الآيات 17-40

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ﴿17﴾ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴿18﴾ وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴿19﴾ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴿20﴾ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿21﴾ لِلْطَّاغِينَ مَآبًا ﴿22﴾ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴿23﴾ لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ﴿24﴾ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ﴿25﴾ جَزَاء وِفَاقًا ﴿26﴾ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ﴿27﴾ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ﴿28﴾ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ﴿29﴾ فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴿30﴾ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴿31﴾ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴿32﴾ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ﴿33﴾ وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴿34﴾ لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ﴿35﴾ جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا ﴿36﴾ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ﴿37﴾ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴿38﴾ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ﴿39﴾ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴿40﴾

بيان:

تصف الآيات يوم الفصل الذي أخبر به إجمالا بقوله: ﴿كلا سيعلمون﴾ ثم تصف ما يجري فيه على الطاغين والمتقين، وتختتم بكلمة في الإنذار وهي كالنتيجة.

قوله تعالى: ﴿إن يوم الفصل كان ميقاتا﴾ قال في المجمع، الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الأمور وهو من الوقت كما أن الميعاد من الوعد والمقدار من القدر، انتهى.

شروع في وصف ما تضمنه النبأ العظيم الذي أخبر بوقوعه وهددهم به في قوله: ﴿كلا سيعلمون﴾ ثم أقام الحجة عليه بقوله: ﴿ألم نجعل الأرض مهادا﴾ إلخ، وقد سماه يوم الفصل ونبه به على أنه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كل طائفة ما يستحقه بعمله فهو ميقات وحد مضروب لفصل القضاء بينهم والتعبير بلفظ ﴿كان﴾ للدلالة على ثبوته وتعينه في العلم الإلهي على ما ينطق به الحجة السابقة الذكر، ولذا أكد الجملة بإن.

والمعنى: أن يوم فصل القضاء الذي نبأه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات والأرض وحكم فيها النظام الجاري حدا مضروبا ينتهي إليه هذا العالم فإنه تعالى كان يعلم أن هذه النشأة التي أنشأها لا تتم إلا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم.

قوله تعالى: ﴿يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا﴾ قد تقدم الكلام في معنى نفخ الصور كرارا، والأفواج جمع فوج وهي الجماعة المارة المسرعة على ما ذكره الراغب.

وفي قوله: ﴿فتأتون أفواجا﴾ جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاء لحق الوعيد الذي يتضمنه قوله: ﴿كلا سيعلمون﴾ وكان الآية ناظرة إلى قوله تعالى: ﴿يوم ندعوا كل أناس بإمامهم﴾ الإسراء: 71.

قوله تعالى: ﴿وفتحت السماء فكانت أبوابا﴾ فاتصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة.

وقيل: التقدير فكانت ذات أبواب، وقيل: صار فيها طرق ولم يكن كذلك من قبل، ولا يخلو الوجهان من تحكم فليتدبر.

قوله تعالى: ﴿وسيرت الجبال فكانت سرابا﴾ السراب هو الموهوم من الماء اللامع في المفاوز ويطلق على كل ما يتوهم ذا حقيقة ولا حقيقة له على طريق الاستعارة.

ولعل المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني.

بيان ذلك: أن تسيير الجبال ودكها ينتهي بالطبع إلى تفرق أجزائها وزوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة وآثارها إذ قال: ﴿وتسير الجبال سيرا﴾ الطور: 10 وقال: ﴿وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة﴾ الحاقة: 14، وقال: ﴿وكانت الجبال كثيبا مهيلا﴾ المزمل 14، وقال: ﴿وتكون الجبال كالعهن المنفوش﴾ القارعة: 5، وقال: ﴿وبست الجبال بسا﴾ الواقعة: 5، وقال: ﴿وإذا الجبال نسفت﴾ المرسلات: 10.

فتسيير الجبال ودكها ينتهي بها إلى بسها ونسفها وصيرورتها كثيبا مهيلا وكالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى وأما صيرورتها سرابا بمعنى ما يتوهم ماء لامعا فلا نسبة بين التسيير وبين السراب بهذا المعنى.

نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها وبطلان كينونتها وحقيقتها بمعنى كونها جبلا فالجبال الراسيات التي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قوية لا تحركه العواصف تتبدل بالتسيير سرابا باطلا لا حقيقة له، ونظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم وقطع دابرهم، ﴿فجعلناهم أحاديث﴾ سبأ: 19 وقوله: ﴿فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث﴾ المؤمنون: 44، وقوله في الأصنام ﴿إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم﴾ النجم: 23.

فالآية بوجه كقوله تعالى ﴿وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب﴾ النمل: 88 - بناء على كونه ناظرا إلى صفة زلزلة الساعة -.

قوله تعالى: ﴿إن جهنم كانت مرصادا﴾ قال في المفردات،: الرصد الاستعداد للترقب - إلى أن قال - والمرصد موضع الرصد قال تعالى: ﴿واقعدوا لهم كل مرصد﴾ والمرصاد نحوه لكن يقال للمكان الذي اختص بالرصد قال تعالى: ﴿إن جهنم كانت مرصادا﴾ تنبيها على أن عليها مجاز الناس، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿وإن منكم إلا واردها﴾.

قوله تعالى: ﴿للطاغين مآبا﴾ الطاغون الملتبسون بالطغيان وهو الخروج عن الحد، والمآب اسم مكان من الأوب بمعنى الرجوع، والعناية في عدها مآبا للطاغين أنهم هيئوها مأوى لأنفسهم وهم في الدنيا ثم إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا ورجعوا إليها.

قوله تعالى: ﴿لابثين فيها أحقابا﴾ الأحقاب الأزمنة الكثيرة والدهور الطويلة من غير تحديد.

وهو جمع اختلفوا في واحده فقيل: واحده حقب بالضم فالسكون أو بضمتين، وقد وقع في قوله تعالى: ﴿أو أمضي حقبا﴾ الكهف: 60، وقيل: حقب بالفتح فالسكون وواحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب: والحق أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة.

وحد بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع وثمانين سنة وزاد آخرون أن السنة منها ثلاثمائة وستون يوما كل يوم يعدل ألف سنة، وعن بعضهم أن الحقب أربعون سنة وعن آخرين أنه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك ولا دليل من الكتاب يدل على شيء من هذه التحديدات ولم يثبت من اللغة شيء منها.

وظاهر الآية أن المراد بالطاغين المعاندون من الكفار ويؤيده قوله ذيلا: ﴿إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا﴾.

وقد فسروا ﴿أحقابا﴾ في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حال كون الطاغين لابثين في جهنم حقبا بعد حقب بلا تحديد ولا نهاية فلا تنافي الآية ما نص عليه القرآن من خلود الكفار في النار.

وقيل: إن قوله: ﴿لا يذوقون فيها﴾ إلخ صفة ﴿أحقابا﴾ والمعنى لابثين فيها أحقابا هي على هذه الصفة وهي أنهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، ثم يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية.

وهو حسن لو ساعد السياق.

قوله تعالى: ﴿لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا﴾ ظاهر المقابلة بين البرد والشراب أن المراد بالبرد مطلق ما يتبرد به غير الشراب كالظل الذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذوق مطلق النيل والمس.

قوله تعالى: ﴿إلا حميما وغساقا﴾ الحميم الماء الحار شديد الحر، والغساق صديد أهل النار.

قوله تعالى: ﴿جزاء وفاقا - إلى قوله - كتابا﴾ المصدر بمعنى اسم الفاعل والمعنى يجزون جزاء موافقا لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاء ذا وفاق أو إطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل.

