الآيات 13-25

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴿13﴾ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴿14﴾ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿15﴾ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ﴿16﴾ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿17﴾ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿18﴾ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿19﴾ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿20﴾ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿21﴾ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴿22﴾ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ﴿23﴾ فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ﴿24﴾ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿25﴾

بيان:

الآيات تتضمن الإنذار بالعذاب الدنيوي الذي ابتليت به عاد وثمود بكفرهم بالرسل وجحدهم لآيات الله، وبالعذاب الأخروي الذي سيبتلى به أعداء الله من أهل الجحود الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وفيها إشارة إلى كيفية إضلالهم في الدنيا وإلى استنطاق أعضائهم في الآخرة.

قوله تعالى: ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ قال في المجمع،: الصاعقة المهلكة من كل شيء انتهى، وقال الراغب: قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله: ﴿صعق من في السموات﴾ وقوله: ﴿فأخذتهم الصاعقة﴾ والعذاب كقوله: ﴿أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ والنار كقوله: ﴿ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء﴾ وما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد، وهذه الأشياء تأثيرات منها.

وعلى ما مر تنطبق الصاعقة على عذابي عاد وثمود وهما الريح والصيحة، والتعبير بالماضي في قوله: ﴿أنذرتكم﴾ للدلالة على التحقق والوقوع.

قوله تعالى: ﴿إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلا الله﴾ إلخ ظرف للصاعقة الثانية فإن الإنذار بالصاعقة بالحقيقة إنذار بوقوعها وحلولها فالمعنى مثل حلول صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم إلخ.

ونسبة المجيء إلى الرسل وهو جمع - مع أن الذي ذكر في قصتهم رسولان هما هود وصالح - باعتبار أن الرسل دعوتهم واحدة والمبعوث منهم إلى قوم مبعوث لآخرين وكذا القوم المكذبون لأحدهم مكذبون لآخرين قال تعالى: ﴿كذبت عاد المرسلين﴾ الشعراء: 123 وقال: ﴿كذبت ثمود المرسلين﴾ الشعراء: 141، وقال: ﴿كذبت قوم لوط المرسلين﴾ الشعراء: 160 إلى غير ذلك.

وقول بعضهم: إن إطلاق الرسل وهو جمع على هود وصالح (عليهما السلام) وهما اثنان من إطلاق الجمع على ما دون الثلاثة وهو شائع، ومن هذا القبيل إرجاع ضمير الجمع في قوله: ﴿إذ جاءتهم﴾ إلى عاد وثمود.

ممنوع بما تقدم، وأما إرجاع ضمير الجمع إلى عاد وثمود فإنما هو لكون مجموع الجمعين جمعا مثلهما.

وقوله: ﴿من بين أيديهم ومن خلفهم﴾ أي من جميع الجهات فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع، وجوز أن يكون المراد به الماضي والمستقبل فقوله: ﴿جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم﴾ كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطرق الممكنة خلوة وجلوة وفرادى ومجتمعين بالتبشير والإنذار ولذلك فسر مجيئهم كذلك بعد بقوله: ﴿أن لا تعبدوا إلا الله﴾ وهو التوحيد.

وقوله: ﴿قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة﴾ رد منهم لرسالتهم بأن الله لو شاء إرسال رسول إلينا لأرسل من الملائكة، وقد تقدم كرارا معنى قولهم هذا وأنه مبني على إنكارهم نبوة البشر.

وقوله: ﴿فإنا بما أرسلتم به كافرون﴾ تفريع على النفي المفهوم من الجملة السابقة أي فإذا لم يشأ ولم يرسل فإنا بما أرسلتم به وهو التوحيد كافرون.

قوله تعالى: ﴿فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق﴾ إلخ رجوع إلى تفصيل حال من كل الفريقين على حدته، من كفرهم ووبال ذلك، وقوله: ﴿بغير الحق﴾ قيد توضيحي للاستكبار في الأرض فإنه بغير الحق دائما، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات﴾ إلخ فسر الصرصر بالريح الشديدة السموم، وبالريح الشديدة البرد، وبالريح الشديدة الصوت وتلازم شدة الهبوب، والنحسات بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس ينحس نحسا خلاف سعد فالأيام النحسات الأيام المشئومات.

وقيل: أيام نحسات أي ذوات الغبار والتراب لا يرى فيها بعضهم بعضا، ويؤيده قوله في سورة الأحقاف: ﴿فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم﴾ الأحقاف: 24.

وقوله: ﴿وهم لا ينصرون﴾ أي لا منج ينجيهم ولا شفيع يشفع لهم.

والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ إلخ المراد بهدايتهم إراءتهم الطريق ودلالتهم على الحق ببيان حق الاعتقاد والعمل لهم، والمراد بالاستحباب الإيثار والاختيار، ولعله بالتضمين ولذا عدي إلى المفعول الثاني بعلى والمراد بالعمى الضلال استعارة، وفي مقابله الهدى له إيماء إلى أن الهدى بصر كما أن الضلالة عمى، والهون مصدر بمعنى الذل وتوصيف العذاب به للمبالغة أو بحذف ذي والتقدير صاعقة العذاب ذي الهون.

والمعنى: وأما قوم ثمود فدللناهم على طريق الحق وعرفناهم الهدى بتمييزه من الضلال فاختاروا الضلال الذي هو عمى على الهدى الذي هو بصر فأخذتهم صيحة العذاب ذي المذلة - أو أخذهم العذاب بناء على كون الصاعقة بمعنى العذاب والإضافة بيانية - بما كانوا يكسبون.

قوله تعالى: ﴿ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ ضم التقوى إلى الإيمان معبرا عن التقوى بقوله: ﴿وكانوا يتقون﴾ الدال على الاستمرار للدلالة على جمعهم بين الإيمان والعمل الصالح وذلك هو السبب لنجاتهم من عذاب الاستئصال على ما وعده الله بقوله: ﴿وكان حقا علينا نصر المؤمنين﴾ الروم: 47.

والظاهر أن الآية متعلقة بالقصتين جميعا متممة لهما وإن كان ظاهر المفسرين تعلقها بالقصة الثانية.

قوله تعالى: ﴿ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون﴾ الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

كذا قال الراغب، و﴿يوزعون﴾ من الوزع وهو حبس أول القوم ليلحق بهم آخرهم فيجتمعوا.

قيل: المراد بحشرهم إلى النار إخراجهم إلى المحشر للسؤال والحساب، وجعل النار غاية لحشرهم لأن عاقبتهم إليها، والدليل عليه ما ذكره من أمر شهادة الأعضاء فإنها في الموقف قبل الأمر بهم إلى النار.

وقيل: المراد حشرهم إلى النار نفسها ومن الممكن أن يستشهد عليهم مرتين مرة في الموقف ومرة على شفير جهنم وهو كما ترى.

والمراد بأعداء الله - على ما قيل - المكذبون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مشركي قومه لا مطلق الكفار والدليل عليه قوله الآتي: ﴿وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم﴾ الآية.

قوله تعالى: ﴿حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون﴾ ﴿ما﴾ في ﴿إذا ما جاءوها﴾ زائد للتأكيد والضمير للنار.

وشهادة الأعضاء أو القوى يوم القيامة ذكرها وإخبارها ما تحملته في الدنيا من معصية صاحبها فهي شهادة أداء لما تحملته، ولو لا التحمل في الدنيا حين العمل كما لو جعل الله لها شعورا ونطقا يوم القيامة فعلمت ثم أخبرت بما عملته أو أوجد الله عندها صوتا يفيد معنى الإخبار من غير شعور منها به لم يصدق عليه الشهادة، ولا تمت بذلك على العبد المنكر حجة وهو ظاهر.

وبذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن الله يخلق يوم القيامة للأعضاء علما وقدرة على الكلام فتخبر بمعاصي صاحبيها وهو شهادتها وقول بعضهم: إنه يخلق عندها أصواتا في صورة كلام مدلوله الشهادة، وكذا قول بعضهم: إن معنى الشهادة دلالة الحال على صدور معصية كذائية منهم.

وظاهر الآية أن شهادة السمع والبصر أداؤهما ما تحملاه وإن لم يكن معصية مأتيا بها بواسطتهما كشهادة السمع أنه سمع آيات الله تتلى عليه فأعرض عنها صاحبه أو أنه سمع صاحبه يتكلم بكلمة الكفر، وشهادة البصر أنه رأى الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى فأعرض عنها صاحبه أو أنه رأى صاحبه يستمع إلى الغيبة أو سائر ما يحرم الإصغاء إليه فتكون الآية على حد قوله تعالى: ﴿إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا﴾ الإسراء: 36.

وعلى هذا يختلف السمع والأبصار والجلود فيما شهدت عليه فالسمع والأبصار تشهد على معصية العبد وإن لم تكن بسببهما والجلود تشهد على المعصية التي كانت هي آلات لها بالمباشرة، وهذا الفرق هو السبب لتخصيصهم الجلود بالخطاب في قولهم: ﴿لم شهدتم علينا﴾ على ما سيجيء.

والمراد بالجلود على ظاهر إطلاق الآية مطلق الجلود وشهادتها على أنواع المعاصي التي تتم بالجلود من التمتعات المحرمة كالزنا ونحوه، ويمكن حينئذ أن تعمم الجلود بحيث تشمل شهادتها ما شهدت الأيدي والأرجل المذكورة في قوله: ﴿اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم﴾ يس: 65 على بعد.

وقيل: المراد بالجلود الفروج وقد كني بها عنها تأدبا.

قوله تعالى: ﴿وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا﴾ اعتراض وعتاب منهم لجلودهم في شهادتها عليهم، وقيل: الاستفهام للتعجب فهو سؤال عن السبب لرفع التعجب وإنما خصوها بالسؤال دون سمعهم وأبصارهم مع اشتراكها في الشهادة لأن الجلود شهدت على ما كانت هي بنفسها أسبابا وآلات مباشرة له بخلاف السمع والأبصار فإنها كسائر الشهداء تشهد بما ارتكبه غيرها.

وقيل: تخصيص الجلود بالذكر تقريع لهم وزيادة تشنيع وفضاحة وخاصة لو كان المراد بالجلود الفروج وقيل غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء﴾ إلخ إرجاع ضمير أولي العقل إلى الجوارح لمكان نسبة الشهادة والنطق إليها وذلك من شئون أولي العقل.

والمتيقن من معنى النطق إذا استعمل على الحقيقة من غير تجوز هو إظهار ما في الضمير من طريق التكلم فيتوقف على علم وكشفه لغيره، قال الراغب: ولا يكاد يستعمل النطق في غير الإنسان إلا تبعا وبنوع من التشبيه وظاهر سياق الآيات وما فيها من ألفاظ القول والتكلم والشهادة والنطق أن المراد بالنطق ما هو حقيقة معناه.

فشهادة الأعضاء على المجرمين كانت نطقا وتكلما حقيقة عن علم تحملته سابقا بدليل قولها: ﴿أنطقنا الله﴾.

ثم إن قولها: ﴿أنطقنا الله﴾ جوابا عن قول المجرمين: ﴿لم شهدتم علينا﴾ إراءة منها للسبب الذي أوجب نطقها وكشف عن العلم المدخر عندها المكنون في ضميرها فهي ملجؤه إلى التكلم والنطق، ولا يضر ذلك نفوذ شهادتها وتمام الحجة بذلك فإنها إنما ألجئت إلى الكشف عما في ضميرها لا على الستر عليه والإخبار بخلافه كذبا وزورا حتى ينافي جواز الشهادة وتمام الحجة.

وقوله: ﴿الذي أنطق كل شيء﴾ توصيف لله سبحانه وإشارة إلى أن النطق ليس مختصا بالأعضاء حتى تختص هي بالسؤال بل هو عام شامل لكل شيء والسبب الموجب له هو الله سبحانه.

وقوله: ﴿وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون﴾ من تتمة الكلام السابق أو هو من كلامه، وهو احتجاج على علمه بأعمالهم وقد أنطق الجوارح بما علم.

يقول: إن وجودكم يبتدىء منه تعالى وينتهي إليه تعالى فعند ما تظهرون من كتم العدم - وهو خلقكم أول مرة - يعطيكم الوجود ويملككم الصفات والأفعال فتنسب إليكم ثم ترجعون وتنتهون إليه فيرجع ما عندكم من ظاهر الملك الموهوب إليه فلا يبقى ملك إلا وهو لله سبحانه.

فهو سبحانه المالك لجميع ما عندكم أولا وآخرا فما عندكم من شيء في أول وجودكم هو الذي أعطاكموه وملكه لكم وهو أعلم بما أعطى وأودع، وما عندكم من شيء حينما ترجعون إليه هو الذي يقبضه منكم إليه ويملكه فكيف لا يعلمه، وانكشافه له سبحانه حينما يرجع إليه إنطاقه لكم وشهادتكم على أنفسكم عنده.

وبما مر من البيان يظهر وجه تقييد قوله: ﴿وهو خلقكم﴾ بقوله: ﴿أول مرة﴾ فالمراد به أول وجودهم.

ولهم في قوله: ﴿قالوا أنطقنا الله﴾ في معنى الإنطاق نظائر ما تقدم في قوله: ﴿شهد عليهم﴾ من الأقوال فمن قائل: إن الله يخلق لهم يومئذ العلم والقدرة على النطق فينطقون، ومن قائل: إنه يخلق عند الأعضاء أصواتا شبيهة بنطق الناطقين وهو المراد بنطقهم، ومن قائل: إن المراد بالنطق دلالة ظاهر الحال على ذلك.

وكذا في عموم قوله: ﴿أنطق كل شيء﴾ فقيل: هو مخصص بكل حي نطق إذ ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع ومنه قوله تعالى في الريح المرسلة إلى عاد: ﴿تدمر كل شيء﴾ الأحقاف: 25.

وقيل: النطق في ﴿أنطقنا﴾ بمعناه الحقيقي وفي قوله: ﴿أنطق كل شيء﴾ بمعنى الدلالة فيبقى الإطلاق على حاله.

ويرد عليهما أن تخصيص الآية أو حملها على المعنى المجازي مبني على تسلم كون غير ما نعده من الأشياء حيا ناطقا كالإنسان والحيوان والملك والجن فاقدا للعلم والنطق على ما نراه من حالها.

لكن لا دليل على فقدان الأشياء غير ما استثنيناه للشعور والإرادة سوى أنا في حجاب من بطون ذواتها لا طريق لنا إلى الاطلاع على حقيقة حالها، والآيات القرآنية وخاصة الآيات المتعرضة لشئون يوم القيامة ظاهرة في عموم العلم.

بحث إجمالي قرآني كررنا الإشارة في الأبحاث المتقدمة إلى أن الظاهر من كلامه تعالى أن العلم صار في الموجودات عامة كما تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾ الإسراء: 44 فإن قوله: ﴿ولكن لا تفقهون﴾ نعم الدليل على كون التسبيح منهم عن علم وإرادة لا بلسان الحال.

ومن هذا القبيل قوله: ﴿فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين﴾ وقد تقدم تفسيره في السورة.

ومن هذا القبيل قوله: ﴿ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين﴾ الأحقاف: 6 فالمراد بمن لا يستجيب الأصنام فقط أو هي وغيرها، وقوله: ﴿يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها﴾ الزلزال: 5.

ومن هذا القبيل الآيات الدالة على شهادة الأعضاء ونطقها وتكليمها لله والسؤال منها وخاصة ما ورد في ذيل الآيات الماضية آنفا من قوله: ﴿أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء﴾ الآية.

لا يقال: لو كان غير الإنسان والحيوان كالجماد والنبات ذا شعور وإرادة لبانت آثاره وظهر منها ما يظهر من الإنسان والحيوان من الأعمال العلمية والأفعال والانفعالات الشعورية.

لأنه يقال: لا دليل على كون العلم ذا سنخ واحد حتى تتشابه الآثار المترشحة منه فمن الممكن أن يكون ذا مراتب مختلفة تختلف باختلافها آثارها.

على أن الآثار والأعمال العجيبة المتقنة المشهودة من النبات وسائر الأنواع الطبيعية في عالمنا هذا لا تقصر في إتقانها ونظمها وترتيبها عن آثار الأحياء كالإنسان والحيوان.

بحث إجمالي فلسفي:

حقق في مباحث العلم من الفلسفة أن العلم وهو حضور شيء لشيء يساوق الوجود المجرد لكونه ما له من فعلية الكمال حاضرا عنده من غير قوة فكل وجود مجرد يمكنه أن يوجد حاضرا لمجرد غيره أو يوجد له مجرد غيره وما أمكن لمجرد بالإمكان العام فهو له بالضرورة.

فكل عالم فهو مجرد وكذا كل معلوم وينعكسان بعكس النقيض إلى أن المادة وما تألف منها ليس بعالم ولا معلوم.

فالعلم يساوق الوجود المجرد، والوجودات المادية لا يتعلق بها علم ولا لها علم بشيء لكن لها، على كونها مادية متغيرة متحركة لا تستقر على حال، ثبوتا من غير تغير ولا تحول لا ينقلب عما وقع عليه.

فلها من هذه الجهة تجرد والعلم سار فيها كما هو سار في المجردات المحضة العقلية والمثالية فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم﴾ إلخ لا شك أن الله سبحانه خالق كل شيء لا موجد غيره فلا يحول بين خلقه وبينه شيء ولا يحجب خلقه من حاجب فهو تعالى مع كل شيء أينما كان وكيفما كان قال تعالى: ﴿إن الله على كل شيء شهيد:﴾ الحج: 17 وقال: ﴿وكان الله على كل شيء رقيبا﴾ الأحزاب: 52.

فالإنسان أينما كان كان الله معه، وأي عمل عمله كان الله مع عمله، وأي عضو من أعضائه استعمله وأي سبب أو أداة أو طريق اتخذه لعمله كان مع ذلك العضو والسبب والأداة والطريق قال تعالى: ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ الحديد: 4، وقال: ﴿أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت﴾ الرعد: 33، وقال: ﴿إن ربك لبالمرصاد﴾ الفجر: 14.

ومن هنا يستنتج أن الإنسان - وهو جار في عمله - واقع بين مراصد كثيرة يرصده من كل منها ربه ويرقبه ويشهده فمرتكب المعصية وهو متوغل في سيئته غافل عنه تعالى في جهل عظيم بمقام ربه واستهانة به سبحانه وهو يرصده ويرقبه.

وهذه الحقيقة هي التي تشير إليه الآية أعني قوله: ﴿وما كنتم تستترون﴾ إلخ على ما يعطيه السياق.

فقوله: ﴿وما كنتم تستترون﴾ نفي لاستتارهم وهم في المعاصي قبلا وهم في الدنيا وقوله: ﴿أن يشهد﴾ إلخ منصوب بنزع الخافض والتقدير من أن يشهد إلخ.

وقوله: ﴿ولكن ظننتم أن الله لا يعلم﴾ استدراك في معنى الإضراب عن محذوف يدل عليه صدر الآية، والتقدير ولم تظنوا أنها لا تعلم أعمالكم ولكن ظننتم إلخ والآية تقريع وتوبيخ للمشركين أو لمطلق المجرمين يوجه إليهم يوم القيامة من قبله تعالى.

ومحصل المعنى وما كنتم تستخفون في الدنيا عند المعاصي من شهادة أعضائكم التي تستعملونها في معصية الله ولم يكن ذلك لظنكم أنها لا إدراك فيها لعملكم بل لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أي لم تستهينوا عند المعصية بشهادة أعضائكم وإنما استهنتم بشهادتنا.

فالاستدراك ومعنى الإضراب في الآية نظير ما في قوله تعالى: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ الأنفال: 17، وقوله: ﴿وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ البقرة: 57.

وقوله: ﴿كثيرا مما تعملون﴾ ولم يقل: لا يعلم ما تعملون ولعل ذلك لكونهم معتقدين بالله وبصفاته العليا التي منها العلم فهم يعتقدون فيه العلم في الجملة لكن حالهم في المعاصي حال من لا يرى علمه بكثير من أعماله.

ويستفاد من الآية أن شهادة الشهود شهادته تعالى بوجه قال تعالى: ﴿ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهود إذ تفيضون فيه﴾ يونس: 61.

ولهم في توجيه معنى الآية أقوال أخر لا يساعد عليها السياق ولا تخلو من تكلف أضربنا عن التعرض لها.

قوله تعالى: ﴿وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين﴾ الإرداء من الردى بمعنى الهلاك، و﴿ذلكم ظنكم﴾ مبتدأ وخبر و﴿أرداكم﴾ خبر بعد خبر، ويمكن أن يكون ﴿ظنكم﴾ بدلا من ذلكم.

ومعنى الآية على الأول وذلكم الظن الذي ذكر ظن ظننتموه لا يغني من الحق شيئا والعلم والشهادة على حالها أهلككم ذلك الظن فأصبحتم من الخاسرين.

وعلى الثاني وظنكم الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي وأدى بكم إلى الكفر فأصبحتم من الخاسرين.

قوله تعالى: ﴿فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين﴾ في المفردات،: الثواء الإقامة مع الاستقرار.

وفي المجمع، الاستعتاب طلب العتبى وهي الرضا وهو الاسترضاء، والإعتاب الإرضاء، وأصل الإعتاب عند العرب استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ ثم استعير فيما يستعطف به البعض بعضا لإعادته ما كان من الألفة.

ومعنى الآية فإن يصبروا فالنار مأواهم ومستقرهم وإن يطلبوا الرضا ويعتذروا لينجوا من العذاب فليسوا ممن يرضى عنهم ويقبل أعتابهم ومعذرتهم فالآية في معنى قوله: ﴿اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم﴾ الطور: 16.

قوله تعالى: ﴿وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ إلى آخر الآية.

أصل التقييض - كما في المجمع - التبديل، والقرناء جمع قرين وهو معروف.

فقوله: ﴿وقيضنا لهم قرناء﴾ إشارة إلى أنهم لو آمنوا واتقوا لأيدهم الله بمن يسددهم ويهديهم كما قال: ﴿أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه﴾ المجادلة: 22 لكنهم كفروا وفسقوا فبدل الله لهم قرناء من الشياطين يقارنونهم ويلازمونهم، وإنما يفعل ذلك بهم مجازاة لكفرهم وفسوقهم.

وقيل: المعنى بدلناهم قرناء سوء من الجن والإنس مكان قرناء الصدق الذين أمروا بمقارنتهم فلم يفعلوا، ولعل ما قدمناه أحسن.

وقوله: ﴿فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ لعل المراد التمتعات المادية التي هم مكبون عليها في الحال وما تعلقت به آمالهم وأمانيهم في المستقبل.

وقيل: ما بين أيديهم ما قدموه من أعمالهم السيئة حتى ارتكبوها، وما خلفهم ما سنوه لغيرهم ممن يأتي بعدهم، ويمكن إدراج هذا الوجه في سابقه.

وقيل: ما بين أيديهم هو ما يحضرهم من أمر الدنيا فيؤثرونه ويقبلون إليه ويعملون له، وما خلفهم هو أمر الآخرة حيث يدعوهم قرناؤهم إلى أنه لا بعث ولا نشور ولا حساب ولا جنة ولا نار، وهو وجه بعيد إذ لا يقال لمن ينكر الآخرة أنها زينت له.

وقوله: ﴿وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس﴾ أي ثبت ووجب عليهم كلمة العذاب حال كونهم في أمم مماثلين لهم ماضين قبلهم من الجن والإنس وكلمة العذاب قوله تعالى: ﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ البقرة: 39 كقوله: ﴿لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾ ص: 85.

وقوله: ﴿إنهم كانوا خاسرين﴾ تعليل لوجوب كلمة العذاب عليهم أو لجميع ما تقدم.

ويظهر من الآية أن حكم الموت جار في الجن مثل الإنس.

بحث روائي:

في الفقيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابن الحنفية: قال الله تعالى: ﴿وما كنتم تستترون - أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم﴾ يعني بالجلود الفروج.

وفي تفسير القمي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية: يعني بالجلود الفروج والأفخاذ.

وفي المجمع، قال الصادق (عليه السلام): ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة إن الله تعالى يقول: ﴿وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم﴾ الآية، ثم قال: إن الله عند ظن عبده إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وفي تفسير القمي، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس من عبد يظن بالله عز وجل خيرا إلا كان عند ظنه به وذلك قوله عز وجل: ﴿وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم﴾ الآية.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد والطبراني وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله عز وجل قال الله: ﴿وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم - أرداكم فأصبحتم من الخاسرين﴾.

أقول: وقد روي في سبب نزول بعض الآيات السابقة ما لا يلائم سياقها تلك الملاءمة ولذلك أغمضنا عن إيراده.