الآيات 11-18

مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿11﴾ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿12﴾ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿13﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿14﴾ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿15﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿16﴾ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴿17﴾ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿18﴾

بيان:

شروع فيما هو الغرض من السورة بعد ما مر من التمهيد والتوطئة وهو الندب إلى الإنفاق في سبيل الله والصبر على ما يصيبهم من المصائب في خلال المجاهدة في الله سبحانه.

وقدم ذكر المصيبة والإشارة إلى الصبر عليها ليصفو المقام لما سيندب إليه من الإنفاق وينقطع العذر.

قوله تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم﴾ المصيبة صفة شاع استعمالها في الحوادث السوء التي تصحب الضر، والإذن الإعلام بالرخصة وعدم المانع ويلازم علم الإذن بما أذن فيه، وليس هو العلم كما قيل.

فظهر بما تقدم أولا أن إذنه تعالى في عمل سبب من الأسباب هو التخلية بينه وبين مسببيه برفع الموانع التي تتخلل بينه وبين مسببه فلا تدعه يفعل فيه ما يقتضيه بسببيته كالنار تقتضي إحراق القطن مثلا لو لا الفصل بينهما والرطوبة فرفع الفصل بينهما والرطوبة من القطن مع العلم بذلك إذن في عمل النار في القطن بما تقتضيه ذاتها أعني الإحراق.

وقد كان استعمال الإذن في العرف العام مختصا بما إذا كان المأذون له من العقلاء لمكان أخذ معنى الإعلام في مفهومه فيقال: أذنت لفلان أن يفعل كذا ولا يقال: أذنت للنار أن تحرق، ولا أذنت للفرس أن يعدو، لكن القرآن الكريم يستعمله فيما يعم العقلاء وغيرهم بالتحليل كقوله: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ النساء: 64.

وقوله: ﴿والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه﴾ الأعراف: 58، ولا يبعد أن يكون هذا التعميم مبنيا على ما يفيده القرآن من سريان العلم والإدراك في الموجودات كما قدمناه في تفسير قوله: ﴿قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء﴾ حم السجدة: 21.

وكيف كان فلا يتم عمل من عامل ولا تأثير من مؤثر إلا بإذن من الله سبحانه فما كان من الأسباب غير تام له موانع لو تحققت منعت من تأثيره فإذنه تعالى له في أن يؤثر رفعه الموانع، وما كان منها تاما لا مانع له يمنعه فإذنه له عدم جعله له شيئا من الموانع فتأثيره يصاحب الإذن من غير انفكاك.

وثانيا: أن المصائب وهي الحوادث التي تصيب الإنسان فتؤثر فيه آثارا سيئة مكروهة إنما تقع بإذن من الله سبحانه كما أن الحسنات كذلك لاستيعاب إذنه تعالى صدور كل أثر من كل مؤثر.

وثالثا: أن هذا الإذن إذن تكويني غير الإذن التشريعي الذي هو رفع الحظر عن الفعل فإصابة المصيبة تصاحب إذنا من الله في وقوعها وإن كانت من الظلم الممنوع فإن كون الظلم ممنوعا غير مأذون فيه إنما هو من جهة التشريع دون التكوين.

ولذا كانت بعض المصائب غير جائزة الصبر عليها ولا مأذونا في تحملها ويجب على الإنسان أن يقاومها ما استطاع كالمظالم المتعلقة بالأعراض والنفوس.

ومن هنا يظهر أن المصائب التي ندب إلى الصبر عندها هي التي لم يؤمر المصاب عندها بالذب والامتناع عن تحملها كالمصائب العامة الكونية من موت ومرض مما لا شأن لاختيار الإنسان فيها، وأما ما للاختيار فيها دخل كالمظالم المتعلقة نوع تعلق بالاختيار من المظالم المتوجهة إلى الأعراض فلإنسان أن يتوقاها ما استطاع.

وقوله: ﴿ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾ كان ظاهر سياق قوله: ﴿ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله﴾ يفيد أن لله سبحانه في الحوادث التي تسوء الإنسان علما ومشية فليست تصيبه مصيبة إلا بعد علمه تعالى ومشيته فليس لسبب من الأسباب الكونية أن يستقل بنفسه فيما يؤثره فإنما هو نظام الخلقة لا رب يملكه إلا خالقه فلا تحدث حادثة ولا تقع واقعة إلا بعلم منه ومشية فلم يكن ليخطئه ما أصابه ولم يكن ليصيبه ما أخطأه.

وهذه هي الحقيقة التي بينها بلسان آخر في قوله: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير﴾ الحديد: 22.

