الآيات 1-16

عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴿1﴾ أَن جَاءهُ الْأَعْمَى ﴿2﴾ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴿3﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ﴿4﴾ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴿5﴾ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ﴿6﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ﴿7﴾ وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى ﴿8﴾ وَهُوَ يَخْشَى ﴿9﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴿10﴾ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴿11﴾ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ﴿12﴾ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ﴿13﴾ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ﴿14﴾ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴿15﴾ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴿16﴾

بيان:

وردت الروايات من طرق أهل السنة أن الآيات نزلت في قصة ابن أم مكتوم الأعمى دخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده قوم من صناديد قريش يناجيهم في أمر الإسلام فعبس النبي عنه فعاتبه الله تعالى بهذه الآيات وفي بعض الأخبار من طرق الشيعة إشارة إلى ذلك.

وفي بعض روايات الشيعة أن العابس المتولي رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخل عليه ابن أم مكتوم فعبس الرجل وقبض وجهه فنزلت الآيات: وسيوافيك تفصيل البحث عن ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

وكيف كان الأمر فغرض السورة عتاب من يقدم الأغنياء والمترفين على الضعفاء والمساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة ثم ينجر الكلام إلى الإشارة إلى هوان أمر الإنسان في خلقه وتناهيه في الحاجة إلى تدبير أمره وكفره مع ذلك بنعم ربه وتدبيره العظيم لأمره وتتخلص إلى ذكر بعثه وجزائه إنذارا والسورة مكية بلا كلام.

قوله تعالى: ﴿عبس وتولى﴾ أي بسر وقبض وجهه وأعرض.

قوله تعالى: ﴿أن جاءه الأعمى﴾ تعليل لما ذكر من العبوس بتقدير لام التعليل.

قوله تعالى: ﴿وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى﴾ حال من فاعل ﴿عبس وتولى﴾ والمراد بالتزكي التطهر بعمل صالح بعد التذكر الذي هو الاتعاظ والانتباه للاعتقاد الحق، ونفع الذكرى هو دعوتها إلى التزكي بالإيمان والعمل الصالح.

ومحصل المعنى: بسر وأعرض عن الأعمى لما جاءه والحال أنه ليس يدري لعل الأعمى الذي جاءه يتطهر بصالح العمل بعد الإيمان بسبب مجيئه وتعلمه وقد تذكر قبل أو يتذكر بسبب مجيئه واتعاظه بما يتعلم فتنفعه الذكرى فيتطهر.

وفي الآيات الأربع عتاب شديد ويزيد شدة بإتيان الآيتين الأوليين في سياق الغيبة لما فيه من الإعراض عن المشافهة والدلالة على تشديد الإنكار وإتيان الآيتين الأخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ وإلزام الحجة بسبب المواجهة بعد الإعراض والتقريع من غير واسطة.

وفي التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان أعمى فاقدا للبصر وكانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحري أن يرحم ويخص بمزيد الإقبال والتعطف لا أن ينقبض ويعرض عنه.

وقيل - بناء على كون المراد بالمعاتب هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -: أن في التعبير عنه أولا بضمير الغيبة إجلالا له لإيهام أن من صدر عنه العبوس والتولي غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لا يصدر مثله عن مثله، وثانيا بضمير الخطاب إجلالا له أيضا لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش والإقبال بعد الإعراض.

وفيه أنه لا يلائمه الخطاب في قوله بعد: ﴿أما من استغنى فأنت له تصدى﴾ إلخ والعتاب والتوبيخ فيه أشد مما في قوله: ﴿عبس وتولى﴾ إلخ ولا إيناس فيه قطعا.

قوله تعالى: ﴿أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى﴾ الغنى والاستغناء والتغني والتغاني بمعنى على ما ذكره الراغب فالمراد بمن استغنى من تلبس بالغنى ولازمه التقدم والرئاسة والعظمة في أعين الناس والاستكبار عن اتباع الحق قال تعالى: ﴿إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى﴾ العلق: 7 والتصدي التعرض للشيء بالإقبال عليه والاهتمام بأمره.

وفي الآية إلى تمام ست آيات إشارة إلى تفصيل القول في ملاك ما ذكر من العبوس والتولي فعوتب عليه ومحصله أنك تعتني وتقبل على من استغنى واستكبر عن اتباع الحق وما عليك ألا يزكى وتتلهى وتعرض عمن يجتهد في التزكي وهو يخشى.

وقوله: ﴿وما عليك ألا يزكى﴾ قيل: ﴿ما﴾ نافية والمعنى وليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض والتلهي عمن أسلم والإقبال عليه.

وقيل: ﴿ما﴾ للاستفهام الإنكاري والمعنى وأي شيء يلزمك أن لم يتطهر من الكفر والفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ.

وقيل: المعنى ولا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر والفجور وهذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله.

قوله تعالى: ﴿وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى﴾ السعي الإسراع في المشي فمعنى قوله: ﴿وأما من جاءك يسعى﴾ بحسب ما يفيده المقام: وأما من جاءك مسرعا ليتذكر ويتزكى بما يتعلم من معارف الدين.

وقوله: ﴿وهو يخشى﴾ أي يخشى الله والخشية آية التذكر بالقرآن قال تعالى: ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى﴾ طه: 3 وقال: ﴿سيذكر من يخشى﴾ الأعلى: 10.

وقوله: ﴿فأنت عنه تلهى﴾ أي تتلهى وتتشاغل بغيره وتقديم ضمير أنت في قوله: ﴿فأنت له تصدى﴾ وقوله: ﴿فأنت عنه تلهى﴾ وكذا الضميرين ﴿له﴾ و﴿عنه﴾ في الآيتين لتسجيل العتاب وتثبيته.

قوله تعالى: ﴿كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره﴾ ﴿كلا﴾ ردع عما عوتب عليه من العبوس والتولي والتصدي لمن استغنى والتلهي عمن يخشى.

والضمير في ﴿أنها تذكرة﴾ للآيات القرآنية أو للقرآن وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر والمعنى أن الآيات القرآنية أو القرآن تذكرة أي موعظة يتعظ بها من اتعظ أو مذكر يذكر حق الاعتقاد والعمل.

وقوله: ﴿فمن شاء ذكره﴾ جملة معترضة والضمير للقرآن أو ما يذكر به القرآن من المعارف، والمعنى فمن شاء ذكر القرآن أو ذكر ما يذكر به القرآن وهو الانتقال إلى ما تهدي إليه الفطرة مما تحفظه في لوحها من حق الاعتقاد والعمل.

وفي التعبير بهذا التعبير: ﴿فمن شاء ذكره﴾ تلويح إلى أن لا إكراه في الدعوة إلى التذكر فلا نفع فيها يعود إلى الداعي وإنما المنتفع بها المتذكر فليختر ما يختاره.

قوله تعالى: ﴿في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة﴾ قال في المجمع، الصحف جمع صحيفة، والعرب تسمي كل مكتوب فيه صحيفة كما تسميه كتابا رقا كان أو غيره انتهى.

و﴿في صحف﴾ خبر بعد خبر لأن وظاهره أنه مكتوب في صحف متعددة بأيدي ملائكة الوحي، وهذا يضعف القول بأن المراد بالصحف اللوح المحفوظ ولم يرد في كلامه تعالى إطلاق الصحف ولا الكتب ولا الألواح بصيغة الجمع على اللوح المحفوظ، ونظيره في الضعف القول بأن المراد بالصحف كتب الأنبياء الماضين لعدم ملاءمته لظهور قوله: ﴿بأيدي سفرة﴾ إلخ في أنه صفة لصحف.

وقوله: ﴿مكرمة﴾ أي معظمة، وقوله: ﴿مرفوعة﴾ أي قدرا عند الله، وقوله: ﴿مطهرة﴾ أي من قذارة الباطل ولغو القول والشك والتناقض قال تعالى: ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ حم السجدة: 42، وقال: ﴿إنه لقول فصل وما هو بالهزل﴾ الطارق: 14 وقال: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ البقرة: 2، وقال: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ النساء: 82.

