الآيات 49-79

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴿49﴾ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴿50﴾ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ﴿51﴾ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ﴿52﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴿53﴾ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ﴿54﴾ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴿55﴾ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ﴿56﴾ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ﴿57﴾ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى ﴿58﴾ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴿59﴾ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴿60﴾ قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ﴿61﴾ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ﴿62﴾ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴿63﴾ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ﴿64﴾ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴿65﴾ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴿66﴾ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ﴿67﴾ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى ﴿68﴾ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴿69﴾ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴿70﴾ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴿71﴾ قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿72﴾ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿73﴾ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ﴿74﴾ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ ى ﴿75﴾ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ﴿76﴾ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ﴿77﴾ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴿78﴾ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴿79﴾

بيان:

فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) يذكر فيه خبر ذهاب موسى وهارون (عليهما السلام) إلى فرعون وتبليغهما رسالة ربهما في نجاة بني إسرائيل، وقد فصل في الآيات خبر ذهابهما إليه وإظهارهما آيات الله ومقابلة السحرة وظهور الحق وإيمان السحرة وأشير إجمالا إلى إسراء بني إسرائيل وشق البحر واتباع فرعون لهم بجنوده وغرقهم.

قوله تعالى: ﴿قال فمن ربكما يا موسى﴾ حكاية لمحاورة موسى وفرعون وقد علم مما نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون ويدعواه إلى التوحيد ويكلماه في إرسال بني إسرائيل معهما، ما قالا له فهو محذوف وما نقل من كلام فرعون جوابا دال عليه.

ويظهر مما نقل من كلام فرعون إنه علم بتعريفهما أنهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أن موسى هو الأصل في القيام بها وهارون وزيره ولذا خاطب موسى وحده وسأل عن ربهما معا.

وقد وقع في كلمة الدعوة التي أمرا بأن يكلماه بها ﴿إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك﴾ إلخ، لفظ ﴿ربك﴾ خطابا لفرعون مرتين وهو لا يرى لنفسه ربا بل يرى نفسه ربا لهما ولغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ النازعات: 24، وقال: ﴿لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين﴾ الشعراء: 29، فقوله: ﴿فمن ربكما﴾ - وكان الحري بالمقام أن يقول فمن ربي الذي تدعيانه ربا لي؟ أو ما يقرب من ذلك - يلوح إلى أنه يتغافل عن كونه سبحانه ربا له كأنه لم يسمع قولهما ﴿ربك﴾ ويسأل عن ربهما الذي هما رسولان من عنده.

وكان من المسلم المقطوع عند الأمم الوثنيين أن خالق الكل حقيقة هي أعلى من أن يقدر بقدر وأعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجه إليه بعبادة أو يتقرب إليه بقربان فلا يؤخذ إلها وربا بل الواجب التوجه إلى بعض مقربي خلقه بالعبادة والقربان ليقرب الإنسان من الله زلفى ويشفع له عنده فهؤلاء هم الآلهة والأرباب وليس الله سبحانه بإله ولا رب وإنما هو إله الآلهة ورب الأرباب فقول القائل: إن لي ربا إنما يعني به أحد الآلهة من دون الله وليس يعني به الله سبحانه ولا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم.

فقول فرعون: ﴿فمن ربكما﴾ ليس إنكارا لوجود خالق الكل ولا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله: ﴿ويذرك وآلهتك﴾ الأعراف: 127، وإنما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتخذاه إلها وربا من هو غيره؟ وهذا معنى ما تقدم أن فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه وهما في أول الدعوة فهو يقدر ولو كتقدير المتجاهل أن موسى وأخاه يدعوانه إلى بعض الآلهة التي يتخذ فيما بينهم ربا من دون الله فيسأل عنه، وقد كان من دأب الوثنيين التفنن في اتخاذ الآلهة يتخذ كل منهم من يهواه إلها وربما بدل إلها من إله فتلك طريقتهم وسيأتي قول الملإ: ﴿ويذهبا بطريقتكم المثلى﴾ نعم، ربما تفوه عامتهم ببعض ما لا يوافق أصولهم كنسبة الخلق والتدبير إلى نفس الأصنام دون أربابها.

فمحصل مذهبهم أنهم ينزهون الله تعالى عن العبادة والتقرب وإنما يتقربون استشفاعا إليه ببعض خلقه كالملائكة والجن والقديسين من البشر، وكان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الآلهة والأرباب وكان لا يمنع ذلك الملك الرب أن يتخذ إلها من الآلهة فيعبده فيكون عابدا لربه معبودا لغيره من الرعية كما كان رب البيت يعبد في بيته عند الروم القديم وكان أكثرهم من الوثنية الصابئة، فقد كان فرعون موسى ملكا متألها وهو يعبد الأصنام وهو الظاهر من خلال الآيات الكريمة.

ومن هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسرين في أمره قال في روح المعاني،: ذهب بعضهم إلى أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا واستدلوا عليه بعدة من الآيات.

وبأن ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ألا ترى أن موسى (عليه السلام) لما هرب إلى مدين قال له شعيب (عليه السلام): لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنه إله العالم؟ وبأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر.

ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والأرض وما بينهما واختلفوا في كيفية جهله.

فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا، ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن إلى مؤثر وأن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ذي مقراطيس وأتباعه.

ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة، وأما دعاؤه لنفسه بالربوبية فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره.

وأنت بالرجوع إلى حاق مذهب القوم تعرف أن شيئا من هذه الأقوال والمحتملات ولا ما استدلوا عليه لا يوافق واقع الأمر.

قوله تعالى: ﴿قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ سياق الآية - وهي واقعة في جواب سؤال فرعون: ﴿فمن ربكما يا موسى﴾ - يعطي أن ﴿خلقه﴾ بمعنى اسم المصدر والضمير للشيء فالمراد الوجود الخاص بالشيء.

والهداية إراءة الشيء الطريق الموصل إلى مطلوبه أو إيصاله إلى مطلوبه ويعود المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد وهو نوع من إيصال الشيء إلى مطلوبه إما بإيصاله إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه.

وقد أطلق الهداية من حيث المهدي والمهدي إليه، ولم يسبق في الكلام إلا الشيء الذي أعطي خلقه فالظاهر أن المراد هداية كل شيء - المذكور قبلا - إلى مطلوبه ومطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده وينتهي إليها والمطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي أعطيه ومعنى هدايته له إليها تسييره نحوها كل ذلك بمناسبة البعض للبعض.

فيئول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شيء بما جهز به في وجوده من القوى والآلات وبين آثاره التي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الإنسان مثلا وهو نطفة مصورة بصورته مجهز في نفسه بقوى وأعضاء تناسب من الأفعال والآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه وبدنه فقد أعطيت النطفة الإنسانية بما لها من الاستعداد خلقها الذي يخصها وهو الوجود الخاص بالإنسان ثم هديت وسيرت بما جهزت به من القوى والأعضاء نحو مطلوبها وهو غاية الوجود الإنساني والكمال الأخير الذي يختص به هذا النوع.

ومن هنا يظهر معنى عطف قوله: ﴿هدى﴾ على قوله: ﴿أعطى كل شيء خلقه﴾ بثم وأن المراد التأخر الرتبي فإن سير الشيء وحركته بعد وجوده رتبة وهذا التأخر في الموجودات الجسمانية تدريجي زماني بنحو.

وظهر أيضا أن المراد بالهداية الهداية العامة الشاملة لكل شيء دون الهداية الخاصة بالإنسان، وذلك بتحليل الهداية الخاصة وتعميمها بإلقاء الخصوصيات فإن حقيقة هداية الإنسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب والطريق رابطة القاصد بمطلوبه فكل شيء جهز بما يربطه بشيء ويحركه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشيء فكل شيء مهدي نحو كماله بما جهز به من تجهيز والله سبحانه هو الهادي.

فنظام الفعل والانفعال في الأشياء وإن شئت فقل: النظام الجزئي الخاص بكل شيء والنظام العام الجامع لجميع الأنظمة الجزئية من حيث ارتباط أجزائها وانتقال الأشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى وذلك بعناية أخرى مصداق لتدبيره، ومعلوم أن التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أن الذي ينتهي وينتسب إليه تدبير الأشياء هو الذي أوجد نفس الأشياء فكل وجود أو صفة وجود ينتهي إليه ويقوم به.

فقد تبين أن الكلام أعني قوله: ﴿الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ مشتمل على البرهان على كونه تعالى رب كل شيء لا رب غيره فإن خلقه الأشياء وإيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها - لقيامها به - وملك تدبير أمرها.

وعند هذا يظهر أن الكلام على نظمه الطبيعي والسياق جار على مقتضى المقام فإن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وطاعة الرسول وقد أتى فرعون بعد استماع كلمة الدعوة بما حاصله التغافل عن كونه تعالى ربا له، وحمل كلامهما على دعوتهما له إلى ربهما فسأل: من ربكما؟ فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين ليشملهما وإياه وغيرهم جميعا فأجيب بما هو أبلغ من ذلك فقيل: ﴿ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ فأجيب بأنه رب كل شيء وأفيد مع ذلك البرهان على هذا المدعى، ولو قيل: ربنا رب العالمين أفاد المدعى فحسب دون البرهان، فافهم ذلك.

وإنما أثبت في الكلام الهداية دون التدبير مع كون موردهما متحدا كما تقدمت الإشارة إليه لأن المقام مقام الدعوة والهداية والهداية، العامة أشد مناسبة له.

هذا هو الذي يرشد إليه التدبر في الآية الكريمة، وبذلك يعلم حال سائر التفاسير التي أوردت للآية: كقول بعضهم: إن المراد بقوله: ﴿خلقه﴾ مثل خلقه وهو الزوج الذي يماثل الشيء، والمعنى: الذي خلق لكل شيء زوجا، فيكون في معنى قوله: ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين﴾.

وقول بعضهم: إن المراد بكل شيء أنواع النعم وهو مفعول ثان لأعطى وبالخلق المخلوق وهو مفعول أول لأعطى، والمعنى: الذي أعطى مخلوقاته كل شيء من النعم.

وقول بعضهم: إن المراد بالهداية الإرشاد والدلالة على وجوده تعالى ووحدته بلا شريك، والمعنى: الذي أعطى كل شيء من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده ثم أرشد ودل بذلك على وجود نفسه ووحدته.

والتأمل فيما مر يكفيك للتنبه على فساد هذه الوجوه فإنما هي معان بعيدة عن السياق وتقييدات للفظ الآية من غير مقيد.

قوله تعالى: ﴿قال فما بال القرون الأولى﴾ قيل: البال في الأصل بمعنى الفكر ومنه قولهم: خطر ببالي كذا، ثم استعمل بمعنى الحال، ولا يثنى ولا يجمع، وقولهم: بآلات، شاذ.

لما كان جواب موسى (عليه السلام) مشتملا على معنى الهداية العامة التي لا تتم في الإنسان إلا بنبوة ومعاد إذ لا يستقيم دين التوحيد إلا بحساب وجزاء يتميز به المحسن من المسيء ولا يتم ذلك إلا بتمييز ما يأمر تعالى به مما ينهى عنه وما يرتضيه مما يسخطه، على أن كلمة الدعوة التي أمرا أن يؤدياها إلى فرعون مشتملة على الجزاء صريحا ففي آخرها: ﴿إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى﴾ والوثنيون منكرون لذلك عدل فرعون عن الكلام في الربوبية - وقد انقطع بما أجاب به موسى - إلى أمر المعاد والسؤال عنه بانيا على الاستبعاد.

فقوله: ﴿فما بال القرون الأولى﴾ أي ما حال الأمم والأجيال الإنسانية الماضية الذين ماتوا وفنوا لا خبر عنهم ولا أثر كيف يجزون بأعمالهم ولا عامل في الوجود ولا عمل وليسوا اليوم إلا أحاديث وأساطير؟ فالآية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله: ﴿وقالوا ء إذا ضللنا في الأرض ء إنا لفي خلق جديد﴾ الم السجدة: 10، وظاهر الكلام أنه مبني على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم وبأعمالهم للموت والفوت كما يشهد به جواب موسى (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى﴾ أجاب (عليه السلام) عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال: ﴿علمها عند ربي﴾ فأطلق العلم بها فلا يفوته شيء من أشخاصهم وأعمالهم وجعلها عند الله فلا تغيب عنه ولا تفوته، وقد قال تعالى: ﴿وما عند الله باق﴾ ثم قيد ذلك بقوله: ﴿في كتاب﴾ - وكأنه حال من العلم - ليؤكد به أنه مثبت محفوظ من غير أن يتغير عن حاله وقد نكر الكتاب ليدل به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته ودقتها فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

فيئول معنى الكلام إلى أن جزاء القرون الأولى إنما يشكل لو جهل ولم يعلم بها لكنها معلومة لربي محفوظة عنده في كتاب لا يتطرق إليه خطأ ولا تغيير ولا غيبة وزوال.

وقوله: ﴿لا يضل ربي ولا ينسى﴾ نفي للجهل الابتدائي والجهل بعد العلم على ما نقل عن بعضهم ولكن الظاهر أن الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإن الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في العلم هو أخذ الشيء مكان غيره وإنما يتحقق ذلك بتغير المعلوم من حيث هو معلوم عما كانت عليه في العلم أولا، والنسيان خروج الشيء من العلم بعد دخوله فيه فهما معا من الجهل بعد العلم، ونفيه هو المناسب لإثبات العلم أولا فيفيد مجموع الآية أنه عالم بالقرون الأولى ولا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم.

ومن هنا يظهر أن قوله: ﴿لا يضل ربي ولا ينسى﴾ من تمام بيان الآية كأنه دفع دخل مقدر كأنما قيل: إنها وإن علم بها يوما فهي اليوم باطلة الذوات معفوة الآثار لا يتميز شيء منها من شيء فأجيب بأن شيئا منها ومن آثارها وأعمالها لا يختلط عليه تعالى بتغير ضلال ولا يغيب عنه بنسيان، ولذا أوردت الجملة مفصولة غير معطوفة.

وقد أثبت العلم ونفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى برهان المدعى وذلك أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيته المطلقة لكل شيء - والرب هو المالك للشيء المدبر لأمره - يستلزم كون الأشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة وكونها مدبرة له كيفما فرضت فهي معلومة له، ولو فرض شيء منها مجهولا له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائي فذلك الشيء أيا ما كان وأينما تحقق مملوك له قائم الوجود به مدبر بتدبيره لا حاجب بينهما ولا فاصل وهو الحضور الذي نسميه علما وقد فرضناه مجهولا أي غائبا عنه هذا خلف.

وقد أضاف الرب إلى نفسه في الآية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع المضمر على ما قيل ولم يقل: ﴿ربنا﴾ كما في الآية السابقة لأن السؤال السابق إنما كان عن ربهما الذي يدعوان إليه فأجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام: الرب الذي أدعو أنا وأخي إليه هو كذا وكذا، وأما في هذه الآية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الأولى والذي يصفه هو موسى فكان المعنى الرب الذي أصفه عليم بها، والذي يفيد هذا المعنى هو ﴿ربي﴾ لا غير فتأمل فيه فهو لطيف.

والنكتة في ﴿ربي﴾ الثاني هي نظيرة ما في ﴿ربي﴾ الأول وفي كونه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر تأمل لفصل الجملة.

وقد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير الآيتين بالوجوه والاحتمالات اختلافا كثيرا أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها ومن أعجبها قول كثير منهم أن قول فرعون لموسى: ﴿فما بال القرون الأولى﴾ سؤال عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة سأل موسى عن ذلك ليصرفه عن ما هو فيه من التكلم في أصول المعارف الإلهية وإقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ والمعاد مما ينكره الوثنية ويشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين وأخبار الماضين، وجواب موسى: ﴿علمها عند ربي﴾ إلخ، محصله إرجاع العلم بها إلى الله وأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب.

قوله تعالى: ﴿الذي جعل لكم الأرض مهدا - إلى قوله - لآيات لأولي النهى﴾ قد عرفت أن لسؤاله ﴿فما بال القرون الأولى﴾ ارتباطا بما وصف الله به من الهداية العامة التي منها هداية الإنسان إلى سعادته في الحياة وهي الحياة الخالدة الأخروية وكذا الجواب عنه بقوله: ﴿علمها عند ربي﴾ إلخ مرتبط فقوله: ﴿الذي جعل لكم الأرض مهدا﴾ مضى في الحديث عن الهداية العامة وذكر شواهد بارزة من ذلك.

فالله سبحانه أقر الإنسان في الأرض يحيا فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا لحياته العلوية السماوية كالصبي يقر في المهد ويربى لحياة هي أشرف منه وأرقى، وجعل للإنسان فيها سبلا ليتنبه بذلك أن بينه وبين غايته وهو التقرب منه تعالى والدخول في حظيرة الكرامة سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الأرضية لمآربه الحيوية وأنزل من السماء ماء وهو ماء الأمطار ومنه مياه عيون الأرض وأنهارها وبحارها فأنبت منه أزواجا أي أنواعا وأصنافا متقاربة شتى من نبات يهديكم إلى أكلها ففي ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته وربوبيته تعالى.

فقوله: ﴿الذي جعل لكم الأرض مهدا﴾ إشارة إلى قرار الإنسان في الأرض لإدامة الحياة وهو من الهداية، وقوله: ﴿وسلك لكم فيها سبلا﴾ إشارة إلى مسالك الإنسان التي يسلكها في الأرض لإدراك مآربه وهو أيضا من الهداية، وقوله: ﴿وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم﴾ إشارة إلى هداية الإنسان والإنعام إلى أكل النبات لإبقاء الحياة، وفيه هداية السماء إلى الإمطار وماء الأمطار إلى النزول والنبات إلى الخروج.

والباء في ﴿به﴾ للسببية وفيه تصديق السببية والمسببية بين الأمور الكونية، والمراد بكون النبات أزواجا كونها أنواعا وأصنافا متقاربة كما فسره القوم أو حقيقة الإزدواج بين الذكور والإناث من النبات وهي من الحقائق التي نبه عليها الكتاب العزيز.

وقوله: ﴿فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى﴾ فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير، قيل: والوجه فيه ما في هذا الصنع العجيب وإبداع الصور المتشتتة والأزواج المختلفة على ما فيها من تنوع الحياة من ماء واحد، من العظمة والصنع العظيم لا يصدر إلا من العظيم والعظماء يتكلمون عنهم وعن غيرهم من أعوانهم وقد ورد الالتفات في معنى إخراج النبات بالماء في مواضع من كلامه تعالى كقوله: ﴿ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها﴾ فاطر: 27، وقوله: ﴿وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة﴾ النمل: 60، وقوله: ﴿وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء﴾ الأنعام: 99.

وقوله: ﴿إن في ذلك لآيات لأولي النهى﴾ النهى جمع نهية بالضم فالسكون: وهو العقل سمي به لنهيه عن اتباع الهوى.

قوله تعالى: ﴿منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى﴾ الضمير للأرض والآية تصف ابتداء خلق الإنسان من الأرض ثم إعادته فيها وصيرورته جزء منها ثم إخراجه منها للرجوع إلى الله ففيها الدورة الكاملة من هداية الإنسان.

قوله تعالى: ﴿ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى﴾ الظاهر أن المراد بالآيات العصا واليد وسائر الآيات التي أراها موسى فرعون أيام دعوته قبل الغرق كما مر في قوله: ﴿اذهب أنت وأخوك بآياتي﴾ فالمراد جميع الآيات التي أريها وإن لم يؤت بها جميعا في أول الدعوة كما أن المراد بقوله: ﴿فكذب وأبى﴾ مطلق تكذيبه وإبائه لا ما أتى به منهما في أول الدعوة.

قوله تعالى: ﴿قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى﴾ الضمير لفرعون وقد اتهم موسى أولا بالسحر لئلا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الآيات المعجزة وحقية دعوته، وثانيا بأنه يريد إخراج القبط من أرضهم وهي أرض مصر، وهي تهمة سياسية يريد بها صرف الناس عنه وإثارة أفكارهم عليه بأنه عدو يريد أن يطردهم من بيئتهم ووطنهم بمكيدته ولا حياة لمن لا بيئة له.

قوله تعالى: ﴿فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى﴾ الظاهر كما يشهد به الآية التالية أن الموعد اسم زمان وإخلاف الوعد عدم العمل بمقتضاه، ومكان سوى بضم السين أي واقع المنتصف من المسافة أو مستوي الأطراف من غير ارتفاع وانخفاض قال في المفردات،: ومكان سوى وسواء وسط، ويقال: سواء وسوى وسوى - بضم السين وكسرها - أي يستوي طرفاه، ويستعمل ذلك وصفا وظرفا، وأصل ذلك مصدر.

والمعنى: فأقسم لنأتينك بسحر يماثل سحرك لقطع حجتك وإبطال إرادتك فاجعل بيننا وبينك زمان وعد لا نخلفه في مكان بيننا أو في مكان مستوي الأطراف أو اجعل بيننا وبينك مكانا كذلك.

قوله تعالى: ﴿قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى﴾ الضمير لموسى وقد جعل الموعد يوم الزينة، ويظهر من السياق أنه كان يوما لهم يجري بينهم مجرى العيد، ويظهر من لفظه أنهم كانوا يتزينون فيه ويزينون الأسواق، وحشر الناس - على ما ذكره الراغب - إخراجهم عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، والضحى وقت انبساط الشمس من النهار.

وقوله: ﴿وأن يحشر الناس ضحى﴾ معطوف على الزينة أو على يوم بتقدير اليوم أو الوقت ونحوه والمعنى قال موسى موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس في الضحى، وليس من البعيد أن يكون مفعولا معه والمعنى موعدكم يوم الزينة مع حشر الناس في الضحى ويرجع إلى الاشتراط.

وإنما اشترط ذلك ليكون ما يأتي به ويأتون به على أعين الناس في ساعة مبصرة.

قوله تعالى: ﴿فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى﴾ ظاهر السياق أن المراد بتولي فرعون انصرافه عن مجلس المواعدة للتهيؤ لما واعد، والمراد بجمع كيده جمع ما يكاد به من السحرة وسائر ما يتوسل به إلى تعمية الناس والتلبيس عليهم ويمكن أن يكون المراد بجمع كيده جمع ذوي كيده بحذف المضاف والمراد بهم السحرة وسائر عماله وأعوانه وقوله: ﴿ثم أتى﴾ أي ثم أتى الموعد وحضره.

قوله تعالى: ﴿قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى﴾ الويل كلمة عذاب وتهديد، والأصل فيه معنى العذاب ومعنى ويلكم عذبكم الله عذابا، والسحت بفتح السين استيصال الشعر بالحلق والإسحات الاستئصال والإهلاك.

وقوله: ﴿قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا﴾ ضمائر الجمع غيبة وخطابا لفرعون وكيده وهم السحرة وسائر أعوانه على موسى (عليه السلام) وقد مر ذكرهم في الآية السابقة، وأما رجوعها إلى السحرة فقط فلم يسبق لهم ذكر ولا دل عليهم دليل من جهة اللفظ.

وهذا القول من موسى (عليه السلام) موعظة لهم وإنذار أن يفتروا على الله الكذب، وقد ذكر من افترائهم فيما مر تسمية فرعون الآيات الإلهية سحرا، ورمي الدعوة الحقة بأنها للتوسل إلى إخراجهم من أرضهم ومن الافتراء أيضا السحر لكن افتراء الكذب على الله وهو اختلاق الكذب عليه إنما يكون بنسبة ما ليس من الله إليه، وعد الآية المعجزة سحرا والدعوة الحقة كيدا سياسيا قطع نسبتهما إلى الله وكذا إتيانهم بالسحر قبال المعجزة مع الاعتراف بكونه سحرا لا واقع له فلا يعد شيء منها افتراء على الله.

فالظاهر أن المراد بافتراء الكذب على الله الاعتقاد بأصول الوثنية كألوهية الآلهة وشفاعتها ورجوع تدبير العالم إليها كما فسروا الآية بذلك، وقد عد ذلك افتراء على الله في مواضع من القرآن كقوله: ﴿قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم﴾ الأعراف: 89.

وقوله: ﴿فيسحتكم بعذاب﴾ تفريع على النهي أي لا تشركوا بالله حتى يستأصلكم ويهلككم بعذاب بسبب شرككم، وتنكير العذاب للدلالة على شدته وعظمته.

قوله: ﴿وقد خاب من افترى﴾ الخيبة اليأس من بلوغ النتيجة المأمولة وقد وضعت الجملة في الكلام وضع الأصل الكلي الذي يتمسك به وهو كذلك فإن الافتراء من الكذب وسببيته سببية كاذبة والأسباب الكاذبة لا تهتدي إلى مسببات حقة وآثار صادقة فنتائجها غير صالحة للبقاء ولا هي تسوق إلى سعادة فليس في عاقبتها إلا الشؤم والخسران فالآية أشمل معنى من قوله تعالى: ﴿إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون﴾ يونس: 69.

لإثباتها الخيبة في مطلق الافتراء بخلاف الآية الثانية وقد تقدم كلام في أن الكذب لا يفلح في ذيل قوله: ﴿وجاءوا على قميصه بدم كذب﴾ يوسف: 18 في الجزء الحادي عشر من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى - إلى قوله - من استعلى﴾ التنازع قريب المعنى من الاختلاف، من النزع بمعنى جذب الشيء من مقره لينقلع منه والتنازع يتعدى بنفسه كما في الآية وبفي كقوله: ﴿فإن تنازعتم في شيء﴾ النساء: 59.

والنجوى الكلام الذي يسار به، وأصله مصدر بمعنى المناجاة وهي المسارة في الكلام، والمثلى مؤنث أمثل كفضلى وأفضل وهو الأقرب الأشبه والطريقة المثلى السنة التي هي أقرب من الحق أو من أمنيتهم وهي سنة الوثنية التي كانت مصر اليوم تدار بها وهي عبادة الآلهة وفي مقدمتها فرعون إله القبط، والإجماع - على ما ذكره الراغب - جمع الشيء عن فكر وترو، والصف جعل الأشياء على خط مستو كالإنسان والأشجار ونحو ذلك ويستعمل مصدرا واسم مصدر وقوله: ﴿ثم ائتوا صفا﴾ يحتمل أن يكون مصدرا، وأن يكون بمعنى صافين أي ائتوه باتحاد واتفاق من دون أن تختلفوا وتتفرقوا فتضعفوا وكونوا كيد واحدة عليه.

ويظهر من تفريع قوله: ﴿فتنازعوا أمرهم﴾ على ما في الآية السابقة من قوله: ﴿قال لهم موسى﴾ إلخ إن التنازع والاختلاف إنما ظهر بينهم عن موعظة وعظهم بها موسى فأثرت فيهم بعض أثرها ومن شأنها ذلك إذ ليست إلا كلمة حق ما فيها مغمض وكان محصلها أن لا علم لكم بما تدعونه من ألوهية الآلهة وشفاعتها فنسبتكم الشركاء والشفعاء إلى الله افتراء عليه وقد خاب من افترى وهذا برهان واضح لا ستر عليه ولا غبار.

ويظهر من قوله الآتي الحاكي لقول السحرة: ﴿إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر﴾ أن الاختلاف إنما ظهر أول ما ظهر بين السحرة ومنهم وربما أشعر قوله الآتي: ﴿ثم ائتوا صفا﴾ أن المترددين في مقابلة موسى منهم أو العازمين على ترك مقابلته أصلا كانوا بعض السحرة إن كان الخطاب متوجها إليهم ولعل السياق يساعد على ذلك.

وكيف كان لما رأى فرعون وأياديه تنازع القوم - وفيه خزيهم وخذلانهم - أسروهم النجوى ولم يكلموهم فيما ألقاه إليهم موسى من الحكمة والموعظة بل عدلوا عن ذلك إلى ما اتهمه فرعون بالسحر وطرح خطة سياسية لإخراج أمة القبط من أرضهم ولا ترضى الأمة بذلك ففيه خروج من ديارهم وأموالهم وسقوط من أوج سعادتهم إلى حضيض الشقاء وهم يرون ما يقاسيه بنو إسرائيل بينهم.

وأضافوا إلى ذلك أمرا آخر أمر من الجلاء والخروج من الديار والأموال وهو ذهاب طريقتهم المثلى وسنتهم القومية التي هي ملة الوثنية الحاكمة فيهم قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وقد اشتد بها عظمهم ونبت عليها لحمهم والعامة تقدس السنن القومية وخاصة ما اعتادت عليها وأذعنت بأنها سنن ظاهرة سماوية.

وهذا بالحقيقة إغراء لهم على التثبت والاستقامة على ملة الوثنية لكن لا لأنها دين حق لا شبهة فيه فإن حجة موسى أوضحت فسادها وكشفت عن بطلانها بل بعنوان أنها سنة ملية مقدسة تعتمد عليها مليتهم وتستند إليها شوكتهم وعظمتهم وتعتصم بها حياتهم فلو اختلفوا وتركوا مقابلة موسى واستعلى هو عليهم كان في ذلك فناؤهم بالمرة.

فالرأي هو أن يجمعوا كل كيد لهم ثم يدعوا الاختلاف ويأتوا صفا حتى يستعلوا وقد أفلح اليوم من استعلى.

فأكدوا عليهم القول بالتسويل أن يتحدوا ويتفقوا ولا يهنوا في حفظ ملتهم ومدنيتهم ويكروا على عدوهم كرة رجل واحد، وشفع ذلك فرعون بمواعد جميلة وعدهم إياها كما يظهر من قوله تعالى في موضع آخر: ﴿قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين﴾ الشعراء: 42.

وبأي وجه كان من ترغيب وترهيب حملوهم على أن يثبتوا ويواجهوا موسى بمغالبته.

هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيات بالاستمداد من السياق والقرائن المتصلة والشواهد المنفصلة، وعلى ذلك فقوله: ﴿فتنازعوا أمرهم بينهم﴾ إشارة إلى اختلافهم إثر موعظة موسى وما أومأ إليه من الحجة.

وقوله: ﴿وأسروا النجوى﴾ إشارة إلى مسارتهم في أمر موسى واجتهادهم في رفع الاختلاف الناشىء من استماعهم وعظ موسى (عليه السلام)، وقوله: ﴿قالوا إن هذان لساحران يريدان﴾ إلخ، بيان النجوى الذي أسروه فيما بينهم وقد مر توضيح معناه.

وقوله: ﴿إن هذان لساحران﴾ القراءة المعروفة ﴿إن﴾ بكسر الهمزة وسكون النون وهي ﴿إن﴾ المشبهة بالفعل خففت فألغيت عن العمل بنصب الاسم ورفع الخبر.

قوله تعالى: ﴿قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى﴾ إلى آخر الآية التالية، الحبال جمع حبل والعصي جمع عصا، وقد كان السحرة استعملوها ليصوروا بها في أعين الناس حيات وثعابين أمثال ما كان يظهر من عصا موسى (عليه السلام).

وهنا حذف وإيجاز كأنه قيل فأتوا الموعد وقد حضره موسى فقيل فما فعلوا؟ فقيل: ﴿قالوا يا موسى إما أن تلقي - أي عصاك - وإما أن نكون أول من ألقى﴾ وهذا تخيير منهم لموسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يصبر حتى يلقوا ثم يأتي بما يأتي، قال موسى: بل ألقوا فأخلى لهم الظرف كي يأتوا بما يأتون به وهو معتمد على ربه واثق بوعده من غير قلق واضطراب وقد قال له ربه فيما قال: ﴿إنني معكما أسمع وأرى﴾.

وقوله: ﴿فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى﴾ فيه حذف، والتقدير: فألقوا وإذا حبالهم وعصيهم إلخ، وإنما حذف لتأكيد المفاجاة كأنه (عليه السلام) لما قال لهم: بل ألقوا، لم يلبث دون أن شاهد ما شاهد من غير أن يتوسط هناك إلقاؤهم الحبال والعصي.

والذي خيل إلى موسى خيل إلى غيره من الناظرين من الناس كما ذكره في موضع آخر: ﴿سحروا أعين الناس واسترهبوهم﴾ الأعراف: 116، غير أنه ذكر هاهنا موسى من بينهم وكان ذلك ليكون تمهيدا لما في الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿فأوجس في نفسه خيفة موسى﴾ قال الراغب في المفردات،: الوجس الصوت الخفي، والتوجس التسمع، والإيجاس وجود ذلك في النفس، قال: ﴿فأوجس منهم خيفة﴾ فالوجس هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر.

فإيجاس الخيفة في النفس إحساسها فيها ولا يكون إلا خفيفا خفيا لا يظهر أثره في ظاهر البشرة ويتبع وجوده في النفس ظهور خاطر سوء فيها من غير إذعان بما يوجبه من تحذر وتحرز وإلا لظهر أثره في ظاهر البشرة وعمل الإنسان قطعا، وإلى ذلك يومىء تنكير الخيفة كأنه قيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبأ به، ومن العجيب قول بعضهم: إن التنكير للتفخيم وكان الخوف عظيما وهو خطأ ولو كان كذلك لظهر أثره في ظاهر بشرته ولم يكن لتقييد الخيفة بكونها في نفسه وجه.

فظهر أن الخيفة التي أوجسها في نفسه كانت إحساسا آنيا لها نظيرة الخاطر الذي عقبها فقد خطرت بقلبه عظمة سحرهم وأنه بحسب التخيل مماثل أو قريب من آيته فأوجس الخيفة من هذا الخطور وهو كنفس الخطور لا أثر له.

وقيل: إنه خاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يميزوا بين آيته وسحرهم للتشابه فيشكوا ولا يؤمنوا ولا يتبعوه ولم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون.

وفيه أن ذلك ينافي اطمئنانه بالله ووثوقه بأمره وقد قال له ربه قبل ذلك: ﴿بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾ القصص: 35.

وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم ولا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدعي التساوي ويخيب السعي.

وفيه: أنه خلاف ظاهر الآية فإن ظاهر تفريع قوله: ﴿فأوجس في نفسه خيفة﴾ إلخ، على قوله: ﴿فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه﴾ إلخ، أنه إنما خاف ما خيل إليه من سحرهم لا أنه خاف تفرق الناس قبل أن يتبين الأمر بإلقاء العصا، ولو خاف ذلك لم يسمح لهم بأن يلقوا حبالهم وعصيهم أولا، على أن هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في تقوية نفسه (عليه السلام): ﴿قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى﴾ ولقيل: لا تخف لا ندعهم يتفرقون حتى تلقي العصا.

وكيفما كان يظهر من إيجاسه (عليه السلام) خيفة في نفسه أنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أو يقرب منه وإن كان ما أتوا به سحرا لا حقيقة له وما أتى به آية معجزة ذات حقيقة وقد استعظم الله سحرهم إذ قال: ﴿فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم﴾ الأعراف: 116.

ولذا أيده الله هاهنا بما لا يبقى معه لبس لناظر البتة وهو تلقف العصا جميع ما سحروا به.

قوله تعالى: ﴿قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى - إلى قوله - حيث أتى﴾ نهي بداعي التقوية والتأييد وقد علله بقوله: ﴿إنك أنت الأعلى﴾ فالمعنى: أنك فوقهم من كل جهة وإذا كان كذلك لم يضرك شيء من كيدهم وسحرهم فلا موجب لأن تخاف.

وقوله: ﴿وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا﴾ إلخ أمر بإلقاء العصا لتكون حية وتلقف ما صنعوا بالسحر والتعبير عن العصا بما في يمينك من ألطف التعبير وأعمقه فإن فيه إشارة إلى أن ليس للشيء من الحقيقة إلا ما أراد الله فإن أراد لما في اليمين أن يكون عصا كان عصا وإن أراد أن يكون حية كان حية فما له من نفسه شيء ثم التعبير عن حياتهم وثعابينهم بقوله: ﴿ما صنعوا﴾ يشير إلى أن المغالبة واقعة بين تلك القدرة المطلقة التي تتبعها الأشياء في أساميها وحقائقها وبين هذا الصنع البشري الذي لا يعدو أن يكون كيدا باطلا وكلمة الله هي العليا والله غالب على أمره فلا ينبغي له أن يخاف.

وفي هذه الجملة أعني قوله: ﴿وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا﴾ بيان لكونه (عليه السلام) أعلى بحسب ظاهر الحس كما أن في ذيله بيانا لكونه أعلى بحسب الحقيقة إذ لا حقيقة للباطل فمن كان على الحق فلا ينبغي له أن يخاف الباطل على حقه.

وقوله: ﴿إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾ تعليل بحسب اللفظ لقوله: ﴿تلقف ما صنعوا﴾ و﴿ما﴾ مصدرية أو موصولة وبيان بحسب الحقيقة لكونه (عليه السلام) أعلى لأن ما معهم كيد ساحر لا حقيقة له وما معه آية معجزة ذات حقيقة والحق يعلو ولا يعلى عليه.

وقوله: ﴿ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾ بمنزلة الكبرى لقوله: ﴿ما صنعوا كيد ساحر﴾ فإن الذي يناله الساحر بسحره خيال من الناظرين باطل لا حقيقة له ولا فلاح ولا سعادة حقيقية يظفر بها في أمر موهوم لا واقع له.

فقوله: ﴿ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾ نظير قوله: ﴿إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ الأنعام: 144، ﴿والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ المائدة: 108، وغيرهما والجميع من فروع ﴿إن الباطل كان زهوقا﴾ الإسراء: 81، ﴿ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته﴾ الشورى: 24، فلا يزال الباطل يزين أمورا ويشبهها بالحق ولا يزال الحق يمحوه ويلقف ما أظهره لوهم الناظرين سريعا أو بطيئا فمثل عصا موسى وسحر السحرة يجري في كل باطل يبدو وحق يلقفه ويزهقه، وقد تقدم في تفسير قوله: ﴿أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها﴾ الرعد: 17، كلام نافع في المقام.

قوله تعالى: ﴿فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى﴾ في الكلام حذف وإيجاز والتقدير فألقى ما في يمينه فتلقف ما صنعوا فألقي السحرة وفي التعبير بقوله: ﴿فألقي السحرة﴾ بالبناء للمفعول دون أن يقال: فسجد السحرة إشارة إلى إذلال القدرة الإلهية لهم وغشيان الحق بظهوره إياهم بحيث لم يجدوا بدا دون أن يخروا على الأرض سجدا كأنهم لا إرادة لهم في ذلك وإنما ألقاهم ملق غيرهم دون أن يعرفوه من هو؟.

وقولهم: ﴿آمنا برب هارون وموسى﴾ شهادة منهم بالإيمان وإنما أضافوه تعالى إلى موسى وهارون ليكون فيه الشهادة على ربوبيته تعالى ورسالة موسى وهارون معا وفصل قوله: ﴿قالوا﴾ إلخ من غير عطف لكونه كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قالوا فقيل: قالوا إلخ.

قوله تعالى: ﴿قال آمنتم له قبل أن آذن لكم﴾ إلى آخر الآية، الكبير الرئيس وقطع الأيدي والأرجل من خلاف أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والتصليب تكثير الصلب وتشديده كالتقطيع الذي هو تكثير القطع وتشديده والجذوع جمع جذع وهو ساقة النخل.

وقوله: ﴿آمنتم له قبل أن آذن لكم﴾ تهديد من فرعون للسحرة حيث آمنوا والجملة استفهامية محذوفة الأداة والاستفهام للإنكار أو خبرية مسوقة لتقرير الجرم، وقوله: ﴿إنه لكبيركم الذي علمكم السحر﴾ رمي لهم بتوطئة سياسية على المجتمع القبطي في أرض مصر كأنهم تواطئوا مع رئيسهم أن يتنبأ موسى فيدعو أهل مصر إلى الله ويأتي في ذلك بسحر فيستنصروا بالسحرة حتى إذا حضروه واجتمعوا على مغالبته تخاذلوا وانهزموا عنه وآمنوا واتبعتهم العامة فذهبت طريقتهم المثلى من بينهم وأخرج من لم يؤمن منهم قال تعالى في موضع آخر: ﴿إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها﴾ الأعراف: 123، وإنما رماهم بهذا القول تهييجا للعامة عليهم كما رمى موسى (عليه السلام) بمثله في أول يوم.

وقوله: ﴿فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف﴾ إلى آخر الآية، إيعاد لهم وتهديد بالعذاب الشديد ولم يذكر تعالى في كلامه أنجز فيهم ذلك أم لا؟.

قوله تعالى: ﴿قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا﴾ كلام بليغ في منطوقه بالغ في مفهومه بعيد في معناه رفيع في منزلته يغلي ويفور علما وحكمة فهؤلاء قوم كانوا قبل ساعة وقد ملأت هيبة فرعون وأبهته قلوبهم وأذلت زينات الدنيا وزخارفها التي عنده - وليست إلا أكاذيب خيال وأباطيل وهم - نفوسهم يسمونه ربا أعلى ويقولون حينما ألقوا حبالهم وعصيهم: ﴿بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون﴾ فما لبثوا دون أن ظهرت لهم آيات الحق فبهرت أبصارهم فطاحت عند ذلك ما كانوا يرون لفرعون من عزة وسلطان ولما عنده من زينة الدنيا وزخرفها من قدر ومنزلة وغشيت قلوبهم فأزالت منها رذيلة الجبن والملق واتباع الهوى والتوله إلى سراب زينة الحياة الدنيا ومكنت فيها التعلق بالحق والدخول تحت ولاية الله والاعتزاز بعزته فلا يريدون إلا ما أراده الله ولا يرجون إلا الله ولا يخافون إلا الله عز اسمه.

يظهر ذلك كله بالتدبر في المحاورة الجارية بين فرعون وبينهم إذا قيس بين القولين ففرعون في غفلة من مقام ربه لا يرى إلا نفسه ويضيف إليه أنه رب القبط وله ملك مصر وله جنود مجندة، وله ما يريد وله ما يقضي وليست في نظر الحق والحقيقة إلا دعاوي وقد غره جهله إلى حيث يرى أن الحق تبع باطله والحقيقة خاضعة مطيعة لدعواه فيتوقع أن لا تمس نفوس الناس - وفي جبلتها الفهم والقضاء - بشعورها وإدراكها الجبلي شيئا إلا بعد إذنه، ولا يذعن قلوبهم ولا توقن بحق إلا عن إجازته وهو قوله للسحرة: ﴿آمنتم له قبل أن آذن لكم﴾.

ويرى أن لا حقيقة للإنسان إلا هذه البنية الجسمانية التي تعيش ثم تفسد وتفنى وأن لا سعادة له إلا نيل هذه اللذائذ المادية الفانية، وذلك قوله: ﴿فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى﴾ وليتدبر في آخر كلامه.

وأما هؤلاء المؤمنون وقد أدركهم الحق وغشيهم فأصفاهم وأخلصهم لنفسه فهم يرون ما يعده فرعون حقيقة من أمتعة الحياة الدنيا من مالها ومنزلتها سرابا خياليا وزينة غارة باطلة، وأنهم إذا خيروا بينه وبين ما آمنوا به فقد خيروا بين الحق والباطل والحقيقة والسراب، وحاشا أهل اليقين أن يشكوا في يقينهم أو يقدموا الباطل على الحق والسراب على الحقيقة وهم يشهدون ذلك شهادة عيان وذلك قولهم: ﴿لن نؤثرك - أي لن نختارك - على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا﴾ فليس مرادهم به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذو روح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من الدنيا العريضة بمالها ومنالها.

