الآيات 99-114

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ﴿99﴾ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ﴿100﴾ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ﴿101﴾ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴿102﴾ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ﴿103﴾ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ﴿104﴾ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴿105﴾ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ﴿106﴾ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ﴿107﴾ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴿108﴾ يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ﴿109﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴿110﴾ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴿111﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴿112﴾ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴿113﴾ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴿114﴾

بيان:

تذييل لقصة موسى بآيات متضمنة للوعيد يذكر فيها من أهوال يوم القيامة لغرض الإنذار.

قوله تعالى: ﴿كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا﴾ الظاهر أن الإشارة إلى خصوصية قصة موسى والمراد بما قد سبق الأمور والحوادث الماضية والأمم الخالية أي على هذا النحو قصصنا قصة موسى وعلى شاكلته نقص عليك من أخبار ما قد مضى من الحوادث والأمم.

وقوله: ﴿وقد آتيناك من لدنا ذكرا﴾ المراد به القرآن الكريم أو ما يشتمل عليه من المعارف المتنوعة التي يذكر بها الله سبحانه من حقائق وقصص وعبر وأخلاق وشرائع وغير ذلك.

قوله تعالى: ﴿من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا﴾ ضمير ﴿عنه﴾ للذكر والوزر الثقل والإثم والظاهر بقرينة الحمل إرادة المعنى الأول وتنكيره للدلالة على عظم خطره، والمعنى: من أعرض عن الذكر فإنه يحمل يوم القيامة ثقلا عظيم الخطر ومر الأثر، شبه الإثم من حيث قيامه بالإنسان بالثقل الذي يحمله الإنسان وهو شاق عليه فاستعير له اسمه.

قوله تعالى: ﴿خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا﴾ المراد من خلودهم في الوزر خلودهم في جزائه وهو العذاب بنحو الكناية والتعبير في ﴿خالدين﴾ بالجمع باعتبار معنى قوله: ﴿من أعرض عنه﴾ كما أن التعبير في ﴿أعرض﴾ و﴿فإنه يحمل﴾ باعتبار لفظه، فالآية كقوله: ﴿ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا﴾ الجن: 23.

ومع الغض عن الجهات اللفظية فقوله: ﴿من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه﴾ من أوضح الآيات دلالة على أن الإنسان إنما يعذب بعمله ويخلد فيه وهو تجسم الأعمال.

وقوله: ﴿وساء لهم يوم القيامة حملا﴾ ساء من أفعال الذم كبئس، والمعنى: وبئس الحمل حملهم يوم القيامة، والحمل بكسر الحاء وفتحها واحد، غير أن ما بالكسر هو المحمول في الظاهر كالمحمول على الظهر وما بالفتح هو المحمول في الباطن كالولد في البطن.

قوله تعالى: ﴿يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا﴾ ﴿يوم ينفخ﴾ إلخ، بدل من يوم القيامة في الآية السابقة، ونفخ في الصور كناية عن الإحضار والدعوة ولذا أتبعه فيما سيأتي بقوله: ﴿يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له﴾ 108 من السورة.

والزرق جمع أزرق من الزرقة وهي اللون الخاص، وعن الفراء أن المراد بكونهم زرقا كونهم عميا لأن العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها وهو معنى حسن ويؤيده قوله تعالى: ﴿ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا﴾ الإسراء: 97.

وقيل: المراد زرقة أبدانهم من التعب والعطش، وقيل: زرقة عيونهم لأن أسوأ ألوان العين وأبغضها عند العرب زرقتها، وقيل: المراد به كونهم عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين ويريها كالأزرق وهي وجوه غير مرضية.

قوله تعالى: ﴿يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا - إلى قوله - إلا يوما﴾ التخافت تكليم القوم بعضهم بعضا بخفض الصوت وذلك من أهل المحشر لهول المطلع، وقوله: ﴿إن لبثتم إلا عشرا﴾ بيان لكلامهم الذي يتخافتون فيه، ومعنى الجملة على ما يعطيه السياق: يقولون ما لبثتم في الدنيا قبل الحشر إلا عشرة أيام، يستقلون لبثهم فيها بقياسه إلى ما يلوح لهم من حكم الخلود والأبدية.

