الإجمال فيكون بيانا للحكم الإلهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا وتوفيه الأجر للمؤمنين.

لكن اشتمال التفريع على قوله: ﴿في الدنيا﴾ يدل على كونه متفرعا على مجموع قوله: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ثم إلي مرجعكم الخ فيدل على أن نتيجة هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى عليهم، وفي الآخرة بالنار، وما لهم في ذلك من ناصرين.

وهذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة والقوة دون التأييد بالحجة.

وفي قوله: ﴿وما لهم من ناصرين﴾ دلالة على نفي الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم، وهو حتم القضاء كما تقدم.

قوله تعالى: ﴿وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم﴾ وهذا وعد حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأن الاتباع كما عرفت وصف صادق على الأمة بمجرد تحققه وصدوره عن عدة من أفرادها وحينئذ إنما يؤثر الأثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصا دون من انتسب إليه اسما فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ليستقيم المعنى فإن السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ البقرة: 62.

فهذا أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى (عليه السلام) أن الله يوفيهم أجورهم، وأما غيرهم فليس لهم من ذلك شيء، وقد أشير إلى ذلك في الآية بقوله: والله لا يحب الظالمين.

ومن هنا يظهر السر في ختم الآية - وهي آية الرحمة والجنة - بمثل قوله: والله لا يحب الظالمين مع أن المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى: ﴿وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير﴾ الحديد: 10، وقوله تعالى: ﴿إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم﴾ التغابن: 17، وقوله تعالى: ﴿ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم﴾ التغابن: 9، وقوله تعالى: ﴿فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين﴾ الجاثية: 30، إلى غير ذلك من الآيات.

فقوله: ﴿والله لا يحب الظالمين﴾ مسوق لبيان حال الطائفة الأخرى ممن انتسب إلى عيسى (عليه السلام) بالاتباع وهم غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

قوله تعالى: ﴿ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم﴾ إشارة إلى اختتام القصة.

والمراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته، لا يدخله باطل، ولا يلج فيه هزل.

قوله تعالى: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلا، والإيجاز بعد الإطناب - وخاصة في مورد الاحتجاج والاستدلال - من مزايا الكلام، والآيات نازلة في الاحتجاج ومتعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم (عليه السلام) فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد وأعظم مما قيل في آدم، وهو أنه بشر خلقه الله من غير أب.

فمعنى الآية: إن مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم، وكيفية خلقه أنه جمع أجزاءه من تراب ثم قال له كن فتكون تكونا بشريا من غير أب.

فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهية عن المسيح (عليه السلام).

إحداهما: أن عيسى مخلوق لله - على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه - خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبدا لا ربا.

وثانيهما: أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بألوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام) أيضا لمكان المماثلة.

ويظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية وإن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكونه إلى والد.

والظاهر أن قوله: ﴿فيكون﴾ أريد به حكاية الحال الماضية، ولا ينافي ذلك دلالة قوله: ثم قال له كن على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون﴾ يس: 82، وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية.

وأما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى: ﴿وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر﴾ القمر: 50، وسيجيء زيادة توضيح لهذا المعنى إن شاء الله تعالى في محله المناسب له.

على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله: ﴿ثم قال له كن﴾ إنه تعالى لا يحتاج في خلق شيء إلى الأسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالإمكان والاستحالة، والهوان والعسر، والقرب والبعد، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده وقال له كن، كان من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.

قوله تعالى: ﴿الحق من ربك فلا تكن من الممترين﴾ تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن ونحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله: ﴿ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم﴾ الآية، وفيه تطييب لنفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه على الحق، وتشجيع له في المحاجة.

وهذا أعني قوله: الحق من ربك من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال: الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك ونسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.

وذلك أن هذه الأقاويل الحقة والقضايا النفس الأمرية الثابتة كائنة ما كانت وإن كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا: الأربعة زوج، والواحد نصف الاثنين، ونحو ذلك إلا أن الإنسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود والوجود كله منه تعالى، فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه، ولذلك كان تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقا، وأما فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: يا مريم إن الله اصطفيك - وطهرك واصطفيك على نساء العالمين قال: قال (عليه السلام) اصطفاها مرتين: أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين وفي المجمع، قال أبو جعفر (عليه السلام): معنى الآية اصطفاك لذرية الأنبياء، وطهرك من السفاح واصطفيك لولادة عيسى من غير فحل.

