الآيات 33-47

وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴿33﴾ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ ﴿34﴾ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿35﴾ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴿36﴾ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴿37﴾ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ يمِ ﴿38﴾ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴿39﴾ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴿40﴾ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي كِ الْمَشْحُونِ ﴿41﴾ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴿42﴾ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ ﴿43﴾ إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴿44﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿45﴾ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴿46﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿47﴾

بيان:

بعد ما قص عليهم قصة أصحاب القرية وما آل إليه أمرهم في الشرك وتكذيب الرسل ووبخهم على الاستهانة بأمر الرسالة، وأنذرهم بنزول العذاب عليهم كما نزل على المكذبين من القرون الأولى، وبأنهم جميعا محضرون للحساب والجزاء.

أورد آيات من الخلق والتدبير تدل على ربوبيته وألوهيته تعالى وحده لا شريك له ثم وبخهم على ترك النظر في آيات الوحدانية والمعاد والإعراض عنها والاستهزاء بالحق والإمساك عن الإنفاق للفقراء والمساكين.

قوله تعالى: ﴿وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون﴾ يذكر سبحانه في الآية واللتين بعدها آية من آيات الربوبية وهي تدبير أمر أرزاق الناس وتغذيتهم من أثمار النبات من الحبوب والتمر والعنب وغيرها.

فقوله: ﴿وآية لهم الأرض الميتة أحييناها﴾ وإن كان ظاهره أن الآية هي الأرض إلا أن الجملتين توطئتان لقوله: ﴿وأخرجنا منها حبا﴾ إلخ ومسوقتان للإشارة إلى أن هذه الأغذية النباتية من آثار نفخ الحياة في الأرض الميتة وتبديلها حبا وثمرا يأكلون من ذلك فالآية بنظر هي الأرض الميتة من حيث ظهور هذه الخواص فيها وتمام تدبير أرزاق الناس بها.

وقوله: ﴿وأخرجنا منها حبا﴾ أي وأخرجنا من الأرض بإنبات النبات حبا كالحنطة والشعير والأرز وسائر البقولات.

وقوله: ﴿فمنه يأكلون﴾ تفريع على إخراج الحب وبالأكل يتم التدبير، وضمير ﴿فمنه﴾ للحب.

قوله تعالى: ﴿وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون﴾ قال الراغب: الجنة كل بستان ذي شجر تستر بأشجاره الأرض انتهى.

والنخيل جمع نخل وهو معروف، والأعناب جمع عنب يطلق على الشجرة وهي الكرم وعلى الثمرة.

وقال الراغب: العين الجارحة - إلى أن قال - ويستعار العين لمعان هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة - إلى أن قال - ويقال لمنبع الماء عين تشبيها بها لما فيها من الماء انتهى، والتفجير في الأرض شقها لإخراج المياه، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون﴾ اللام لتعليل ما ذكر في الآية السابقة أي جعلنا فيها جنات وفجرنا فيها العيون بشقها ليأكل الناس من ثمره.

وقوله: ﴿من ثمره﴾ قيل: الضمير للمجعول من الجنات ولذا أفرد وذكر ولم يقل: من ثمرها أي من ثمر الجنات، أو من ثمرهما أي من ثمر النخيل والأعناب.

وقيل: الضمير للمذكور وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة كما في قول رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق.

كأنه في الجلد توليع البهق.

فقد روي أن أبا عبيدة سأله عن قوله ﴿كأنه﴾ فقال كان ذاك.

وفي مرجع ضمير ﴿من ثمره﴾ أقوال أخر رديئة كقول بعضهم إن الضمير للنخيل فقط، وقول آخر: إنه للماء لدلالة العيون عليه أو بحذف مضاف والتقدير ماء العيون وقول آخر: إن الضمير للتفجير المفهوم من ﴿فجرنا﴾ والمراد بالثمر على هذين الوجهين الفائدة، وقول آخر: إن الضمير له تعالى وإضافته إليه لأنه خلقه وملكه.

