الآيات 1-6

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿1﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿3﴾ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿4﴾ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴿5﴾ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴿6﴾

بيان:

سياق الآيات في السورة يعطي أنها مدنية نزلت بعد وقعة بدر، وهي تقص بعض أخبار بدر، وتذكر مسائل متفرقة تتعلق بالجهاد والغنائم والأنفال ونحوها، وأمورا أخرى تتعلق بالهجرة وبها تختتم السورة.

قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول﴾ إلى آخر الآية.

الأنفال جمع نفل بالفتح وهو الزيادة على الشيء، ولذا يطلق النفل والنافلة على التطوع لزيادته على الفريضة، وتطلق الأنفال على ما يسمى فيئا أيضا وهي الأشياء من الأموال التي لا مالك لها من الناس كرءوس الجبال، وبطون الأودية، والديار الخربة، والقرى التي باد أهلها وتركة من لا وارث له، وغير ذلك كأنها زيادة على ما ملكه الناس فلم يملكها أحد وهي لله ولرسوله، وتطلق على غنائم الحرب كأنها زيادة على ما قصد منها فإن المقصود بالحرب والغزوة الظفر على الأعداء واستئصالهم فإذا غلبوا وظفر بهم فقد حصل المقصود، والأموال التي غنمه المقاتلون والقوم الذين أسروهم زيادة على أصل الغرض.

وذات في الأصل مؤنث ذا بمعنى الصاحب من الألفاظ اللازمة الإضافة غير أنه كثر استعماله في نفس الشيء بمعنى ما به الشيء هو هو فيقال: ذات الإنسان أي ما به الإنسان إنسان، وذات زيد أي النفس الإنسانية الخاصة التي سميت بزيد، وكان الأصل فيها النفس ذات أعمال كذا ثم أفردت بالذكر فقيل ذات الأعمال أو ما يؤدي مؤداه ثم قيل ذات، وكذلك الأمر في ذات البين فلكون الخصومة لا تتحقق إلا بين طرفين نسب إليها البين فقيل ذات البين أي الحالة والرابطة السيئة التي هي صاحبة البين فالمراد بقوله: أصلحوا ذات بينكم أي أصلحوا الحالة الفاسدة والرابطة السيئة التي بينكم.

وقال الراغب في المفردات: ذو على وجهين: أحدهما يتوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس والأنواع، ويضاف إلى الظاهر دون المضمر، ويثنى ويجمع، ويقال في التثنية: ذواتا، وفي الجمع: ذوات، ولا يستعمل شيء منها إلا مضافا.

قال: وقد استعار أصحاب المعاني الذات فجعلوه عبارة عن عين الشيء جوهرا كان أو عرضا، واستعملوها مفردة ومضافة إلى المضمر وبالألف واللام، وأجروها مجرى النفس والخاصة فقالوا: ذاته ونفسه وخاصته، وليس ذلك من كلام العرب، والثاني في لفظ ذو لغة لطيء يستعملونه استعمال الذي ويجعل في الرفع والنصب والجر والجمع والتأنيث على لفظ واحد نحو: وبئري ذو حفرت وذو طويت.

أي التي حفرت والتي طويت.

والذي ذكره من عدم إضافته إلى الضمير منقول عن الفراء، ولازمه كون استعماله مضافا إلى الضمير من كلام المولدين والحق أنه قليل لا متروك، وقد وقع في كلام علي (عليه السلام) في بعض خطبه كما في نهج البلاغة.

وقد اختلف المفسرون في معنى الآية وموقعها اختلافا شديدا من جهات: من جهة معنى قوله: ﴿يسئلونك عن الأنفال﴾ وقد نسب إلى أهل البيت (عليهم السلام) وبعض آخر كعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن مصرف أنهم قرءوا: ﴿يسئلونك الأنفال﴾ فقيل: عن زائدة في القراءة المشهورة، وقيل: بل مقدرة في القراءة الشاذة، وقيل: إن المراد بالأنفال غنائم الحرب، وقيل: غنائم غزوة بدر خاصة بجعل اللام في الأنفال للعهد، وقيل: الفيء الذي لله والرسول والإمام، وقيل: إن الآية منسوخة بآية الخمس، وقيل: بل محكمة، وقد طالت المشاجرة بينهم كما يعلم بالرجوع إلى مطولات التفاسير كتفسيري الرازي والآلوسي وغيرهما.

والذي ينبغي أن يقال بالاستمداد من السياق: أن الآية بسياقها تدل على أنه كان بين هؤلاء المشار إليهم بقوله: ﴿يسئلونك﴾ تخاصم خاصم به بعضهم بعضا بأخذ كل جانبا من القول لا يرضى به خصمه، والتفريع الذي في قوله: ﴿فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم﴾ يدل على أن الخصومة كانت في أمر الأنفال، ولازم ذلك أن يكون السؤال الواقع منهم المحكي في صدر الآية إنما وقع لقطع الخصومة، كأنهم تخاصموا في أمر الأنفال ثم راجعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألونه عن حكمها لتنقطع بما يجيبه الخصومة وترتفع عما بينهم.

وهذا - كما ترى - يؤيد أولا القراءة المشهورة: ﴿يسئلونك عن الأنفال﴾ فإن السؤال إذا تعدى بعن كان بمعنى استعلام الحكم والخبر، وأما إذا استعمل متعديا بنفسه كان بمعنى الاستعطاف ولا يناسب المقام إلا المعنى الأول.

وثانيا: أن الأنفال بحسب المفهوم وإن كان يعم الغنيمة والفيء جميعا إلا أن مورد الآية هي الأنفال بمعنى غنائم الحرب لا غنائم غزوة بدر خاصة إذ لا وجه للتخصيص فإنهم إذ تخاصموا في غنائم بدر لم يتخاصموا فيها لأنها غنائم بدر خاصة بل لأنها غنائم مأخوذة من أعداء الدين في جهاد ديني، وهو ظاهر.

واختصاص الآية بحسب موردها بغنيمة الحرب لا يوجب تخصيص الحكم الوارد فيها بالمورد، فإن المورد لا يخصص، فإطلاق حكم الآية بالنسبة إلى كل ما يسمى بالنفل في محله، وهي تدل على أن الأنفال جميعا لله ولرسوله لا يشارك الله ورسوله فيها أحد من المؤمنين سواء في ذلك الغنيمة والفيء.

ثم الظاهر من قوله: ﴿قل الأنفال لله والرسول﴾ وما يعظهم الله به بعد هذه الجملة ويحرضهم على الإيمان هو أن الله سبحانه فصل الخصومة بتشريع ملكها لنفسه ولرسوله، ونزعها من أيديهم وهو يستدعي أن يكون تخاصمهم من جهة دعوى طائفة منهم أن الأنفال لها خاصة دون غيرها، أو أنها تختص بشيء منها، وإنكار الطائفة الأخرى ذلك، ففصل الله سبحانه خصومتهم فيها بسلب ملكهم منها وإثبات ملك نفسه ورسوله، وموعظتهم أن يكفوا عن المخاصمة والمشاجرة، وأما قول من يقول: إن الغزاة يملكون ما أخذوه من الغنيمة بالإجماع فأحرى به أن يورد في الفقه دون التفسير.

وبالجملة فنزاعهم في الأنفال يكشف عن سابق عهد لهم بأن الغنيمة لهم أو ما في معناه غير أنه كان حكما مجملا اختلف فيه المتخاصمان وكل يجر النار إلى قرصته، والآيات الكريمة تؤيد ذلك.

توضيحه: أن ارتباط الآيات في السورة والتصريح بقصة وقعة بدر فيها يكشف أن السورة بأجمعها نزلت حول وقعة بدر وبعيدها حتى إن ابن عباس - على ما نقل عنه - كان يسميها سورة بدر، والتي تتعرض لأمر الغنيمة من آياتها خمس آيات في مواضع ثلاثة من السورة هي بحسب ترتيب السورة، قوله تعالى: ﴿يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير﴾ وقوله تعالى: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم﴾.

وسياق الآية الثانية يفيد أنها نزلت بعد الآية الأولى والآيات الأخيرة جميعا لمكان قوله فيها إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فهي نازلة بعد الوقعة بزمان.

ثم الآيات الأخيرة تدل على أنهم كلموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر الأسرى وسألوه أن لا يقتلهم ويأخذ الفدية، وفيها عتابهم على ذلك، ثم تجويز أن يأكلوا مما غنموا وكأنهم فهموا من ذلك أنهم يملكون الغنائم والأنفال على إبهام في أمره: هل يملكه جميع من حضر الوقعة أو بعضهم كالمقاتلين دون القاعدين مثلا؟ وهل يملكون ذلك بالسوية فيقسم بينهم كذلك أو يختلفون فيه بالزيادة والنقيصة كأن يكون سهم الفرسان منها أزيد من المشاة؟ أو نحو ذلك.

وكان ذلك سبب التخاصم بينهم فتشاجروا في الأمر، ورفعوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية الأولى: ﴿قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم﴾ الآية، فخطأتهم الآية فيما زعموا أنهم مالكوا الأنفال بما استفادوا من قوله: ﴿فكلوا مما غنمتم﴾ الآية، وأقرت ملك الأنفال لله والرسول ونهتهم عن التخاصم والتشاجر، فلما انقطع بذلك تخاصمهم أرجعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم، وقسمها بينهم بالسوية، وعزل السهم لعدة من أصحابه لم يحضروا الوقعة، ولم يقدم مقاتلا على قاعد، ولا فارسا على ماش، ثم نزلت الآية الثانية: ﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه﴾ الآية، بعد حين فأخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما رد إليهم من السهام الخمس وبقي لهم الباقي.

هذا ما يتحصل من انضمام الآيات المربوطة بالأنفال بعضها ببعض.

فقوله تعالى: ﴿يسئلونك عن الأنفال﴾ يفيد بما ينضم إليه من قرائن السياق أنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم غنائم الحرب بعد ما زعموا أنهم يملكون الغنيمة، واختلفوا فيمن يملكها، أو في كيفية ملكها وانقسامها بينهم، أو فيهما معا، وتخاصموا في ذلك.

وقوله: ﴿قل الأنفال لله والرسول﴾ جواب عن مسألتهم وفيه بيان أنهم لا يملكونها وإنما هي أنفال يملكها الله ورسوله، فيوضع حيثما أراد الله ورسوله، وقد قطع ذلك أصل ما نشب بينهم من الاختلاف والتخاصم.

ويظهر من هذا البيان أن الآية غير ناسخة لقوله تعالى: ﴿فكلوا مما غنمتم﴾ إلى آخر الآية، وإنما تبين معناها بالتفسير، وإن قوله: ﴿كلوا﴾ ليس بكناية عن ملكهم للغنيمة بحسب الأصل، وإنما المراد هو التصرف فيها والتمتع منها إلا أن يمتلكوا بقسمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إياها بينهم.

ويظهر أيضا أن قوله تعالى: ﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى﴾ الآية ليس بناسخ لقوله: ﴿قل الأنفال لله والرسول﴾ الآية فإن قوله: ﴿واعلموا أنما غنمتم﴾ الآية إنما يؤثر بالنسبة إلى المجاهدين منعهم عن أكل تمام الغنيمة والتصرف فيه إذ لم يكن لهم بعد نزول قوله: ﴿الأنفال لله والرسول﴾ إلا ذلك، وأما قوله: ﴿الأنفال لله والرسول﴾ فلا يفيد إلا كون أصل ملكها لله والرسول من دون أن يتعرض لكيفية التصرف وجواز الأكل والتمتع، فلا يناقضه في ذلك قوله: ﴿واعلموا أنما غنمتم﴾ الآية حتى يكون بالنسبة إليه ناسخا، فيتحصل من مجموع الآيات الثلاث: أن أصل الملك في الغنيمة لله والرسول ثم يرجع أربعة أخماسها إلى المجاهدين يأكلونها ويمتلكونها ويرجع خمس منها إلى الله والرسول وذي القربى وغيرهم لهم التصرف فيها والاختصاص بها.

ويظهر بالتأمل في البيان السابق أيضا: أن في التعبير عن الغنائم بالأنفال وهو جمع نفل بمعنى الزيادة إشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه الأعم، كأنه قيل: يسألونك عن الغنائم وهي زيادات لا مالك لها من بين الناس، وإذا كان كذلك فأجبهم بحكم الزيادات والأنفال، وقل: الأنفال لله والرسول، ولازم ذلك كون الغنيمة لله والرسول.

وبذلك ربما تأيد كون اللام في لفظ الأنفال الأول للعهد وفي الثاني للجنس أو الاستغراق، وتبين وجه الإظهار في قوله: ﴿قل الأنفال﴾ الآية حيث لم يقل: قل هي لله والرسول.

ويظهر بذلك أيضا: أن قوله: ﴿قل الأنفال لله والرسول﴾ حكم عام يشمل بعمومه الغنيمة وسائر الأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية والقرى البائدة ورءوس الجبال وبطون الأودية وقطائع الملوك وتركة من لا وارث له، أما الأنفال بمعنى الغنائم فهي متعلقة بالمقاتلين من المسلمين بعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبقي الباقي تحت ملك الله ورسوله.

هذا ما يفيده التأمل في كرائم الآيات، وللمفسرين فيها أقاويل مختلفة تعلم بالرجوع إلى مطولات التفاسير لا جدوى في نقلها والتعرض المنقض والإبرام فيها.

قوله تعالى: ﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم﴾ إلى آخر الآيتين الآيتان والتي بعدهما بيان ما يتميز به المؤمنون بحقيقة الإيمان ويختصون به من الأوصاف الكريمة والثواب الجزيل بينت ليتأكد به ما يشتمل عليه قوله تعالى: ﴿فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم﴾ إلى آخر الآية.

وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات اختارها من بين جميع صفاتهم التي ذكرها في كلامه لكونها مستلزمة لكرائم صفاتهم على كثرتها وملازمة لحق الإيمان، وهي بحيث إذا تنبهوا لها وتأملوها كان ذلك مما يسهل لهم توطين النفس على التقوى وإصلاح ذات بينهم، وإطاعة الله ورسوله.

وهاتيك الصفات الخمس هي: وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند استماع آيات الله، والتوكل، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله، ومعلوم أن الصفات الثلاث الأول من أعمال القلوب، والأخيرتان من أعمال الجوارح.

وقد روعي في ذكرها الترتيب الذي بينها بحسب الطبع، فإن نور الإيمان إنما يشرق على القلب تدريجا، فلا يزال يشتد ويضاعف حتى يتم ويكمل بحقيقته، فأول ما يشرق يتأثر القلب بالوجل والخشية إذا تذكر بالله عند ذكره، وهو قوله تعالى: ﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم﴾.

ثم لا يزال ينبسط الإيمان ويتعرق وينمو ويتفرع بالسير في الآيات الدالة عليه تعالى، والهادية إلى المعارف الحقة، فكلما تأمل المؤمن في شيء منها زادته إيمانا، فيقوى الإيمان ويشتد حتى يستقر في مرحلة اليقين، وهو قوله تعالى: ﴿وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا﴾.

وإذا زاد الإيمان وكمل كمالا عرف عندئذ مقام ربه وموقع نفسه، معرفة تطابق واقع الأمر، وهو أن الأمر كله إلى الله سبحانه فإنه تعالى وحده هو الرب الذي إليه يرجع كل شيء، فالواجب الحق على الإنسان أن يتوكل عليه ويتبع ما يريده منه بأخذه وكيلا في جميع ما يهمه في حياته، فيرضى بما يقدر له في مسير الحياة، ويجري على ما يحكم عليه من الأحكام ويشرعه من الشرائع فيأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه، وهو قوله تعالى: ﴿وعلى ربهم يتوكلون﴾.

ثم إذا استقر الإيمان على كماله في القلب، استوجب ذلك أن ينعطف العبد بالعبودية إلى ربه، وينصب نفسه في مقام العبودية وإخلاص الخضوع وهو الصلاة، وهي أمر بينه وبين ربه، وأن يقوم بحاجة المجتمع في نواقص مساعيهم بالإنفاق على الفقراء مما رزقه الله من مال أو علم أو غير ذلك، وهو أمر بينه وبين سائر أفراد مجتمعه، وهو قوله تعالى: ﴿الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون﴾.

وقد ظهر مما تقدم أن قوله تعالى: ﴿زادتهم إيمانا﴾ إشارة إلى الزيادة من حيث الكيفية وهو الاشتداد والكمال، دون الكمية وهي الزيادة من حيث عدد المؤمنين كما احتمله بعض المفسرين.

قوله تعالى: ﴿أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم﴾ قضاء منه تعالى بثبوت الإيمان حقا فيمن اتصف بما عده تعالى من الصفات الخمس، ولذلك أطلق ما ذكره لهم من كريم الأجر في قوله: ﴿لهم درجات عند ربهم﴾ الآية فلهؤلاء من صفات الكمال وكريم الثواب وعظيم الأجر ما لكل مؤمن حقيقي.

وأما قوله: ﴿لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم﴾ فالمغفرة هي الصفح الإلهي عند ذنوبهم، والرزق الكريم ما يرتزقون به من نعم الجنة، وقد أراد الله سبحانه بالرزق الكريم الجنة ونعمها في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: ﴿فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم﴾ الحج: 51 وغير ذلك.

وبذلك يظهر أن المراد بقوله: ﴿لهم درجات عند ربهم﴾ مراتب القرب والزلفى ودرجات الكرامة المعنوية، وهو كذلك.

فإن المغفرة والجنة من آثار مراتب القرب من الله سبحانه وفروعه البتة.

والذي يشتمل عليه الآية من إثبات الدرجات لهؤلاء المؤمنين، هو ثبوت جميع الدرجات لجميعهم، لا ثبوت جميعها لكل واحد منهم فإنها من لوازم الإيمان، والإيمان مختلف ذو مراتب فالدرجات الموهوبة بإزائه كذلك لا محالة، فمن المؤمنين من له درجة واحدة، ومنهم ذو الدرجتين، ومنهم ذو الدرجات على اختلاف مراتبهم في الإيمان.

ويؤيده قوله تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ المجادلة: 11، وقوله تعالى: ﴿أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير، هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون﴾ آل عمران: 163.

وبما تقدم يظهر أن تفسير بعضهم ما في الآية من الدرجات بدرجات الجنة، ليس على ما ينبغي، وإن المتعين كون المراد بها درجات القرب كما تقدم وإن كان كل منهما يلازم الآخر.

قوله تعالى: ﴿كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون﴾ إلى آخر الآيتين.

ظاهر السياق أن قوله: ﴿كما أخرجك﴾ متعلق بما يدل عليه قوله تعالى: ﴿قل الأنفال لله والرسول﴾ والتقدير: إن الله حكم بكون الأنفال له ولرسوله بالحق مع كراهتهم له، كما أخرجك من بيتك بالحق مع كراهة فريق منهم له، فللجميع حق يترتب عليه من مصلحة دينهم ودنياهم ما هم غافلون عنه.

وقيل: إنه متعلق بقوله: ﴿يجادلونك في الحق﴾ وقيل: إن العامل فيه معنى الحق والتقدير: هذا الذكر من الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق.

والمعنيان - كما ترى - بعيدان عن سياق الآية.

والمراد بالحق ما يقابل الباطل، وهو الأمر الثابت الذي يترتب عليه آثاره الواقعية المطلوبة، وكون الفعل - وهو الإخراج - بالحق هو أن يكون هو المتعين الواجب بحسب الواقع، وقيل: المراد به الوحي، وقيل: المراد به الجهاد، وقيل غير ذلك، وهي معان بعيدة.

والأصل في معنى الجدل شدة الفتل: يقال: زمان جديل أي شديد الفتل، وسمي الجدال جدالا لأنه فيه نزاعا بالفتل عن مذهب إلى مذهب كما ذكره في المجمع.

ومعنى الآيتين: أن الله تعالى حكم في أمر الأنفال بالحق مع كراهتهم لحكمه كما أخرجك من بيتك بالمدينة إخراجا يصاحب الحق، والحال أن فريقا من المؤمنين لكارهون لذلك، ينازعونك في الحق بعد ما تبين لهم إجمالا، والحال أنهم يشبهون جماعة يساقون إلى الموت، وهم ينظرون إلى ما أعد لهم من أسبابه وأدواته.

بحث روائي:

في جامع الجوامع للطبرسي، قرأ ابن مسعود وعلي بن الحسين زين العابدين والباقر والصادق (عليهما السلام): يسألونك الأنفال:. أقول: ورواه عن ابن مسعود وكذا عن السجاد والباقر والصادق غيره. وفي الكافي، بإسناده عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: الأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال فقال: وله يعني الوالي رءوس الجبال وبطون الأودية والآجام، وكل أرض ميتة لا رب لها، وله صوافي الملوك: ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأن الغصب كله مردود، وهو وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له. وفيه،: بإسناده عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿يسئلونك عن الأنفال﴾ قال: من مات وليس له مولى فماله من الأنفال.

أقول: وفي معنى الروايتين روايات كثيرة مروية من طرق أهل البيت (عليهم السلام) ولا ضير في عدم ذكرها الأنفال بمعنى غنائم الحرب، فإن الآية بموردها تدل عليه على ما يفيده سياقها.

وفي الدر المنثور، أخرج الطيالسي والبخاري في الأدب المفرد ومسلم والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت في أربع آيات من كتاب الله: كانت أمي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا.

والثانية: أني كنت أخذت سيفا أعجبني فقلت: يا رسول الله هب لي هذا فنزلت: يسألونك عن الأنفال.

والثالثة: أني مرضت فأتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: يا رسول الله إني أريد أن أقسم مالي أفأوصي بالنصف؟ قال: لا، فقلت: الثلث؟ فسكت فكان الثلث بعده جائزا.

والرابعة: أني شربت الخمر مع قوم من الأنصار فضرب رجل منهم أنفي بلحيي جمل فأتيت النبي فأنزل الله تحريم الخمر.

أقول: الرواية لا تخلو عن شيء أما أولا فلأن قوله تعالى: ﴿وإن جاهداك على أن تشرك بي﴾ الآية ذيل قوله تعالى: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه﴾ لقمان: 14 وهي بسياقها تأبى أن تكون نازلة عن سبب خاص.

على أنه قد تقدم في ذيل قوله تعالى: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا﴾ الأنعام: 151، إن الإحسان بالوالدين من الأحكام العامة غير المختصة بشريعة دون شريعة.

وأما ثانيا: فلأن ما ذكر من أخذ السيف واستيهابه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يناسب قراءة: ﴿يسئلونك الأنفال﴾ لا قراءة: ﴿يسئلونك عن الأنفال﴾ وقد تقدم توضيحه في البيان المتقدم.

وأما ثالثا: فلأن استقرار السنة على الإيصاء بالثلث لم يكن بآية نازلة بل بسنة نبوية.

وأما رابعا: فلأن قصة شربه الخمر مع جماعة من الصحابة وشج أنفه بلحيي بعير وإن كانت حقة لكنه إنما شرب الخمر مع جماعة مختلطة من المهاجرين والأنصار، وقد شج أنفه عمر بن الخطاب ثم أنزل الله آية المائدة، ولم ينزل للتحريم بل لتشديده، وقد تقدم ذلك كله في ذيل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان﴾ المائدة: 90.

وفيه، أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سننه عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أحلامنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين، عن براء يقول: عن سواء.

وفيه، أخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم، وصححه والبيهقي وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمين يقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لستم بأحق منا نحن أحدقنا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت: ﴿يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم﴾ فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين، الحديث.

وفيه، أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال النبي: من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت: ﴿يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول﴾ فقسم الغنائم بينهم بالسوية.

أقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وهنا روايات تدل على تفصيل القصة تتضح بها معنى الآيات سنوردها في ذيل الآيات التالية.

وفي بعض الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدهم أن يعطيهم السلب والغنيمة ثم نسخه الله تعالى بقوله: ﴿قل الأنفال لله والرسول﴾ وإلى ذلك يشير ما في هذه الرواية، ولذلك ربما قيل: إنه لا يجب على الإمام أن يفي بما وعد به المحاربين.

لكن يبعده اختلافهم في أمر الغنائم يوم بدر إذ لو كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدهم بذلك لم يختلفوا مع صريح بيانه.

وفيه، أخرج ابن جرير عن مجاهد: أنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخمس بعد الأربعة الأخماس فنزلت: ﴿يسألونك عن الأنفال﴾.

أقول: وهو لا ينطبق على ما تقدم من مضمون الآية على ما يعطيه السياق، وفي بعض ما ورد عن المفسرين السلف كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وكذا عن ابن عباس أن قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول﴾ الآية منسوخة بقوله: ﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول﴾ الآية، وقد تقدم في بيان الآية ما ينتفي به احتمال النسخ.

وفيه، أخرج مالك وابن أبي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحاس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد، قال: سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال: الفرس من النفل والسلب من النفل فأعاد المسألة فقال ابن عباس ذلك أيضا.

ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه، ما هي؟ فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه، فقال ابن عباس: هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر، وفي لفظ: ما أحوجك إلى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿أولئك هم المؤمنون حقا﴾ أخرج الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عرفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، قال: يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا.

أقول: والحديث مروي من طرق الشيعة بأسانيد عديدة.