أقول: معنى قوله: اصطفاك لذرية الأنبياء اختارك لتكوني ذرية صالحة جديرة للانتساب إلى الأنبياء، ومعنى قوله: وطهرك من السفاح أعطاك العصمة منه، وهو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل، فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها وتطهيرها، فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر، وقد مر دلالة الآية على ذلك.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن حبان والحاكم عن أنس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآسية امرأة فرعون: قال السيوطي وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا: وفيه، أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون.

وفيه، أخرج ابن مردويه عن الحسن قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة: آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفيه، أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن فاطمة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول.

وفيه، أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون وفيه، أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أربع نسوة سادات عالمهن. مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأفضلهن عالما فاطمة.

وفيه، أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة ابنة خويلد.

وفي الخصال، بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربع خطوط ثم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.

وفيه، أيضا بإسناده عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز وجل اختار من النساء أربعا: مريم وآسية وخديجة وفاطمة، الخبر.

أقول: والروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة، وكون هؤلاء سيدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهن أنفسهن كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدر المنثور وأخبار أخرى، وقد مر نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى: ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحا﴾ آل عمران: 33.

ومما ينبغي أن يتنبه له أن الواقع في الآية هو الاصطفاء، وقد مر أنه الاختيار، والذي وقع في الأخبار هو السيادة، وبينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب كمال الأول.

وفي تفسير العياشي، في قوله تعالى: إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم، عن الباقر (عليه السلام): يقرعون بها حين أيتمت من أبيها.

وفي تفسير القمي، وإذ قالت الملائكة يا مريم - إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، قال: اصطفاها مرتين: أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين إلى أن قال القمي ثم قال الله لنبيه: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك يا محمد وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون، قال لما ولدت اختصموا آل عمران فيها وكلهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا، الخبر.

أقول: وقد مر من البيان ما يؤيد هذا الخبر وما قبلها.

واعلم أن هناك روايات كثيرة في بشارة مريم وولادة عيسى (عليه السلام) ودعوته ومعجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهم من البحث التفسيري، ولذلك تركنا ذكرها إلا ما يهم ذكره منها.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿وأنبئكم بما تأكلون﴾ الآية، عن الباقر (عليه السلام) أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل إني رسول الله إليكم، وإني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص، والأكمه هو الأعمى: قالوا: ما نرى الذي تصنع إلا سحرا فأرنا آية نعلم أنك صادق قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادخرتم بالليل تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم فكان يقول: أنت أكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا فمنهم من يقبل منه فيؤمن، ومنهم من يكفر، وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.

أقول: وتغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره (عليه السلام) من الآيات أولا وآخرا يؤيد هذه الرواية، وقد مرت الإشارة إليه.

وفي تفسير العياشي، في قوله تعالى: ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة، وكانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد والإخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى، وأنزل عليه الإنجيل، وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين، وشرع له في الكتاب: إقام الصلوة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص، ولا أحكام حدود، ولا فرض مواريث، وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة، وهو قول الله في الذي قال عيسى لبني إسرائيل: ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل.

أقول: وروي الرواية في قصص الأنبياء، مفصلة عن الصادق (عليه السلام) وفيها: كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة، وثمانون سنة ولا يوافق شيء منهما تاريخ أهل الكتاب.

وفي العيون، عن الرضا (عليه السلام): أنه سئل لم سمي الحواريون الحواريين؟ قال: أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل، وهو اسم مشتق من الخبز الحوار.

وأما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير.

وفي التوحيد، عنه (عليه السلام): أنهم كانوا اثنا عشر رجلا وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا.

وفي الإكمال، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: بعث الله عيسى بن مريم، واستودعه النور والعلم والحكم وجميع علوم الأنبياء قبله، وزاده الإنجيل، وبعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه وحكمته، وإلى الإيمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم إلا طغيانا وكفرا، فلما لم يؤمنوا دعا ربه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا وكفرا فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم ويرغبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتى طلبته اليهود وادعت أنها عذبته ودفنته في الأرض حيا، وادعى بعضهم أنهم قتلوه وصلبوه، وما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه، وإنما شبه لهم، وما قدروا على عذابه وقتله ولا على قتله وصلبه لأنهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله: ولكن رفعه الله بعد أن توفاه.

أقول: قوله (عليه السلام): فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعا من شرارهم.

وقوله (عليه السلام): فمكث يدعوهم الخ لعله إشارة إلى مدة عمره على ما هو المشهور فإنه (عليه السلام) كان يكلمهم من المهد إلى الكهولة وكان نبيا من صباه على ما يدل عليه قوله على ما حكاه الله عنه: ﴿فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا﴾ مريم: 30.

وقوله (عليه السلام) لكان تكذيبا لقوله: ولكن رفعه الله بعد أن توفاه، نقل بالمعنى لقوله تعالى: ﴿ولكن رفعه الله﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿إني متوفيك ورافعك إلي﴾ الآية، وقد استفاد من تقديم التوفي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.

وفي تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام) قال: إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج إليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه عن الماء فقال: إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة، ومطهري من اليهود فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي، فقال شاب منهم أنا يا روح الله، قال: فأنت هو ذا فقال لهم عيسى: أما إن منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، فقال رجل منهم: أنا هو يا نبي الله! فقال له عيسى: أ تحس بذلك في نفسك؟ فلتكن هو، ثم قال لهم عيسى: أما إنكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق: فرقتين مفتريتين على الله في النار، وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه. ثم قال: إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى: إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، وأخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى فقتل وصلب، وكفر الذي قال له عيسى: يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة.

أقول: وروي قريب منه عن ابن عباس وقتادة وغيرهما، وقال بعضهم: إن الذي ألقي عليه شبح عيسى هو الذي دلهم ليقبضوا عليه ويقتلوه، وقيل غير ذلك، والقرآن ساكت عن ذلك، وسيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى: ﴿وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم﴾ النساء: 157.

وفي العيون، عن الرضا (عليه السلام) قال: إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله وحججه على الناس إلا أمر عيسى وحده لأنه رفع من الأرض حيا وقبض روحه بين السماء والأرض ثم رفع إلى السماء، ورد عليه روحه، وذلك قوله عز وجل: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك، وقال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة وكنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم - فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم - وأنت على كل شيء شهيد وفي تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.

أقول: وسيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إن شاء الله تعالى.

وفي الدر المنثور، في قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله الآية، أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا: أن سيدي أهل نجران وأسقفيهم السيد والعاقب لقيا نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألاه عن عيسى فقال: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية: إن مثل عيسى عند الله الآية.

أقول: وروي ما يقرب منه عن السدي وعكرمة وغيرهما، وروى القمي في تفسيره، أيضا نزول الآية في المورد.

بحث روائي آخر في معنى المحدث:

في البصائر، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرسول وعن النبي وعن المحدث قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول: يأمرك كذا وكذا، والرسول يكون نبيا مع الرسالة. والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت: فما علمه أن الذي رأى في منامه حق؟ قال يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق ولا يعاين الملك. والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى شاهدا.

أقول: ورواه في الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله: شاهدا أي صائتا حاضرا.

ويمكن أن يكون حالا من فاعل لا يرى.

وفيه، أيضا عن بريد عن الباقر والصادق (عليهما السلام) في حديث قال بريد: فما الرسول والنبي والمحدث؟ قال: الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه، والنبي يرى في المنام، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد، والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الأنبياء، الحديث.

وفيه، عن محمد بن مسلم قال: ذكرت المحدث عند أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فقال: إنه يسمع الصوت ولا يرى الصورة فقلت أصلحك الله كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال: إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك.