وقوله: ﴿نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما﴾ أي لنا إحاطة علمية بجميع ما يقولون في تقرير لبثهم إذ يقول أمثلهم طريقة أي الأقرب منهم إلى الصدق إن لبثتم في الأرض إلا يوما وإنما كان قائل هذا القول أمثل القوم طريقة وأقربها إلى الصدق لأن اللبث المحدود الأرضي لا مقدار له إذا قيس من اللبث الأبدي الخالد، وعده يوما وهو أقل من العشرة أقرب إلى الواقع من عده عشرة، والقول مع ذلك نسبي غير حقيقي وحقيقة القول فيه ما حكاه سبحانه في قوله: ﴿وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون﴾ الروم: 56، وسيجيء استيفاء البحث في معنى هذا اللبث في تفسير الآية إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿ويسألونك عن الجبال - إلى قوله - ولا أمتا﴾ تدل الآية على أنهم سألوه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حال الجبال يوم القيامة فأجيب عنه بالآيات.

وقوله: ﴿فقل ينسفها ربي نسفا﴾ أي يذرؤها ويثيرها فلا يبقى منها في مستقرها شيء، وقوله: ﴿فيذرها قاعا صفصفا﴾ القاع الأرض المستوية والصفصف الأرض المستوية الملساء، والمعنى فيتركها أرضا مستوية ملساء لا شيء عليها، وكأن الضمير للأرض باعتبار أنها كانت جبالا، وقوله: ﴿لا ترى فيها عوجا ولا أمتا﴾ قيل: العوج ما انخفض من الأرض والأمت ما ارتفع منها، والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد كل من له أن يرى والمعنى لا يرى راء فيها منخفضا كالأودية ولا مرتفعا كالروابي والتلال.

قوله تعالى: ﴿يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا﴾ نفي العوج إن كان متعلقا بالاتباع - بأن يكون ﴿لا عوج له﴾ حالا عن ضمير الجمع وعامله يتبعون - فمعناه أن ليس لهم إذا دعوا إلا الاتباع محضا من غير أي توقف أو استنكاف أو تثبط أو مساهلة فيه لأن ذلك كله فرع القدرة والاستطاعة أو توهم الإنسان ذلك لنفسه وهم يعاينون اليوم أن الملك والقدرة لله سبحانه لا شريك له قال تعالى: ﴿لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾ المؤمنون: 16، وقال: ﴿ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا﴾ البقرة: 165.

وإن كان متعلقا بالداعي كان معناه أن الداعي لا يدع أحدا إلا دعاه من غير أن يهمل أحدا بسهو أو نسيان أو مساهلة في الدعوة.

لكن تعقيب الجملة بقوله: ﴿وخشعت الأصوات للرحمن﴾ إلخ يناسب المعنى الأول فإن ارتفاع الأصوات عند الدعوة والإحضار إنما يكون للتمرد والاستكبار عن الطاعة والاتباع.

وقوله: ﴿وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا﴾ قال الراغب: الهمس الصوت الخفي وهمس الأقدام أخفى ما يكون من صوتها قال تعالى: ﴿فلا تسمع إلا همسا﴾.

والخطاب في قوله: ﴿لا تسمع﴾ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد كل سامع يسمع والمعنى وانخفضت الأصوات لاستغراقهم في المذلة والمسكنة لله فلا يسمع السامع إلا صوتا خفيا.

قوله تعالى: ﴿يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا﴾ نفي نفع الشفاعة كناية عن أن القضاء بالعدل والحكم الفصل على حسب الوعد والوعيد الإلهيين جار نافذ يومئذ من غير أن يسقط جرم مجرم أو يغمض عن معصية عاص لمانع يمنع منه فمعنى نفع الشفاعة تأثيرها.

وقوله: ﴿إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا﴾ الاستثناء يدل على أن العناية في الكلام متعلقة بنفي الشفعاء لا بتأثير الشفاعة في المشفوع لهم والمراد الإذن في الكلام للشفاعة كما يبينه قوله بعده: ﴿ورضي له قولا﴾ فإن التكلم يومئذ منوط بإذنه تعالى، قال: ﴿يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه﴾ هود: 105 وقال: ﴿لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا﴾ النبأ: 38.

وقد مر القول في معنى الإذن في التكلم في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب.

وأما كون القول مرضيا فمعناه أن لا يخالطه ما يسخط الله من خطإ أو خطيئة قضاء لحق الإطلاق ولا يكون ذلك إلا ممن أخلص الله سريرته من الخطإ في الاعتقاد والخطيئة في العمل وطهر نفسه من رجس الشرك والجهل في الدنيا أو من ألحقه بهم فإن البلاء والابتلاء اليوم مع السرائر قال تعالى: ﴿يوم تبلى السرائر﴾ وللبحث ذيل طويل سيمر بك بعضه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما﴾ إن كان ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى ﴿من أذن له﴾ باعتبار معناه كان المراد أن مرضي قولهم لا يخفى على الله فإن علمه محيط بهم وهم لا يحيطون به علما فليس في وسعهم أن يغروه بقول مزوق غير مرضي.

وإن كانت راجعة إلى المجرمين فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الجزاء وهو ما بين أيديهم وقبل أن يحضروا الموقف في الدنيا حيا أو ميتا وهو ما خلفهم فهم محاطون لعلمه ولا يحيطون به علما فيجزيهم بما فعلوا وقد عنت وجوههم للحي القيوم فلا يستطيعون ردا لحكمه وعند ذلك خيبتهم.

وهذا الاحتمال أنسب لسياق الآيات.

قوله تعالى: ﴿وعنت الوجوه للحي القيوم﴾ العنوة هي الذلة قبال قهر القاهر وهي شأن كل شيء دون الله سبحانه يوم القيامة بظهور السلطنة الإلهية كما قال: ﴿لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾ المؤمنون: 16، فلا يملك شيء شيئا بحقيقة معنى الكلمة وهو الذلة والمسكنة على الإطلاق وإنما نسبت العنوة إلى الوجوه لأنها أول ما تبدو وتظهر في الوجوه، ولازم هذه العنوة أن لا يمنع حكمه ولا نفوذه فيهم مانع ولا يحول بينه وبين ما أراد بهم حائل.

واختير من أسمائه الحي القيوم لأن مورد الكلام الأموات أحيوا ثانيا وقد تقطعت عنهم الأسباب اليوم والمناسب لهذا الظرف من صفاته حياته المطلقة وقيامه بكل أمر.

قوله تعالى: ﴿وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما﴾ بيان لجزائهم أما قوله: ﴿وقد خاب من حمل ظلما﴾ فالمراد بهم المجرمون غير المؤمنين فلهم الخيبة بسوء الجزاء لا كل من حمل ظلما ما أي ظلم كان من مؤمن أو كافر فإن المؤمن لا يخيب يومئذ بالشفاعة.

ولو كان المراد العموم وأن كل من حمل ظلما ما فهو خائب فالمراد بالخيبة الخيبة من السعادة التي يضادها ذلك الظلم دون الخيبة من السعادة مطلقا.

وأما قوله: ﴿ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن﴾ إلخ فهو بيان استطرادي لحال المؤمنين الصلحاء جيء به لاستيفاء الأقسام وتتميم القول في الفريقين الصلحاء والمجرمين، وقد قيد العمل الصالح بالإيمان لأن الكفر يحبط العمل الصالح بمقتضى آيات الحبط، والهضم هو النقص، ومعنى الآية ظاهر.

وقد تم باختتام هذه الآية بيان إجمال ما يجري عليهم يوم الجزاء من حين يبعثون إلى أن يجزوا بأعمالهم فقد ذكر إحضارهم بقوله: ﴿يوم ينفخ في الصور﴾ أولا ثم حشرهم وقرب ذلك منهم حتى أنه يرى أمثلهم طريقة أنهم لبثوا في الأرض يوما واحدا بقوله: ﴿يتخافتون بينهم﴾ إلخ ثانيا.

ثم تسطيح الأرض لاجتماعهم عليها بقوله: ﴿ويسألونك عن الجبال﴾ إلخ، ثالثا.

ثم طاعتهم واتباعهم الداعي للحضور بقوله: ﴿يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له﴾ إلخ، رابعا.

ثم عدم تأثير الشفاعة لإسقاط الجزاء بقوله: ﴿يومئذ لا تنفع الشفاعة﴾ إلخ خامسا.

ثم إحاطة علمهم بحالهم من غير عكس وهي مقدمة للحساب والجزاء بقوله: ﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ إلخ سادسا.

ثم سلطانه عليهم وذلتهم عنده ونفوذ حكمه فيهم بقوله: ﴿وعنت الوجوه للحي القيوم﴾ سابعا.

ثم الجزاء بقوله: ﴿وقد خاب﴾ إلخ ثامنا، وبهذا يظهر وجه ترتب الآيات وذكر ما ذكر فيها.

قوله تعالى: ﴿وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا﴾ ظاهر سياقها أن الإشارة بكذلك إلى خصوصيات بيان الآيات، و﴿قرآنا عربيا﴾ حال من الضمير في ﴿أنزلناه﴾ والتصريف، هو التحويل من حال إلى حال، والمعنى وعلى ذلك النحو من البيان المعجز أنزلنا الكتاب والحال أنه قرآن مقرو عربي وأتينا فيه ببعض ما أوعدناهم في صورة بعد صورة.

وقوله: ﴿لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا﴾ قد أورد فيما تقدم من قوله: ﴿لعله يتذكر أو يخشى﴾ الذكر مقابلا للخشية ويستأنس منه أن المراد بالاتقاء هاهنا هو التحرز من المعاداة واللجاج الذي هو لازم الخشية باحتمال الضرر دون الاتقاء المترتب على الإيمان بإتيان الطاعات واجتناب المعاصي، ويكون المراد بإحداث الذكر لهم حصول التذكر فيهم وتتم المقابلة بين الذكر والتقوى من غير تكلف.

والمعنى - والله أعلم - لعلهم يتحرزون المعاداة مع الحق لحصول الخشية في قلوبهم باحتمال الخطر لاحتمال كونه حقا أو يحدث لهم ذكرا للحق فيعتقدوا به.

قوله تعالى: ﴿فتعالى الله الملك الحق﴾ تسبيح وتنزيه له عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، وهو يقبل التفرع على إنزال القرآن وتصريف الوعيد فيه لهداية الناس والتفرع عليه وعلى ما ذكر قبله من حديث الحشر والجزاء وهذا هو الأنسب نظرا إلى انسلاك الجميع في سلك واحد وهو أنه تعالى ملك يتصرف في ملكه بهداية الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم ثم إحضارهم وجزائهم على ما عملوا من خير أو شر.

فتعالى الله الذي يملك كل شيء ملكا مطلقا لا مانع من تصرفه ولا معقب لحكمه يرسل الرسل وينزل الكتب لهداية الناس وهو من شئون ملكه ثم يبعثهم بعد موتهم ويحضرهم فيجزيهم على ما عملوا وقد عنوا للحي القيوم وهذا أيضا من شئون ملكه فهو الملك في الأولى والآخرة وهو الحق الثابت على ما كان لا يزول عما هو عليه.

ويمكن أن يتفرع على جميع ما تقدم من قصة موسى وما فرع عليها إلى هنا ويكون بمنزلة ختم ذلك بالتسبيح والاستعظام.

قوله تعالى: ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما﴾ السياق يشهد بأن في الكلام تعرضا لتلقي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحي القرآن، فضمير ﴿وحيه﴾ للقرآن، وقوله: ﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ نهي عن العجل بقراءته، ومعنى قوله: ﴿من قبل أن يقضى إليك وحيه﴾ من قبل أن يتم وحيه من ملك الوحي.

فيفيد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا جاءه الوحي بالقرآن يعجل بقراءة ما يوحى إليه قبل أن يتم الوحي فنهى عن أن يعجل في قراءته قبل انقضاء الوحي وتمامه فيكون الآية في معنى قوله تعالى في موضع آخر: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه﴾ القيامة: 18.

ويؤيد هذا المعنى قوله بعد: ﴿وقل رب زدني علما﴾ فإن سياق قوله: لا تعجل به وقل رب زدني، يفيد أن المراد هو الاستبدال أي بدل الاستعجال في قراءة ما لم ينزل بعد، طلبك زيادة العلم ويئول المعنى إلى أنك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد لأن عندك علما به في الجملة لكن لا تكتف به واطلب من الله علما جديدا بالصبر واستماع بقية الوحي.

وهذه الآية مما يؤيد ما ورد من الروايات أن للقرآن نزولا دفعة واحدة غير نزوله نجوما على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو لا علم ما منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم ينزل منه بعد معنى.

وقيل: المراد بالآية ولا تعجل بقراءة القرآن لأصحابك وإملائه عليهم من قبل أن يتبين لك معانيه، وأنت خبير بأن لفظ الآية لا تعلق له بهذا المعنى.

وقيل: المراد ولا تسأل إنزال القرآن قبل أن يقضي الله وحيه إليك، وهو كسابقه غير منطبق على لفظ الآية.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿إذ يقول أمثلهم طريقة﴾ قال: أعلمهم وأصلحهم يقولون: ﴿إن لبثتم إلا يوما﴾.

وفي المجمع، قيل إن رجلا من ثقيف سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف تكون الجبال مع عظمها يوم القيامة؟ فقال: إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها.

أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن المنذر عن ابن جريح ولفظه: قالت قريش: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: ﴿ويسألونك عن الجبال﴾ الآية وفي تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿لا ترى فيها عوجا ولا أمتا﴾ قال: الأمت: الارتفاع، والعوج: الحزون والذكوات.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له﴾ قال: مناد من عند الله عز وجل.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا﴾ حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي محمد الوابشي عن أبي الورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد واحد حفاة عراة فيوقفون في المحشر حتى يعرقوا عرقا شديدا وتشتد أنفاسهم فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما وهو قول الله: ﴿وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا﴾ الحديث.

وفي الكافي، أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد.

فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس ﴿لا تدركه الأبصار﴾ ﴿ولا يحيطون به علما﴾ ﴿وليس كمثله شيء﴾ أليس محمد؟ قال بلى.

قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: ﴿لا تدركه الأبصار﴾ ﴿ولا يحيطون به علما﴾ ﴿وليس كمثله شيء﴾ ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر؟ أما تستحيون، ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر، إلى قوله: وقد قال الله: ﴿ولا يحيطون به علما﴾ فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة.

فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام) إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ الآية، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية، والمعنى: فأنزل الله ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه﴾ - أي يفرغ من قراءته ﴿وقل رب زدني علما﴾.

أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن السدي: إلا أن فيه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفعل ذلك خوفا من النسيان وأنت تعلم أن نسيان الوحي لا يلائم عصمة النبوة.

وفي الدر المنثور، أخرج الفاريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته فجاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تطلب قصاصا، فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهما القصاص، فأنزل الله ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه - وقل رب زدني علما﴾ فوقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزلت ﴿الرجال قوامون على النساء﴾ الآية.

أقول: والحديث لا يخلو من شيء فلا الآية الأولى بمضمونها تنطبق على المورد ولا الثانية، وقد سبق البحث عن كليهما.

وفي المجمع، روت عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه.

أقول: والحديث لا يخلو من شيء وكيف يظن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو على نفسه في أمر ليس إليه، ولعل في الرواية تحريفا من جهة النقل بالمعنى.