الآيات 115-126

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴿115﴾ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ﴿116﴾ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴿117﴾ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ﴿118﴾ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴿119﴾ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ﴿120﴾ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴿121﴾ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴿122﴾ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴿123﴾ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴿124﴾ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ﴿125﴾ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴿126﴾

بيان:

قصة دخول آدم وزوجه الجنة وخروجهما منها بوسوسة من الشيطان وقضائه تعالى عند ذلك بتشريع الدين وسعادة من اتبع الهدى وشقاء من أعرض عن ذكر الله.

وقد وردت القصة في هذه السورة بأوجز لفظ وأجمل بيان، وعمدة العناية فيها - كما يشهد به تفصيل ذيلها - متعلقة ببيان ما حكم به من تشريع الدين والجزاء بالثواب والعقاب، ويؤيده أيضا التفريع بعدها بقوله: ﴿وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه﴾ إلخ، نعم للقصة تعلق ما أيضا من جهة ذكرها توبة آدم بقوله فيما تقدم: ﴿وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى﴾.

والقصة - كما يظهر من سياقها في هذه السورة وغيرها مما ذكرت فيها كالبقرة والأعراف - تمثل حال الإنسان بحسب طبعه الأرضي المادي فقد خلقه الله سبحانه في أحسن تقويم وغمره في نعمه التي لا تحصى وأسكنه جنة الاعتدال ومنعه عن تعديه بالخروج إلى جانب الإسراف باتباع الهوى والتعلق بسراب الدنيا ونسيان جانب الرب تعالى بترك عهده إليه وعصيانه واتباع وسوسة الشيطان الذي يزين له الدنيا ويصور له ويخيل إليه أنه لو تعلق بها ونسي ربه اكتسب بذلك سلطانا على الأسباب الكونية يستخدمها ويستذل بها كل ما يتمناه من لذائذ الحياة وأنها باقية له وهو باق لها، حتى إذا تعلق بها ونسي مقام ربه ظهرت له سوآت الحياة ولاحت له مساوىء الشقاء بنزول النوازل وخيانة الدهر ونكول الأسباب وتولي الشيطان عنه فطفق يخصف عليه من ظواهر النعم يستدرك بموجود نعمة مفقود أخرى ويميل من عذاب إلى ما هو أشد منه ويعالج الداء المؤلم بآخر أكثر منه ألما حتى يؤمر بالخروج من جنة النعمة والكرامة إلى مهبط الشقاء والخيبة.

فهذه هي التي مثلت لآدم (عليه السلام) إذ أدخله الله الجنة وضرب له بالكرامة حتى آل أمره إلى ما آل إلا أن واقعته (عليه السلام) كانت قبل تشريع أصل الدين وجنته جنة برزخية ممثلة في عيشة غير دنيوية فكان النهي لذلك إرشاديا لا مولويا ومخالفته مؤدية إلى أمر قهري ليس بجزاء تشريعي كما تقدم تفصيله في تفسير سورتي البقرة والأعراف.

قوله تعالى: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما﴾ المراد بالعهد الوصية وبهذا المعنى يطلق على الفرامين والدساتير العهود، والنسيان معروف وربما يكنى به عن الترك لأنه لازمه إذ الشيء إذا نسي ترك، والعزم القصد الجازم إلى الشيء قال تعالى: ﴿فإذا عزمت فتوكل على الله﴾ آل عمران: 159 وربما أطلق على الصبر ولعله لكون الصبر أمرا شاقا على النفوس فيحتاج إلى قصد أرسخ وأثبت فسمي الصبر باسم لازمه قال تعالى: ﴿إن ذلك لمن عزم الأمور﴾.

فالمعنى وأقسم لقد وصينا آدم من قبل فترك الوصية ولم نجد له قصدا جازما إلى حفظها أو صبرا عليها والعهد المذكور - على ما يظهر من قصته (عليه السلام) في مواضع من كلامه تعالى - هو النهي عن أكل الشجرة، بمثل قوله: ﴿لا تقربا هذه الشجرة﴾ الأعراف: 19.

قوله تعالى: ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى﴾ معطوف على مقدر والتقدير اذكر عهدنا إليه واذكر وقتا أمرنا الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس حتى يظهر أنه نسي ولم يعزم على حفظ الوصية، وقوله: ﴿أبى﴾ جواب سؤال مقدر تقديره ما ذا فعل إبليس؟ فقيل: أبى.

قوله تعالى: ﴿فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى﴾ تفريع على إباء إبليس عن السجدة أي فلما أبى قلنا إرشادا لآدم إلى ما فيه صلاح أمره ونصحا: إن هذا الآبي عن السجدة - إبليس - عدو لك ولزوجك إلخ.

وقوله: ﴿فلا يخرجنكما من الجنة﴾ توجيه نهي إبليس عن إخراجهما من الجنة إلى آدم كناية عن نهيه عن طاعته أو عن الغفلة عن كيده والاستهانة بمكره أي لا تطعه أو لا تغفل عن كيده وتسويله حتى يتسلط عليكما ويقوى على إخراجكما من الجنة وإشقائكما.

وقد ذكر الإمام الرازي في تفسيره وجوها لسبب عداوة إبليس لآدم وزوجه وهي وجوه سخيفة لا فائدة في الإطناب بنقلها، والحق أن السبب فيها هو طرده من حضرة القرب ورجمه وجعل اللعن عليه إلى يوم القيامة كما يظهر من قوله لعنه الله على ما حكاه الله: ﴿قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين﴾ الحجر: 39.

وقوله: ﴿قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا﴾ الإسراء: 62، ومعلوم أن تكريم آدم عليه هو تكريم نوع الإنسان عليه كما أن أمره بالسجدة له كان أمرا بالسجدة لنوع الإنسان فأصل السبب هو تقدم الإنسان وتأخر الشيطان ثم الطرد واللعن.

وقوله: ﴿فتشقى﴾ تفريع على خروجهما من الجنة والمراد بالشقاء التعب أي فتتعب إن خرجتما من الجنة وعشتما في غيرها وهو الأرض عيشة أرضية لتهاجم الحوائج وسعيك في رفعها كالحاجة إلى الطعام والشراب واللباس والمسكن وغيرها.

والدليل على أن المراد بالشقاء التعب الآيتان التاليتان المشيرتان إلى تفسيره: ﴿إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى﴾.

وهو أيضا دليل على أن النهي إرشادي ليس في مخالفته إلا الوقوع في المفسدة المترتبة على نفس الفعل وهو تعب السعي في رفع حوائج الحياة واكتساب ما يعاش به وليس بمولوي تكون نفس مخالفته مفسدة يقع فيها العبد وتستتبع مؤاخذة أخروية.

على أنك عرفت أنه عهد قبل تشريع أصل الدين الواقع عند الأمر بالخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض.

وأما إفراد قوله: ﴿فتشقى﴾ ولم يقل فتشقيا بصيغة التثنية فلأن العهد إنما نزل على آدم (عليه السلام) وكان التكليم متوجها إليه، ولذلك جيء بصيغة الإفراد في جميع ما يرجع إليه كقوله: ﴿فنسي ولم نجد له عزما﴾ ﴿فتشقى﴾ ﴿ألا تجوع فيها ولا تعرى﴾ ﴿لا تظمؤا فيها ولا تضحى﴾ ﴿فوسوس إليه﴾ إلخ ﴿وعصى﴾ إلخ ﴿ثم اجتباه ربه فتاب عليه﴾ نعم جيء بلفظ التثنية فيما لا غنى عنه كقوله: ﴿عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما﴾ ﴿فأكلا منها فبدت لهما﴾ ﴿وطفقا يخصفان عليهما﴾ ﴿قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو﴾ فتدبر وقيل إن إفراد: ﴿تشقى﴾ من جهة أن نفقة المرأة على المرء ولذا نسب الشقاء وهو التعب في اكتساب المعاش إلى آدم وفيه.

أن الآيتين التاليتين لا تلائمان ذلك ولو كان كما قال لقيل: إن لكما أن لا تجوعا إلخ، وقيل: إن الإفراد لرعاية الفواصل وهو كما ترى.

قوله تعالى: ﴿إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى﴾ يقال: ضحى يضحى كسعى يسعى ضحوا وضحيا إذا أصابته الشمس أو برز لها وكأن المراد بعدم الضحو أن ليس هناك أثر من حرارة الشمس حتى تمس الحاجة إلى الاكتنان في مسكن يقي من الحر والبرد.

وقد رتبت الأمور الأربعة على نحو اللف والنشر المرتب لرعاية الفواصل والأصل في الترتيب أن لا تجوع فيها ولا تظمأ ولا تعرى ولا تضحى.

قوله تعالى: ﴿فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى﴾ الشيطان هو الشرير لقب به إبليس لشرارته، والمراد بشجرة الخلد الشجرة المنهية والبلى صيرورة الشيء خلقا خلاف الجديد.

والمراد بشجرة الخلد شجرة يعطي أكلها خلود الحياة، والمراد بملك لا يبلى سلطنة لا تتأثر عن مرور الدهور واصطكاك المزاحمات والموانع فيئول المعنى إلى نحو قولنا هل أدلك على شجرة ترزق بأكل ثمرتها حياة خالدة وملكا دائما فليس قوله: ﴿لا يبلى﴾ تكرارا لإفادة التأكيد كما قيل.

والدليل على ما ذكره ما في سورة الأعراف في هذا المعنى من قوله: ﴿ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين﴾ الأعراف: 20 ولا منافاة بين جمع خلود الحياة ودوام الملك هاهنا بواو الجمع وبين الترديد بينهما في سورة الأعراف لإمكان أن يكون الترديد هناك لمنع الخلو لا لمنع الجمع، أو يكون الجمع هاهنا باعتبار الاتصاف بهما جميعا والترديد هناك باعتبار تعلق النهي كأنه قيل: إن في هذه الشجرة صفتين وإنما نهاكما ربكما عنها إما لهذه، أو لهذه أو إنما نهاكما ربكما عنها أن لا تخلدا في الجنة مع ملك خالد أو أن لا تخلدا بناء على أن الملك الخالد يستلزم حياة خالدة فافهم ذلك وكيف كان فلا منافاة بين الترديد في آية والجمع في أخرى.

قوله تعالى: ﴿فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة﴾ تقدم تفسيره في سورة الأعراف.

قوله تعالى: ﴿وعصى آدم ربه فغوى﴾ الغي خلاف الرشد الذي هو بمعنى إصابة الواقع وهو غير الضلال الذي هو الخروج من الطريق، والهدى يقابلهما ويكون بمعنى الإرشاد إذا قابل الغي كما في الآية التالية وبمعنى إراءة الطريق، أو الإيصال إلى المطلوب بتركيب الطريق إذا قابل الضلال فليس من المرضي تفسير الغي في الآية بمعنى الضلال.

ومعصية آدم - ربه كما أشرنا إليه آنفا وقد تقدم تفصيله - إنما هي معصية أمر إرشادي لا مولوي والأنبياء (عليهم السلام) معصومون من المعصية والمخالفة في أمر يرجع إلى الدين الذي يوحى إليهم من جهة تلقيه فلا يخطئون، ومن جهة حفظه فلا ينسون ولا يحرفون، ومن جهة إلقائه إلى الناس وتبليغه لهم قولا فلا يقولون إلا الحق الذي أوحي إليهم وفعلا فلا يخالف فعلهم قولهم ولا يقترفون معصية صغيرة ولا كبيرة لأن في الفعل تبليغا كالقول، وأما المعصية بمعنى مخالفة الأمر الإرشادي الذي لا داعي فيه إلا إحراز المأمور خيرا أو منفعة من خيرات حياته ومنافعها بانتخاب الطريق الأصلح كما يأمر وينهى المشير الناصح نصحا فإطاعته ومعصيته خارجتان من مجرى أدلة العصمة وهو ظاهر.

وليكن هذا معنى قول القائل إن الأنبياء (عليهم السلام) على عصمتهم يجوز لهم ترك الأولى ومنه أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة والآية من معارك الآراء وقد اختلفت فيها التفاسير على حسب اختلاف مذاهبهم في عصمة الأنبياء وكل يجر النار إلى قرصته.

قوله تعالى: ﴿ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى﴾ الاجتباء - كما تقدم مرارا - بمعنى الجمع على طريق الاصطفاء ففيه جمعه تعالى عبده لنفسه لا يشاركه فيه أحد وجعله من المخلصين بفتح اللام، وعلى هذا المعنى يتفرع عليه قوله: ﴿فتاب عليه وهدى﴾ كأنه كان ذا أجزاء متفرقة متشتتة فجمعها من هنا وهناك إلى مكان واحد ثم تاب عليه ورجع إليه وهداه وسلك به إلى نفسه.

وإنما فسرنا قوله: ﴿هدى﴾ وهو مطلق بهدايته إلى نفسه بقرينة الاجتباء، ولا ينافي مع ذلك إطلاق الهداية لأن الهداية إليه تعالى أصل كل هداية ومحتدها، نعم يجب تقييد الهداية بما يكون في أمر الدين من اعتقاد حق وعمل صالح، والدليل عليه تفريع الهداية في الآية على الاجتباء، فافهم ذلك.

وعلى هذا فلا يرد على ما قدمنا أن ظاهر وقوع هذه الهداية بعد ذكر تلك الغواية أن يكون نوع تلك الغواية مرفوعا عنه وإذ كانت غواية في أمر إرشادي فالآية تدل على إعطاء العصمة له في موارد الأمر المولوية والإرشادية جميعا وصونه عن الخطإ في أمر الدين والدنيا معا.

ووجه عدم الورود أن ظاهر تفرع الهداية على الاجتباء كونه مهديا إلى ما كان الاجتباء له والاجتباء إنما يتعلق بما فيه السعادة الدينية وهو قصر العبودية في الله سبحانه فالهداية أيضا متعلقة بذلك وهي الهداية التي لا واسطة فيها بينه تعالى وبين العبد المهدي ولا تتخلف أصلا كما قال: ﴿فإن الله لا يهدي من يضل﴾ النحل: 37، والهداية إلى منافع الحياة أيضا وإن كانت راجعة إليه تعالى لكنها مما تتخلل الأسباب فيها بينها وبينه تعالى والأسباب ربما تخلفت، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو﴾ تقدم تفسير مثله في سورتي البقرة والأعراف.

وفي قوله: ﴿قال اهبطا﴾ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة والإفراد ولعل الوجه فيه اشتمال الآية على القضاء والحكم وهو مما يختص به تعالى قال: ﴿والله يقضي بالحق﴾ المؤمنون: 20، وقال: ﴿إن الحكم إلا لله﴾ يوسف: 67.

قوله تعالى: ﴿فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى﴾ في الآية قضاء منه تعالى متفرع على الهبوط ولذا عطف بفاء التفريع، وأصل قوله: ﴿فإما يأتينكم﴾ فإن يأتكم زيد عليه ما ونون التأكيد للإشارة إلى وقوع الشرط كأنه قيل: إن يأتكم مني هدى - وهو لا محالة آت - فمن اتبع إلخ.

وفي قوله: ﴿فمن اتبع هداي﴾ نسبة الاتباع إلى الهدى على طريق الاستعارة بالكناية، وأصله: من اتبع الهادي الذي يهدي بهداي.

وقوله: ﴿فلا يضل ولا يشقى﴾ أي لا يضل في طريقه ولا يشقى في غايته التي هي عاقبة أمره، وإطلاق الضلال والشقاء يقضي بنفي الضلال والشقاء عنه في الدنيا والآخرة جميعا وهو كذلك فإن الهدى الإلهي هو الدين الفطري الذي دعا إليه بلسان أنبيائه، ودين الفطرة هو مجموع الاعتقادات والأعمال التي تدعو إليها فطرة الإنسان وخلقته بحسب ما جهز به من الجهازات، ومن المعلوم أن سعادة كل شيء هو ما تستدعيه خلقته بما لها من التجهيز لا سعادة له وراءه، قال تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم﴾ الروم: 30.

قوله تعالى: ﴿ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ قال الراغب: العيش الحياة المختصة بالحيوان وهو أخص من الحياة لأن الحياة يقال في الحيوان وفي الباري تعالى وفي الملك ويشتق منه المعيشة لما يتعيش منه، قال تعالى: ﴿نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا﴾ ﴿معيشة ضنكا﴾ ، والضنك هو الضيق من كل شيء ويستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: مكان ضنك ومعيشة ضنك وهو في الأصل مصدر ضنك يضنك من باب شرف يشرف أي ضاق.

وقوله: ﴿ومن أعرض عن ذكري﴾ يقابل قوله في الآية السابقة: ﴿فمن اتبع هداي﴾ وكان مقتضى المقابلة أن يقال: ﴿ومن لم يتبع هداي﴾ وإنما عدل عنه إلى ذكر الإعراض عن الذكر ليشير به إلى علة الحكم لأن نسيانه تعالى والإعراض عن ذكره هو السبب لضنك العيش والعمى يوم القيامة، وليكون توطئة وتمهيدا لما سيذكر من نسيانه تعالى يوم القيامة من نسيه في الدنيا.

والمراد بذكره تعالى أما المعنى المصدري فقوله: ﴿ذكري﴾ من إضافة المصدر إلى مفعوله أو القرآن أو مطلق الكتب السماوية كما يؤيده قوله الآتي: ﴿أتتك آياتنا فنسيتها﴾ أو الدعوة الحقة وتسميتها ذكرا لأن لازم اتباعها والأخذ بها ذكره تعالى.

وقوله: ﴿فإن له معيشة ضنكا﴾ أي ضيقة وذلك أن من نسي ربه وانقطع عن ذكره لم يبق له إلا أن يتعلق بالدنيا ويجعلها مطلوبه الوحيد الذي يسعى له ويهتم بإصلاح معيشته والتوسع فيها والتمتع منها، والمعيشة التي أوتيها لا تسعه سواء كانت قليلة أو كثيرة لأنه كلما حصل منها واقتناها لم يرض نفسه بها وانتزعت إلى تحصيل ما هو أزيد وأوسع من غير أن يقف منها على حد فهو دائما في ضيق صدر وحنق مما وجد متعلق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهم والغم والحزن والقلق والاضطراب والخوف بنزول النوازل وعروض العوارض من موت ومرض وعاهة وحسد حاسد وكيد كائد وخيبة سعي وفراق حبيب.

ولو أنه عرف مقام ربه ذاكرا غير ناس أيقن أن له حياة عند ربه لا يخالطها موت وملكا لا يعتريه زوال وعزة لا يشوبها ذلة وفرحا وسرورا ورفعة وكرامة لا تقدر بقدر ولا تنتهي إلى أمد وأن الدنيا دار مجاز وما حياتها في الآخرة إلا متاع فلو عرف ذلك قنعت نفسه بما قدر له من الدنيا ووسعه ما أوتيه من المعيشة من غير ضيق وضنك.

وقيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر وشقاء الحياة البرزخية بناء على أن كثيرا من المعرضين عن ذكر الله ربما نالوا من المعيشة أوسعها وألقت إليهم أمور الدنيا بأزمتها فهم في عيشة وسيعة سعيدة.

وفيه أنه مبني على مقايسة معيشة الغني من معيشة الفقير بالنظر إلى نفس المعيشتين والإمكانات التي فيهما ولا يتعلق نظر القرآن بهما من هذه الجهة البتة، وإنما تبحث الآيات فيهما بمقايسة المعيشة المضافة إلى المؤمن وهو مسلح بذكر الله والإيمان به من المعيشة المضافة إلى الكافر الناسي لربه المتعلق النفس بالحياة الدنيا الأعزل من الإيمان ولا ريب أن للمؤمن حياة حرة سعيدة يسعه ما أكرمه ربه به من معيشة وإن كانت بالعفاف والكفاف أو دون ذلك، وليس للمعرض عن ذكر ربه إلا عدم الرضا بما وجد والتعلق بما وراءه.