قوله تعالى: ﴿بأيدي سفرة كرام بررة﴾ صفة بعد صفة لصحف، والسفرة هم السفراء جمع سفير بمعنى الرسول و﴿كرام﴾ صفة لهم باعتبار ذواتهم و﴿بررة﴾ صفة لهم باعتبار عملهم وهو الإحسان في الفعل.

ومعنى الآيات أن القرآن تذكرة مكتوبة في صحف متعددة معظمة مرفوعة قدرا مطهرا من كل دنس وقذارة بأيدي سفراء من الملائكة كرام على ربهم بطهارة ذواتهم بررة عنده تعالى بحسن أعمالهم.

ويظهر من الآيات أن للوحي ملائكة يتصدون لحمل الصحف وإيحاء ما فيها من القرآن فهم أعوان جبريل وتحت أمره ونسبة إلقاء الوحي إليهم لا تنافي نسبته إلى جبريل في مثل قوله: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك﴾ الشعراء: 194 وقد قال تعالى في صفته: ﴿إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين﴾ التكوير: 21 فهو مطاع من الملائكة من يصدر عن أمره ويأتي بما يريده والإيحاء الذي هو فعل أعوانه فعله كما أن فعله وفعلهم جميعا فعل الله وذلك نظير كون التوفي الذي هو فعل أعوان ملك الموت فعله، وفعله وفعلهم جميعا فعل الله تعالى، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا البحث مرارا.

وقيل: المراد بالسفرة الكتاب من الملائكة، والذي تقدم من المعنى أجلى وقيل: المراد بهم القراء يكتبونها ويقرءونها وهو كما ترى.

بحث روائي:

في المجمع، قيل: نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم وهو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي.

وذلك أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبيا وأمية بن خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقطعه كلامه وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم فنزلت الآيات.

وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين.

أقول: روى السيوطي في الدر المنثور القصة عن عائشة وأنس وابن عباس على اختلاف يسير وما أورده الطبرسي محصل الروايات.

وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه بل فيها ما يدل على أن المعنى بها غيره لأن العبوس ليس من صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين.

ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى رحمه الله.

وقد عظم الله خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال - وهو قبل نزول هذه السورة - ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ والآية واقعة في سورة ﴿ن﴾ التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول بعثته ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفروا والتلهي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا.

وقال تعالى أيضا: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين﴾ الشعراء: 215 فأمره بخفض الجناح للمؤمنين والسورة من السور المكية والآية في سياق قوله: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ النازل في أوائل الدعوة.

وكذا قوله: ﴿لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين﴾ الحجر: 88 وفي سياق الآية قوله: ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين﴾ الحجر: 94 النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصور منه (صلى الله عليه وآله وسلم) العبوس والإعراض عن المؤمنين وقد أمر باحترام إيمانهم وخفض الجناح وأن لا يمد عينيه إلى دنيا أهل الدنيا.

على أن قبح ترجيح غنى الغني - وليس ملاكا لشيء من الفضل - على كمال الفقير وصلاحه بالعبوس والإعراض عن الفقير والإقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الإنساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي.

وبهذا وما تقدمه يظهر الجواب عما قيل: إن الله سبحانه لم ينهه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلا بعده وأما قبل النهي فلا.

وذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلا في هذا الوقت تحكم ممنوع، ولو سلم فالعقل حاكم بقبحه ومعه ينافي صدوره كريم الخلق وقد عظم الله خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ذلك إذ قال: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ وأطلق القول، والخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها.

وعن الصادق (عليه السلام) على ما في المجمع، أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

وفي المجمع، وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال: مرحبا مرحبا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا، وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يفعل به.

أقول: الكلام فيه كالكلام فيما تقدمه، ومعنى قوله: حتى أنه كان يكف إلخ أنه كان يكف عن الحضور عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكثرة صنيعه (صلى الله عليه وآله وسلم) به انفعالا منه وخجلا.