وفيه، أيضا عن أبي بصير عنه (عليه السلام) قال: كان علي محدثا وكان سلمان محدثا، قال: قلت: فما آية المحدث؟ قال: يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت وكيت 220 - وفيه، عن حمران بن أعين قال: أخبرني أبو جعفر (عليه السلام): أن عليا كان محدثا فقال أصحابنا: ما صنعت شيئا ألا سألته من يحدثه؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر فقلت: ألست أخبرتني: أن عليا كان محدثا؟ قال: بلى قلت: من كان يحدثه؟ قال: ملك، قلت: فأقول: إنه نبي أو رسول؟ قال: لا بل قل مثله مثل صاحب سليمان وصاحب موسى، ومثله مثل ذي القرنين، أما سمعت أن عليا سئل عن ذي القرنين أنبيا كان؟ قال لا ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه، وناصح الله فنصحه فهذا مثله.

أقول: والروايات في معنى المحدث عن أئمة أهل البيت كثيرة جدا رواها في البصائر والكافي والكنز والاختصاص وغيرها، ويوجد في روايات أهل السنة أيضا.

وأما الفرق الوارد في الأخبار المذكورة بين النبي والرسول والمحدث فقد مر الكلام في الفرق بين الرسول والنبي، وأن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده، فهو يوجب العلم اليقيني بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجة، فمثله في الإلقاءات الإلهية مثل العلوم البديهية التي لا تحتاج في حصولها للإنسان إلى سبب تصديقي كالقياس ونحوه.

وأما المنام فالروايات كما ترى تفسره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا يراها الإنسان في النوم العادي العارض له في يومه وليلته بل هو حال يشبه الإغماء تسكن فيه حواس الإنسان النبي فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثم يسدده الله سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنه من جانب الله سبحانه لا من تصرف الشيطان.

وأما التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنه بسمع القلب دون سمع الحس، وليس من قبيل الخطور الذهني الذي لا يسمى سمع صوت إلا بنحو من المجاز البعيد، ولذلك ترى أن الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت والنكت في القلب، وتسميه مع ذلك تحديثا وتكليما فالمحدث يسمع صوت الملك في تحديثه ويعيه بسمعه نظير ما نسمعه ويسمعه من الكلام المعتاد والأصوات المسموعة في عالم المادة غير أنه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره، ولذا كان أمرا قلبيا.

وأما علمه بأن ما حدث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من الله سبحانه وتسديد كما يشير إليه ما في رواية محمد بن مسلم المتقدمة: أنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك، وذلك أن النزغة الشيطانية إما باطل في صورته الباطلة عند الإنسان المؤمن فظاهر أنه ليس من حديث الملائكة المكرمين الذين لا يعصون الله، وإما باطل في صورة حق وسيستتبع باطلا فالنور الإلهي الذي يلازم العبد المؤمن يبين حاله، قال تعالى: ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾ الأنعام: 122، والنزغة والوسوسة مع ذلك كله لا تخلو عن اضطراب في النفس وتزلزل في القلب كما أن ذكر الله وحديثه لا ينفك عن الوقار وطمأنينة الباطن، قال تعالى: ﴿ذلكم الشيطان يخوف أولياءه﴾ آل عمران: 175، وقال: ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ الرعد: 28، وقال: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ الأعراف: 201، فالسكينة والطمأنينة عند ما يلقى إلى الإنسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقاء رحمانيا كما أن الاضطراب والقلق دليل على كونه إلقاء شيطانا ويلحق بذلك العجلة والجزع والخفة ونحوها.

وأما ما في الروايات من أن المحدث يسمع الصوت ولا يعاين الملك فمحمول على الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أن الملاك في كون الإنسان محدثا أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية فإن اتفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لأنه محدث وذلك لأن الآيات صريحة في رؤية بعض المحدثين للملائكة حين التحديث كقوله تعالى في مريم: ﴿فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إني رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا الآيات﴾ مريم: 19، وقوله تعالى - في زوجة إبراهيم في قصة البشارة -: ﴿ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام - إلى أن قال - وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد﴾ هود: 73.

وهاهنا وجه آخر: وهو أن يكون المراد بالمعاينة المنفية معاينة حقيقة الملك في نفسه دون مثاله الذي يتمثل به فإن الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر.

وهاهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم وهو أن المنفي من المعاينة الوحي التشريعي بأن يظهر للمحدث فيلقي إليه حكما شرعيا وذلك صون من الله لمقام المشرعين من أنبيائه ورسله ولا يخلو عن بعد.