وقوله: ﴿وما عملته أيديهم﴾ العمل هو الفعل والفرق بينهما - على ما ذكره الراغب - أن أكثر ما يستعمل العمل في الفعل المقارن للقصد والإرادة، ولذلك يشذ استعماله في الحيوان والجماد، ولذلك أيضا يتصف العمل بالصلاح وخلافه فيقال.

عمل صالح وعمل طالح ولا يتصف بهما مطلق الفعل.

و﴿ما﴾ في ﴿وما عملته﴾ نافية والمعنى ولم يعمل الثمر بأيديهم حتى يشاركونا في تدبير الأرزاق بل هو مما اختصصنا بخلقه وتتميم التدبير به من دون أن نستعين بهم فما بالهم لا يشكرون.

ويؤيد هذا المعنى قوله في أواخر السورة وهو يمتن عليهم بخلق الأنعام لتدبير أمر رزقهم وحياتهم: ﴿أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما - إلى أن قال - ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أ فلا يشكرون﴾.

واحتمل بعضهم كون ﴿ما﴾ في ﴿وما عملته﴾ موصولة معطوفة على ﴿ثمره﴾ والمعنى ليأكلوا من ثمره ومن الذي عملته أيديهم من ثمره كالخل والدبس المأخوذين من التمر والعنب وغير ذلك.

وهذا الوجه وإن عده بعضهم أوجه من سابقه ليس بذاك فإن المقام مقام بيان آيات دالة على ربوبيته تعالى بذكر أمور من التدبير يخصه تعالى ولا يناسبه ذكر شيء من تدبير الغير معه وتتميم الحجة بذلك، ولو كان المراد ذكر عملهم بما أنه منته إلى خلقه تعالى وجزء من التدبير العام كان الأنسب أن يقال: وما هديناهم إلى عمله أو ما يؤدي معناه لينتفي به توهم الشركة في التدبير.

واحتمل بعضهم كون ﴿ما﴾ نكرة موصوفة معطوفة على ﴿ثمره﴾ والمعنى ليأكلوا من ثمره ومن شيء عملته أيديهم.

هذا ويرد عليه ما يرد على سابقه.

وقوله: ﴿أفلا يشكرون﴾ توبيخ واستقباح لعدم شكره وشكره تعالى منهم على هذا التدبير إظهارهم جميل نعمه بذكره قولا وفعلا أي إظهارهم أنهم عباد له مدبرون بتدبيره وهو العبادة فشكره تعالى هو الاعتراف بربوبيته واتخاذه إلها معبودا.

قوله تعالى: ﴿سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون﴾ إنشاء لتنزيهه تعالى، لما ذكر عدم شكرهم له على ما خلق لهم من أنواع النبات ورزقهم من الحبوب والأثمار، وإنما عمل ذلك بتزويج بعض النبات بعضا كما قال: ﴿وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج﴾ ق: 7 أشار إلى ما هو أعظم وأوسع من خلق أزواج النبات وهو خلق الأزواج كلها وتنظيم العالم المشهود باستيلاد كل شيء من فاعل ومنفعل قبله هما أبواه كالذكر والأنثى من الإنسان والحيوان والنبات، وكل فاعل ومنفعل يتلاقيان فينتجان بتلاقيهما أمرا ثالثا، أشار تعالى إلى ذلك فنزه نفسه بقوله: ﴿سبحان الذي خلق الأزواج كلها﴾ إلخ.

فقوله: ﴿سبحان الذي خلق الأزواج كلها﴾ إنشاء تسبيح على ما يعطيه السياق لا إخبار.

وقوله: ﴿مما تنبت الأرض﴾ هو وما بعده بيان للأزواج والذي تنبت الأرض هو النبات ولا يبعد شموله الحيوان وقد قال تعالى في الإنسان وهو من أنواع الحيوان ﴿والله أنبتكم من الأرض نباتا﴾ نوح: 17 ويؤيد ذلك أن ظاهر سياق البيان استيعابه للمبين مع عدم ذكر الحيوان في عدد الأزواج.