وما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع والعذاب الشديد وقطع دابر الحياة الدنيا وهو يرى أن ليس للإنسان إلا الحياة التي فيها وفيها سعادته وشقاؤه فإنهم يرون الأمر بالعكس من ذلك وأن للإنسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا وإن شقي فيها فلا ينفعه شيء.

وعلى ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الأخرى الخالدة، وذلك قولهم لفرعون - وهو جواب تهديده إياهم بالقتل - ﴿فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا﴾ ثم الآيات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع فرعون تعليل وتوضيح لقولهم: ﴿لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا﴾.

وفي قولهم: ﴿ما جاءنا من البينات﴾ تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا وتلقفها الحبال والعصي ورجوعها ثانيا إلى حالتها الأولى، ويمكن أن يكون ﴿من﴾ للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحدة وآمنوا بأن لله آيات أخرى كثيرة ولا يخلو من بعد.

قوله تعالى: ﴿إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى﴾ الخطايا جمع خطيئة وهي قريبة معنى من السيئة وقوله: ﴿وما أكرهتنا عليه﴾ معطوف على ﴿خطايانا﴾ و﴿من السحر﴾ بيان له والمعنى وليغفر لنا السحر الذي أكرهتنا عليه وفيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم وإما حين تنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى فحملوا على المقابلة والمغالبة.

وأول الآية تعليل لقولهم: ﴿لن نؤثرك﴾ إلخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا عليك وآمنا به ليغفر لنا خطايانا والسحر الذي أكرهتنا عليه، وذيل الآية: ﴿والله خير وأبقى﴾ من تمام البيان وبمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: وإنما آثرنا غفرانه على إحسانك لأنه خير وأبقى، أي خير من كل خير وأبقى من كل باق - لمكان الإطلاق - فلا يؤثر عليه شيء وفي هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون: ﴿ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى﴾.

وقد عبروا عنه تعالى أولا بالذي فطرنا، وثانيا بربنا، وثالثا بالله، أما الأول فلأن كونه تعالى فاطرا لنا أي مخرجا لنا عن كتم العدم إلى الوجود ويتبعه انتهاء كل خير حقيقي إليه وأن ليس عند غيره إذا قوبل به إلا سراب البطلان منشأ كل ترجيح والمقام مقام الترجيح بينه تعالى وبين فرعون.

وأما الثاني فلأن فيه إخبارا عن الإيمان به وأمس صفاته تعالى بالإيمان والعبودية صفة ربوبيته المتضمنة لمعنى الملك والتدبير.

وأما الثالث فلأن ملاك خيرية الشيء الكمال وعنده تعالى جميع صفات الكمال القاضية بخيريته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدال على الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، وعلى هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهرا مشتمل على الحجة على المدعى والمعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الذي فطرنا، لأنه فطرنا وإنا آمنا بربنا لأنه ربنا والله خير لأنه الله عز اسمه.

قوله تعالى: ﴿إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى﴾ تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للإيمان بالله أي لأن من لم يغفر خطاياه كان مجرما ومن يأت ربه مجرما إلخ.

قوله تعالى: ﴿ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى﴾ إلى آخر الآية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب - هي المنزلة لكن يعتبر فيها الصعود كدرجات السلم وتقابلها الدركة فهي المنزلة حدورا ولذا يقال درجات الجنة ودركات النار، والتزكي هو التنمي بالنماء الصالح والمراد به أن يعيش الإنسان باعتقاد حق وعمل صالح.

والآيتان تصفان ما يستتبعه الإيمان والعمل الصالح كما كانت الآية السابقة تصف ما يستتبعه الإجرام الحاصل بكفر أو معصية والآيات الثلاث الواصفة لتبعة الإجرام والإيمان ناظرة إلى وعيد فرعون ووعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى بالقطع والصلب وادعى أنه أشد العذاب وأبقاه فقابلوه بأن للمجرم عند ربه جهنم لا يموت فيها ولا يحيى لا يموت فيها حتى ينجو من مقاساة ألم عذابها لكن منتهى عذاب الدنيا الموت وفيه نجاة المجرم المعذب، ولا يحيى فيها إذ ليس فيها شيء مما تطيب به الحياة ولا خير مرجوا فيها حتى يقاسى العذاب في انتظاره.

ووعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقربيه والأجر كما حكى الله تعالى: ﴿قالوا ءإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين﴾ الأعراف: 114 فقابلوا ذلك بأن من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك - وفي الإشارة البعيدة تفخيم شأنهم - لهم الدرجات العلى - وهذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب - جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكى - بالإيمان والعمل الصالح وهذا يقابل وعده لهم بالأجر.

قوله تعالى: ﴿ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا - إلى قوله - وما هدى﴾.

الإسراء السير بالليل والمراد بعبادي بنو إسرائيل وقوله: ﴿فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا﴾ قيل المراد الضرب بالعصا كما يدل عليه كلامه تعالى في غير هذا الموضع وأن ﴿طريقا﴾ مفعول به لأضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والأصل اضرب البحر ليكون لهم طريقا.

ويمكن أن يكون المراد بالضرب البناء والإقامة من باب ضربت الخيمة وضربت القاعدة.

واليبس - على ما ذكره الراغب - المكان الذي كان فيه ماء ثم ذهب، والدرك بفتحتين تبعة الشيء، وفي نسبة الغشيان إلى ما الموصولة المبهمة وجعله صلة لها أيضا من تمثيل هول الموقف ما لا يخفى، قيل: وفي قوله: ﴿وأضل فرعون قومه وما هدى﴾ تكذيب لقول فرعون لقومه فيما خاطبهم: ﴿وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾ المؤمنون: 29، وعلى هذا فقوله: ﴿وما هدى﴾ ليس تأكيدا وتكرارا لمعنى قوله: ﴿وأضل فرعون قومه﴾.

بحث روائي:

في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): لم يوجس موسى خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال.

أقول: معناه ما قدمناه في تفسير الآية.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أخذتم الساحر فاقتلوه.

ثم قرأ: ﴿ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾ قال: لا يأمن حيث وجد.

أقول: وفي انطباق المعنى المذكور في الحديث على الآية بما لها من السياق خفاء.