فالله سبحانه رب العالمين ولازم ربوبيته العامة أنه وحده يملك كل شيء لا مالك بالحقيقة سواه، والنظام الجاري في الوجود مجموع من أنحاء تصرفاته في خلقه فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا عن إذن منه، ولا يفعل فاعل ولا يقبل قابل إلا عن علم سابق منه ومشية لا يخطىء علمه ومشيته ولا يرد قضاؤه.

فالإذعان بكونه تعالى هو الله يستعقب اهتداء النفس إلى هذه الحقائق واطمئنان القلب وسكونه وعدم اضطرابه وقلقه من جهة تعلقه بالأسباب الظاهرية وإسناده المصائب والنوائب المرة إليها دون الله سبحانه.

وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾.

وقيل: معنى الجملة: ومن يؤمن بتوحيد الله ويصبر لأمر الله يهد قلبه للاسترجاع حتى يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وفيه إدخال الصبر في معنى الإيمان.

وقيل: المعنى: ومن يؤمن بالله يهد قلبه إلى ما عليه أن يفعل فإن ابتلي صبر وإن أعطي شكر وإن ظلم غفر، وهذا الوجه قريب مما قدمناه.

وقوله: ﴿والله بكل شيء عليم﴾ تأكيد للاستثناء المتقدم، ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يفيده قوله: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها﴾ الحديد: 22.

قوله تعالى: ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين﴾ ظاهر تكرار ﴿أطيعوا﴾ دون أن يقال: أطيعوا الله والرسول اختلاف المراد بالإطاعة، فالمراد بإطاعة الله تعالى الانقياد له فيما شرعه لهم من شرائع الدين والمراد بإطاعة الرسول الانقياد له وامتثال ما يأمر به بحسب ولايته للأمة على ما جعلها الله له.

وقوله: ﴿فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين﴾ التولي الإعراض، والبلاغ التبليغ، والمعنى: فإن أعرضتم عن إطاعة الله فيما شرع من الدين أو عن إطاعة الرسول فيما أمركم به بما أنه ولي أمركم، فلم يكرهكم رسولنا على الطاعة فإنه لم يؤمر بذلك، وإنما أمر بالتبليغ وقد بلغ.

ومن هنا يظهر أن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما وراء الأحكام والشرائع من تبليغ رسالة الله فأمره ونهيه فيما توليه من أمر الله ونهيه، وطاعته فيهما من طاعة الله تعالى كما يدل عليه إطلاق قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ النساء: 64.

الظاهر في أن طاعة الرسول فيما يأمر وينهى مطلقا مأذون فيه بإذن الله، وإذنه في طاعته يستلزم علمه ومشيته لطاعته، وإرادة طاعة الأمر والنهي إرادة لنفس الأمر والنهي فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهيه من أمر الله ونهيه وإن كان فيما وراء الأحكام والشرائع المجعولة له تعالى.

ولما تقدم من رجوع طاعة الرسول إلى طاعة الله التفت من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿رسولنا﴾ وفيه مع ذلك شيء من شائبة التهديد.

قوله تعالى: ﴿الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ في مقام التعليل لوجوب إطاعة الله على ما تقدم أن طاعة الرسول من طاعة الله، توضيح ذلك أن الطاعة بمعنى الانقياد والائتمار للأمر والانتهاء عن النهي من شئون العبودية حيث لا أثر لملك المولى رقبة عبده إلا مالكيته لإرادته وعمله فلا يريد إلا ما يريد المولى أن يريده ولا يعمل إلا ما يريد المولى أن يعمله فالطاعة نحو من العبودية كما يشير إليه قوله: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان﴾ يس: 60، يعاتبهم بعبادة الشيطان وإنما أطاعوه.

فطاعة المطيع بالنسبة إلى المطاع نوع عبادة له، وإذ لا معبود إلا الله فلا طاعة إلا لله عز اسمه أو من أمر بطاعته فالمعنى: أطيعوا الله سبحانه إذ لا طاعة إلا لمعبود ولا معبود بالحق إلا الله فيجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به بطاعة غيره وعبادته كالشيطان وهوى النفس وهذا معنى كون الجملة في مقام التعليل.

وبما مر يظهر وجه تخصيص صفة الألوهية التي تفيد معنى المعبودية، بالذكر دون صفة الربوبية فلم يقل: الله لا رب غيره.

وقوله: ﴿وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ تأكيد لمعنى الجملة السابقة أعني قوله: ﴿الله لا إله إلا هو﴾.

توضيحه: أن التوكيل إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في إدارة أموره ولازم ذلك قيام إرادته مقام إرادة موكلة وفعله مقام فعله فينطبق بوجه على الإطاعة فإن المطيع يجعل إرادته وعمله تبعا لإرادة المطاع فتقوم إرادة المطاع مقام إرادته ويعود عمله متعلقا لإرادة المطاع صادرا منها اعتبارا فترجع الإطاعة توكيلا بوجه كما أن التوكيل إطاعة بوجه.

فإطاعة العبد لربه اتباع إرادته لإرادة ربه والإتيان بالفعل على هذا النمط وبعبارة أخرى إيثار إرادته وما يتعلق بها من العمل على إرادة نفسه وما يتعلق بها من العمل.

فطاعته تعالى فيما شرع لعباده وما يتعلق بها نوع تعلق من التوكل عليه، وطاعته واجبة لمن عرفه وآمن به فعلى الله فليتوكل المؤمنون وإياه فليطيعوا، وأما من لم يعرفه ولم يؤمن به فلا تتحقق منه طاعة.

وقد بان بما تقدم أن الإيمان والعمل الصالح نوع من التوكل على الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم﴾ إلخ ﴿من﴾ في ﴿أزواجكم﴾ للتبعيض، وسياق الخطاب بلفظ ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وتعليق العداوة بهم يفيد التعليل أي إنهم يعادونهم بما أنهم مؤمنون، والعداوة من جهة الإيمان لا تتحقق إلا باهتمامهم أن يصرفوهم عن أصل الإيمان أو عن الأعمال الصالحة كالإنفاق في سبيل الله والهجرة من دار الكفر أو أن يحملوهم على الكفر أو المعاصي الموبقة كالبخل عن الإنفاق في سبيل الله شفقة على الأولاد والأزواج والغصب واكتساب المال من غير طريق حله.

فالله سبحانه يعد بعض الأولاد والأزواج عدوا للمؤمنين في إيمانهم حيث يحملونهم على ترك الإيمان بالله أو ترك بعض الأعمال الصالحة أو اقتراف بعض الكبائر الموبقة وربما أطاعوهم في بعض ذلك شفقة عليهم وحبا لهم فأمرهم الله بالحذر منهم.

وقوله: ﴿وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم﴾ قال الراغب: العفو القصد لتناول الشيء يقال: عفاه واعتفاه أي قصده متناولا ما عنده - إلى أن قال - وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه، وقال: الصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال تعالى: ﴿فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره﴾ وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، وقال: الغفر البأس ما يصونه عن الدنس، ومنه قيل: اغفر ثوبك في الوعاء واصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ، والغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب قال: ﴿غفرانك ربنا﴾ و﴿مغفرة من ربكم﴾ ﴿ومن يغفر الذنوب إلا الله﴾.

ففي قوله: ﴿فاعفوا واصفحوا واغفروا﴾ ندب إلى كمال الإغماض عن الأولاد والأزواج.

إذا ظهر منهم شيء من آثار المعاداة المذكورة - مع الحذر من أن يفتتن بهم.

وفي قوله: ﴿فإن الله غفور رحيم﴾ إن كان المراد خصوص مغفرته ورحمته للمخاطبين أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا كان وعدا جميلا لهم تجاه عملهم الصالح كما في قوله تعالى: ﴿وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم﴾ النور: 22.

وإن أريد مغفرته ورحمته العامتان من غير تقييد بمورد الخطاب أفاد أن المغفرة والرحمة من صفات الله سبحانه فإن عفوا وصفحوا وغفروا فقد اتصفوا بصفات الله وتخلقوا بأخلاقه.

قوله تعالى: ﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم﴾ الفتنة ما يبتلى ويمتحن به، وكون الأموال والبنين فتنة إنما هو لكونهما زينة الحياة تنجذب إليهما النفس انجذابا فتفتتن وتلهو بهما عما يهمها من أمر آخرته وطاعة ربه، قال تعالى: ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ الكهف: 46.

والجملة كناية عن النهي عن التلهي بهما والتفريط في جنب الله باللي إليهما ويؤكده قوله: ﴿والله عنده أجر عظيم﴾.

قوله تعالى: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ إلخ، أي مبلغ استطاعتكم - على ما يفيده السياق فإن السياق سياق الدعوة والندب إلى السمع والطاعة والإنفاق والمجاهدة في الله - والجملة تفريع على قوله: ﴿إنما أموالكم﴾ إلخ، فالمعنى: اتقوه مبلغ استطاعتكم ولا تدعوا من الاتقاء شيئا تسعه طاقتكم وجهدكم فتجري الآية مجرى قوله: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ آل عمران: 102، وليست الآية ناظرة إلى نفي التكليف بالاتقاء فيما وراء الاستطاعة وفوق الطاقة كما في قوله: ﴿ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به﴾ البقرة: 286.

وقد بان مما مر: أولا: أن لا منافاة بين الآيتين أعني قوله: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ وقوله: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ وأن الاختلاف بينهما كالاختلاف بالكمية والكيفية، فقوله: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ أمر باستيعاب جميع الموارد التي تسعها الاستطاعة بالتقوى، وقوله: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ أمر بالتلبس في كل من موارد التقوى بحق التقوى دون شبحها وصورتها.

وثانيا: فساد قول بعضهم: إن قوله: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ ناسخ لقوله: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ وهو ظاهر.

وقوله: ﴿واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم﴾ توضيح وتأكيد لقوله: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ والسمع الاستجابة والقبول وهو في مقام الالتزام القلبي، والطاعة الانقياد وهو في مقام العمل، والإنفاق المراد به بذل المال في سبيل الله.

و﴿خيرا لأنفسكم﴾ منصوب بمحذوف - على ما في الكشاف، - والتقدير آمنوا خيرا لأنفسكم، ويحتمل أن يكون ﴿أنفقوا﴾ مضمنا معنى قدموا أو ما يقرب منه بقرينة المقام، وفي قوله: ﴿لأنفسكم﴾ دون أن يقال: خيرا لكم زيادة تطييب لنفوسهم أي إن الإنفاق خير لكم لا ينتفع به إلا أنفسكم لما فيه من بسط أيديكم وسعة قدرتكم على رفع حوائج مجتمعكم.

وقوله: ﴿ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ تقدم تفسيره في تفسير سورة الحشر.

قوله تعالى: ﴿إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم﴾ المراد بإقراض الله الإنفاق في سبيله سماه الله إقراضا لله وسمي المال المنفق قرضا حسنا حثا وترغيبا لهم فيه.

وقوله: ﴿يضاعفه لكم ويغفر لكم﴾ إشارة إلى حسن جزائه في الدنيا والآخرة.

والشكور والحليم وعالم الغيب والشهادة والعزيز والحكيم خمسة من أسماء الله الحسنى تقدم شرحها، ووجه مناسبتها لما أمر به في الآية من السمع والطاعة والإنفاق ظاهر.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم﴾ وذلك أن الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك الله أن تذهب عنا فنضيع بعدك فمنهم من يطيع أهله فيقيم فحذرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول: أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا.

فلما جمع الله بينه وبينهم أمر الله أن يتوق بحسن وصله فقال: ﴿وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم﴾.

أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن ابن عباس.

وفي الدر المنثور، في قوله تعالى: ﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾ عن ابن مردويه عن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي أوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال.

أقول: وروي مثله أيضا عنه عن كعب بن عياض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفيه، أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وابن مردويه عن بريدة قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق وواحدا من ذا الشق ثم صعد المنبر فقال: صدق الله قال: ﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر إن قطعت كلامي ونزلت إليهما.

أقول: والرواية لا تخلو من شيء وأنى تنال الفتنة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو سيد الأنبياء المخلصين معصوم مؤيد بروح القدس.

وأفظع لحنا من هذا الحديث ما رواه عن ابن مردويه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج الحسين بن علي فوطأ في ثوب كان عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المنبر.

فلما رأى الناس أسرعوا إلى الحسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضا حتى وقع في يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: قاتل الله الشيطان إن الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري.

ومثله ما عن ابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير قال: سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكاء حسن أو حسين فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الولد فتنة لقد قمت إليه وما أعقل.

فالوجه طرح الروايات إلا أن تؤول.

وفي تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع حدثنا سفيان بن مرة الهمداني عن عبد خير سألت علي بن أبي طالب عن قوله تعالى: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ قال: والله ما عمل بها غير أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

نحن ذكرنا الله فلا ننساه ونحن شكرناه فلن نكفره، ونحن أطعناه فلم نعصه.

فلما نزلت هذه قالت الصحابة: لا نطيق ذلك فأنزل الله: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾.

وفي تفسير القمي، حدثني أبي عن الفضل بن أبي مرة قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يطوف من أول الليل إلى الصباح وهو يقول: اللهم وقني شح نفسي فقلت: جعلت فداك ما رأيتك تدعو بغير هذا الدعاء فقال: وأي شيء أشد من شح النفس؟ إن الله يقول: ﴿ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾.