الآيات15-29

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ﴿15﴾ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿16﴾ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿17﴾ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴿18﴾ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿19﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴿20﴾ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴿21﴾ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿22﴾ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴿23﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿25﴾ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿26﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿27﴾ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿28﴾ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿29﴾

بيان:

أوامر ونواه متعلقة بالجهاد الإسلامي مما يناسب سوق القصة، وحث على تقوى الله وإنذار وتخويف من مخالفة الله ورسوله والتعرض لسخطه سبحانه، وفيها إشارة إلى بعض ما جرى في وقعة بدر من منن الله وأياديه على المؤمنين.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار﴾ اللقاء مصدر لقي يلقى من المجرد ولاقى يلاقي من المزيد فيه، قال الراغب في مفردات القرآن،: اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته معا، وقد يعبر به عن كل واحد منهما يقال: لقيه يلقاه لقاء ولقيا ولقية، ويقال ذلك في الإدراك بالحس وبالبصر وبالبصيرة قال: لقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه، وقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، وملاقاة الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال: واعلموا أنكم ملاقوه، وقال: الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، واللقاء الملاقاة، قال: وقال الذين لا يرجون لقاءنا، وقال: إلى ربك كدحا فملاقيه.

وقال في المجمع، اللقاء الاجتماع على وجه المقاربة لأن الاجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة فلا يكون لقاء كاجتماع الأعراض في المحل الواحد.

وقال فيه: الزحف الدنو قليلا قليلا، والتزاحف التداني يقال: زحف يزحف زحفا وأزحفت للقوم إذا دنوت لقتالهم وثبت لهم.

قال الليث الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة وجمعه زحوف.

وتولية الأعداء الأدبار جعلهم يلونها وهو استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة.

وخطاب الآية عام غير خاص بوقت دون وقت ولا غزوة دون غزوة فلا وجه لتخصيصها بغزوة بدر وقصر حرمة الفرار من الزحف بها كما يحكى عن بعض المفسرين.

على أنك عرفت أن ظاهر سياق الآيات أنها نزلت بعد غزوة بدر لا يومها، وأن الآيات ذيل ما في صدر السورة من قوله: ﴿يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول﴾ الآية، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة﴾ إلى آخر الآية.

الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف وهو طرف الشيء وهو أن ينحرف وينعطف المقاتل من جهة إلى جهة أخرى ليتمكن من عدوه ويبادر إلى إلقاء الكيد عليه، والتحيز هو أخذ الحيز وهو المكان، والفئة القطعة من جماعة الناس، والتحيز إلى فئة أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدو إلى فئة من قومه فيلحق بهم ويقاتل معهم.

والبواء الرجوع إلى مكان واستقرار فيه، ولذا قال الراغب: أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الأجزاء.

فمعنى قوله: ﴿باء بغضب من الله﴾ أي رجع ومعه غضب من الله.

فمعنى الآيتين: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا لقاء زحف أو زاحفين للقتال فلا تفروا منهم ومن يفر منهم يومئذ أي وقتئذ فقد رجع ومعه غضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير إلا أن يكون فراره للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة فلا بأس به.

قوله تعالى: ﴿فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ إلى آخر الآية، التدبر في السياق لا يدع شكا في أن الآية تشير إلى وقعة بدر وما صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من رميهم بكف من الحصى، والمؤمنون بوضع السيف فيهم وقتلهم القتل الذريع، وذيل الآية أعني قوله: وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا يدل على أن الكلام جار مجرى الامتنان منه تعالى، وقد أثبت تعالى عين ما نفاه في جملة واحدة أعني قوله: ﴿وما رميت إذ رميت﴾.

فمن جميع هذه الشواهد يتحصل أن المراد بقوله: ﴿فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ نفي أن تكون وقعة بدر وما ظهر فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة والمعروف من نواميس الطبيعة، وكيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روي إلا فرس أو فرسان وبضعة أدرع وبضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشا مجهزا بالأفراس والأسلحة والرجال والزاد والراحلة، هم أضعافهم عدة ولا يقاسون بهم قوة وشدة، وأسباب الغلبة عندهم، وعوامل البأس معهم، والموقف المناسب للتقدم لهم.

إلا أن الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب المشركين، وألقى الهزيمة بما رماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا وأسرا فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم وسكنت أجراسهم.

فبالحري أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدي المؤمنين والرمي الذي شتت شملهم وألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين.

فما في الآية من النفي جار مجرى الدعوى بنوع من العناية، بالنظر إلى استناد القتل بأطرافها إلى سبب إلهي غير عادي، ولا ينافي ذلك استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى أسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعد المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راميا لما رماه من الحصاة.

وقوله: ﴿وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا﴾ الظاهر أن ضمير ﴿منه﴾ راجع إلى الله تعالى، والجملة لبيان الغاية وهي معطوفة على مقدر محذوف، والتقدير: إنما فعل الله ما فعل من قتلهم ورميهم لمصالح عظيمة عنده، وليبلي المؤمنين ويمتحنهم بلاء وامتحانا حسنا أو لينعم عليهم بنعمة حسنة، وهو إفناء خصمهم وإعلاء كلمة التوحيد بهم وإغناؤهم بما غنموا من الغنائم.

وقوله: ﴿إن الله سميع عليم﴾ تعليل لقوله: ﴿وليبلي المؤمنين﴾ أي إنه تعالى يبليهم لأنه سميع باستغاثتهم عليم بحالهم فيبليهم منه بلاء حسنا.

والتفريع الذي في صدر الآية: ﴿فلم تقتلوهم﴾ إلخ متعلق بما يتضمنه الآيات السابقة: ﴿إذ تستغيثون ربكم﴾ إلى آخر الآيات من المعنى، فإنها تعد منن الله عليهم من إنزال الملائكة وإمدادهم بهم وتغشية النعاس إياهم وإمطار السماء عليهم وما أوحي إلى الملائكة من تأييدهم وتثبيت أقدامهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فلما بلغ الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله: ﴿فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾.

وعلى هذا فقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم﴾ إلى قوله: ﴿وبئس المصير﴾ معترضة متعلقة بقوله: ﴿فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان﴾ أو بمعناه المفهوم من الجمل المسرودة، وقوله: ﴿فلم تقتلوهم﴾ إلخ متصل بما قبله بحسب النظم.

وربما يذكر في نظم الآية وجهان آخران: أحدهما: أن الله سبحانه لما أمرهم بالقتل في الآية المتقدمة ذكر عقيبها أن ما كان من الفتح يوم بدر وقهر المشركين إنما كان بنصرته ومعونته تذكيرا للنعمة.

ذكره أبو مسلم.

والثاني: أنهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول: أنا قتلت فلانا وأنا فعلت كذا نزلت الآية على وجه التنبيه لهم لئلا يعجبوا بأعمالهم.

وربما قيل: إن الفاء في قوله: ﴿فلم تقتلوهم﴾ لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض.

والوجه ما قدمناه.

قوله تعالى: ﴿ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين﴾ قال في المجمع،: ﴿ذلكم﴾ موضعه رفع، وكذلك ﴿أن الله﴾ في موضع رفع، والتقدير: الأمر ذلكم والأمر أن الله موهن، وكذلك الوجه فيما تقدم من قوله: ﴿ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار﴿، ومن قال: إن ﴿ذلكم﴾ مبتدأ و﴿فذوقوه﴾ خبره فقد أخطأ لأن ما بعد الفاء لا يكون خبرا لمبتدإ، ولا يجوز: زيد فمنطلق، ولا: زيد فاضربه إلا أن تضمر ﴿هذا﴾ تريد: هذا زيد فاضربه.

