الآيات 1-8

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿1﴾ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ﴿2﴾ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴿3﴾ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿4﴾ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴿5﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴿6﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴿7﴾ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴿8﴾

بيان:

تسجل السورة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لعامة أهل الكتاب والمشركين وبعبارة أخرى للمليين وغيرهم وهم عامة البشر فتفيد عموم الرسالة وأنها مما كانت تقتضيه السنة الإلهية - سنة الهداية - التي تشير إليها أمثال قوله تعالى: ﴿إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا﴾ الإنسان: 3، وقوله: ﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾ فاطر: 24، وتحتج على عموم دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنها لا تتضمن إلا ما يصلح المجتمع الإنساني من الاعتقاد والعمل على ما سيتضح إن شاء الله.

والسورة تحتمل المكية والمدنية وإن كان سياقها بالمدنية أشبه.

قوله تعالى: ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة﴾ ظاهر الآيات - وهي في سياق يشير إلى قيام الحجة على الذين كفروا بالدعوة الإسلامية من أهل الكتاب والمشركين وعلى الذين أوتوا الكتاب حينما بدا فيهم الاختلاف - أن المراد هو الإشارة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مصاديق الحجة البينة القائمة على الناس التي تقتضي قيامها السنة الإلهية الجارية في عباده فقد كانت توجب مجيء البينة إليهم كما أوجبته من قبل ما تفرقوا في دينهم.

وعلى هذا فالمراد بالذين كفروا في الآية هم الكافرون بالدعوة النبوية الإسلامية من أهل الكتاب والمشركين، و﴿من﴾ في قوله: ﴿من أهل الكتاب﴾ للتبعيض لا للتبيين، وقوله: و﴿المشركين﴾ عطف على ﴿أهل الكتاب﴾ والمراد بهم غير أهل الكتاب من عبدة الأصنام وغيرهم.

وقوله: ﴿منفكين﴾ من الانفكاك وهو الانفصال عن شدة اتصال، والمراد به - على ما يستفاد من قوله: ﴿حتى تأتيهم البينة﴾ - انفكاكهم عما تقتضي سنة الهداية والبيان كان السنة الإلهية كانت قد أخذتهم ولم تكن تتركهم حتى تأتيهم البينة ولما أتتهم البينة تركتهم وشأنهم كما قال تعالى: ﴿وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون﴾ التوبة: 115.

وقوله: ﴿حتى تأتيهم البينة﴾ على ظاهره من الاستقبال والبينة هي الحجة الظاهرة والمعنى لم يكن الذين كفروا برسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بدعوته أو بالقرآن لينفكوا حتى تأتيهم البينة والبينة هي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وللقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية ومعاني مفرداتها حتى قال بعضهم - على ما نقل - إن الآية من أصعب الآيات القرآنية نظما وتفسيرا.

انتهى، والذي أوردناه من المعنى هو الذي يلائمه سياقها من غير تناقض بين الآيات وتدافع بين الجمل والمفردات، ومن أراد الاطلاع على تفصيل ما قيل ويقال فعليه أن يراجع المطولات.

قوله تعالى: ﴿رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة﴾ بيان للبينة والمراد به محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعا على ما يعطيه السياق.

والصحف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيها، والمراد بها أجزاء القرآن النازلة وقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الصحف على أجزاء الكتب السماوية ومنها القرآن الكريم قال تعالى: ﴿في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة﴾ عبس: 16.

والمراد بكون الصحف مطهرة تقدسها من قذارة الباطل بمس الشياطين، وقد تكرر منه تعالى أنه حق مصون من مداخلة الشياطين وقال: ﴿لا يمسه إلا المطهرون﴾ الواقعة: 79.

وقوله: ﴿فيها كتب قيمة﴾ الكتب جمع كتاب ومعناه المكتوب ويطلق على اللوح والقرطاس ونحوهما المنقوشة فيها الألفاظ وعلى نفس الألفاظ التي تحكي عنها النقوش، وربما يطلق على المعاني بما أنها محكية بالألفاظ، ويطلق أيضا على الحكم والقضاء يقال كتب عليه كذا أي قضى أن يفعل كذا قال تعالى: ﴿كتب عليكم الصيام﴾ البقرة: 183 وقال: ﴿كتب عليكم القتال﴾ البقرة: 216.

والظاهر أن المراد بالكتب التي في الصحف الأحكام والقضايا الإلهية المتعلقة بالاعتقاد والعمل، ومن الدليل عليه توصيفها بالقيامة فإنها من القيام بالشيء بمعنى حفظه ومراعاة مصلحته وضمان سعادته قال تعالى: ﴿أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم﴾ يوسف: 40، ومعلوم أن الصحف السماوية إنما تقوم بأمر المجتمع الإنساني وتحفظ مصلحته بما فيها من الأحكام والقضايا المتعلقة بالاعتقاد والعمل.

فمعنى الآيتين: الحجة البينة التي أتتهم رسول من الله يقرأ صحائف سماوية مطهرة من دنس الباطل في تلك الصحائف أحكام وقضايا قائمة بأمر المجتمع الإنساني حافظة لمصالحه.

قوله تعالى: ﴿وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة﴾ كانت الآية الأولى ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب﴾ إلخ تشير إلى كفرهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه المتضمن للدعوة الحقة وهذه الآية تشير إلى اختلافهم السابق على الدعوة الإسلامية وقد أشير إلى ذلك في مواضع من القرآن الكريم كما قال تعالى: ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم﴾ آل عمران: 19 إلى غير ذلك من الآيات.

ومجيء البينة لهم هو البيان النبوي الذي تبين لهم في كتابهم أو أوضحه لهم أنبياؤهم قال تعالى: ﴿ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم﴾ الزخرف: 65.

فإن قلت: ما باله تعرض لاختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في مذاهبهم ولم يتعرض لتفرق المشركين وإعراضهم عن دين التوحيد وإنكارهم الرسالة.

قلت: لا يبعد أن يكون قوله: ﴿وما تفرق الذين أوتوا الكتاب﴾ إلخ شاملا للمشركين كما هو شامل لأهل الكتاب فقد بدل أهل الكتاب - وهم في عرف القرآن اليهود والنصارى والصابئون والمجوس أو اليهود والنصارى - من الذين أوتوا الكتاب، والتعبيران متغايران، وقد صرح تعالى بأنه أنزل الكتاب - وهو الشريعة المفروضة عليهم الحاكمة في اختلافاتهم في أمور الحياة - أول ما بدا الاختلافات الحيوية بينهم ثم اختلفوا في الدين بعد تبين الحق لهم وقيام الحجة عليهم فعامة البشر آتاهم الله كتابا ثم اختلفوا فيه فمنهم من نسي ما أوتيه، ومنهم من أخذ به محرفا ومنهم من حفظه وآمن به، قال تعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم﴾ البقرة: 213 وقد مر تفسير الآية.

وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - إلى أن قال - ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر﴾ البقرة: 253.

وبالجملة فالذين أوتوا الكتاب أعم من أهل الكتاب فقوله: ﴿وما تفرق الذين أوتوا الكتاب﴾ إلخ يشمل المشركين كما يشمل أهل الكتاب.

قوله تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾ إلخ ضمير ﴿أمروا﴾ للذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أي لم يتضمن رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والكتب القيمة التي في صحف الوحي إلا أمرهم بعبادة الله تعالى بقيد الإخلاص في الدين فلا يشركوا به شيئا.

وقوله: ﴿حنفاء﴾ حال من ضمير الجمع وهو جمع حنيف من الحنف وهو الميل عن جانبي الإفراط والتفريط إلى حاق وسط الاعتدال وقد سمى الله تعالى الإسلام دينا حنيفا لأنه يأمر في جميع الأمور بلزوم الاعتدال والتحرز عن الإفراط وتفريط.

وقوله: ﴿ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة﴾ من قبيل ذكر الخاص بعد العام أو الجزء بعد الكل اهتماما بأمره فالصلاة والزكاة على أركان الإسلام وهما التوجه العبودي الخاص إلى الله وإنفاق المال في الله.

وقوله: ﴿وذلك دين القيمة﴾ أي دين الكتب القيمة على ما فسروا، والمراد بالكتب القيمة إن كان جميع الكتب السماوية أعني كتاب نوح ومن دونه من الأنبياء (عليهم السلام) فالمعنى أن هذا الذي أمروا به ودعوا إليه في الدعوة المحمدية هو الدين الذي كلفوا به في كتبهم القيمة وليس بأمر بدع فدين الله واحد وعليهم أن يدينوا به لأنه القيم.

وإن كان المراد به ما كان يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكتب القيمة التي في الصحف المطهرة فالمعنى أنهم لم يؤمروا في الدعوة الإسلامية إلا بأحكام وقضايا هي القيمة الحافظة لمصالح المجتمع الإنساني فلا يسعهم إلا أن يؤمنوا بها ويتدينوا.

فالآية على أي حال تشير إلى كون دين التوحيد الذي يتضمنه القرآن الكريم المصدق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن عليه فيما يأمر المجتمع البشري قائما بأمرهم حافظا لمصالح حياتهم كما يبينه بأوفى البيان قوله تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم﴾ الروم: 30.

وبهذه الآية يكمل بيان عموم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشمول الدعوة الإسلامية لعامة البشر فقوله: ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين﴾ إلخ يشير إلى أنه كان من الواجب في سنة الهداية الإلهية أن تتم الحجة على من كفر بالدعوة من أهل الكتاب والمشركين، وهؤلاء وإن كانوا بعض أهل الكتاب والمشركين لكن من الضروري أن لا فرق بين البعض والبعض في تعلق الدعوة فتعلقها بالبعض لا ينفك عن تعلقها بالكل.

وقوله: ﴿رسول من الله﴾ إلخ يشير إلى أن تلك البينة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله ﴿وما تفرق﴾ إلخ يشير إلى أن تفرقهم وكفرهم السابق بالحق أيضا كان بعد مجيء البينة.

وقوله: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله﴾ إلخ يفيد أن الذي دعوا إليه وأمروا به دين قيم حافظ لمصالح المجتمع البشري فعليهم جميعا أن يؤمنوا به ولا يكفروا.

قوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية﴾ لما فرغ من الإشارة إلى كفرهم بالبينة التي كانت توجبها سنة الهداية الإلهية وما كانت تدعو إليه من الدين القيم أخذ في الإنذار والتبشير بوعيد الكفار ووعد المؤمنين، والبرية الخلق، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية﴾ فيه قصر الخيرية في المؤمنين الصالحين كما أن في الآية السابقة قصر الشرية في الكفار.

قوله تعالى: ﴿جزاؤهم عند ربهم - إلى قوله - ذلك لمن خشي ربه﴾ العدن الاستقرار والثبات فجنات عدن جنات خلود ودوام وتوصيفها بقوله: ﴿خالدين فيها أبدا﴾ تأكيد بما يدل عليه الاسم.

وقوله: ﴿رضي الله عنهم﴾ الرضى منه تعالى صفة فعل ومصداقه الثواب الذي أعطاهموه جزاء لإيمانهم وعملهم الصالح.

وقوله: ﴿ذلك لمن خشي ربه﴾ علامة مضروبة لسعادة الدار الآخرة وقد قال تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ فاطر: 28 فالعلم بالله يستتبع الخشية منه، والخشية منه تستتبع الإيمان به بمعنى الالتزام القلبي بربوبيته وألوهيته ثم العمل الصالح.

واعلم أن لهم في تفسير مفردات هذه الآيات اختلافا شديدا وأقوالا كثيرة لا جدوى في التعرض لها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: البينة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال: يا عائشة أما تقرئين ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات - أولئك هم خير البرية﴾ وفيه، أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقبل علي فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ونزلت ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات - أولئك هم خير البرية﴾ فكان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية.

أقول: وروي هذا المعنى أيضا عن ابن عدي عن ابن عباس، وأيضا عن ابن مردويه عن علي (عليه السلام) ورواه أيضا في البرهان، عن الموفق بن أحمد في كتاب المناقب عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي عنه، وكذا في المجمع، عن كتاب شواهد التنزيل للحاكم عن يزيد بن شراحيل عنه، ولفظه: سمعت عليا يقول: قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا مسنده إلى صدري فقال: يا علي أ لم تسمع قول الله: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات - أولئك هم خير البرية﴾ هم شيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمع الأمم للحساب يدعون غرا محجلين.

وفي المجمع، عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: ﴿هم خير البرية﴾ قال: نزلت في علي وأهل بيته.