وقوله: ﴿إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا﴾ أي تكذيبا عجيبا يصرون عليه، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم، وذلك أنهم لم يرجوا الحساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة وكذبوا بالآيات الدالة عليها فأنكروا التوحيد والنبوة وتعدوا في أعمالهم طور العبودية فنسوا الله تعالى فنسيهم وحرم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلا الشقاء ولا يجدون فيها إلا ما يكرهون، ولا يواجهون إلا ما يتعذبون به وهو قوله: ﴿فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا﴾.

وفي الآية أعني قوله: ﴿جزاء وفاقا﴾ دلالة على المطابقة التامة بين الجزاء والعمل فالإنسان لا يريد بعمله إلا الجزاء الذي بإزائه والتلبس بالجزاء تلبس بالعمل بالحقيقة قال تعالى: ﴿يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون﴾ التحريم: 7.

وقوله: ﴿وكل شيء أحصيناه كتابا﴾ أي كل شيء ومنه الأعمال ضبطناه وبيناه في كتاب جليل القدر فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وكل شيء أحصيناه في إمام مبين﴾ يس: 13.

أو المراد وكل شيء حفظناه حال كونه مكتوبا أي في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال، وجوز أن يكون الإحصاء بمعنى الكتابة أو الكتاب بمعنى الإحصاء فإن الإحصاء والكتابة يتشاركان في معنى الضبط والمعنى كل شيء أحصيناه إحصاء أو كل شيء كتبناه كتابا.

والآية على أي حال متمم للتعليل السابق، والمعنى الجزاء موافق لأعمالهم لأنهم كانوا على حال كذا وكذا وقد حفظناها عليهم فجزيناهم بها جزاء وفاقا.

قوله تعالى: ﴿فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا﴾ تفريع على ما تقدم من تفصيل عذابهم مسوق لإيئاسهم من أن يرجو نجاة من الشقوة وراحة ينالونها.

والالتفات إلى خطابهم بقوله: ﴿فذوقوا﴾ تقدير لحضورهم ليخاطبوا بالتوبيخ والتقريع بلا واسطة.

والمراد بقوله: ﴿فلن نزيدكم إلا عذابا﴾ أن ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر فهو عذاب بعد عذاب وعذاب على عذاب فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم فاقنطوا من أن تنالوا شيئا مما تطلبون وتحبون.

والآية لا تخلو من ظهور في كون المراد بقوله: ﴿لابثين فيها أحقابا﴾ الخلود دون الانقطاع.

قوله تعالى: ﴿إن للمتقين مفازا - إلى قوله - كذابا﴾ الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة - على ما قاله الراغب - ففيه معنى النجاة والتخلص من الشر والحصول على الخير، والمفاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الفوز والآية تحتمل الوجهين جميعا.

وقوله: ﴿حدائق وأعنابا﴾ الحدائق جمع حديقة وهي البستان المحوط، والأعناب جمع عنب وهو ثمر شجرة الكرم وربما يطلق على نفس الشجرة.

وقوله: ﴿وكواعب﴾ جمع كاعب وهي الفتاة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير، والترائب جمع ترب وهي المماثلة لغيرها من اللذات.

وقوله: ﴿وكأسا دهاقا﴾ أي ممتلئة شرابا مصدر بمعنى اسم الفاعل.

وقوله: ﴿لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا﴾ أي لا يسمعون في الجنة لغوا من القول لا يترتب عليه أثر مطلوب ولا تكذيبا من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حق له أثره المطلوب وصدق مطابق للواقع.

قوله تعالى: ﴿جزاء من ربك عطاء حسابا﴾ أي فعل بالمتقين ما فعل حال كونه جزاء من ربك عطية محسوبة فقوله: ﴿جزاء﴾ حال وكذا ﴿عطاء﴾ و﴿حسابا﴾ بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء، ويحتمل أن يكون عطاء تمييزا أو مفعولا مطلقا.

قيل: إضافة الجزاء إلى الرب مضافا إلى ضميره (صلى الله عليه وآله وسلم) تشريف له، ولم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزها منه تعالى فليس يغشاهم شر إلا من عند أنفسهم قال تعالى: ﴿ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد﴾ الأنفال: 51.

ووقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين والمتقين معا لتثبيت ما يلوح إليه يوم الفصل الواقع في أول الكلام.

قوله تعالى: ﴿رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن﴾ بيان لقوله: ﴿ربك﴾ أريد به أن ربوبيته تعالى عامة لكل شيء وأن الرب الذي يتخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربا ويدعو إليه رب كل شيء لا كما كان يقول المشركون: إن لكل طائفة من الموجودات ربا والله سبحانه رب الأرباب أو كما كان يقول بعضهم: أنه رب السماء.

وفي توصيف الرب بالرحمن - صيغة مبالغة من الرحمة - إشارة إلى سعة رحمته وأنها سمة ربوبية لا يحرم منها شيء إلا أن يمتنع منها شيء بنفسه لقصوره وسوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنهم حرموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية.

قوله تعالى: ﴿لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا﴾ وقوع صدر الآية في سياق قوله: ﴿رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن﴾ - وشأن الربوبية هو التدبير وشأن الرحمانية بسط الرحمة - دليل على أن المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كان يقال: لم فعلت هذا؟ ولم لم تفعل كذا؟ كما يسأل الفاعل منا عن فعله فتكون الجملة ﴿لا يملكون منه خطابا﴾ في معنى قوله تعالى: ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾ الأنبياء: 23 وقد تقدم الكلام في معنى الآية.

لكن وقوع قوله: ﴿يوم يقوم الروح والملائكة صفا﴾ بعد قوله: ﴿لا يملكون منه خطابا﴾ الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافا إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين والمتقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي ويفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكن الملائكة - وهم ممن لا يملكون منه خطابا - منزهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى وقد قال فيهم: ﴿عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ الأنبياء: 27 وكذلك الروح الذي هو كلمته وقوله، وقوله حق، وهو تعالى الحق المبين والحق لا يعارض الحق ولا يناقضه.

ومن هنا يظهر أن المراد بالخطاب الذي لا يملكونه هو الشفاعة وما يجري مجراها من وسائل التخلص من الشر كالعدل والبيع والخلة والدعاء والسؤال قال تعالى: ﴿من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة﴾ البقرة: 254، وقال: ﴿ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة﴾ البقرة: 123، وقال: ﴿يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه﴾ هود: 105.

وبالجملة قوله: ﴿لا يملكون منه خطابا﴾ ضمير الفاعل في ﴿لا يملكون﴾ لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة والروح والإنس والجن كما هو المناسب للسياق الحاكي عن ظهور العظمة والكبرياء دون خصوص الملائكة والروح لعدم سبق الذكر ودون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل، والمراد بالخطاب الشفاعة وما يجري مجراها كما تقدم.

وقوله: ﴿يوم يقوم الروح والملائكة صفا﴾ ظرف لقوله: ﴿لا يملكون﴾ وقيل: لقوله: ﴿لا يتكلمون﴾ وهو بعيد مع صلاحية ظرفيته لما سبقه.

والمراد بالروح المخلوق الأمري الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿قل الروح من أمر ربي﴾ الإسراء: 85.

وقيل: المراد به أشراف الملائكة، وقيل حفظة الملائكة وقيل: ملك موكل على الأرواح.

ولا دليل على شيء من هذه الأقوال.

وقيل: المراد به جبريل، وقيل: أرواح الناس وقيامها مع الملائكة صفا إنما هو بين النفختين قبل أن تلج الأجساد، وقيل: القرآن والمراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به وشقاوة الكافرين.

ويدفعها أن هذه الثلاثة وإن أطلق على كل منها الروح في كلامه تعالى لكنه مع التقييد كقوله: ﴿ونفخت فيه من روحي﴾ الحجر: 29، وقوله: ﴿نزل به الروح الأمين﴾ الشعراء: 193، وقوله: ﴿قل نزله روح القدس﴾ النحل: 102، وقوله: ﴿فأرسلنا إليها روحنا﴾ مريم: 17، وقوله: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا﴾ الشورى: 52 والروح في الآية التي نحن فيها مطلق، على أن في القولين الأخيرين تحكما ظاهرا.

و﴿صفا﴾ حال من الروح والملائكة وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي حال كونهم صافين، وربما استفيد من مقابلة الروح للملائكة أن الروح وحده صف والملائكة جميعا صف.

وقوله: ﴿لا يتكلمون﴾ بيان لقوله: ﴿لا يملكون منه خطابا﴾ وضمير الفاعل لأهل الجمع من الروح والملائكة والإنس والجن على ما يفيده السياق.

وقيل: الضمير للروح والملائكة، وقيل: للناس ووقوع ﴿لا يملكون﴾ بما مر من معناه و﴿لا يتكلمون﴾ في سياق واحد لا يلائم شيئا من القولين.

وقوله: ﴿إلا من أذن له الرحمن﴾ بدل من ضمير الفاعل في ﴿لا يتكلمون﴾ أريد به بيان من له أن يتكلم منهم يومئذ بإذن الله فالجملة في معنى قوله: ﴿يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه﴾ هود: 105 على ظاهر إطلاقه.

وقوله: ﴿وقال صوابا﴾ أي قال قولا صوابا لا يشوبه خطأ وهو الحق الذي لا يداخله باطل، والجملة في الحقيقة قيد للإذن كأنه قيل: إلا من أذن له الرحمن ولا يأذن إلا لمن قال صوابا فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ الزخرف: 86.

وقيل: ﴿إلا من أذن﴾ إلخ استثناء ممن يتكلم فيه والمراد بالصواب التوحيد وقول لا إله إلا الله والمعنى لا يتكلمون في حق أحد إلا في حق شخص أذن له الرحمن وقال ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي أقر بالوحدانية وشهد أن لا إله إلا الله فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ الأنبياء: 28.

ويدفعه أن العناية الكلامية في المقام متعلقة بنفي أصل الخطاب والتكلم يومئذ من كل متكلم لا بنفي التكلم في كل أحد مع تسليم جواز أصل التكلم فالمستثنون هم المتكلمون المأذون لهم في أصل التكلم من دون تعرض لمن يتكلم فيه.

كلام فيما هو الروح في القرآن تكررت كلمة الروح - والمتبادر منه ما هو مبدأ الحياة - في كلامه تعالى ولم يقصرها في الإنسان أو في الإنسان والحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله: ﴿فأرسلنا إليها روحنا﴾ مريم: 17، وقوله: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا﴾ الشورى: 52 إلى غير ذلك فللروح مصداق في الإنسان ومصداق في غيره.

والذي يصلح أن يكون معرفا لها في كلامه تعالى ما في قوله: ﴿يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي﴾ إسراء: 85 حيث أطلقها إطلاقا وذكر معرفا لها أنها من أمره وقد عرف أمره بقوله: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء﴾ يس: 83 فبين أنه كلمة الإيجاد التي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى وقيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل والأسباب الظاهرية.

وبهذه العناية عد المسيح (عليه السلام) كلمة له وروحا منه إذ قال: ﴿وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه﴾ النساء: 171 لما وهبه لمريم (عليها السلام) من غير الطرق العادية ويقرب منه في العناية قوله تعالى: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ آل عمران: 59.