فمعنى الآية: الأمر ذلكم الذي ذكرناه والأمر أن الله موهن كيد الكافرين.

قوله تعالى: ﴿إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح﴾ إلى آخر الآية.

ظاهر الآية بما تشتمل عليه من الجمل المسرودة كقوله: ﴿وإن تنتهوا فهو خير لكم﴾ وقوله: ﴿وإن تعودوا نعد﴾ إلخ أن تكون الخطاب فيه للمشركين دون المؤمنين باشتمال الكلام على الالتفات للتهكم، وهو المناسب لقوله في الآية السابقة: ﴿وأن الله موهن كيد الكافرين﴾.

فالمعنى: إن طلبتم الفتح وسألتم الله أيها المشركون أن يفتح بينكم وبين المؤمنين فقد جاءكم الفتح بما أظهر الله من الحق يوم بدر فكانت الدائرة للمؤمنين عليكم، وإن تنتهوا عن المكيدة على الله ورسوله فهو خير لكم وإن تعودوا إلى مثل ما كدتم نعد إلى مثل ما أوهنا به كيدكم، ولن تغني عنكم جماعتكم شيئا ولو كثرت كما لم تغن في هذه المرة وإن الله مع المؤمنين ولن يغلب من هو معه.

وبهذا يتأيد ما ورد أن أبا جهل قال يوم بدر حين اصطف الفريقان أو حين التقى الفئتان: اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصر عليه، وفي بعض الروايات - وهو الأنسب - كما في المجمع، عن أبي حمزة: قال أبو جهل: اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم.

وذكر بعضهم: أن الخطاب في الآية للمؤمنين ووجهوا مضامين جملها بما لا يرتضيه الذوق السليم، ولا جدوى للإطالة بذكرها والمناقشة فيها فمن أراد ذلك فعليه بالمطولات.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون﴾ الضمير على ما يفيده السياق راجع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمعنى، ولا تولوا عن الرسول وأنتم تسمعون ما يلقياه إليكم من الدعوة الحقة وما يأمركم به وينهاكم عنه مما فيه صلاح دينك ودنياكم.

ومصب الكلام أوامره الحربية وإن كان لفظه أعم.

قوله تعالى: ﴿ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون﴾ المعنى ظاهر وفيه نوع تعريض للمشركين إذ قالوا: سمعنا، وهو لا يسمعون، وقد حكى الله عنهم ذلك إذ قال بعد عدة آيات: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا﴾ الأنفال: 31، لكنهم كذبوا ولم يسمعوا ولو سمعوا لاستجابوا كما قال الله تعالى: ﴿ولهم آذان لا يسمعون بها﴾ الأعراف: 179، وقال تعالى حكاية عن أصحاب السعير: ﴿وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير﴾ الملك: 10 فالمراد بالسمع في الآية الأولى تلقي الكلام الحق الذي هو صوت من طريق الأذن، وفي الآية الثانية الانقياد لما يتضمنه الكلام الحق المسموع.

والآيتان - كما ترى - خطاب متعلق بالمؤمنين متصل نوع اتصال بالآية السابقة عليهما وتعريض للمشركين، فهو تعالى لما التفت إلى المشركين فذمهم وتهكم عليهم بسؤالهم الفتح، وذكر لهم أن الغلبة دائما لكلمة الإيمان على كلمة الكفر ولدعوة الحق على دعوة الباطل، التفت إلى حزبه وهم المؤمنون فأمرهم بالطاعة له ولرسوله، وحذرهم عن التولي عنه بعد استماع كلمة الحق، وأن يكونوا كأولئك إذ قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون.

ومن الممكن أن يكون في الآية إشارة إلى عدة من أهل مكة آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولما تخلص قلوبهم من الشك خرجوا مع المشركين إلى بدر لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فابتلوا بما ابتلي به مشركوا قريش، فقد ورد في الخبر: أن فئة من قريش أسلموا بمكة واحتبسهم آباؤهم فخرجوا مع قريش، يوم بدر، وهم قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، والحارث بن زمعة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة ولما رأوا قلة المسلمين قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم، وسيذكرهم الله بعد عدة آيات بقوله: ﴿وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم﴾ الآية.

وربما قيل: إن المراد بالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون هم أهل الكتاب من يهود قريظة والنضير.

وهو بعيد.

قوله تعالى: ﴿إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون﴾ إلى آخر الآيتين.

تعريض وذم للذين سبق ذكرهم من الكفار على ما يعطيه سياق الكلام وما اشتملت عليه الآية من الموصول والضمائر المستعملة في أولي العقل، وعلى هذا فالظاهر أن اللام في قوله: ﴿الصم البكم﴾ للعهد الذكري، ويئول المعنى إلى أن شر جميع ما يدب على الأرض من أجناس الحيوان وأنواعها هؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، وإنما لم يعقلوا لأنه لا طريق لهم إلى تلقي الحق لفقدهم السمع والنطق فلا يسمعون ولا ينطقون.

ثم ذكر تعالى أن الله إنما ابتلاهم بالصمم والبكمة فلا يسمعون كلمة الحق ولا ينطقون بكلمة الحق، وبالجملة حرمهم نعمة السمع والقبول، لأنه تعالى لم يجد عندهم خيرا ولم يعلم به ولو كان لعلم، لكن لم يعلم فلم يوفقهم للسمع والقبول، ولو أنه تعالى رزقهم السمع والحال هذه لم يثبت السمع والقبول فيهم بل تولوا عن الحق وهم معرضون.

ومن هنا يعلم أن المراد بالخير حسن السريرة الذي يثبت به الاستعداد لقبول الحق ويستقر في القلب، وأن المراد بقوله: ﴿ولو أسمعهم﴾ الأسماع على تقدير عدم الاستعداد الثابت المستقر فافهم ذلك فلا يرد أنه تعالى لو أسمعهم ورزقهم قبول الحق استلزم ذلك تحقق الخير فيهم ولا وجه مع ذلك لتوليهم وإعراضهم وذلك أن الشرط في قوله: ﴿ولو أسمعهم﴾ على تقدير فقدهم الخير على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ لما دعاهم في قوله: ﴿أطيعوا الله ورسوله﴾ إلخ إلى إطاعة الدعوة الحقة وعدم التولي عنها بعد استماعها أكده ثانيا بالدعوة إلى استجابة الله والرسول في دعوة الرسول، ببيان حقيقة الأمر والركن الواقعي الذي تعتمد عليه هذه الدعوة، وهو أن هذه الدعوة دعوة إلى ما يحيي الإنسان بإخراجه من مهبط الفناء والبوار، وموقفه في الوجود، أن الله سبحانه أقرب إليه من قلبه وأنه سيحشر إليه فليأخذ حذره وليجمع همه ويعزم عزمه.

الحياة أنعم نعمة وأعلى سلعة يعتقدها الموجود الحي لنفسه كيف لا؟ وهو لا يرى وراءه إلا العدم والبطلان، وأثرها الذي هو الشعور والإرادة هو الذي ترام لأجله الحياة ويرتاح إليه الإنسان ولا يزال يفر من الجهل وافتقاد حرية الإرادة والاختيار وقد جهز الإنسان وهو أحد الموجودات الحية بما يحفظ به حياته الروحية التي هي حقيقة وجوده كما جهز كل نوع من أنواع الخليقة بما يحفظ به وجوده وبقاءه.

وهذا الجهاز الإنساني يشخص له خيراته ومنافعه، ويحذره من مواطن الشر والضر.

وإذ كان هذه الهداية الإلهية التي يسوق النوع الإنسان إلى نحو سعادته وخيره ويندبه نحو منافع وجوده هداية بحسب التكوين وفي طور الخلقة، ومن المحال أن يقع خطأ في التكوين، كان من الحتم الضروري أن يدرك الإنسان سعادة وجوده إدراكا لا يقع فيه شك كما أن سائر الأنواع المخلوقة تسير إلى ما فيه خير وجوده ومنافع شخصه من غير أن يسهو فيه من حيث فطرته، وإنما يقع الخبط فيما يقع من جهة تأثير عوامل وأسباب أخر مضادة تؤثر فيه أثرا مخالفا ينحرف فيه الشيء عما هو خير له إلى ما هو شر، وعما فيه نفعه إلى ما فيه ضرر يعود إليه، وذلك كالجسم الثقيل الأرضي الذي يستقر بحسب الطبيعة الأرضية على بسيط الأرض ثم إنه يبتعد عن الأرض بالحركة إلى جهة العلو بدفع دافع يجبره على خلاف الطبع فإذا بطل أثر الدفع عاد إلى مستقره بالحركة نحو الأرض على استقامة إلا أن يمنعه مانع فيخرجه عن السير الاستقامي إلى انحراف واعوجاج.

وهذا هو الذي يصر عليه القرآن الكريم أن الإنسان لا يخفى عليه ما فيه سعادته في الحياة من علم وعمل، وأنه يدرك بفطرته ما هو حق الاعتقاد والعمل قال تعالى: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم﴾ الروم: 30، ﴿وقال تعالى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى - إلى أن قال - فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى﴾ الأعلى: 11، وقال تعالى: ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾ الشمس: 10.

نعم ربما أخطأ الإنسان طريق الحق في اعتقاد أو عمل وخبط في مشيته لكن لا لأن الفطرة الإنسانية والهداية الإلهية أوقعته في ضلالة وأوردته في تهلكة بل لأنه أغفل عقله ونسي رشده واتبع هوى نفسه وما زينه جنود الشياطين في عينه، قال تعالى: ﴿إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى﴾ النجم: 23 وقال: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم﴾ الجاثية: 23.

فهذه الأمور التي تدعو إليها الفطرة الإنسانية من حق العلم والعمل لوازم الحياة السعيدة الإنسانية وهي الحياة الحقيقية التي بالحري أن تختص باسم الحياة والحياة السعيدة تستتبعها كما أنها تستلزم الحياة وتستتبعها وتعيدها إلى محلها لو ضعفت الحياة في محلها بورود ما يضادها ويبطل رشد فعلها.

فإذا انحرف الإنسان عن سوي الصراط الذي تهديه إليه الفطرة الإنسانية وتسوقه إليه الهداية، الإلهية فقد فقد لوازم الحياة السعيدة من العلم النافع والعمل الصالح، ولحق بحلول الجهل وفساد الإرادة الحرة والعمل النافع بالأموات ولا يحييه إلا علم حق وعمل حق، وهما اللذان تندب إليهما الفطرة وهذا هو الذي تشير إليه الآية التي نبحث عنها: ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾.

واللام في قوله: ﴿لما يحييكم﴾.

بمعنى إلى، وهو شائع في الاستعمال، والذي يدعو إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الدين الحق وهو الإسلام الذي يفسره القرآن الكريم باتباع الفطرة فيما تندب إليه من علم نافع وعمل صالح.

وللحياة بحسب ما يراه القرآن الكريم معنى آخر أدق مما نراه بحسب النظر السطحي الساذج فإنا إنما نعرف من الحياة في بادىء النظر ما يعيش به الإنسان في نشأته الدنيوية إلى أن يحل به الموت، وهي التي تصاحب الشعور والفعل الإرادي، ويوجد مثلها أو ما يقرب منها في غير الإنسان أيضا من سائر الأنواع الحيوانية لكن الله سبحانه يقول: ﴿وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ العنكبوت: 64 ويفيد ذلك أن الإنسان متمتع بهذه الحياة غير مشتغل إلا بالأوهام، وأنه مشغول بها عما هو أهم وأوجب من غايات وجوده وأغراض روحه فهو في حجاب مضروب عليه يفصل بينه وبين حقيقة ما يطلبه ويبتغيه من الحياة.

وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى وهو من خطابات يوم القيامة: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ ق: 22.

فللإنسان حياة أخرى أعلى كعبا وأغلى قيمة من هذه الحياة الدنيوية التي يعدها الله سبحانه لعبا ولهوا، وهي الحياة الأخروية التي سينكشف عن وجهها الغطاء، وهي الحياة التي لا يشوبها اللعب واللهو، ولا يدانيها اللغو والتأثيم، لا يسير فيها الإنسان إلا بنور الإيمان وروح العبودية قال تعالى: ﴿أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه﴾ المجادلة: 22 وقال تعالى: ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾ الأنعام: 122.

فهذه حياة أخرى أرفع قدرا وأعلى منزلة من الحياة الدنيوية العامة التي ربما شارك فيها الحيوان العجم الإنسان، ويظهر من أمثال قوله تعالى: ﴿وأيدناه بروح القدس﴾ البقرة: 253 وقوله: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا﴾ الشورى: 52 أن هناك حياة أخرى فوق هاتين الحياتين المذكورتين سيوافيك البحث عنها فيما يناسبها من المورد إن شاء الله.

وبالجملة فللإنسان حياة حقيقية أشرف وأكمل من حياته الدينية الدنيوية يتلبس بها إذا تم استعداده بالتحلي بحلية الدين والدخول في زمرة الأولياء الصالحين كما تلبس بالحياة الدنيوية حين تم استعداده للتلبس بها وهو جنين إنساني.

وعلى ذلك ينطبق قوله تعالى في الآية المبحوث عنها: ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ فالتلبس بما تندب إليه الدعوة الحقة من الإسلام يجر إلى الإنسان هذه الحياة الحقيقية كما أن هذه الحياة منبع ينبع منه الإسلام وينشأ منه العلم النافع والعمل الصالح، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ النحل: 97.

والآية أعني قوله فيها: ﴿إذا دعاكم لما يحييكم﴾ مطلق لا يأبى الشمول لجميع دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) المحيية للقلوب، أو بعضها الذي فيه طبيعة الإحياء أو لنتائجها التي هي أنواع الحياة السعيدة الحقيقية كالحياة السعيدة في جوار الله سبحانه في الآخرة.

ومن هنا يظهر أن لا وجه لتقييد الآية بما قيدها به أكثر المفسرين فقد قال بعضهم: إن المراد بقوله: ﴿إذا دعاكم لما يحييكم﴾ بالنظر إلى مورد النزول: إذا دعاكم إلى الجهاد إذ فيه إحياء أمركم وإعزاز دينكم.

وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الشهادة في سبيل الله في جهاد عدوكم فإن الله سبحانه عد الشهداء أحياء كما في قوله: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ آل عمران: 169.

وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الإيمان فإنه حياة القلب والكفر موته أو إذا دعاكم إلى الحق.

ويل: المعنى إذا دعاكم إلى القرآن والعلم في الدين لأن العلم حياة والجهل موت والقرآن نور وحياة وعلم.

وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة والنعمة الباقية الأبدية.

وهذه الوجوه المذكورة يقبل كل واحد منها انطباق الآية عليه غير أن الآية كما عرفت مطلقة لا موجب لصرفها عما لها من المعنى الوسيع.

قوله تعالى: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون﴾ الحيلولة هي التخلل وسطا، والقلب العضو المعروف.

ويستعمل كثيرا في القرآن الكريم في الأمر الذي يدرك به الإنسان ويظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب والبغض والخوف والرجاء والتمني والقلق ونحو ذلك فالقلب هو الذي يقضي ويحكم، وهو الذي يحب شيئا ويبغض آخر، وهو الذي يخاف ويرجو ويتمنى ويسر ويحزن، وهو في الحقيقة النفس الإنسانية تفعل بما جهزت به من القوى والعواطف الباطنة.

والإنسان كسائر ما أبدعه الله من الأنواع التي هي أبعاض عالم الخلقة مركب من أجزاء شتى مجهز بقوى وأدوات تابعة لوجوده يملكها ويستخدمها في مقاصد وجوده، والجميع مربوطة به ربطا يجعل شتات الأجزاء والأبعاض على كثرتها وتفاريق القوى والأدوات على تعددها، واحدا تاما يفعل ويترك، ويتحرك ويسكن، بوحدته وفردانيته.

غير أن الله سبحانه لما كان هو المبدع للإنسان وهو الموجد لكل واحد واحد من أجزاء وجوده وتفاريق قواه وأدواته كان هو الذي يحيط به وبكل واحد من أجزاء وجوده وتوابعه، ويملك كلا منها بحقيقة معنى الملك يتصرف فيه كيف يشاء، ويملك الإنسان ما شاء منها كيف شاء فهو المتوسط الحائل بين الإنسان وبين كل جزء من أجزاء وجوده وكل تابع من توابع شخصه: بينه وبين قلبه، بينه وبين سمعه، بينه وبين بصره، بينه ومن بدنه، بينه وبين نفسه.

يتصرف فيها بإيجادها، ويتصرف فيها بتمليك الأسنان ما شاء منها كيف شاء، وإعطائه ما أعطي، وحرمانه ما حرم.

ونظير الإنسان في ذلك سائر الموجودات فما من شيء في الكون وله ذات وتوابع ذات من قوى وآثار وأفعال إلا والله سبحانه هو المالك بحقيقة معنى الكلمة لذاته ولتوابع ذاته، وهو المملك إياه كلا من ذاته وتوابع ذاته فهو الحائل المتوسط بينه وبين ذاته وبينه وبين توابع ذاته من قواه وآثاره وأفعاله.

فالله سبحانه هو الحائل المتوسط بين الإنسان وبين قلبه وكل ما يملكه الإنسان ويرتبط ويتصل هو به نوعا من الارتباط والاتصال وهو أقرب إليه من كل شيء كما قال تعالى: ﴿ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾ ق: 16.

وإلى هذه الحقيقة يشير قوله: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون﴾ فهو تعالى لكونه مالكا لكل شيء ومن جملتها الإنسان ملكا حقيقيا لا مالك حقيقة سواه، أقرب إليه حتى من نفسه وقوى نفسه التي يملكها لأنه سبحانه هو الذي يملكه إياها فهو حائل متوسط بينه وبينها يملكه إياها ويربطها به فافهم ذلك.

ولذلك عقب الجملة بقوله: ﴿وأنه إليه تحشرون﴾ فإن الحشر والبعث هو الذي ينجلي عنده أن الملك الحق لله وحده لا شريك له، ويبطل عند ذلك كل ملك صوري وسلطنة ظاهرية إلا ملكه الحق جل ثناؤه كما قال سبحانه: ﴿لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾ المؤمنون: 16، وقال: ﴿يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله﴾ الإنفطار: 19.

فكأن الآية تقول: واعلموا أن الله هو المالك بالحقيقة لكم ولقلوبكم وهو أقرب إليكم من كل شيء، وأنه ستحشرون إليه فيظهر حقيقة ملكه لكم وسلطانه عليكم يومئذ فلا يغني عنكم منه شيء.

وأما اتصال الكلام أعني ارتباط قوله: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ إلخ بقوله: ﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ فلأن حيلولته سبحانه بين المرء وقلبه، يقطع منبت كل عذر في عدم استجابته لله والرسول إذا دعاه لما يحييه، وهو التوحيد الذي هو حقيقة الدعوة الحقة فإن الله سبحانه لما كان أقرب إليه من كل شيء حتى من قلبه الذي يعرفه بوجدانه قبل كل شيء، فهو تعالى وحده لا شريك له أعرف إليه من قلبه الذي هو وسيلة إدراكه وسبب أصل معرفته وعلمه.

فهو يعرف الله إلها واحدا لا شريك له قبل معرفته قلبه وكل ما يعرفه بقلبه، فمهما شك في شيء أو ارتاب في أمر فلن يشك في إلهه الواحد الذي هو رب كل شيء ولن يضل في تشخيص هذه الكلمة الحقة.

فإذا دعاه داعي الحق إلى كلمة الحق ودين التوحيد الذي يحييه لو استجاب له، كان عليه أن يستجيب داعي الله فإنه لا عذر له في ترك الاستجابة معللا بأنه لم يعرف حقية ما دعي إليه، أو اختلط عليه، أو أعيته المذاهب في الإقبال على الحق الصريح فإن الله سبحانه هو الحق الصريح الذي لا يحجبه حاجب، ولا يستره ساتر إذ كل حجاب مفروض فالله سبحانه أقرب منه إلى الإنسان، وكل ما يختلج في القلب من شبهة أو وسوسة فالله سبحانه متوسط متخلل بينه - مع ما له من ظرف وهو القلب - وبين الإنسان فلا سبيل للإنسان إلى الجهل بالله والشك في توحده.

وأيضا فإن الله سبحانه لما كان حائلا بين المرء وقلبه فهو أقرب إلى قلبه منه كما أنه أقرب إليه من قلبه فإن الحائل المتوسط أقرب إلى كل من الطرفين من الطرف الآخر وإذا كان تعالى أقرب إلى قلب الإنسان منه فهو أعلم بما في قلبه منه.

فعلى الإنسان إذا دعاه داعي الحق إلى ما يحييه من الحق أن يستجيب دعاءه بقلبه كما يستجيبه بلسانه، ولا يضمر في قلبه ما لا يوافق ما لباه بلسانه وهو النفاق فإن الله أعلم بما في قلبه منه وسيحشر إليه فينبئه بحقيقة عمله ويخبره بما طواه في قلبه قال تعالى: ﴿يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء﴾ المؤمنون: 16، وقال: ﴿ولا يكتمون الله حديثا﴾ النساء: 42.

وأيضا فإن الله سبحانه لما كان هو الحائل بين الإنسان وقلبه وهو المالك للقلب بحقيقة معنى الملك كان هو المتصرف في القلب قبل الإنسان وله أن يتصرف فيه بما شاء فما يجده الإنسان في قلبه من إيمان أو شك أو خوف أو رجاء أو طمأنينة أو قلق واضطراب أو غير ذلك مما ينسب إليه باختيار أو اضطرار، فله انتساب إليه تعالى بتصرفه فيما هو أقرب إليه من كل شيء تصرفا بالتوفيق أو الخذلان أو أي نوع من أنواع التربية الإلهية، يتصرف بما شاء ويحكم بما أراد من غير أن يمنعه مانع أو يهدده ذم أو لوم كما قال تعالى: ﴿والله يحكم لا معقب لحكمه﴾ الرعد: 41، وقال تعالى: ﴿له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير﴾ التغابن: 1.

فمن الجهل أن يثق الإنسان بما يجد في قلبه من الإيمان بالحق أو التلبس بنية حسنة أو عزيمة على خير أو هم بصلاح وتقوى، بمعنى أن يرى استقلاله بملك قلبه وقدرته المطلقة على ما يهم به فإن القلب بين أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء وهو المالك له بحقيقة معنى الملك والمحيط به بتمام معنى الكلمة، قال تعالى: ﴿ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة﴾ الأنعام: 110، فمن الواجب عليه أن يؤمن بالحق ويعزم على الخير على مخافة من الله تعالى أن يقلبه من السعادة إلى الشقاء ويحول قلبه من حال الاستقامة إلى حال الانتكاس والانحراف، ولا يأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

وكذلك الإنسان إذا وجد قلبه غير مقبل على كلمة الحق والعزم على الخير وصالح العمل، عليه أن يبادر إلى استجابة الله ورسوله فيما يدعوه إلى ما يحييه، ولا ينهزم عما يهجم عليه من أسباب اليأس وعوامل القنوط من ناحية قلبه فإن الله سبحانه يحول بين المرء وقلبه، وهو القادر على أن يصلح سره ويحول قلبه إلى أحسن حال ويشمله بروح منه ورحمة فإنما الأمر إليه، وقد قال: ﴿إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾ يوسف: 87، وقال: ﴿ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون﴾ الحجر: 56.

فالآية الكريمة - كما ترى - من أجمع الآيات القرآنية تشتمل على معرفة حقيقية من المعارف الإلهية - مسألة الحيلولة - وهي تقطع عذر المتجاهلين في معرفة الله سبحانه من الكفار والمشركين، وتقلع غرة النفاق من أصلها بتوجيه نفوس المنافقين إلى مقام ربهم وأنه أعلم بما في قلوبهم منهم، ويلقي إلى المسلمين والذين هم في طريق الإيمان بالله وآياته مسألة نفسية تعلمهم أنهم غير مستقلين في ملك قلوبهم ولا منقطعون في ذلك من ربهم فيزول بذلك رذيلة الكبر عمن يرى لنفسه استقلالا وسلطنة فيما يملكه فلا يغره ما يشاهده من تقوى القلب وإيمان السر، ورذيلة اليأس والقنوط عمن يحيط بقلبه دواهي الهوى ودواعي أعراض الدنيا فيتثاقل عن الإيمان بالحق والإقبال على الخير، ويورثه ذلك اليأس والقنوط.

ومما تقدم يظهر أن قوله: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ إلخ تعليل لقوله تعالى: ﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ على جميع التقادير من وجوه معناه.

وبذلك يظهر أيضا أن الآية أوسع معنى مما أورده المفسرون من تفسيرها: كقول من قال: إن المراد أن الله سبحانه أقرب إلى المرء من قلبه نظير قوله: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، وفيه تحذير شديد.

وقول من قال: إن المراد أن القلب لا يستطيع أن يكتم الله حديثا فإن الله أقرب إلى قلب الإنسان من نفسه، فما يعلمه الإنسان من قلبه يعلمه الله قبله.

وقول من قال: إن المراد أنه يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يمكنه استدراك ما فات فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة ودعوا التسويف، وفيه حث على الطاعة قبل حلول المانع.

وقول من قال: معناه أن الله سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال فكأنهم خافوا من القتال فأعلمهم الله سبحانه أنه يبدل خوفهم أمنا بأن يحول بينهم وبين ما يتفكرون فيه من أسباب الخوف.

وقد ورد في الحديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بذلك أن الله سبحانه يحول بين الإنسان وبين أن يعلم أن الحق باطل أو أن الباطل حق، وسيجيء في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب﴾ قرأ علي والباقر (عليهما السلام) من أئمة أهل البيت وكذا زيد بن ثابت والربيع بن أنس وأبو العالية على ما في المجمع: لتصيبن باللام ونون التأكيد الثقيلة، والقراءة المشهورة: لا تصيبن بلا الناهية ونون التأكيد الثقيلة.

وعلى أي تقدير كان، تحذر الآية جميع المؤمنين عن فتنة تختص بالظالمين منهم، ولا يتعداهم إلى غيرهم من الكفار والمشركين، واختصاصها بالظالمين من المؤمنين وأمر عامتهم مع ذلك باتقائها يدل على أنها وإن كانت قائمة ببعض الجماعة لكن السيىء من أثرها يعم الجميع ثم قوله تعالى: ﴿واعلموا أن الله شديد العقاب﴾ تهديد للجميع بالعقاب الشديد ولا دليل يدل على اختصاص هذا العقاب بالحياة الدنيا وكونه من العذاب الدنيوي من قبيل الاختلافات القومية وشيوع القتل والفساد وارتفاع الأمن والسلام ونحو ذلك.

ومقتضى ذلك أن تكون الفتنة المذكورة على اختصاصها ببعض القوم مما يوجب على عامة الأمة أن يبادروا على دفعها، ويقطعوا دابرها ويطفئوا لهيب نارها بما أوجب الله عليهم من النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.

فيئول معنى الكلام إلى تحذير عامة المسلمين عن المساهلة في أمر الاختلافات الداخلية التي تهدد وحدتهم وتوجب شق عصاهم واختلاف كلمتهم، ولا تلبث دون أن تحزبهم أحزابا وتبعضهم أبعاضا، وو يكون الملك لمن غلب منهم، والغلبة لكلمة الفساد لا لكلمة الحق والدين الحنيف الذي يشترك فيه عامة المسلمين.

فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصة وهم الظالمون غير أن سيىء أثره يعم الكل ويشمل الجميع فيستوعبهم الذلة والمسكنة وكل ما يترقب من مر البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم، وهم جميعا مسئولون عند الله والله شديد العقاب.

وقد أبهم الله تعالى أمر هذه الفتنة ولم يعرفها بكمال اسمها ورسمها غير أن قوله فيما بعد: ﴿لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ وقوله: ﴿واعلموا أن الله شديد العقاب﴾ - كما تقدم - يوضحها بعض الإيضاح، وهو أنها اختلاف البعض من الأمة مع بعض منها في أمر يعلم جميعه وجه الحق فيه فيجمح البعض عن قبول الحق ويقدم إلى المنكر بظلمه فلا يرد عونه عن ظلمه ولا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر، وليس كل ظلم، بل الظلم الذي يسري سوء أثره إلى كافة المؤمنين وعامة الأمة لمكان أمره سبحانه الجميع باتقائه، فالظلم الذي هو لبعض الأمة ويجب على الجميع أن يتقوه ليس إلا ما هو من قبيل التغلب على الحكومة الحقة الإسلامية، والتظاهر بهدم القطعيات من الكتاب والسنة التي هي من حقوقها.

وأيا ما كان ففي الفتن الواقعة في صدر الإسلام ما ينطبق عليه الآية أوضح انطباق وقد انهدمت بها الوحدة الدينية، وبدت الفرقة ونفدت القوة، وذهبت الشوكة على ما اشتملت عليه من القتل والسبي والنهب وهتك الأعراض والحرمات وهجر الكتاب وإلغاء السنة، وقال الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

ومن شمول مشامتها وتعرق فسادها أن الأمة لا تستطيع الخروج من أليم عذابها حتى بعد التنبه منهم لسوء فعالهم وتفريطهم في جنب الله كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.

وقد تفطن بعض المفسرين بأن الآية تحذر الأمة وتهددهم بفتنة تشمل عامتهم وتفرق جمعهم، وتشتت شملهم، وتوعدهم بعذاب الله الشديد، وقد أحسن التفطن غير أنه تكلف في توجيه العذاب بالعذاب الدنيوي، وتمحل في تقييد ما في الآية من إطلاق العقاب، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد.

ولنرجع إلى لفظ الآية: أما على قراءة أهل البيت (عليهم السلام) وزيد: ﴿واتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ فاللام في ﴿لتصيبن﴾ للقسم والنون الثقيلة لتأكيده، والتقدير: واتقوا فتنة أقسم لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، وخاصة حال من الفتنة، والمعنى اتقوا فتنة تختص إصابته بالذين ظلموا منكم أيها المخاطبون وهم الذين آمنوا، وعليك أن تتذكر ما سلف بيانه أن لفظ: ﴿الذين آمنوا﴾ في القرآن خطاب تشريفي للمؤمنين في أول البعثة وبدء انتشار الدعوة لو لا قرينة صارفة عن ذلك، ثم تذكر أن فتن صدر الإسلام تنتهي إلى أصحاب بدر، والآية على أي حال يأمر الجميع أن يتقوا فتنة تثيرها بعضهم، وليس إلا لأن أثرها السيىء يعم الجميع كما تقدم.

وأما على قراءة المشهور: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ فقد ذكروا: أن لا في ﴿لا تصيبن﴾ ناهية والنون لتأكيد النهي، وليس ﴿لا تصيبن﴾ جوابا للأمر في ﴿اتقوا﴾ بل الكلام جار مجرى الابتداء والاستيناف كقوله تعالى: ﴿يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده﴾ النمل: 18 فقد قال أولا: ﴿واتقوا فتنة﴾ ثم استأنف وقال: ﴿لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ لاتصال الجملتين معنى.

وربما جوز بعض النحاة أن يكون ﴿لا تصيبن﴾ نهيا واردا في جواب الأمر كما يقال: اتق زيدا لا يضربك أو لا يضربنك والتقدير: اتق زيدا فإنك إن اتقيته لا يضربك ولم يشترط في نون التأكيد أن لا يدخل الخبر.

وربما قال بعضهم: إن لا زائدة والمعنى: اتقوا فتنة تصيبن الآية.

وربما ذكر آخرون: ﴿أن أصل لا تصيبن﴾ ﴿لتصيبن﴾ أشبعت فتحة اللام حتى تولدت الألف، وإشباع الفتحة ليس بعزيز في الشعر قال: فأنت من الغوائل حين ترمي ومن ذم الرجال بمنتزاح.

يريد: بمنتزح، والوجهان بعيدان لا يحمل على مثلهما كلامه تعالى.

ومآل المعنى على هذا الوجه أي على قراءة لا ﴿تصيبن﴾ أيضا إلى ما تفيده القراءة الأولى ﴿لتصيبن﴾ كما عرفت.

والآية - كما عرفت - تتضمن خطابا اجتماعيا متوجها إلى مجموع الأمة وذلك يؤيد كون الخطاب في الآية السابقة: ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ خطابا اجتماعيا متوجها إلى كافة المؤمنين، ويتفرع عليه أن المراد بالدعوة إلى ما يحييهم الدعوة إلى الاتفاق على الاعتصام بحبل الله وإقامة الدين وعدم التفرق فيه كما قال: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾ آل عمران: 103 وقال: ﴿أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ الشورى: 13 وقوله: ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ الأنعام: 153.

وبهذا يتأيد بعض الوجوه المذكورة سابقا في قوله: ﴿إذا دعاكم لما يحييكم﴾ وكذا في قوله: ﴿إن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ وتختص الآية به بحسب السياق وإن كانت تفيد معنى أوسع من ذلك باعتبار أخذها في نفسها مفردة عن السياق، والباحث الناقد لا يعوز عليه تمييز ذلك والله الهادي.

قوله تعالى: ﴿واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس﴾ إلى آخر الآية.

الاستضعاف عد الشيء ضعيفا بتوهين أمره، والتخطف والخطف والاختطاف أخذ الشيء بسرعة انتزاع، والإيواء جعل الإنسان ذا مأوى ومسكن يرجع إليه ويأوي، والتأييد من الأيد وهو القوة.

والسياق يدل على أن المراد بقوله: ﴿إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض﴾ الزمان الذي كان المسلمون محصورين بمكة قبل الهجرة وهم قليل مستضعفون، وبقوله: ﴿تخافون أن يتخطفكم الناس﴾ مشركوا العرب وصناديد قريش، وبقوله ﴿فآواكم﴾ أي بالمدينة وبقوله ﴿وأيدكم بنصره﴾ ما أسبغ عليهم من نعمة النصر ببدر، وبقوله: ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ ما رزقهم من الغنائم وأحلها لهم.

وما عده في الآية من أحوال المؤمنين ومننه عليهم بالإيواء وإن كانت مما يختص بالمهاجرين منهم دون الأنصار إلا أن المراد الامتنان على جميعهم من المهاجرين والأنصار فإنهم أمة واحدة يوحدهم دين واحد.

على أن فيما ذكره الله في الآية من مننه التأييد بالنصر والرزق من الطيبات وهما يعمان الجميع، هذا بحسب ما تقتضيه الآية من حيث وقوعها في سياق آيات بدر، ولكن هي وحدها وباعتبار نفسها تعم جميع المسلمين من حيث إنهم أمة واحدة يرجع لاحقهم إلى سابقهم فقد بدا ظهور الإسلام فيهم وهم قليل مستضعفون بمكة يخافون أن يتخطفهم الناس فآواهم بالمدينة وكثرهم بالأنصار وأيدهم بنصره في بدر وغيره ورزقهم من جميع الطيبات الغنائم وغيرها من سائر النعم لعلهم يشكرون.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ إلى آخر الآيتين.

الخيانة نقض الأمانة التي هي حفظ الأمن لحق من الحقوق بعهد أو وصية ونحو ذلك، قال الراغب: الخيانة والنفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، ونقيض الخيانة الأمانة يقال: خنت فلانا، وخنت أمانة فلان وعلى ذلك قوله: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم.

وقوله: ﴿وتخونوا أماناتكم﴾ من الجائز أن يكون مجزوما معطوفا على تخونوا السابق، والمعنى: ولا تخونوا أماناتكم، وأن يكون منصوبا بحذف أن والتقدير: وأن تخونوا أماناتكم ويؤيد الوجه الثاني قوله بعده: ﴿وأنتم تعلمون﴾.

وذلك أن الخيانة وإن كانت إنما يتعلق النهي التحريمي بها عند العلم فلا نهي مع جهل بالموضوع ولا تحريم غير أن العلم من الشرائط العامة التي لا ينجز تكليف من التكاليف المولوية إلا به فلا نكتة ظاهرة في تقييد النهي عن الخيانة بالعلم مع أن العلم لكونه شرطا عاما مستغنى عن ذكره، وظاهر قوله: ﴿وأنتم تعلمون﴾ بحذف متعلقات الفعل أن المراد: ولكم علم بأنه خيانة لا ما قيل: إن المعنى: وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وسوء عاقبتها وتحريم الله إياها فإن ذلك لا دليل عليه من جهة اللفظ ولا من جهة السياق.

فالوجه أن تكون الجملة بتقدير: وأن تخونوا أماناتكم، ويكون مجموع قوله: ﴿لاتخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم﴾ نهيا واحدا متعلقا بنوع خيانة هي خيانة أمانة الله ورسوله وهي بعينها خيانة لأمانة المؤمنين أنفسهم فإن من الأمانة ما هي أمانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرعة من عنده ومنها ما هي أمانة الرسول كسيرته الحسنة، ومنها ما هي أمانة الناس بعضهم عند بعض كالأمانات من أموالهم أو أسرارهم، ومنها ما يشترك فيه الله ورسوله والمؤمنون، وهي الأمور التي أمر بها الله سبحانه وأجراها الرسول وينتفع بها الناس ويقوم بها صلب مجتمعهم كالأسرار السياسية والمقاصد الحربية التي تضيع بإفشائها آمال الدين وتضل بإذاعتها مساعي الحكومة الإسلامية فيبطل به حق الله ورسوله ويعود ضرره إلى عامة المؤمنين.

فهذا النوع من الأمانة خيانته خيانة لله ورسوله وللمؤمنين فالخائن بهذه الخيانة من المؤمنين يخون الله والرسول وهو يعلم أن هذه الأمانة التي يخونها أمانة لنفسه ولسائر إخوانه المؤمنين وهو يخون أمانة نفسه، ولن يقدم عاقل على الخيانة لأمانة نفسه فإن الإنسان بعقله الموهوب له يدرك قبح الخيانة للأمانة فكيف يخون أمانة نفسه.

فالمراد بقوله: ﴿وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ - والله أعلم - وتخونوا في ضمن خيانة الله والرسول أماناتكم والحال أنكم تعلمون أنها أمانات أنفسكم وتخونونها، وأي عاقل يقدم على خيانة أمانة نفسه والإضرار بما لا يعود إلا إلى شخصه فتذييل النهي بقوله: ﴿وأنتم تعلمون﴾ لتهييج العصبية الحقة وإثارة قضاء الفطرة لا لبيان شرط من شرائط التكليف.

فكأن بعض أفراد المسلمين كان يفشي أمورا من عزائم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المكتومة من المشركين أو يخبرهم ببعض أسراره فسماه الله تعالى خيانة ونهى عنه، وعدها خيانة لله والرسول والمؤمنين.

ويؤيد ذلك قوله بعد هذا النهي: ﴿واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾ إلخ فإن ظاهر السياق أنه متصل بما قبله غير مستقل عنه، ويفيد حينئذ أن موعظتهم في أمر الأموال والأولاد مع النهي عن خيانة الله والرسول وأماناتهم إنما هو لإخبار المخبر منهم المشركين بأسرار رسول الله المكتومة، استمالة منهم مخافة أن يتعدوا على أموالهم وأولادهم الذين تركوهم بمكة بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يخبرونهم بالأخبار إلقاء للمودة واستبقاء للمال والولد أو ما يشابه ذلك نظير ما كان من أبي لبابة مع بني قريظة.

وهذا يؤيد ما ورد في سبب النزول أن أبا سفيان خرج من مكة بمال كثير فأخبر جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخروجه وأشار عليه بالخروج إليه وكتمان أمره فكتب إليه بعضهم بالخبر فأنزل الله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ وفي نزول الآية بعض أحاديث أخر سيأتي إن شاء الله في البحث الروائي التالي.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم﴾ الفرقان ما يفرق به بين الشيء والشيء، وهو في الآية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى الفرقان بين الحق والباطل سواء كان ذلك في الاعتقاد بالتفرقة بين الإيمان والكفر وكل هدى وضلال أو في العمل بالتمييز بين الطاعة والمعصية وكل ما يرضي الله أو يسخطه، أو في الرأي والنظر بالفصل بين الصواب والخطإ فإن ذلك كله مما تثمره شجرة التقوى، وقد أطلق الفرقان في الآية ولم يقيده قد عد جمل الخير والشر في الآيات السابقة والجميع يحتاج إلى الفرقان.

ونظير الآية بحسب المعنى قوله تعالى: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه﴾ وقد تقدم الكلام في معنى تكفير السيئات والمغفرة، والآية بمنزلة تلخيص الكلام في الأوامر والنواهي التي تتضمنها الآيات السابقة أي إن تتقوا الله لم يختلط عندكم ما يرضي الله في جميع ما تقدم بما يسخطه ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم.

بحث روائي:

في الكافي، بإسناده عن عقيل الخزاعي: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن الرعب والخوف من جهاد المستحق للجهاد والمتوازرين على الضلال، ضلال في الدين وسلب للدنيا مع الذل والصغار، وفيه استيجاب النار بالفرار من الزحف عند حضرة القتال يقول الله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا - فلا تولوهم الأدبار﴾ وفي الفقيه، والعلل، بإسناده عن ابن شاذان: أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: حرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل، وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين الله عز وجل وغيره من الفساد. أقول: وقد استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الفرار من الزحف من المعاصي الكبيرة الموبقة، وقد تقدم طرف منها في البحث عن الكبائر في تفسير قوله تعالى: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم﴾ النساء: 31 في الجزء الرابع من الكتاب.

وعلى ذلك روايات من طرق أهل السنة كما في صحيحي البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهناك روايات أخرى عن ابن عباس وغيره تدل على كون الفرار من الزحف من الكبائر.

نعم قوله تعالى: ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين﴾ الآية يقيد إطلاق آية تحريم الفرار بما دون الثلاثة لواحد.

وقد روي من طرقهم عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم كما في الدر المنثور: أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية خاص بيوم بدر.

وربما وجه ذلك بأن الآية نزلت يوم بدر، وأن الظرف في قوله ﴿ومن يولهم يومئذ دبره﴾ إشارة إلى يوم بدر، وقد عرفت أن سياق الآيات يشهد بنزولها بعد يوم بدر، وأن المراد بقوله: ﴿يومئذ﴾ هو يوم الزحف لا يوم بدر.

على أنه لو فرض نزولها يوم بدر لم يوجب خصوص السبب في عموم مدلول الآية شيئا كما في سائر الآيات التي جمعت بين عموم الدلالة وخصوص السبب.

قال صاحب المنار في تفسيره: وإنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الآية قد نزلت قبل اشتباك القتال - خلافا للجمهور - مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها أول غزوة في الإسلام لو انهزم فيها المسلمون والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم لكانت الفتنة كبيرة.

وتأييد المسلمين بالملائكة يثبتونهم، ووعده تعالى بنصرهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.

فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص وقرينة الحال في النهي اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذي في الآية خاصا بها.

أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة رض بالتولي والإدبار في القتال مرتين مع وجوده (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم: يوم أحد وفيه يقول الله تعالى ﴿إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ويوم حنين﴾ وفيه يقول الله تعالى ﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين﴾ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين إلخ، وهذا لا ينافي كون التولي حراما ومن الكبائر، ولا يقتضي أن يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير بل قد يكون دون ذلك، ويتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتي تفصيله قريبا.

وقد روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا؟ ثم قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من الفرارون؟ فقلنا: نحن الفرارون. قال: بل أنتم العكارون إنا فئتكم وفئة المسلمين. قال: فأتينا حتى قبلنا يده، (ولفظ أبي داود) فقلنا: ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا فجلسنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون إلخ.

تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى ولا للغة حكم، وقد قال الترمذي فيه: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد أقول: وهو مختلف فيه ضعفه الكثيرون، وقال ابن حبان كان صدوقا إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه فمن سمع منه قبل التغير فسماعه صحيح، وجملة القول: أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا ولا سندا، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة.

أقول: والذي نقله في أول كلامه من الوجوه والقرائن المحتفة بغزوة بدر من كونه أول غزوة في الإسلام، وكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم ونحو ذلك مشتركة بحسب حقيقة الملاك بينها وبين أمثال غزوة أحد والخندق وخيبر وحنين، والإسلام أيامئذ في حاجة شديدة إلى الرجال المقاتلين وثباتهم في الزحوف، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم، والله وعدهم بالنصر وأنزل في بعضها الملائكة لتأييدهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.

والذي ذكره من الآيات النازلة في فرارهم يوم أحد ويوم حنين لا دلالة فيها على عدم شمول وعيد آية الأنفال لهم إذ ذاك وأي مانع يمنع من ذلك والآية مطلقة وليس هناك مقيد يقيدها.

ومن العجيب تسليمه كون فرارهم في اليومين كبيرة محرمة ثم قوله: إن ذلك لا يقتضي كونه مما يبوء صاحبه بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير بل قد يكون دون ذلك مع أن الكبائر الموبقة هي المعاصي التي أوعد الله عليها النار.

وأعجب منه قوله: إنه يتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها! مع أن آية رخصة الضعف إنما تدل على الرخصة في الفرار إذا كان يربو عدد الزاحفين من الأعداء على الضعف.

وآية النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لو دلت بعمومها على أزيد مما يدل عليه آية رخصة الضعف لغت آية الأنفال وبقيت بلا مصداق كما أن التأول في قوله تعالى: ﴿أو متحيزا إلى فئة﴾ على حسب ما تقتضيه رواية ابن عمر يوجب إلغاء الآية كما ذكره صاحب المنار فقد تلخص أن لا مناص عن إبقاء الآية على ظاهر إطلاقها.

وفي تفسير العياشي، عن موسى بن جعفر (عليه السلام): في الآية: ﴿إلا متحرفا لقتال﴾ قال متطردا يريد الكرة عليهم ﴿أو متحيزا إلى فئة﴾ يعني متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة، من انهزم حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب من الله.

أقول: تشير الرواية إلى نكتة مهمة في لفظ الآية، وهي أن النهي إنما تعلقت في الآية على تولي الأدبار وهي أعم من الانهزام فإذا استثني الموردان أعني التحرف لقتال والتحيز إلى فئة وهي غير موارد الفرار عن هزيمة، بقيت موارد الهزيمة تحت النهي فكل انهزام عن أعداء الدين إذا لم يجوزوا الضعف عددا حرام محرم.

وفي تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الثعلبي عن ضحاك عن عكرمة عن ابن عباس: في قوله تعالى: ﴿وما رميت إذ رميت﴾ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي: ناولني كفا من حصى وناوله ورمى به في وجوه قريش فما بقي أحد إلا امتلأت عيناه من الحصى: أقول: ورواه في الدر المنثور، عن الطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس وروى العياشي في تفسيره حديث المناولة عن محمد بن كليب الأسدي عن أبيه عن الصادق (عليه السلام) وفي خبر آخر عن علي (عليه السلام).

وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب رضي الله عنهما قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقتلونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: ﴿وما رميت إذ رميت إلى قوله سميع عليم﴾.

أقول: والمراد بنزول الآية نزولها بعد ذلك وهي تقص القصة لا نزولها وقتئذ، وهو شائع في أسباب النزول.

وقد ذكر ابن هشام في سيرته: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رماهم بالتراب ثم أمر أصحابه بالكرة فكانت الهزيمة.

وفيه أخرج ابن أبي الشيبة وأحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحا منه فنزلت: ﴿إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح﴾ الآية.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿إن شر الدواب عند الله﴾ الآية قال قال الباقر (عليه السلام): هم بنو عبد الدار لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له: سويبط.

وفي جامع الجوامع، قال الباقر (عليه السلام): هم بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير وسويد بن حرملة، وكانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد وقد قتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء.

أقول: وروي في الدر المنثور، ما في معناه بطرق عن ابن عباس وقتادة، والرواية من قبيل الجري والانطباق، والآية عامة.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا - استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ قال: قال الحياة الجنة.

وفي الكافي، بإسناده عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول - إذا دعاكم لما يحييكم﴾ قال: نزلت في ولاية علي (عليه السلام): أقول: ورواه في تفسير البرهان، عن ابن مردويه عن رجاله مرفوعا إلى الإمام محمد بن علي الباقر، (عليهما السلام) وكذا عن أبي الجارود عنه (عليه السلام) كما رواه القمي في تفسيره، والرواية من قبيل الجري وكذا الرواية السابقة عليها وقد قدمنا في الكلام على الآية أنها عامة.

وفي تفسير القمي، عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ يقول: بين المرء ومعصيته أن يقوده إلى النار، ويحول بين الكافر وطاعته أن يستكمل بها الإيمان، واعلموا أن الأعمال بخواتيمها. وفي المحاسن، بإسناده عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام): في قول الله تبارك وتعالى: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ قال: يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق: أقول: ورواه الصدوق في المعاني، عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عنه (عليه السلام). وفي تفسير العياشي، عن يونس بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبدا، ولا يستيقن أن الباطل حق أبدا.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية: ﴿يحول بين المرء وقلبه﴾ قال: يحول بين المؤمن والكفر، ويحول بين الكافر وبين الهدى.

أقول: وهو قريب من الخبر المتقدم عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) في معنى الآية.

وفي تفسير العياشي، عن حمزة الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام): ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ قال: هو أن يشتهي الشيء بسمعه وبصره ولسانه ويده أما إنه لا يغشى شيئا منها وإن كان يشتهيه فإنه لا يأتيه إلا وقلبه منكر لا يقبل الذي يأتي يعرف أن الحق ليس فيه: أقول: ورواه البرقي في المحاسن بإسناده عن حمزة الطيار عنه (عليه السلام) وروى ما يقرب منه العياشي في تفسيره عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)، ويئول معنى الرواية إلى الروايتين المتقدمتين عن هشام بن سالم ويونس بن عمار عن الصادق (عليه السلام).

وفي تفسير العياشي، عن الصيقل: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ قال: أخبرت أنهم أصحاب الجمل. وفي تفسير القمي، قال: قال: نزلت في الطلحة والزبير لما حاربا أمير المؤمنين (عليه السلام) وظلماه. وفي المجمع، عن الحاكم بإسناده عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿واتقوا فتنة﴾ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء من قبلي.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن الزبير رضي الله عنه قال: لقد قرأنا زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾.

وفيه، أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: هذه نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من أهل بدر.

وفيه، أخرج أحمد والبزاز وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن مطرف قال: قلنا للزبير: يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير رضي الله عنه: إنا قرأنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. وفيه، أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: علم والله ذوو الألباب من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سيكون فتن.

وفيه، أخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوسي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: ﴿واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض - تخافون أن يتخطفكم الناس﴾ قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: أهل فارس.

أقول: والرواية لا تلائم سياق الآية.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا - لا تخونوا الله والرسول﴾ الآية: أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبرائيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله: ﴿لا تخونوا الله والرسول﴾ الآية.

أقول: ومعنى الرواية قريب الانطباق على ما استفدناه من الآية في البيان المتقدم.

وفيه، أخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه.

أقول: والآية لا تنطبق عليه بسياقها البتة وفي المجمع، عن الباقر والصادق (عليهما السلام) والكلبي والزهري: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحات من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتاهم فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: أنه الذبح فلا تفعلوا فأتاه جبرائيل فأخبره بذلك.

قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت الآية فيه فلما نزلت شد نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك فقال: لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله هو الذي يحلني فجاءه وحله بيده.

ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وإن انخلع من مالي. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يجزيك الثلث أن تصدق به.

أقول: قصة أبي لبابة وتوبته صحيحة قابلة الانطباق على مضمون الآيتين غير أنها وقعت بعد قصة بدر بكثير، وظاهر الآيتين إذا اعتبرتا وقيستا إلى الآيات السابقة عليهما أن الجميع في سياق واحد نزلت بعد وقعة بدر بقليل.