الآيات 15-29

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ﴿15﴾ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ﴿16﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴿17﴾ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴿18﴾ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿19﴾ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴿20﴾ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴿21﴾ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ﴿22﴾ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴿23﴾ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴿24﴾ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴿25﴾ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴿26﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴿27﴾ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴿28﴾ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿29﴾

بيان:

تنزيه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الجنون - وقد اتهموه به - ولما يأتي به - من القرآن - من مداخلة الشيطان، وأنه كلامه تعالى يلقيه إليه ملك الوحي الذي لا يخون في رسالته، وأنه ذكر للعالمين هاد بإذن الله لمن اهتدى منهم.

قوله تعالى: ﴿فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس﴾ الخنس جمع خانس كطلب جمع طالب، والخنوس الانقباض والتأخر والاستتار، والجواري جمع جارية، والجري السير السريع مستعار من جرى الماء، والكنس جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي والطير كناسة أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه.

وتعقب قوله: ﴿فلا أقسم بالخنس﴾ إلخ بقوله: ﴿والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس﴾ يؤيد كون المراد بالخنس الجوار الكنس الكواكب كلها أو بعضها لكن صفات حركة بعضها أشد مناسبة وأوضح انطباقا على ما ذكر من الصفات المقسم بها: الخنوس والجري والكنوس وهي السيارات الخمس المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد فإن لها في حركاتها على ما تشاهد استقامة ورجعة وإقامة فهي تسير وتجري حركة متشابهة زمانا وهي الاستقامة وتنقبض وتتأخر وتخنس زمانا وهي الرجعة وتقف عن الحركة استقامة ورجعة زمانا كأنها الوحش تكنس في كناسها وهي الإقامة.

وقيل: المراد بها مطلق الكواكب وخنوسها استتارها في النهار تحت ضوء الشمس وجريها سيرها المشهود في الليل وكنوسها غروبها في مغربها وتواريها.

وقيل: المراد بها بقر الوحش أو الظبي ولا يبعد أن يكون ذكر بقر الوحش أو الظبي من باب المثال والمراد مطلق الوحوش.

وكيف كان فأقرب الأقوال أولها والثاني بعيد والثالث أبعد.

قوله تعالى: ﴿والليل إذا عسعس﴾ عطف على الخنس، و﴿إذا عسعس﴾ قيد لليل، والعسعسة تطلق على إقبال الليل وعلى إدباره قال الراغب: ﴿والليل إذا عسعس﴾ أي أقبل وأدبر وذلك في مبدإ الليل ومنتهاه فالعسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في طرفي الليل.

والأنسب لاتصال الجملة بقوله: ﴿والصبح إذا تنفس﴾ أن يراد بها إدبار الليل.

وقيل: المراد بها إقبال الليل: وهو بعيد لما عرفت.

قوله تعالى: ﴿والصبح إذا تنفس﴾ عطف على الخنس، و﴿إذا تنفس﴾ قيد للصبح، وعد الصبح متنفسا بسبب انبساط ضوئه على الأفق ودفعه الظلمة التي غشيته نوع من الاستعارة بتشبيه الصبح وقد طلع بعد غشيان الظلام للآفاق بمن أحاطت به متاعب أعمال شاقة ثم وجد خلاء من الزمان فاستراح فيه وتنفس فعد إضاءته للأفق تنفسا منه كذا يستفاد من بعضهم.

وذكر الزمخشري فيه وجها آخر فقال في الكشاف،: فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز.

والوجه المتقدم أقرب إلى الذهن.

قوله تعالى: ﴿إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين﴾ جواب القسم، وضمير ﴿إنه﴾ للقرآن أو لما تقدم من آيات السورة بما أنها قرآن بدليل قوله: ﴿لقول رسول﴾ إلخ والمراد بالرسول جبريل كما قال تعالى: ﴿من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله﴾ البقرة: 97.

وفي إضافة القول إليه بما أنه رسول دلالة على أن القول لله سبحانه، ونسبته إلى جبريل نسبة الرسالة إلى الرسول وقد وصفه الله بصفات ست مدحه بها.

فقوله: ﴿رسول﴾ يدل على رسالته وإلقائه وحي القرآن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله: ﴿كريم﴾ أي ذي كرامة وعزة عند الله بإعزازه، وقوله: ﴿ذي قوة﴾ أي ذي قدرة وشدة بالغة، وقوله: ﴿عند ذي العرش مكين﴾ أي صاحب مكانة عند الله والمكانة القرب والمنزلة، وقوله: ﴿مطاع ثم﴾ أي مطاع عند الله فهناك ملائكة يأمرهم فيطيعونه، ومن هنا يظهر أن له أعوانا من الملائكة يأمرهم فيأتمرون بأمره، وقوله: ﴿أمين﴾ أي لا يخون فيما أمر به يبلغ ما حمله من الوحي والرسالة من غير أي تصرف فيه.

وقيل: المراد بالرسول الجاري عليه الصفات هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو كما ترى ولا تلائمه الآيات التالية.

قوله تعالى: ﴿وما صاحبكم بمجنون﴾ عطف على قوله: ﴿إنه لقول﴾ إلخ ورد لرميهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنون.

وفي التعبير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ﴿صاحبكم﴾ تكذيب لهم في رميهم له بالجنون وتنزيه لساحته - كما قيل - ففيه إيماء إلى أنه صاحبكم لبث بينكم معاشرا لكم طول عمره وأنتم أعرف به قد وجدتموه على كمال من العقل ورزانة من الرأي وصدق من القول ومن هذه صفته لا يرمى بالجنون.

وتوصيف جبريل بما مر من صفات المدح دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا دلالة فيه على أفضليته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الكلام مسوق لبيان أن القرآن كلام الله سبحانه منزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عنده سبحانه من طريق الوحي لا من أوهام الجنون بإلقاء من شيطان والذي يفيد في هذا الغرض بيان سلامة طريق الإنزال وتجليل المنزل - اسم فاعل - بذكر أوصافه الكريمة والمبالغة في تنزيهه عن الخطإ والخيانة، وأما المنزل عليه فلا يتعلق به غرض إلا بمقدار الإشارة إلى دفع ما يرتاب فيه من صفته وقد أفيد بنفي الجنون الذي رموه به والتعبير عنه بقوله: ﴿صاحبكم﴾ كما تقدم توضيحه، كذا قيل.

وفي مطاوي كلامه تعالى من نعوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكريمة ما لا يرتاب معه في أفضليته (صلى الله عليه وآله وسلم) على جميع الملائكة، وقد أسجد الله الملائكة كلهم أجمعين للإنسان الذي هو خليفته في الأرض.

قوله تعالى: ﴿ولقد رآه بالأفق المبين﴾ ضمير الفاعل في ﴿رآه﴾ للصاحب وضمير المفعول للرسول الكريم وهو جبريل.

والأفق المبين الناحية الظاهرة، والظاهر أنه الذي أشار إليه بقوله: ﴿وهو بالأفق الأعلى﴾ النجم: 7.

والمعنى وأقسم لقد رآى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جبريل حال كون جبريل كائنا في الأفق المبين وهو الأفق الأعلى من سائر الآفاق بما يناسب عالم الملائكة.

وقيل: المعنى لقد رآى (صلى الله عليه وآله وسلم) جبريل على صورته الأصلية حيث تطلع الشمس وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق.

وفيه أن لا دليل من اللفظ يدل عليه وخاصة في تعلق الرؤية بصورته الأصلية ورؤيته في أي مثال تمثل به رؤيته، وكأنه مأخوذ مما ورد في بعض الروايات أنه رآه في أول البعثة وهو بين السماء والأرض جالس على كرسي، وهو محمول على التمثل.

قوله تعالى: ﴿وما هو على الغيب بضنين﴾ الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد بالغيب الوحي النازل عليه، والضنين صفة مشبهة من الضن بمعنى البخل يعني أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يبخل بشيء مما يوحى إليه فلا يكتمه ولا يحبسه ولا يغيره بتبديل بعضه أو كله شيئا آخر بل يعلم الناس كما علمه الله ويبلغهم ما أمر بتبليغه.

قوله تعالى: ﴿وما هو بقول شيطان رجيم﴾ نفي لاستناد القرآن إلى إلقاء شيطان بما هو أعم من طريق الجنون فإن الشيطان بمعنى الشرير والشيطان الرجيم كما أطلق في كلامه تعالى على إبليس وذريته كذلك أطلق على أشرار سائر الجن قال تعالى: ﴿قال فاخرج منها فإنك رجيم﴾ ص: 77، وقال: ﴿وحفظناها من كل شيطان رجيم﴾ الحجر: 17.

فالمعنى أن القرآن ليس بتسويل من إبليس وجنوده ولا بإلقاء من أشرار الجن كما يلقونه على المجانين.

قوله تعالى: ﴿فأين تذهبون﴾ أوضح سبحانه في الآيات السبع المتقدمة ما هو الحق في أمر القرآن دافعا عنه ارتيابهم فيه بما يرمون به الجائي به من الجنون وغيره على إيجاز متون الآيات فبين أولا أنه كلام الله واتكاء هذه الحقيقة على آيات التحدي، وثانيا أن نزوله برسالة ملك سماوي جليل القدر عظيم المنزلة وهو أمين الوحي جبريل لا حاجز بينه وبين الله ولا بينه وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا صارف من نفسه أو غيره يصرفه عن أخذه ولا حفظه ولا تبليغه، وثالثا أن الذي أنزل عليه وهو يتلوه لكم وهو صاحبكم الذي لا يخفى عليكم حاله ليس بمجنون كما يبهتونه به وقد رآى الملك الحامل للوحي وأخذ عنه وليس بكاتم لما يوحى إليه ولا بمغير، ورابعا أنه ليس بتسويل من إبليس وجنوده ولا بإلقاء من بعض أشرار الجن.

ونتيجة هذا البيان أن القرآن كتاب هدى يهتدي به من أراد الاستقامة على الحق وهو قوله: ﴿إن هو إلا ذكر للعالمين﴾ إلخ.

فقوله: ﴿فأين تذهبون﴾ توطئة وتمهيد لذكر نتيجة البيان السابق، وهو استضلال لهم فيما يرونه في أمر القرآن الكريم أنه من طواري الجنون أو من تسويلات الشيطان الباطلة.

فالاستفهام في الآية توبيخي والمعنى إذا كان الأمر على هذا فأين تذهبون وتتركون الحق وراءكم؟ قوله تعالى: ﴿إن هو إلا ذكر للعالمين﴾ أي تذكرة لجماعات الناس كائنين من كانوا يمكنهم بها أن يتبصروا للحق، وقد تقدم بعض الكلام في نظيرة الآية.

قوله تعالى: ﴿لمن شاء منكم أن يستقيم﴾ بدل من قوله: ﴿للعالمين﴾ مسوق لبيان أن فعلية الانتفاع بهذا الذكر مشروط بأن يشاءوا الاستقامة على الحق وهو التلبس بالثبات على العبودية والطاعة.

قوله تعالى: ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين﴾ تقدم الكلام في معناه في نظائر الآية.

والآية بحسب ما يفيده السياق في معنى دفع الدخل فإن من الممكن أن يتوهموا من قوله: ﴿لمن شاء منكم أن يستقيم﴾ أن لهم الاستقلال في مشية الاستقامة إن شاءوا استقاموا وإن لم يشاءوا لم يستقيموا، فلله إليهم حاجة في الاستقامة التي يريدها منهم.

فدفع ذلك بأن مشيتهم متوقفة على مشية الله سبحانه فلا يشاءون الاستقامة إلا أن يشاء الله أن يشاءوها، فأفعال الإنسان الإرادية مرادة لله تعالى من طريق إرادته وهو أن يريد الله أن يفعل الإنسان فعلا كذا وكذا عن إرادته.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور والفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن علي في قوله: ﴿فلا أقسم بالخنس﴾ قال: هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى.

وفي تفسير القمي، في قوله: ﴿فلا أقسم بالخنس﴾ قال: أي وأقسم بالخنس وهو اسم النجوم.

﴿الجوار الكنس﴾ قال: النجوم تكنس بالنهار فلا تبين.

وفي المجمع، ﴿بالخنس﴾ وهي النجوم تخنس بالنهار وتبدو بالليل ﴿والجوار﴾ صفة لها لأنها تجري في أفلاكها ﴿الكنس﴾ من صفتها أيضا لأنها تكنس أي تتوارى في بروجها كما تتوارى الظباء في كناسها.

وهي خمسة أنجم: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد عن علي ﴿والليل إذا عسعس﴾ أي إذا أدبر بظلامه عن علي.

وفي تفسير القمي، ﴿والليل إذا عسعس﴾ قال: إذا أظلم ﴿والصبح إذا تنفس﴾ قال: إذا ارتفع.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن معاوية بن قرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لجبريل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك: ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فما كانت قوتك؟ وما كانت أمانتك؟ قال: أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن، وفي كل مدينة أربع مائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هويت بهم فقتلتهم، وأما أمانتي فلم أومر بشيء فعدوته إلى غيره.

أقول: والرواية لا تخلو من شيء وقد ضعفوا ابن عساكر وخاصة فيما تفرد به.

وفي الخصال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في كل يوم من شعبان سبعين مرة: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم وأتوب إليه، كتب في الأفق المبين.

قال: قلت: وما الأفق المبين؟ قال: قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد وفيه من القدحان عدد النجوم.

وفي تفسير القمي، في حديث أسنده إلى أبي عبد الله (عليه السلام): قوله: ﴿وما هو بقول شيطان رجيم﴾ قال: يعني الكهنة الذين كانوا في قريش فنسب كلامهم إلى كلام الشياطين الذين كانوا معهم يتكلمون على ألسنتهم فقال: ﴿وما هو بقول شيطان رجيم﴾ مثل أولئك.