وهو تعالى وإن ذكرها في أغلب كلامه بالإضافة والتقيد كقوله: ﴿ونفخت فيه من روحي﴾ الحجر 29، وقوله: ﴿ونفخ فيه من روحه﴾ السجدة: 9، وقوله: ﴿فأرسلنا إليها روحنا﴾ مريم: 17، وقوله: ﴿وروح منه﴾ النساء: 171 وقوله: ﴿وأيدناه بروح القدس﴾ البقرة 87 إلى غير ذلك إلا أنه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله: ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ القدر: 4 وظاهر الآية أنها موجود مستقل وخلق سماوي غير الملائكة، ونظير الآية بوجه قوله تعالى: ﴿تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة﴾ المعارج: 4.

وأما الروح المتعلقة بالإنسان فقد عبر عنها بمثل قوله: ﴿ونفخت فيه من روحي﴾ ﴿ونفخ فيه من روحه﴾ وأتي بكلمة ﴿من﴾ الدالة على المبدئية وسماه نفخا وعبر عن الروح التي خصها بالمؤمنين بمثل قوله: ﴿وأيدهم بروح منه﴾ المجادلة: 22 فأتى بالباء الدالة على السببية وسماه تأييدا وتقوية، وعبر عن الروح التي خصها بالأنبياء بمثل قوله: ﴿وأيدناه بروح القدس﴾ البقرة: 87 فأضاف الروح إلى القدس وهو النزاهة والطهارة وسماه أيضا تأييدا.

وبانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أن نسبة الروح المضافة التي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الإفاضة إلى المفيض والظل إلى ذي الظل بإذن الله.

وكذلك الروح المتعلقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، وإنما لم يعبر في روح الملك بالنفخ والتأييد كالإنسان بل سماه روحا كما في قوله تعالى: ﴿فأرسلنا إليها روحنا﴾ وقوله: ﴿قل نزله روح القدس﴾ النحل: 102، وقوله: ﴿نزل به الروح الأمين﴾ الشعراء: 193 لأن الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب والبعد من ربهم، وما يتراءى من الأجسام لهم تمثلات كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا﴾ مريم: 17 وقد تقدم الكلام في معنى التمثل في ذيل الآية بخلاف الإنسان المخلوق مؤلفا من جسم ميت وروح حية فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله ﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي﴾ الحجر: 29.

وكما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك والإنسان اختلاف التعبير بالنفخ وعدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها وهو الحياة شرفا وخسة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ والتأييد وعد الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة.

فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال: ﴿ونفخت فيه من روحي﴾.

ومن الروح الروح المؤيد بها المؤمن قال: ﴿أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه﴾ المجادلة: 22 وهي أشرف وجودا وأعلى مرتبة وأقوى أثرا من الروح الإنسانية العامة كما يفيده قوله تعالى وهو في معنى هذه الآية: ﴿أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾ الأنعام: 122 فقد عد المؤمن حيا ذا نور يمشي به وهو أثر الروح والكافر ميتا وهو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه.

ومن ذلك يظهر أن من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدل على ذلك الآيات المتضمنة لإحياء الأرض بعد موتها.

ومن الروح الروح المؤيد بها الأنبياء قال: ﴿وأيدناه بروح القدس﴾ البقرة: 87 وسياق الآيات يدل على كون هذه الروح أشرف وأعلى مرتبة من غيرها مما في الإنسان.

وأما قوله: ﴿يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق﴾ المؤمن: 15، وقوله: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا﴾ الشورى: 52 ، فيقبل الانطباق على روح الإيمان وعلى روح القدس والله أعلم.

وقد تقدم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة.

قوله تعالى: ﴿ذلك اليوم الحق﴾ إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مر من الأوصاف وهو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة وما بعده أعني قوله: ﴿فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا﴾ إلخ فضل تفريع على البيان السابق.

والإشارة إليه بالإشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره والمراد بكونه حقا ثبوته حتما مقضيا لا يتخلف عن الوقوع.

قوله تعالى: ﴿فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا﴾ أي مرجعا إلى ربه ينال به ثواب المتقين وينجو به من عذاب الطاغين، والجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدم من الإخبار بيوم الفصل والاحتجاج عليه ووصفه، والمعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربه فليرجع.

قوله تعالى: ﴿إنا أنذرناكم عذابا قريبا﴾ إلخ المراد به عذاب الآخرة، وكونه قريبا لكونه حقا لا ريب في إتيانه وكل ما هو آت قريب.

على أن الأعمال التي سيجزي بها الإنسان هي معه أقرب ما يكون منه.

وقوله: ﴿يوم ينظر المرء ما قدمت يداه﴾ أي ينتظر المرء جزاء أعماله التي قدمتها يداه بالاكتساب، وقيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدمت يداه من الأعمال لحضورها عنده قال تعالى: ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء﴾ آل عمران: 30.

وقوله: ﴿ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا﴾ أي يتمنى من شدة اليوم أن لو كان ترابا فاقدا للشعور والإرادة فلم يعمل ولم يجز.

بحث روائي:

في تفسير القمي، وقوله: ﴿وفتحت السماء فكانت أبوابا﴾ قال: تفتح أبواب الجنان، وقوله: ﴿وسيرت الجبال فكانت سرابا﴾ قال: تصير الجبال مثل السراب الذي يلمع في المفازة.

وفيه، وقوله: ﴿لابثين فيها أحقابا﴾ قال: الأحقاب السنين والحقب سنة والسنة عددها ثلاثمائة وستون يوما واليوم كألف سنة مما تعدون.

وفي المجمع، روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا والحقب بضع وستون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون فلا يتكلن أحد على أن يخرج من النار.

أقول: وأورد الرواية في الدر المنثور، وفيها ثمانون مكان ستون ولفظ آخرها، قال ابن عمر: فلا يتكلن أحد، وأورد أيضا رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أن الحقب أربعون سنة.

وفيه، وروى العياشي بإسناده عن حمران قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: هذه في الذين يخرجون من النار:، وروي عن الأحول مثله.

وفي تفسير القمي، وقوله: ﴿إن للمتقين مفازا﴾ قال: يفوزون، قوله ﴿وكواعب أترابا﴾ قال: جوار وأتراب لأهل الجنة، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في قوله: ﴿إن للمتقين مفازا﴾ قال: هي الكرامات ﴿وكواعب أترابا﴾ أي الفتيات النواهد.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رءوس وأيد وأرجل ثم قرأ: ﴿يوم يقوم الروح والملائكة صفا﴾ قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند.

أقول: وقد تقدمت الرواية في ذيل الآيات المشتملة على الروح عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الروح خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل، وتقدمت الرواية أيضا عن علي (عليه السلام): أن الروح غير الملائكة واستدل (عليه السلام) عليه بقوله تعالى: ﴿ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده﴾ الآية.

نعم في رواية القمي عن حمران أنه ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل وكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مع الأئمة (عليهم السلام)، ولعل المراد بالملك مطلق الموجود السماوي أو هو من وهم بعض الرواة في النقل بالمعنى ولا دليل على انحصار الموجودات الأمرية السماوية في الملائكة بل الدليل على خلافه كما يستفاد من قوله تعالى لإبليس حين أبى عن السجود لآدم وقد سجد له الملائكة كلهم أجمعون: ﴿يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين﴾ ص: 75 وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية.

وفي أصول الكافي، بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال قلت: ﴿يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون﴾ الآية قال نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صوابا.

قلت: ما تقولون إذا تكلمتم؟ قال: نمجد ربنا ونصلي على نبينا ونشفع لشيعتنا ولا يردنا ربنا الحديث.

أقول: ورواه في المجمع، عن العياشي مرفوعا عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام).

والرواية من قبيل ذكر بعض المصاديق فهناك شفعاء أخر من الملائكة والأنبياء والمؤمنين مأذون لهم في التكلم، وهناك شهداء من الأمم مأذون لهم في التكلم على ما ينص عليه القرآن والحديث.