نعم عذاب القبر من مصاديق المعيشة الضنك بناء على كون قوله: ﴿فإن له معيشة ضنكا﴾ متعرضا لبيان حالهم في الدنيا وقوله: ﴿ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ لبيان حالهم في الآخرة والبرزخ من أذناب الدنيا.

وقيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب النار يوم القيامة، وبقوله: ﴿ونحشره﴾ إلخ، ما قبل دخول النار.

وفيه أن إطلاق قوله: ﴿فإن له معيشة ضنكا﴾ ثم تقييد قوله: ﴿ونحشره﴾ بيوم القيامة لا يلائمه وهو ظاهر.

نعم لو أخذ أول الآية مطلقا يشمل معيشة الدنيا والآخرة جميعا وآخرها لتقيده بيوم القيامة مختصا بالآخرة كان له وجه.

وقوله: ﴿ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ أي بحيث لا يهتدي إلى ما فيه سعادته وهو الجنة والدليل على ذلك ما يأتي في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ﴿قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا﴾ يسبق إلى الذهن أن عمى يوم القيامة يتعلق ببصر الحس فإن الذي يسأل عنه هو ذهاب البصر الذي كان له في الدنيا وهو بصر الحس دون بصر القلب الذي هو البصيرة، فيشكل عليه ظاهر ما دل على أن المجرمين يبصرون يوم القيامة أهوال اليوم وآيات العظمة والقهر كقوله تعالى: ﴿إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا﴾ الم السجدة: 12، وقوله: ﴿اقرأ كتابك﴾ الإسراء: 14، ولذلك ذكر بعضهم أنهم يحشرون أولا مبصرين ثم يعمون، وبعضهم أنهم يحشرون مبصرين ثم عميا ثم مبصرين.

وهذا قياس أمور الآخرة وأحوالها بما لها من نظير في الدنيا وهو قياس مع الفارق فإن من الظاهر المسلم من الكتاب والسنة أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا الذي نألفه من الطبيعة وكون البصير مبصرا لكل مبصر والأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي لا دليل على عمومه للنظام الأخروي فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته وفلاحه وفوزه بالكرامة وهو يشاهد ما يتم به الحجة عليه وما يفزعه من أهوال القيامة وما يشتد به العذاب عليه من النار وغيرها، قال تعالى: ﴿إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون﴾ المطففين: 15.

قوله تعالى: ﴿قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾ الآية جواب سؤال السائل: ﴿رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا﴾ والإشارة في قوله: ﴿كذلك أتتك﴾ إلى حشره أعمى المذكور في السؤال، وفي قوله: ﴿وكذلك اليوم﴾ إلى معنى قوله: ﴿أتتك آياتنا فنسيتها﴾ والمعنى قال: كما حشرناك أعمى أتتك آياتنا فنسيتها وكما أتتك آياتنا فنسيتها ننساك اليوم أي إن حشرك اليوم أعمى وتركك لا تبصر شيئا مثل تركك آياتنا في الدنيا كما يترك الشيء المنسي وعدم اهتدائك بها مثل تركنا لك اليوم وعدم هدايتك بجعلك بصيرا تهتدي إلى النجاة، وبعبارة أخرى إنما جازيناك في هذا اليوم بمثل ما فعلت في الدنيا كما قال تعالى: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ الشورى: 40.

وقد سمى الله سبحانه معصية المجرمين وهم المعرضون عن ذكره التاركون لهداه نسيانا لآياته، ومجازاتهم بالإعماء يوم القيامة نسيانا منه لهم وانعطف بذلك آخر الكلام إلى أوله وهو معصية آدم التي سماها نسيانا لعهده إذ قال: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي﴾ فكأن قصة جنة آدم بما لها من الخصوصيات كانت مثالا من قبل يمثل به ما سيجري على بنيه من بعده إلى يوم القيامة فيمثل بنهيه عن اقتراب الشجرة الدعوة الدينية والهدى الإلهي بعده، وبمعصيته التي كانت نسيانا للعهد معاصي بنيه التي هي نسيان لذكره تعالى وآياته المذكرة، وإنما الفرق أن ابتلاء آدم كان قبل تشريع الشرائع فكان النهي المتوجه إليه إرشاديا وما ابتلي به من المخالفة من قبيل ترك الأولى بخلاف الأمر في بنيه.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما﴾ قال: فيما نهاه عنه من أكل الشجرة.

وفي تفسير العياشي، عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكره ويقول له إبليس: ﴿ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة - إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين﴾.

أقول: وهذا قول من قال في الآية بأن النسيان بمعناه الحقيقي وأن آدم نسي النهي عند الأكل حقيقة ولم يكن له عزم على المعصية أصلا، رد (عليه السلام) ذلك بمخالفة الكتاب، وبه يظهر ضعف ما رواه في روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها، وهو قول الله تعالى: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما﴾ .

وهذا القول منسوب إلى ابن عباس والأصل فيه ما رواه في الدر المنثور، عن الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب عن قول الله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾ قال: كان رجال من المهاجرين في أنسابهم شيء فقالوا يوما: والله لوددنا أن الله أنزل قرآنا في نسبنا فأنزل الله ما قرأت.

ثم قال لي: إن صاحبكم هذا يعني علي بن أبي طالب إن ولي زهد ولكني أخشى عجب نفسه أن يذهب به.

قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت والله ما نقول: إنه غير ولا عدل ولا أسخط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام صحبته.

فقال: ولا في بنت أبي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة؟ قلت: قال الله في معصية آدم (عليه السلام): ﴿ولم نجد له عزما﴾ وصاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن الخواطر التي لم يقدر أحد على دفعها عن نفسه، وربما كانت من الفقيه في دين الله العالم بأمر الله فإذا نبه عليها رجع وأناب فقال: يا بن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا.

فقد بنى حجته على كون المراد بالعزم العزم على المعصية ولازمه كون المراد بالنسيان معناه الحقيقي، فآدم لم يذكر العهد حين الأكل ولا عزم على المعصية فلم يعص ربه، وقد تقدم أنه مخالف لقوله: ﴿قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين﴾ على أن الآية بالمعنى الذي ذكره لا تناسب سياق الآيات السابقة عليها ولا اللاحقة، ومن الحري أن يجل ابن عباس وهو هو عن أن ينسب إليه هذا القول.

وأما ما وقع في الحديث من سخط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي (عليه السلام) في إرادته خطبة بنت أبي جهل على فاطمة (عليها السلام) فإشارة إلى ما في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، بعدة طرق عن المسور بن مخرمة ولفظ بعضها: أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكحا ابنة أبي جهل، قال المسور: فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعته حين تشهد ثم قال: أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني وأن فاطمة مضغة مني وإنما أكره أن يفتنوها وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا.

قال: فترك علي الخطبة.

والإمعان في التأمل فيما يتضمنه الحديث يوجب سوء الظن به فإن فيه طعنا صريحا في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو كان ما يتضمنه حقا كانت السخطة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزعة جاهلية من غير مجوز يجوزها له فبما ذا كان يسخط عليه؟ أبقوله تعالى: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع﴾ الآية، وهو عام لم ينسخ ولم يخصص بآية أخرى خاصة بها؟ أم بشيء من السنة يخصص الآية بفاطمة (عليها السلام) ويشرع فيها خاصة حكما شخصيا بالتحريم فلم يثبت ولم يبلغ قبل ذلك، وفي لفظ الحديث دلالة على ذلك أم أن نفس هذا القول بيان وتبليغ فلم يبين ولم يبلغ قبل ذلك ولا بأس بمخالفة الحكم قبل بلوغه ولا معصية فيها، فما معنى سخطه (صلى الله عليه وآله وسلم) على من لم يأت بمعصية ولا عزم عليها، وساحته (صلى الله عليه وآله وسلم) منزهة من هذه الشيم الجاهلية، وكأن بعض رواة الحديث أراد به الطعن في علي (عليه السلام) فطعن في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث لا يشعر.

على أنه يناقض الروايات القطعية الدالة على نزاهة ساحة علي (عليه السلام) من المعصية كخبر الثقلين وخبر المنزلة وخبر علي مع الحق والحق مع علي، إلى غير ذلك.

وفي الكافي، والعلل، مسندا عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله تعالى: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل - فنسي ولم نجد له عزما﴾ قال: عهد إليه في محمد والأئمة من ولده فترك ولم يكن له عزم فيهم أنه هكذا، وإنما سموا أولي العزم لأنهم عهد إليهم في محمد والأوصياء من بعده والمهدي وسيرته فأجمع عزمهم أن ذلك كذلك والإقرار به.

أقول: والرواية ملخصة من حديث مفصل رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن داود العجلي عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) يذكر فيه بدء خلق الإنسان ثم إشهاد الناس على أنفسهم في عالم الذر وأخذ الميثاق من آدم (عليه السلام) ومن أولي العزم من الرسل بالربوبية والنبوة والولاية وإقرار أولي العزم على ذلك وتوقف آدم (عليه السلام) وعدم عزمه على الإقرار وإن لم يجحد ثم تطبيق قوله تعالى: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم﴾ الآية، عليه.

والمعنى المذكور في الرواية من بطن القرآن أرجع فيه الأحكام إلى حقيقتها والعهود إلى تأويلها وهو الولاية الإلهية، وليس من تفسير لفظ الآية في شيء، والدليل على أنه ليس بتفسير أن الآيات - وهي اثنتا عشرة آية - تقص قصة واحدة ولو حملت الآية الأولى على هذا المعنى تفسيرا لم يبق في الآيات ما يدل على النهي عن أكل الشجرة وهو ركن القصة عليه يعتمد الباقي، ولا يغني عنه قوله: ﴿فلا يخرجنكما من الجنة﴾ وهو ظاهر، ولم يذكر النهي المذكور في سورة متقدمة نزولا على هذه السورة حتى يحال إليه وسورتا الأعراف والبقرة المذكور فيهما النهي المذكور متأخرتان نزولا عن هذه السورة كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله.

وبالجملة فهو من البطن دون التفسير وإن ورد في بعض الروايات في صورة التفسير كرواية جابر السابقة ولعله مما اشتبه على بعض رواة الحديث فأورده على هذه الصورة وقد بلغ الأمر في بعض الروايات إلى أن جعل ما ذكره الإمام من المعنى جزءا من الآية فصارت من أخبار التحريف كما في المناقب، عن الباقر (عليه السلام): (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم) كذا نزلت على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ونظير هذه الروايات روايات أخر وقع فيها تطبيق قوله تعالى: ﴿فمن اتبع هداي﴾ وقوله: ﴿عن ذكري﴾ على ولاية أهل البيت (عليهم السلام) وهي من روايات الجري دون التفسير كما توهم.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك أن الله يقول: ﴿فمن اتبع هداي - فلا يضل ولا يشقى﴾.

أقول: الحديث ينزل قوله تعالى ﴿فلا يضل﴾ على الدنيا وقوله: ﴿ولا يشقى﴾ على الآخرة فيؤيد ما تقدم في تفسير الآية.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿فإن له معيشة ضنكا﴾ وقيل: هو عذاب القبر: عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري والسدي، ورواه أبو هريرة مرفوعا: وفي الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عز وجل: ﴿ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ قال: قلت: سبحان الله أعمى؟ قال: نعم أعماه الله عن طريق الحق.

أقول: وروى مثله القمي في تفسيره مسندا عن معاوية بن عمار والصدوق في من لا يحضره الفقيه، مرسلا عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام).

والرواية في تخصيصها عمى يوم القيامة بطريق الحق وهو طريق النجاة والسعادة تؤيد ما تقدم في تفسير الآية.