الآيات 127-135

وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴿127﴾ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ﴿128﴾ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴿129﴾ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴿130﴾ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿131﴾ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴿132﴾ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ﴿133﴾ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ﴿134﴾ قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ﴿135﴾

بيان:

متفرقات من وعيد ووعد وحجة وحكم وتسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متفرعة على ما تقدم في السورة.

قوله تعالى: ﴿وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى﴾ الإسراف التجاوز عن الحد والظاهر أن الواو في قوله: ﴿وكذلك﴾ للاستيناف، والإشارة إلى ما تقدم من مؤاخذة من أعرض عن ذكر الله ونسي آيات ربه فإنه تجاوز منه عن حد العبودية وكفر بآيات ربه فجزاؤه جزاء من نسي آيات ربه وتركها بعد ما عهد إليه معرضا عن ذكره.

وقوله: ﴿ولعذاب الآخرة أشد وأبقى﴾ أي من عذاب الدنيا وذلك لكونه محيطا بباطن الإنسان كظاهره ولكونه دائما لا يزول.

قوله تعالى: ﴿أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم﴾ إلخ، الظاهر أن ﴿يهد﴾ مضمن معنى يبين، والمعنى أفلم يبين لهم طريق الاعتبار والإيمان بالآيات كثرة إهلاكنا القرون التي كانوا قبلهم وهم يمشون في مساكنهم كما كانت تمر أهل مكة في أسفارهم بمساكن عاد بأحقاف اليمن ومساكن ثمود وأصحاب الأيكة بالشام ومساكن قوم لوط بفلسطين ﴿إن في ذلك لآيات لأولي النهى﴾ أي أرباب العقول.

قوله تعالى: ﴿ولو لا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى﴾ مقتضى السياق السابق أن يكون ﴿لزاما﴾ بمعنى الملازمة وهما مصدرا لازم يلازم، والمراد بالمصدر معنى اسم الفاعل وعلى هذا فاسم كان هو الضمير الراجع إلى الهلاك المذكور في الآية السابقة، وأن قوله: ﴿وأجل مسمى﴾ معطوف على ﴿كلمة سبقت﴾ والتقدير ولو لا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان الهلاك ملازما لهم إذ أسرفوا ولم يؤمنوا بآيات ربهم.

واحتمل بعضهم أن يكون لزام اسم آلة كحزام وركاب وآخرون أن يكون جمع لازم كقيام جمع قائم والمعنيان لا يلائمان السياق كثيرا.

وقوله: ﴿ولو لا كلمة سبقت من ربك﴾ تكررت هذه الكلمة منه سبحانه في حق بني إسرائيل وغيرهم في مواضع من كلامه كقوله: ﴿ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم﴾ يونس: 19 هود: 110 حم السجدة: 45، وقد غياها بالأجل المسمى في قوله: ﴿ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم﴾ الشورى: 14، وقد تقدم في تفسير سورتي يونس وهود أن المراد بها الكلمة التي قضي بها عند إهباط آدم إلى الأرض بمثل قوله: ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ الأعراف: 24.

فالناس آمنون من الهلاك وعذاب الاستئصال على إسرافهم وكفرهم ما بين استقرارهم في الأرض وأجلهم المسمى إلا أن يجيئهم رسول فيقضي بينهم، قال تعالى: ﴿ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون﴾ يونس: 47 وإليه يرجع عذاب الاستئصال عن الآيات المقترحة إذا لم يؤمن بها بعد ما جاءت وهذه الأمة حالهم حال سائر الأمم في الأمن من عذاب الاستئصال بوعد سابق من الله، وأما القضاء بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أخره الله إلى أمد كما تقدم استفادته من قوله: ﴿ولكل أمة رسول﴾ الآية من سورة يونس.

واحتمل بعضهم أن يكون المراد بالكلمة وعدا خاصا بهذه الأمة بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة وقد مر في تفسير سورة يونس أن ظاهر الآيات خلافه نعم يدل كلامه تعالى على تأخيره إلى أمد كما تقدم.

ونظيره في الفساد قول الآخرين إن المراد بالكلمة قضاء عذاب أهل بدر منهم بالسيف والأجل المسمى لباقي كفار مكة وهو كما ترى.

وقوله: ﴿وأجل مسمى﴾ قد تقدم في تفسير أول سورة الأنعام أن الأجل المسمى هو الأجل المعين بالتسمية الذي لا يتخطا ولا يتخلف كما قال تعالى: ﴿ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون﴾ الحجر: 5، وذكر بعضهم أن المراد بالأجل المسمى يوم القيامة، وقال آخرون إن الأجل المسمى هو الكلمة التي سبقت من الله فيكون عطف الأجل على الكلمة من عطف التفسير، ولا معول على القولين لعدم الدليل.

فمحصل معنى الآية أنه لو لا أن الكلمة التي سبقت من ربك - وفي إضافة الرب إلى ضمير الخطاب إعزاز وتأييد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - تقضي بتأخير عذابهم والأجل المسمى يعين وقته في ظرف التأخير لكان الهلاك ملازما لهم بمجرد الإسراف والكفر.

ومن هنا يظهر أن مجموع الكلمة التي سبقت والأجل المسمى سبب واحد تام لتأخير العذاب عنهم لا أن كل واحد منهما سبب مستقل في ذلك كما اختاره كثير منهم.

قوله تعالى: ﴿فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها﴾ إلخ، يأمره بالصبر على ما يقولون ويفرعه على ما تقدم كأنه قيل: إذا كان من قضاء الله أن يؤخر عذابهم ولا يعاجلهم بالانتقام على ما يقولون فلا يبقى لك إلا أن تصبر راضيا على ما قضاه الله من الأمر وتنزهه عما يقولونه من كلمة الشرك ويواجهونك به من السوء، وتحمده على ما تواجهه من آثار قضائه فليس إلا الجميل فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك لعلك ترضى.

وقوله: ﴿وسبح بحمد ربك﴾ أي نزهه متلبسا بحمده والثناء عليه فإن هذه الحوادث التي يشق تحملها والصبر عليها لها نسبة إلى فواعلها وليست إلا سيئة يجب تنزيهه تعالى عنها ولها نسبة بالإذن إليه تعالى وهي بهذه النسبة جميلة لا يترتب عليها إلا مصالح عامة يصلح بها النظام الكوني ينبغي أن يحمد الله ويثني عليه بها.

وقوله: ﴿قبل طلوع الشمس وقبل غروبها﴾ ظرفان متعلقان بقوله: ﴿وسبح بحمد ربك﴾.

وقوله: ﴿ومن آناء الليل فسبح﴾ الجملة نظيرة قوله: ﴿وإياي فارهبون﴾ البقرة: 40، والآناء على أفعال جمع إني أو إنو بكسر الهمزة بمعنى الوقت و﴿من﴾ للتبعيض والجار والمجرور متعلق بقوله: ﴿فسبح﴾ دال على ظرف في معناه متعلق بالفعل والتقدير وبعض آناء الليل سبح فيها.

وقوله: ﴿وأطراف النهار﴾ منصوب بنزع الخافض على ما ذكروا معطوف على قوله: ﴿ومن آناء﴾ والتقدير وسبح في أطراف النهار وهل المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس وما قبل غروبها، أو غير ذلك؟ اختلفت فيه كلمات المفسرين وسنشير إليه.

وما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الفرائض اليومية من الصلوات وإليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روي عن بعض القدماء كقتادة وغيره.

قالوا: إن مجموع الآية يدل على الأمر بالصلوات الخمس اليومية فقوله: ﴿قبل طلوع الشمس﴾ صلاة الصبح، وقوله: ﴿وقبل غروبها﴾ صلاة العصر وقوله: ﴿ومن آناء الليل﴾ صلاتا المغرب والعشاء، وقوله: ﴿وأطراف النهار﴾ صلاة الظهر.

ومعنى كونها في أطراف النهار مع أنها في منتصفه بعد الزوال أنه لو نصف النهار حصل نصفان: الأول والأخير وصلاة الظهر في الجزء الأول من النصف الثاني فهي في طرف النصف الأول لأن آخر النصف الأول ينتهي إلى جزء يتصل بوقتها، وفي طرف النصف الثاني لأنه يبتدىء من جزء هو وقتها فوقتها على وحدته طرف للنصف الأول باعتبار وطرف للنصف الثاني باعتبار فهو طرفان اثنان اعتبارا.

وأما إطلاق الأطراف - بصيغة الجمع - على وقتها وإنما هو طرفان اعتبارا فباعتبار أن الجمع قد يطلق على الاثنين وإن كان الأشهر الأعرف كون أقل الجمع في اللغة العربية ثلاثة.

وقيل: المراد بالنهار الجنس فهو في نهر لكل فرد منها طرفان فيكون أطرافا، وقد طال البحث بينهم حول التوجيه اعتراضا وجوابا.

لكن الإنصاف أن أصل التوجيه تعسف بعيد من الفهم فالذوق السليم - بعد اللتيا والتي - يأبى أن يسمي وسط النهار أطراف النهار بفروض واعتبارات وهمية لا موجب لها في مقام التخاطب من أصلها ولا أمرا يرتضيه الذوق ولا يستبشعه.

وأما من قال: إن المراد بالتسبيح والتحميد غير الفرائض من مطلق التسبيح والحمد إما بتذكر تنزيهه والثناء عليه تعالى قلبا وإما بقول مثل سبحان الله والحمد لله لسانا أو الأعم من القلب واللسان فقالوا: المراد بما قبل طلوع الشمس وما قبل غروبها وآناء الليل الصبح والعصر وأوقات الليل وأطراف النهار الصبح والعصر.

وأما لزوم إطلاق الأطراف وهو جمع على الصبح والعصر وهما اثنان فقد أجابوا عنه بمثل ما تقدم في القول السابق من اعتبار أقل الجمع اثنين.

وأما لزوم التكرار بذكر تسبيح الصبح والعصر مرتين فقد التزم به بعضهم قائلا إن ذلك للتأكيد وإظهار مزيد العناية بالتسبيح في الوقتين، ويظهر من بعضهم أن المراد بالأطراف الصبح والعصر ووسط النهار.

وأنت خبير بأنه يرد عليه نظير ما يرد على الوجه السابق بتفاوت يسير، والإشكال كله ناش من ناحية قوله: ﴿وأطراف النهار﴾ من جهة انطباقه على وسط النهار أو الصبح والعصر.

والذي يمكن أن يقال إن قوله: ﴿وأطراف النهار﴾ مفعول معه وليس بظرف بتقدير في وإن لم يذكره المفسرون على ما أذكر، والمراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس وما قبل غروبها بالنظر إلى كونهما وقتين ذوي سعة لكل منهما أجزاء كل جزء منها طرف بالنسبة إلى وسط النهار فيصح أن يسميا أطراف النهار كما يصح أن يسميا طرفي النهار وذلك كما يسمى ما قبل طلوع الشمس أول النهار باعتبار وحدته وأوائل النهار باعتبار تجزيه إلى أجزاء، ويسمى ما قبل غروبها آخر النهار، وأواخر النهار.

فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا: ﴿وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها﴾ وهي أطراف النهار، وبعض أوقات الليل سبح فيها مع أطراف النهار التي أمرت بالتسبيح فيها.

فإن قلت: كيف يستقيم كون ﴿أطراف النهار﴾ مفعولا معه وهو ظرف للتسبيح بتقدير في نظير ظرفية ﴿آناء الليل﴾ له؟.

قلت: آناء الليل ليس ظرفا بلفظه كيف؟ وهو مدخول من ولا معنى لتقدير في معه وإنما يدل به على الظرف، ومعنى ﴿ومن آناء الليل فسبح﴾ وبعض آناء الليل سبح فيه، فليكن ﴿وأطراف النهار﴾ كذلك، والمعنى مع أطراف النهار التي تسبح فيها والظرف في كلا الجانبين مدلول عليه مقدر.

فلو قلنا: إن المراد بالتسبيح في الآية غير الصلوات المفروضة كان المراد التسبيح في أجزاء من أول النهار وأجزاء من آخره وأجزاء من الليل بمعية أجزاء أول النهار وآخره ولم يلزم محذور التكرار ولا محذور إطلاق لفظ الجمع على ما دون الثلاثة، وهو ظاهر.

ولو قلنا إن المراد بالتسبيح في الآية الفرائض اليومية كانت الآية متضمنة للأمر بصلاة الصبح وصلاة العصر وصلاتي المغرب والعشاء فحسب نظير الأمر في قوله تعالى: ﴿أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل﴾ هود: 114، ولعل التعبير عن الوقتين في الآية المبحوث عنها بأطراف النهار للإشارة إلى سعة الوقتين.

ولا ضير في اشتمال الآية على أربع من الصلوات الخمس اليومية فإن السورة - كما سنشير إليه - من أوائل السور النازلة بمكة وقد دلت الأخبار المستفيضة التي رواها العامة والخاصة أن الفرائض اليومية إنما شرعت خمسا في المعراج كما ذكرت في سورة الإسراء النازلة بعد المعراج خمسا في قوله: ﴿أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر﴾ الإسراء: 78، فلعل التي شرعت من الفرائض اليومية حين نزول سورة طه وكذا سورة هود - وهما قبل سورة الإسراء نزولا - كانت هي الأربع ولم تكن شرعت صلاة الظهر بعد بل هو ظاهر الآيتين: آية طه وآية هود.

ومعلوم أنه لا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على القول بكون المراد بالتسبيح الصلوات الخمس وانطباق أطراف النهار على وقت صلاة الظهر وهو وسط النهار.

وقوله: ﴿لعلك ترضى﴾ السياق السابق وقد ذكر فيه إعراضهم عن ذكر ربهم ونسيانهم آياته وإسرافهم في أمرهم وعدم إيمانهم ثم ذكر تأخير الانتقام منهم وأمره بالصبر والتسبيح والتحميد يقضي أن يكون المراد بالرضا الرضا بقضاء الله وقدره، والمعنى: فاصبر وسبح بحمد ربك ليحصل لك الرضا بما قضى الله سبحانه فيعود إلى مثل معنى قوله: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾.

والوجه فيه أن تكرار ذكره تعالى بتنزيه فعله عن النقص والشين وذكره بالثناء الجميل والمداومة على ذلك يوجب أنس النفس به وزيادته وزيادة الأنس بجمال فعله ونزاهته توجب رسوخه فيها وظهوره في نظرها وزوال الخطورات المشوشة للإدراك والفكر، والنفس مجبولة على الرضا بما تحبه ولا تحب غير الجميل المنزه عن القبح والشين فإدامة ذكره بالتسبيح والتحميد تورث الرضا بقضائه.

وقيل: المراد لعلك ترضى بالشفاعة والدرجة الرفيعة عند الله.

وقيل: لعلك ترضى بجميع ما وعدك الله به من النصر وإعزاز الدين في الدنيا والشفاعة والجنة في الآخرة.

قوله تعالى: ﴿ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه﴾ إلخ، مد العين مد نظرها وإطالته ففيه مجاز عقلي ثم مد النظر وإطالته إلى شيء كناية عن التعلق به وحبه والمراد بالأزواج - كما قيل - الأصناف من الكفار أو الأزواج من النساء والرجال منهم ويرجع إلى البيوتات وتنكير الأزواج للتقليل وإظهار أنهم لا يعبأ بهم.

وقوله: ﴿زهرة الحياة الدنيا﴾ بمنزلة التفسير لقوله: ﴿ما متعنا به﴾ وهو منصوب بفعل مقدر والتقدير نعني به - أو جعلنا لهم - زهرة الحياة الدنيا وهي زينتها وبهجتها، والفتنة الامتحان والاختبار، وقيل: المراد بها العذاب لأن كثرة الأموال والأولاد نوع عذاب من الله لهم كما قال: ﴿ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون﴾ التوبة: 85.

وقوله: ﴿ورزق ربك خير وأبقى﴾ المراد به بقرينة مقابلته لما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا هو رزق الآخرة وهو خير وأبقى.

والمعنى: لا تطل النظر إلى زينة الحياة الدنيا وبهجتها التي متعنا بها أصنافا أو أزواجا معدودة منهم لنمتحنهم فيما متعنا به، والذي سيرزقك ربك في الآخرة خير وأبقى.

قوله تعالى: ﴿وأمر أهلك بالصلوة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى﴾ الآية ذات سياق يلتئم بسياق سائر آيات السورة فهي مكية كسائرها على أنا لم نظفر بمن يستثنيها ويعدها مدنية، وعلى هذا فالمراد بقوله ﴿أهلك﴾ بحسب انطباقه على وقت النزول خديجة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) وكان من أهله وفي بيته أو هما وبعض بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقول بعضهم: إن المراد به أزواجه وبناته وصهره علي، وقول آخرين: المراد به أزواجه وبناته وأقرباؤه من بني هاشم والمطلب، وقول آخرين: جميع متبعيه من أمته غير سديد، نعم لا بأس بالقول الأول من حيث جري الآية وانطباقها لا من حيث مورد النزول فإن الآية مكية ولم يكن له (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة من الأزواج غير خديجة (عليها السلام).

وقوله: ﴿لا نسألك رزقا نحن نرزقك﴾ ظاهر المقابلة بين الجملتين أن المراد سؤاله تعالى الرزق لنفسه وهو كناية عن أنا في غنى منك وأنت المحتاج المفتقر إلينا فيكون في معنى قوله: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين﴾ الذاريات: 56: 58، وأيضا هو من جهة تذييله بقوله: ﴿والعاقبة للتقوى﴾ في معنى قوله: ﴿لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم﴾ الحج: 37، فتفسيرهم سؤال الرزق بسؤال الرزق للخلق أو لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بسديد.

وقوله: ﴿والعاقبة للتقوى﴾ تقدم البحث فيه كرارا.

ولا يبعد أن يستفاد من الآية من جهة قصر الأمر بالصلاة في أهله مع ما في الآيتين السابقتين من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه بالصلوات الأربع اليومية والصبر والنهي عن أن يمد عينيه فيما متع به الكفار أن السورة نزلت في أوائل البعثة أو خصوص الآية.

وفيما روي عن ابن مسعود أن سورة طه من العتاق الأول.

قوله: ﴿وقالوا لو لا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى﴾ حكاية قول مشركي مكة وإنما قالوا هذا تعريضا للقرآن أنه ليس بآية دالة على النبوة فليأتنا بآية كما أرسل الأولون والبينة الشاهد المبين أو البين وقيل هو البيان.

وكيف كان فقولهم: ﴿لو لا يأتينا بآية من ربه﴾ تحضيض بداعي إهانة القرآن وتعجيز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باقتراح آية معجزة أخرى، وقوله: ﴿أولم تأتهم بينة﴾ إلخ، جواب عنه ومعناه على الوجه الأول من معنيي البينة أ ولم تأتهم بينة وشاهد يشهد على ما في الصحف الأولى - وهي التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية - من حقائق المعارف والشرائع ويبينها وهو القرآن وقد أتى به رجل لا عهد له بمعلم يعلمه ولا ملقن يلقنه ذلك.

وعلى الوجه الثاني: أولم يأتهم بيان ما في الصحف الأولى من أخبار الأمم الماضين الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات المعجزة فأتوا بها وكان إتيانها سببا لهلاكهم واستئصالهم لما لم يؤمنوا بها بعد إذ جاءتهم فلم لا ينتهون عن اقتراح آية بعد القرآن؟ ولكل من المعنيين نظير في كلامه تعالى.

قوله تعالى: ﴿ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى﴾ الظاهر أن ضمير ﴿من قبله﴾ للبينة - في الآية السابقة - باعتبار أنها القرآن، والمعنى: ولو أنا أهلكناهم لإسرافهم وكفرهم بعذاب من قبل أن تأتيهم البينة لم تتم عليهم الحجة ولكانت الحجة لهم علينا ولقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك وهي التي تدل عليها البينة من قبل أن نذل بعذاب الاستئصال ونخزى.

وقيل الضمير للرسول المعلوم من مضمون الآية السابقة بشهادة قولهم: ﴿لو لا أرسلت إلينا رسولا﴾ وهو قريب من جهة اللفظ والمعنى الأول من جهة المعنى ويؤيده قوله: ﴿فنتبع آياتك﴾ ولم يقل فنتبع رسولك.

قوله تعالى: ﴿قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى﴾ التربص الانتظار، والصراط السوي الطريق المستقيم، وقوله: ﴿كل متربص﴾ أي كل منا ومنكم متربص منتظر فنحن ننتظر ما وعده الله لنا فيكم وفي تقدم دينه وتمام نوره وأنتم تنتظرون بنا الدوائر لتبطلوا الدعوة الحقة وكل منا ومنكم يسلك سبيلا إلى مطلوبه فتربصوا وانتظروا وفيه تهديد فستعلمون أي طائفة منا ومنكم أصحاب الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مطلوبه ومن الذين اهتدوا إلى المطلوب وفيه ملحمة وإخبار بالفتح.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿لكان لزاما وأجل مسمى﴾ قال: كان ينزل بهم العذاب ولكن قد أخرهم إلى أجل مسمى.

وفي الدر المنثور، أخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: ﴿وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها﴾ قال: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار﴾ قال: بالغداة والعشي.

أقول: وهو يؤيد ما قدمناه.

وفي الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: ﴿وأطراف النهار لعلك ترضى﴾ قال: يعني تطوع بالنهار.

أقول: وهو مبني على تفسير التسبيح بمطلق الصلاة أو بمطلق التسبيح.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ولا تمدن عينيك﴾ الآية: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما نزلت هذه الآية استوى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا ثم قال: من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن اتبع بصره ما في أيدي الناس طال همه ولم يشف غيظه، ومن لم يعرف أن لله عليه نعمة لا في مطعم ولا في مشرب قصر أجله ودنا عذابه.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في المعرفة عن أبي رافع قال: أضاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضيفا ولم يكن عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يصلحه فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب فقال لا إلا برهن.

فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه أذهب بدرعي الحديد فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية ﴿ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم﴾ كأنه يعزيه عن الدنيا.

أقول: ومضمون الآية وخاصة ذيلها لا يلائم القصة.

وفيه، أخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت ﴿وأمر أهلك بالصلاة﴾ كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجيء إلى باب علي ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

أقول: ورواه في مجمع البيان، عن الخدري وفيه تسعة أشهر مكان ثمانية أشهر، وروى هذا المعنى في العيون، في مجلس الرضا مع المأمون عنه، (عليه السلام) ورواه القمي أيضا في تفسيره، مرفوعا، والتقييد بتسعة أشهر مبني على ما شاهده الراوي لا على تحديد أصل إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) والشاهد عليه ما رواه الشيخ في الأمالي، بإسناده عن أبي الحميراء قال: شهدت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين صباحا يجيء إلى باب علي وفاطمة فيأخذ بعضادتي الباب ثم يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

وظاهر الرواية كون الآية مدنية ولم يذكر ذلك أحد فيما أذكر ولعل المراد بيان إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) الباب في المدينة عملا بالآية ولو كانت نازلة بمكة وإن كان بعيدا من اللفظ وفي رواية القمي التي أومأنا إليها ما يؤيد هذا المعنى ففيها: فلم يزل يفعل ذلك كل يوم إذا شهد المدينة حتى فارق الدنيا، وحديث أمره أهل بيته بالصلاة مروي بطرق أخرى أيضا غير ما مرت الإشارة إليه.

وفي الدر المنثور، أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان، بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا وأمر أهلك بالصلاة الآية.

أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان، عن ثابت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيه دلالة على التوسع في معنى التسبيح في الآية.