وقوله: ﴿ومن أنفسهم﴾ أي الناس، وقوله: ﴿ومما لا يعلمون﴾ وهو الذي يجهله الإنسان من الخليقة أو يجهل كيفية ظهوره أو ظهور الكثرة فيه.

وربما قيل في الآية: إن المراد بالأزواج الأنواع والأصناف، ولا يساعد عليه الآيات التي تذكر خلق الأزواج كقوله تعالى: ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون﴾ الذاريات: 49 والمقارنة ونوع من التألف والتركب من لوازم مفهوم الزوجية.

قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها: زوج كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا: زوج، قال: وقوله: ﴿خلقنا زوجين﴾ فبين أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب.

فزوجية الزوج هي كونه مفتقرا في تحققه إلى تألف وتركب ولذلك يقال لكل واحد من القرينين من حيث هما قرينان: زوج لافتقاره إلى قرينه، وكذا يقال لمجموع القرينين: زوج لافتقاره في تحققه زوجا إلى التألف والتركب فكون الأشياء أزواجا مقارنة بعضها بعضا لإنتاج ثالث أو كونه مولدا من تألف اثنين.

قوله تعالى: ﴿وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون﴾ آية أخرى من آيات الربوبية الدالة على وقوع التدبير العام السماوي للعالم الإنساني مذكورة في أربع آيات.

ولا شك أن الآية تشير إلى مفاجأة الليل عقيب ذهاب النهار، والسلخ في الآية بمعنى الإخراج ولذلك عدي بمن ولو كان بمعنى النزع كما في قولنا: سلخت الإهاب عن الشاة تعين تعديه بعن دون من.

ويؤيد ذلك أنه تعالى عبر في مواضع من كلامه عن ورود كل من الليل والنهار عقيب الآخر بإيلاجه فيه فقال في مواضع من كلامه: ﴿يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل﴾ الحج: 61 فإذا كان ورود النهار بعد الليل إيلاجا للنهار في الليل اعتبارا كان مفاجأة الليل بعد النهار إخراجا للنهار من الليل اعتبارا.

كأن الليل أطبق عليهم وأحاطت بهم ظلمته ثم ولج فيه النهار فوسعهم نوره وضياؤه ثم خرج منه ففاجأهم الليل ثانيا بانطباق الظلام وإحاطته بما أضاءه النهار ففي الكلام نوع من الاستعارة بالكناية.

ولعل فيما ذكرناه من الوجه كفاية عما أطنبوا فيه من البحث في معنى سلخ النهار من الليل ثم مفاجأة الليل.

قوله تعالى: ﴿والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم﴾ جريها حركتها وقوله ﴿لمستقر لها﴾ اللام بمعنى إلى أو للغاية، والمستقر مصدر ميمي أو اسم زمان أو مكان، والمعنى أنها تتحرك نحو مستقرها أو حتى تنتهي إلى مستقرها أي استقرارها وسكونها بانقضاء أجلها أو زمن استقرارها أو محله.

وأما جريها وهو حركتها فظاهر النظر الحسي يثبت لها حركة دورية حول الأرض لكن الأبحاث العلمية تقضي بالعكس وتكشف أن لها مع سياراتها حركة انتقالية نحو النسر الواقع.

وكيف كان فمحصل المعنى أن الشمس لا تزال تجري ما دام النظام الدنيوي على حاله حتى تستقر وتسكن بانقضاء أجلها فتخرب الدنيا ويبطل هذا النظام، وهذا المعنى يرجع بالمال إلى معنى القراءة المنسوبة إلى أهل البيت وغيرهم: ﴿والشمس تجري لا مستقر لها﴾ كما قيل.

وأما حمل جريها على حركتها الوضعية حول مركزها فهو خلاف ظاهر الجري الدال على الانتقال من مكان إلى مكان.

وقوله: ﴿ذلك تقدير العزيز العليم﴾ أي الجري المذكور تقدير وتدبير ممن لا يغلبه غالب في إرادته ولا يجهل جهات الصلاح في أفعاله.

قوله تعالى: ﴿والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم﴾ المنازل جمع منزل اسم مكان من النزول والظاهر أن المراد به المنازل الثمانية والعشرون التي يقطعها القمر في كل ثمانية وعشرين يوما وليلة تقريبا.

والعرجون عود عذق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته وهو عود أصفر مقوس يشبه الهلال، والقديم العتيق.

وقد اختلفت الأنظار في معنى الآية للاختلاف في تركيبها، وأقرب التقديرات من الفهم قول من قال: إن التقدير والقمر قدرناه ذا منازل أو قدرنا له منازل حتى عاد هلالا يشبه العرجون العتيق المصفر لونه.

تشير الآية إلى اختلاف مناظر القمر بالنسبة إلى أهل الأرض فإن نوره مكتسب من الشمس يستنير بها نصف كرته تقريبا وما يقرب من النصف الآخر غير المسامت للشمس مظلم ثم يتغير موضع الاستنارة ولا يزال كذلك حتى يعود إلى الوضع الأول ويعرض ذلك أن يظهر لأهل الأرض في صورة هلال ثم لا يزال ينبسط عليه النور حتى يتبدر ثم لا يزال ينقص حتى يعود إلى ما كان عليه أوله.

ولاختلاف صوره آثار بارزة في البر والبحر وحياة الناس على ما بين في الأبحاث المربوطة.

فالآية الكريمة تذكر من آية القمر أحواله الطارئة له بالنسبة إلى الأرض وأهلها دون حاله في نفسه ودون حاله بالنسبة إلى الشمس فقط.

ومن هنا لا يبعد أن يقال في قوله تعالى: ﴿والشمس تجري لمستقر لها﴾ إن المراد بقوله: ﴿تجري﴾ الإشارة إلى ما يعطيه ظاهر الحس من حركتها اليومية والفصلية والسنوية وهي حالها بالنسبة إلينا، وبقوله: ﴿لمستقر لها﴾ حالها في نفسها وهي سكونها بالنسبة إلى سياراتها المتحركة حولها كأنه قيل: وآية لهم أن الشمس على استقرارها تجري عليهم وقد دبر العزيز العليم بذلك كينونة العالم الأرضي وحياة أهله والله أعلم.

قوله تعالى: ﴿لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون﴾ لفظة ينبغي تدل على الترجح ونفي ترجح الإدراك من الشمس نفي وقوعه منها، والمراد به أن التدبير ليس مما يجري يوما ويقف آخر بل هو تدبير دائم غير مختل ولا منقوض حتى ينقضي الأجل المضروب منه تعالى لذلك.

فالمعنى أن الشمس والقمر ملازمان لما خط لهما من المسير فلا تدرك الشمس القمر حتى يختل بذلك التدبير المعمول بهما ولا الليل سابق النهار وهما متعاقبان في التدبير فيتقدم الليل والنهار فيجتمع ليلتان ثم نهاران بل يتعاقبان.

ولم يتعرض لنفي إدراك القمر للشمس ولا لنفي سبق النهار الليل لأن المقام مقام بيان انحفاظ النظم الإلهي عن الاختلال والفساد فنفى إدراك ما هو أعظم وأقوى وهو الشمس لما هو أصغر وأضعف وهو القمر، ويعلم منه حال العكس ونفى سبق الليل الذي هو افتقاده للنهار الذي هو ليله والليل مضاف إليه متأخر طبعا منه ويعلم به حال العكس.

وقوله: ﴿وكل في فلك يسبحون﴾ أي كل من الشمس والقمر وغيرهما من النجوم والكواكب يجرون في مجرى خاص به كما تسبح السمكة في الماء فالفلك هو المدار الفضائي الذي يتحرك فيه الجرم العلوي، ولا يبعد حينئذ أن يكون المراد بالكل كل من الشمس والقمر والليل والنهار وإن كان لا يوجد في كلامه تعالى ما يشهد على ذلك.

والإتيان بضمير الجمع الخاص بالعقلاء في قوله ﴿يسبحون﴾ لعله للإشارة إلى كونها مطاوعة لمشيته مطيعة لأمره تعالى كالعقلاء كما في قوله: ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين﴾ حم السجدة: 11.

وللمفسرين في جمل الآية آراء أخر مضطربة أضربنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع المفصلات.

قوله تعالى: ﴿وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون﴾ قال الراغب: الذرية أصلها الصغار من الأولاد، وتقع في التعارف على الصغار والكبار معا، ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع.

والفلك السفينة، والمشحون المملوء.

آية أخرى من آيات ربوبيته تعالى وهو جريان تدبيره في البحر حيث يحمل ذريتهم في الفلك المشحون بهم وبأمتعتهم يجوزون به من جانب إلى جانب للتجارة وغيرها، ولا حامل لهم فيه ولا حافظ لهم عن الغرق إلا هو تعالى والخواص التي يستفيدون منها في ركوب البحر أمور مسخرة له تعالى منتهية إلى خلقه على أن هذه الأسباب لو لم تنته إليه تعالى لم تغن طائلا.

وإنما نسبت الحمل إلى الذرية دونهم أنفسهم فلم يقل: أنا حملناهم لإثارة الشفقة والرحمة.

قوله تعالى: ﴿وخلقنا لهم من مثله ما يركبون﴾ المراد به - على ما فسروه - الأنعام قال تعالى: ﴿وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون﴾ الزخرف: 12 وقال: ﴿وعليها وعلى الفلك تحملون﴾ المؤمنون: 80.

وفسر بعضهم الفلك المذكور في الآية السابقة بسفينة نوح (عليه السلام) وما في هذه الآية بالسفن والزوارق المعمولة بعدها وهو تفسير رديء ومثله تفسير ما في هذه الآية بالإبل خاصة.

وربما فسر ما في هذه الآية بالطيارات والسفن الجوية المعمولة في هذه الأعصار والتعميم أولى.

قوله تعالى: ﴿وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون﴾ الصريخ هو الذي يجيب الصراخ ويغيث، الاستغاثة والإنقاذ هو الإنجاء من الغرق.

والآية متصلة بقوله السابق: ﴿أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون﴾ أي إن الأمر إلى مشيتنا فإن نشأ نغرقهم فلا يغيثهم مغيث ولا ينقذهم منقذ.

قوله تعالى: ﴿إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين﴾ استثناء مفرغ والتقدير لا ينجون بسبب من الأسباب وأمر من الأمور إلا لرحمة منا تنالهم ولتمتع إلى حين الأجل المسمى الذي قدرناه لهم.

قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون﴾ لما ذكر الآيات الدالة على الربوبية ذمهم على عدم رعايتهم حقها وعدم إقبالهم عليها وعدم ترتيبهم عليها آثارها فإذا قيل لهم هذه الآيات البينات ناطقة أن ربكم الله فاتقوا معصيته في حالكم الحاضرة وما قدمتم من المعاصي، أو عذاب الشرك والمعاصي التي أنتم مبتلون بها وما خلفتم وراءكم، أو اتقوا ما بين أيديكم من الشرك والمعاصي في الحياة الدنيا وما خلفكم من العذاب في الآخرة، أعرضوا عنه ولم يستجيبوا له على ما هو دأبهم في جميع الآيات التي ذكروا بها.

ومن هنا يظهر أولا أن المراد بما بين أيديهم وما خلفهم الشرك والمعاصي التي هم مبتلون بها في حالهم الحاضرة وما كانوا مبتلين به قبل، أو العذاب الذي استوجبوه بذلك والمآل واحد، أو الشرك والمعاصي في الدنيا والعذاب في الآخرة وهو أوجه الوجوه.

وثانيا: أن حذف جواب إذا للدلالة على أن حالهم بلغت من الجرأة على الله والاستهانة بالحق مبلغا لا يستطاع معها ذكر ما يجيبون به داعي الحق إذا دعاهم إلى التقوى فيجب أن يترك أسفا ولا يذكر، وقد دل عليه بقوله: ﴿وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين﴾.

قوله تعالى: ﴿وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين﴾ المراد بإتيان الآيات موافاتها لهم بالمشاهدة أو بالتلاوة والذكر، وأيضا هي أعم من أن تكون آية آفاقية أو أنفسية، أو تكون آية معجزة كالقرآن فهم معرضون عنها جميعا.

قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله﴾ إلى آخر الآية كان قوله: ﴿وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم﴾ متعرضا لجوابهم إذا دعوا إلى عبادة الله وهي أحد ركني الدين الحق، وهذه الآية تعرضت لجوابهم إذا دعوا إلى الشفقة على خلق الله وهو الركن الآخر ومعلوم أن جوابهم الرد دون القبول.

فقوله: ﴿وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله﴾ يتضمن دعوتهم إلى الإنفاق على الفقراء والمساكين من أموالهم وفي التعبير عن الأموال بما رزقهم الله إشعار بأن المالك لها حقيقة هو الله الذي رزقهم بها وسلطهم عليها، وهو الذي خلق الفقراء والمساكين وأقام حاجتهم إلى ما عند هؤلاء من فضل المؤن الذي لا يفتقرون إليه فلينفقوا عليهم وليحسنوا وليجملوا والله يحب الإحسان وجميل الفعل.

وقوله: ﴿قال الذين كفروا للذين آمنوا أ نطعم من لو يشاء الله أطعمه﴾ جوابهم للدعوة إلى الإنفاق، وإنما أظهر القائل - الذين كفروا - ومقتضى المقام الإضمار للإشارة إلى أن كفرهم بالحق وإعراضهم عنه باتباع الشهوات هو الذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبني على الإعراض عما تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله وإصلاح ما فسد في المجتمع كما أن الإظهار في قوله: ﴿للذين آمنوا﴾ للإشارة إلى أن قائل ﴿أنفقوا مما رزقكم الله﴾ هم الذين آمنوا.

وفي قولهم: ﴿أنطعم من لو يشاء الله أطعمه﴾ إشعار بأن المؤمنين إنما قالوا لهم: ﴿أنفقوا مما رزقكم الله﴾ بعنوان أنه مما يشاؤه الله ويريده حكما دينيا فردوه بأن إرادة الله لا تتخلف عن مراده فلو شاء أن يطعمهم أطعمهم أي وسع في رزقهم وجعلهم أغنياء.

وهذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الإرادة التشريعية المبنية على الابتلاء والامتحان وهداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم وآخرتهم ومن الجائز أن تتخلف عن المراد بالعصيان، وبين الإرادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد ومن المعلوم أن مشيئة الله وإرادته المتعلقة بإطعام الفقراء والإنفاق عليهم من المشيئة التشريعية دون التكوينية فتخلفها في مورد الفقراء إنما يدل على عصيان الذين كفروا وتمردهم عما أمروا به لا على عدم تعلق الإرادة به وكذب مدعيه.

وهذه مغالطة بنوا عليها جل ما افتعلوه من سنن الوثنية وقد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله: ﴿وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء﴾ النحل: 35، وقوله: ﴿سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء﴾ الأنعام: 148، وقوله: ﴿وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم﴾ الزخرف: 20.

وقوله: ﴿إن أنتم إلا في ضلال مبين﴾ من تمام قول الذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنكم في ضلال مبين في دعواكم أن الله أمرنا بالإنفاق وشاء منا ذلك.

بحث روائي:

في المجمع، روي عن علي بن الحسين زين العابدين وأبي جعفر الباقر وجعفر الصادق (عليه السلام): ﴿لا مستقر لها﴾ بنصب الراء.

وفي الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور وأحمد البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: ﴿والشمس تجري لمستقر لها﴾ قال: مستقرها تحت العرش.

أقول: وقد روي هذا المعنى عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق الخاصة والعامة مختصرة ومطولة، وفي بعضها أنها بعد الغروب تصعد سماء سماء حتى تصل إلى ما دون العرش فتسجد وتستأذن في الطلوع وتبقى على ذلك حتى تكسى نورا ويؤذن لها في الطلوع.

والرواية إن صحت فهي مؤولة.

وفي روضة الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خلق الشمس قبل القمر وخلق النور قبل الظلمة.

وفي المجمع، روى العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا والفضل بن سهل والمأمون في الإيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا (عليه السلام): إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل؟ فما عندكم؟ قال: وأداروا الكلام فلم يكن عندهم في ذلك شيء.

فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله.

قال: نعم من القرآن أم من الحساب قال له الفضل من جهة الحساب فقال: قد علمت يا فضل إن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان والمشتري في السرطان والمريخ في الجدي والشمس في الحمل والزهرة في الحوت وعطارد في السنبلة والقمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، ومن القرآن قوله تعالى: ﴿ولا الليل سابق النهار﴾ أي الليل قد سبقه النهار.

أقول: نقل الآلوسي في روح المعاني، هذا الحديث ثم قال: وفي الاستدلال بالآية بحث ظاهر، وأما بالحساب فله وجه في الجملة ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضا أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه انتهى.

وقد اختلط عليه الأمر في تحصيل حقيقة معنى الليل والنهار.

توضيحه: أن الليل والنهار متقابلان تقابل العدم والملكة كالعمى والبصر فكما أن العمى ليس مطلق عدم البصر حتى يكون الجدار مثلا أعمى لعدم البصر فيه بل هو عدم البصر مما من شأنه أن يتصف بالبصر كالإنسان كذلك الليل ليس هو مطلق عدم النور بل هو زمان عدم استضاءة ناحية من نواحي الأرض بنور الشمس ومن المعلوم أن عدم الملكة يتوقف في تحققه على تحقق الملكة المقابلة له قبله حتى يتعين بالإضافة إليه فلو لا البصر لم يتحقق عمى ولو لا النهار لم يتحقق الليل.

فمطلق الليل بمعناه الذي هو به ليل مسبوق الوجود بالنهار وقوله: ﴿ولا الليل سابق النهار﴾ وإن كان ناظرا إلى الترتيب المفروض بين النهر والليالي وأن هناك نهارا وليلا ونهارا وليلا وأن واحدا من هذه الليالي لا يسبق النهار الذي بجنبه.

لكنه تعالى أخذ في قوله: ﴿ولا الليل سابق النهار﴾ مطلق الليل ونفى تقدمه على مطلق النهار ولم يقل: إن واحدا من الليالي الواقعة في هذا الترتيب لا يسبق النهار الواقع في الترتيب قبله.

فالحكم في الآية مبني على ما يقتضيه طبيعة الليل والنهار بحسب التقابل الذي أودعه الله بينهما وقد استفيد منه الحكم بانحفاظ الترتيب في تعاقب الليل والنهار فإن كل ليل هو افتقاد النهار الذي هو يتلوه فلا يتقدم عليه وإلى هذا يشير (عليه السلام) بعد ذكر الآية بقوله: ﴿أي الليل قد سبقه النهار﴾ يعني أن سبق النهار الليل هو خلقه قبله وليس كما يتوهم أن هناك نهر أو ليالي موجودة ثم يتعين لكل منها محله.

وقول المعترض: ﴿وأما بالحساب فله وجه في الجملة﴾ لا يدرى وجه قوله: في الجملة وهو وجه تام مبني على تسليم أصول التنجيم صحيح بالجملة على ذلك التقدير لا في الجملة.

وكذا قوله: ﴿ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر﴾ لا محصل له لأن دائرة نصف النهار وهي الدائرة المارة على القطبين ونقطة ثالثة بينهما غير متناهية في العدد لا تتعين لها نقطة معينة في السماء دون نقطة أخرى فيكون كون الشمس في إحداهما نهارا للأرض دون أخرى.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم﴾ روى الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة.