الآيات 33-34

إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿33﴾ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿34﴾

بيان:

افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حق القول فيها، والاحتجاج على أهل الكتاب فيها، وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب.

قوله تعالى: ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحا﴾ إلى آخر الآية الاصطفاء كما مر بيانه في قوله تعالى: ﴿لقد اصطفيناه في الدنيا﴾ البقرة: 130، أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، وهو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له.

لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين، ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال: من العالمين، وأفاد اختصاص الإسلام بهم واختل معنى الكلام، فالاصطفاء على العالمين، نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.

ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى: ﴿وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين﴾ آل عمران: 42، حيث فرق بين الاصطفاءين فالاصطفاء غير الاصطفاء.

وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحا، فأما آدم فقد اصطفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ البقرة: 30، وأول من فتح به باب التوبة.

قال تعالى: ﴿ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى﴾ طه: 122، وأول من شرع له الدين، قال تعالى: ﴿فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى الآيات﴾ طه: 123، فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره، ويا لها من منقبة له (عليه السلام).

وأما نوح فهو أول الخمسة أولي العزم صاحب الكتاب والشريعة كما مر بيانه في تفسير قوله تعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين﴾ البقرة: 213، وهو الأب الثاني لهذا النوع، وقد سلم الله تعالى عليه في العالمين، قال تعالى: ﴿وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين﴾ الصافات: 79.

ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين، والآل خاصة الشيء، قال الراغب في المفردات: الآل قيل مقلوب عن الأهل، ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة، يقال آل فلان ولا يقال: آل رجل وآل زمان كذا، أو موضع كذا، ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل، يقال آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكل، يقال: أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا، وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغر أويلا، ويستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة، فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت.

فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته، وسيدهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى (عليه السلام)، وعلى أي تقدير هو من ذرية إبراهيم وكذا آله وقد أخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم.

وقد قال الله تعالى فيما قال: ﴿أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما﴾ النساء: 54، والآية في مقام الإنكار على بني إسرائيل وذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتف بها من الآيات، ومن ذلك يظهر أن المراد من آل إبراهيم فيها غير بني إسرائيل أعني غير إسحاق ويعقوب وذرية يعقوب وهم أي ذرية يعقوب بنو إسرائيل فلم يبق لآل إبراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، وفيهم النبي وآله.

على أنا سنبين إن شاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنه داخل في آل إبراهيم بدلالة الآية.

على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: ﴿إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا﴾ الآية: آل عمران: 68، وقوله تعالى: ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا - إلى أن قال - ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم﴾ البقرة: 129.

فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، والآية ليست في مقام الحصر فلا تنافي بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحاق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسمو شأنهم وعلو مقامهم، وهي آيات متكثرة جدا لا حاجة إلى إيرادها، فإن إثبات الشيء لا يستلزم نفي ما عداه.

وكذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى: ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين﴾ الجاثية: 16، كل ذلك ظاهر.

ولا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين، ولا تفضيل غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة دنيوية أو أخروية على من دونهم من الناس، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافي بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، وهو ظاهر.

ولا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل الله النبيين على سائر العالمين وفضل بعضهم على بعض، قال تعالى: ﴿وكلا فضلنا على العالمين﴾ الأنعام: 86، وقال أيضا: ﴿ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض﴾ الإسراء: 55.

وأما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنة عمران، وقد تكرر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبي موسى حتى في موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه، وهذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم (عليها السلام) وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى (عليهما السلام) أو هما وزوجة عمران.

وأما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.

قوله تعالى: ﴿ذرية بعضها من بعض﴾ الذرية - في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثم استعملت في مطلق الأولاد وهو المعنى المراد في الآية، وهي منصوبة عطف بيان.

وفي قوله: ﴿بعضها من بعض﴾ دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتدىء وينتهي من البعض الآخر وإليه.

ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته، وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب في الأفعال الإلهية، ومنها الاصطفاء الذي هو منشأ خيرات هامة في العالم.

قوله تعالى: ﴿والله سميع عليم﴾ أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم، كما أن قوله: ذرية بعضها من بعض، بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة، فالمحصل من الكلام: أن الله اصطفى هؤلاء على العالمين، وإنما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنهم ذرية متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحق، وإنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.

بحث روائي:

في العيون، في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون هل فضل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إن الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه، فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في قوله: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم - وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض الحديث.

وفي تفسير العياشي، عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر (عليه السلام): من زعم أنه فرغ من الأمر فقد كذب لأن المشية لله في خلقه، يريد ما يشاء ويفعل ما يريد، قال الله: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم، آخرها من أولها وأولها من آخرها فإذا أخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن وكان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه.

أقول: وفيه دلالة على ما تقدم في البيان السابق من معنى قوله: ذرية بعضها من بعض الآية.

وفيه، أيضا عن الباقر (عليه السلام): أنه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم ونحن بقية تلك العترة.

أقول: قوله (عليه السلام): ونحن بقية تلك العترة، العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الذي يعتمد عليه الشيء، ومنه العترة للأولاد والأقارب الأدنين ممن مضى، وبعبارة أخرى العمود المحفوظ في العشيرة، ومنه يظهر أنه (عليه السلام) استفاد من قوله تعالى ذرية بعضها من بعض، أنها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم وآل عمران، ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهي إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء.