الآيات 9-48

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴿9﴾ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴿10﴾ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى ﴿11﴾ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿12﴾ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴿13﴾ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴿14﴾ إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴿15﴾ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴿16﴾ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴿17﴾ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴿18﴾ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ﴿19﴾ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴿20﴾ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴿21﴾ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ﴿22﴾ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴿23﴾ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿24﴾ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴿25﴾ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴿26﴾ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ﴿27﴾ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴿28﴾ وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ﴿29﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿30﴾ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴿31﴾ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴿32﴾ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ﴿33﴾ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴿34﴾ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ﴿35﴾ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴿36﴾ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴿37﴾ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴿38﴾ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴿39﴾ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴿40﴾ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴿41﴾ اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴿42﴾ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿43﴾ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴿44﴾ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ﴿45﴾ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴿46﴾ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴿47﴾ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴿48﴾

بيان:

شروع في قصة موسى (عليه السلام) وقد ذكرت في السورة فصول أربعة منها وهي: اختيار موسى للرسالة في جبل طور في وادي طوى وأمره بدعوة فرعون.

ثم دعوته بشركة من أخيه فرعون إلى التوحيد وإرسال بني إسرائيل معه وإقامته الحجة وإيتاؤه المعجزة.

ثم خروجه مع بني إسرائيل من مصر وتعقيب فرعون وغرقه ونجاة بني إسرائيل.

ثم عبادة بني إسرائيل العجل وما انتهى إليه أمرهم وأمر السامري وعجله، وقد تعرضت الآيات التي نقلناها للفصل الأول منها.

ووجه اتصال القصة بما قبلها أنها تذكرة بالتوحيد ووعيد بالعذاب فالقصة تبتدىء بوحي التوحيد وتنتهي بقول موسى: ﴿إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو﴾ الآية وتذكر هلاك فرعون وطرد السامري وقد ابتدأت الآيات السابقة بأن القرآن المشتمل على الدعوة الحقة تذكرة لمن يخشى وانتهت إلى مثل قوله: ﴿الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى﴾.

قوله تعالى: ﴿وهل أتاك حديث موسى﴾ الاستفهام للتقرير والحديث، القصة.

قوله تعالى: ﴿إذ رءا نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا﴾ إلى آخر الآية المكث اللبث، والإيناس إبصار الشيء أو وجدانه وهو من الأنس خلاف النفور ولذا قيل: إنه إبصار شيء يؤنس به فيكون إبصارا قويا، والقبس بفتحتين هو الشعلة المقتبسة على رأس عود ونحوه والهدى مصدر بمعنى اسم الفاعل أو مضاف إليه لمضاف مقدر أي ذا هداية، والمراد - على أي حال - من قام به الهداية.

وسياق الآية وما يتلوها يشهد أنه كان في منصرفه من مدين إلى مصر ومعه أهله وهم بالقرب من وادي طوى في طور سيناء في ليلة شاتية مظلمة وقد ضلوا الطريق إذ رأى نارا فرأى أن يذهب إليها فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق وإلا أخذ قبسا من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها.

وفي قوله: ﴿قال لأهله امكثوا﴾ إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره كما أن في قوله: ﴿إني آنست نارا﴾ مع ما يشتمل عليه من التأكيد والتعبير بالإيناس دلالة على أنه إنما رآها هو وحده وما كان يراها غيره من أهله ويؤيد ذلك قوله أيضا أولا: ﴿إذ رءا نارا﴾ وكذا قوله: ﴿لعلي آتيكم﴾ إلخ يدل على أن في الكلام حذفا والتقدير امكثوا لأذهب إليها لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هاديا نهتدي بهداه.

قوله تعالى: ﴿فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك - إلى قوله - طوى﴾ طوى اسم لواد بطور وهو الذي سماه الله سبحانه بالواد المقدس، وهذه التسمية والتوصيف هي الدليل على أن أمره بخلع النعلين إنما هو لاحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ثم تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله: ﴿إني أنا ربك﴾ يدل على أن تقديس الوادي إنما هو لكونه حظيرة لقرب وموطن الحضور والمناجاة فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا نودي يا موسى ها أنا ذا ربك وأنت بمحضر مني وقد تقدس الوادي بذلك فالتزم شرط الأدب واخلع نعليك.

وعلى هذا النحو يقدس ما يقدس من الأمكنة والأزمنة كالكعبة المشرفة والمسجد الحرام وسائر المساجد والمشاهد المحترمة في الإسلام والأعياد والأيام المتبركة فإنما ذلك قدس وشرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك وعبادة مقدسة شرعت فيها وإلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان ولا بين أجزاء الزمان.

ولما سمع موسى (عليه السلام) قوله تعالى: ﴿يا موسى إني أنا ربك﴾ فهم من ذلك فهم يقين أن الذي يكلمه هو ربه والكلام كلامه وذلك أنه كان وحيا منه تعالى وقد صرح تعالى بقوله: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ الشورى: 51، أن لا واسطة بينه تعالى وبين من يكلمه من حجاب أو رسول إذا كان تكليم وحي وإذ لم يكن هناك أي واسطة مفروضة لم يجد الموحى إليه مكلما لنفسه ولا توهمه إلا الله ولم يجد الكلام إلا كلامه ولو احتمل أن يكون المتكلم غيره أو الكلام كلام غيره لم يكن تكليما ليس بين الإنسان وبين ربه غيره.

وهذا حال النبي والرسول في أول ما يوحى إليه بالنبوة والرسالة لم يختلجه شك ولا اعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة ولو افتقر إلى شيء من ذلك كان اكتسابا بواسطة القوة النظرية لا تلقيا من الغيب من غير توسط واسطة.

فإن قلت: قوله تعالى في القصة في موضع آخر من كلامه: ﴿وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا﴾.

وقوله في موضع آخر: ﴿من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة﴾ يثبت الحجاب في تكليمه (عليه السلام).

قلت: نعم لكن ثبوت الحجاب أو الرسول في مقام التكليم لا ينافي تحقق التكليم بالوحي فإن الوحي كسائر أفعاله تعالى لا يخلو من واسطة وإنما يدور الأمر مدار التفات المخاطب الذي يتلقى الكلام فإن التفت إلى الواسطة التي تحمل الكلام واحتجب بها عنه تعالى كان الكلام رسالة أرسل إليه بملك مثلا ووحيا من الملك، وإن التفت إليه تعالى كان وحيا منه وإن كان هناك واسطة لا يلتفت إليها، ومن الشاهد على ما ذكرنا قوله في الآية التالية خطابا لموسى: ﴿فاستمع لما يوحى﴾ فسماه وحيا، وقد أثبت في سائر كلامه فيه الحجاب.

وبالجملة قوله: ﴿إني أنا ربك فاخلع نعليك﴾ إلخ، تنبيه لموسى على أن الموقف موقف الحضور ومقام المشافهة وقد خلى به وخصه من نفسه بمزيد العناية، ولذا قيل: إني أنا ربك، ولم يقل: أنا الله أو أنا رب العالمين، ولذا أيضا لم يلزم من قوله ثانيا: ﴿إني أنا الله﴾ تكرار، لأن الأول تخلية للمقام من الأغيار لإلقاء الوحي، والثاني من الوحي.

وفي قوله: ﴿نودي﴾ حيث طوي ذكر الفاعل ولم يقل: ناديناه أو ناداه الله من اللطف ما لا يقدر بقدر، وفيه تلويح أن ظهور هذه الآية لموسى كان على سبيل المفاجاة.

قوله تعالى: ﴿وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى﴾ الاختيار مأخوذ من الخير، وحقيقته أن يتردد أمر الفاعل مثلا بين أفعال يجب أن يرجح واحدا منها ليفعله فيميز ما هو خيرها ثم يبني على كونه خيرا من غيره فيفعله، فبناؤه على كونه خيرا من غيره هو اختيار فالاختيار دائما لغاية هو غرض الفاعل من فعله.

فاختياره تعالى لموسى إنما هو لغاية إلهية وهي إعطاء النبوة والرسالة ويشهد بذلك قوله على سبيل التفريع على الاختيار ﴿فاستمع لما يوحى﴾ فقد تعلقت المشية الإلهية ببعث إنسان يتحمل النبوة والرسالة وكان موسى في علمه تعالى خيرا من غيره وأصلح لهذا الغرض فاختاره (عليه السلام).

وقوله: ﴿وأنا اخترتك﴾ على ما يعطيه السياق من قبيل إصدار الأمر بنبوته ورسالته فهو إنشاء لا إخبار، ولو كان إخبارا لقيل: وقد اخترتك لكنه إنشاء الاختيار للنبوة والرسالة بنفس هذه الكلمة ثم لما تحقق الاختيار بإنشائه فرع عليه الأمر بالاستماع للوحي المتضمن لنبوته ورسالته فقال: ﴿فاستمع لما يوحى﴾ والاستماع لما يوحى الإصغاء إليه.

قوله تعالى: ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري﴾ هذا هو الوحي الذي أمر (عليه السلام) بالاستماع له في إحدى عشرة آية تشتمل على النبوة والرسالة معا أما النبوة ففي هذه الآية والآيتين بعدها، وأما الرسالة فتؤخذ من قوله ﴿وما تلك بيمينك يا موسى﴾ وتنتهي في قوله: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ وقد نص تعالى أنه كان رسولا نبيا معا في قوله: ﴿واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا﴾ مريم: 51.

وقد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا وهما ركن الاعتقاد وركن العمل، وأصول الاعتقاد ثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد وقد ذكر منها التوحيد والمعاد وطوي عن النبوة لأن الكلام مع النبي نفسه وأما ركن العمل فقد لخص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: ﴿فاعبدني﴾ فتمت بذلك أصول الدين وفروعه في ثلاث آيات.

فقوله: ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا﴾ عرف المسمى بالاسم بنفسه حيث قال: إنني أنا الله ولم يقل: إن الله هو أنا لأن مقتضى الحضور أن يعرف وصف الشيء بذاته لا ذاته بوصفه كما قال إخوة يوسف لما عرفوه: ﴿إنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي﴾ واسم الجلالة وإن كان علما للذات المتعالية لكنه يفيد معنى المسمى بالله إذ لا سبيل إلى الذات المقدسة فكأنه قيل: أنا الذي يسمى ﴿الله﴾ فالمتكلم حاضر مشهود والمسمى باسم ﴿الله﴾ كأنه مبهم أنه من هو؟ فقيل أنا ذاك على أن اسم الجلالة علم بالغلبة لا يخلو من أصل وصفي.

وقوله: ﴿لا إله إلا أنا فاعبدني﴾ كلمة التوحيد مرتبة على قوله: ﴿إنني أنا الله﴾ لفظا لترتبها عليه حقيقة فإنه إذا كان هو الذي منه يبدأ كل شيء وبه يقوم وإليه يرجع فلا ينبغي أن يخضع خضوع العبادة إلا له فهو الإله المعبود بالحق لا إله غيره ولذا فرع على ذلك الأمر بعبادته حيث قال: ﴿فاعبدني﴾.

وقوله: ﴿وأقم الصلاة لذكري﴾ خص الصلاة بالذكر - وهو من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنه - لأن الصلاة أفضل عمل يمثل به الخضوع العبودي ويتحقق بها ذكر الله سبحانه تحقق الروح بقالبه.

وعلى هذا المعنى فقوله: ﴿لذكري﴾ من إضافة المصدر إلى مفعوله واللام للتعليل وهو متعلق بأقم محصله أن: حقق ذكرك لي بالصلاة، كما يقال: كل لتشبع واشرب لتروي وهذا هو المعنى السابق إلى الذهن من مثل هذا السياق.

وقد تكاثرت الأقوال في قوله: ﴿لذكري﴾ فقيل: إنه متعلق بأقم كما تقدم وقيل: بالصلاة، وقيل: بقوله: ﴿فاعبدني﴾ ثم اللام قيل: للتعليل، وقيل للتوقيت والمعنى أقم الصلاة عند ذكري أو عند ذكرها إذا نسيتها أو فاتت منك فهي كاللام في قوله: ﴿أقم الصلوة لدلوك الشمس﴾ الإسراء: 78.

ثم الذكر قيل: المراد به الذكر اللفظي الذي تشتمل عليه الصلاة، وقيل الذكر القلبي الذي يقارنها ويتحقق بها أو يترتب عليها ويحصل بها حصول المسبب عن سببه أو الذكر الذي قبلها، وقيل: المراد الأعم من القلبي والقالبي.

ثم الإضافة قيل: إنها من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: من إضافة المصدر إلى فاعله والمراد صل لأن أذكرك بالثناء والإثابة أو المراد صل لذكري إياها في الكتب السماوية وأمري بها.

وقيل: إنه يفيد قصر الإقامة في الذكر، والمعنى: أقم الصلاة لغرض ذكري لا لغرض آخر غير ذكري كثواب ترجوه أو عقاب تخافه، وقيل: لا قصر.

وقيل: إنه يفيد قصر المضاف في المضاف إليه، والمراد: أقم الصلاة لذكري خاصة من غير أن ترائي بها أو تشوبها بذكر غيري، وقيل: لا دلالة على ذلك من جهة اللفظ وإن كان حقا في نفسه.

وقيل: المراد بالذكر ذكر الصلاة أي أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل ذكرها والكلام على تقدير مضاف والأصل لذكر صلاتي أو على أن ذكر الصلاة سبب لذكر الله فأطلق المسبب وأريد به السبب إلى غير ذلك والوجوه الحاصلة بين غث وسمين.

والذي يسبق إلى الفهم هو ما قدمناه.

قوله تعالى: ﴿إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى﴾ تعليل لقوله في الآية السابقة: ﴿فاعبدني﴾ ولا يناقض ذلك كون ﴿فاعبدني﴾ متفرعا على كلمة التوحيد المذكورة قبله لأن وجوب عبادته تعالى وإن كان بحسب نفسه متفرعا على توحده لكنه لا يؤثر أثرا لو لا ثبوت يوم يجزى فيه الإنسان بما عمله ويتميز فيه المحسن من المسيء والمطيع من العاصي فيكون التشريع لغوا والأمر والنهي سدى لا أثر لهما، ولذلك كانت مقضية قضاء حتما وتكرر في كلامه تعالى نفي الريب عنها.

وقوله: ﴿أكاد أخفيها﴾ ظاهر إطلاق الإخفاء أن المراد يقرب أن أخفيها وأكتمها فلا أخبر عنها أصلا حتى يكون وقوعها أبلغ في المباغتة وأشد في المفاجاة ولا تأتي إلا فجأة كما قال تعالى: ﴿لا تأتيكم إلا بغتة﴾ الأعراف: 187، أو يقرب أن لا أخبر بها حتى يتميز المخلصون من غيرهم فإن أكثر الناس إنما يعبدونه تعالى رجاء في ثوابه أو خوفا من عقابه جزاء للطاعة والمعصية، وأصدق العمل ما كان لوجه الله لا طمعا في جنة أو خوفا من نار ولو أخفي وكتم يوم الجزاء تميز عند ذلك من يأتي بحقيقة العبادة من غيره.

وقيل: معنى أكاد أخفيها أقرب من أن أكتمها من نفسي وهو مبالغة في الكتمان إذا أراد أحدهم المبالغة في كتمان شيء، قال: كدت أخفيه من نفسي أي فكيف أظهره لغيري؟ وعزي إلى الرواية.

وقوله: ﴿لتجزى كل نفس بما تسعى﴾ متعلق بقوله: ﴿آتية﴾ والمعنى واضح.

قوله تعالى: ﴿فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى﴾ الصد الصرف، والردى الهلاك، والضميران في ﴿عنها﴾ و﴿بها﴾ للساعة، ومعنى الصد عن الساعة الصرف عن ذكرها بما لها من الشأن وهو أنها يوم تجزى فيه كل نفس بما تسعى، وكذا معنى عدم الإيمان بها هو الكفر بها بما لها من الشأن.

وقوله: ﴿واتبع هواه﴾ كعطف التفسير بالنسبة إلى قوله: ﴿من لا يؤمن بها﴾ أي إن عدم الإيمان بها مصداق اتباع الهوى وإذ كان مع ذلك صالحا للتعليل أفاد الكلام علية الهوى لعدم الإيمان بها، واستفيد من ذلك بالالتزام أن الإيمان بالساعة هو الحق المخالف للهوى والمنجي من الردى.

فمحصل معنى الآية أنه إذا كانت الساعة آتية والجزاء واقعا فلا يصرفنك عن الإيمان بها وذكرها بما لها من الشأن الذين اتبعوا أهواءهم فصاروا يكفرون بها ويعرضون عن عبادة ربهم فلا يصرفنك عنها حتى تنصرف فتهلك.

ولعل الإتيان في قوله: ﴿واتبع هواه﴾ بصيغة الماضي مع كون المعطوف عليه بصيغة المضارع للتلويح إلى علية اتباع الهوى لعدم الإيمان.

قوله تعالى: ﴿وما تلك بيمينك يا موسى﴾ شروع في وحي الرسالة وقد تم وحي النبوة في الآيات الثلاث الماضية والاستفهام للتقرير، سئل (عليه السلام) عما في يده اليمنى وكانت عصاه، ليسميها ويذكر أوصافها فيتبين أنها جماد لا حياة له حتى يأخذ تبديلها حية تسعى مكانه في نفسه (عليه السلام).

والظاهر أن المشار إليه بقوله: ﴿تلك﴾ العودة أو الخشبة، ولو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: وما ذلك بجعل المشار إليه هو الشيء لمكان التجاهل بكونها عصا وإلا لم يستقم الاستفهام كما في قوله: ﴿فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر﴾ الأنعام: 78.

ويمكن أن تكون الإشارة بتلك إلى العصا لكن لا بداعي الاطلاع على اسمها وحقيقتها حتى يلغو الاستفهام بل بداعي أن يذكر ما لها من الأوصاف والخواص ويؤيده ما في كلام موسى (عليه السلام) من الإطناب بذكر نعوت العصا وخواصها فإنه لما سمع السؤال عما في يمينه وهي عصا لا يرتاب فيها فهم أن المطلوب ذكر أوصافها فأخذ يذكر اسمها ثم أوصافها وخواصها، وهذه طريق معمولة فيما إذا سئل عن أمر واضح لا يتوقع الجهل به ومن هذا الباب يوجه قوله تعالى: ﴿القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث﴾ القارعة: 4، وقوله: ﴿الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة﴾ الحاقة: 3.

قوله تعالى: ﴿قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى﴾ العصا معروفة وهي من المؤنثات السماعية، والتوكي والاتكاء على العصا الاعتماد عليها، والهش هو خبط ورق الشجرة وضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله، والمآرب جمع مأربة مثلثة الراء وهي الحاجة، والمراد بكون مآربه فيها تعلق حوائجه بها من حيث إنها وسيلة رفعها.

ومعنى الآية ظاهر.

وإطنابه (عليه السلام) بالإطالة في ذكر أوصاف العصا وخواصها قيل: لأن المقام وهو مقام المناجاة والمسارة مع المحبوب يقتضي ذلك لأن مكالمة المحبوب لذيذة ولذا ذكر أولا أنه عصاه ليرتب عليه منافعها العامة وهذه هي النكتة في ذكر أنها عصاه.

وقد قدمنا في ذيل الآية السابقة وجها آخر لهذا الاستفهام وجوابه وليس الكلام عليه من باب الإطناب وخاصة بالنظر إلى جمعه سائر منافعها في قوله: ﴿ولي فيها مآرب أخرى﴾.

قوله تعالى: ﴿قال ألقها يا موسى - إلى قوله - سيرتها الأولى﴾ السيرة الحالة والطريقة وهي في الأصل بناء نوع من السير كجلسة لنوع من الجلوس.

أمر سبحانه موسى أن يلقي عصاه عن يمينه وهو قوله: ﴿قال ألقها يا موسى﴾ فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد وجلادة وذلك أمر غير مترقب من جماد لا حياة له وهو قوله: ﴿فألقاها فإذا هي حية تسعى﴾ وقد عبر تعالى عن سعيها في موضع آخر من كلامه بقوله: ﴿رآها تهتز كأنها جان﴾ القصص: 31، وعبر عن الحية أيضا في موضع آخر بقوله: ﴿فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين﴾ الأعراف: 107، الشعراء: 32 والثعبان: الحية العظيمة.

وقوله: ﴿قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها﴾ أي حالتها ﴿الأولى﴾ وهي أنها عصا فيه دلالة على خوفه (عليه السلام) مما شاهده من حية ساعية وقد قصه تعالى في موضع آخر إذ قال: ﴿فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف﴾ القصص: 31، والخوف وهو الأخذ بمقدمات التحرز عن الشر غير الخشية التي هي تأثر القلب واضطرابه فإن الخشية رذيلة تنافي فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف والأنبياء (عليهم السلام) يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى: ﴿الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله﴾ الأحزاب: 39.

قوله تعالى: ﴿واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى﴾ الضم الجمع، والجناح جناح الطائر واليد والعضد والإبط ولعل المراد به المعنى الأخير ليئول إلى قوله في موضع آخر: ﴿أدخل يدك في جيبك﴾ والسوء كل رداءة وقبح قيل: كني به في الآية عن البرص والمعنى أجمع يدك تحت إبطك أي أدخلها في جيبك تخرج بيضاء من غير برص أو حالة سيئة أخرى.

وقوله: ﴿آية أخرى﴾ حال من ضمير تخرج وفيه إشارة إلى أن صيرورة العصا حية آية أولى واليد البيضاء آية أخرى وقال تعالى في ذلك: ﴿فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملأيه﴾ القصص: 32.

قوله تعالى: ﴿لنريك من آياتنا الكبرى﴾ اللام للتعليل والجملة متعلقة بمقدر كأنه قيل: أجرينا ما أجرينا على يدك لنريك بعض آياتنا الكبرى.

قوله تعالى: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ هذا هو أمر الرسالة وكانت الآيات السابقة: ﴿وما تلك بيمينك﴾ إلخ مقدمة له.

قوله تعالى: ﴿قال رب اشرح لي صدري - إلى قوله - إنك كنت بنا بصيرا﴾ الآيات - وهي إحدى عشرة آية - متن ما سأله موسى (عليه السلام) ربه حين سجل عليه حكم الرسالة وهي بظاهرها مربوطة بأمر رسالته لأنه أحوج ما يكون إليها في تبليغ الرسالة إلى فرعون وملئه وإنجاء بني إسرائيل وإدارة أمورهم لا في أمر النبوة.

ويؤيد ذلك أنه لم يسأل بعد إتمام أمر النبوة في الآيات الثلاث السابقة بل إنما بادر إلى ذلك بعد ما ألقي إليه قوله: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ وهو أمر الرسالة.

نعم الآيات الأربع الأول: ﴿رب اشرح لي صدري﴾ إلخ، لا يخلو من ارتباط في الجملة بأمر النبوة وهي تلقي عقائد الدين وأحكامه العملية عن ساحة الربوبية.

فقوله: ﴿رب اشرح لي صدري﴾ والشرح البسط والجملة من الاستعارة التخييلية والاستعارة بالكناية كأن صدر الإنسان وقد استكن فيه القلب وعاء يعي ما يرد عليه من طريق المشاهدة والإدراك ثم يختزن فيه السر وإذا كان أمرا عظيما يشق على الإنسان أو هو فوق طاقته ضاق عنه الصدر فلم يسعه واحتاج إلى انشراح حتى يسعه.

وقد استعظم موسى ما سجل عليه ربه من أمر الرسالة وقد كان على علم بما عليه أمة القبط من الشوكة والقوة وعلى رأس هذه الأمة المتجبرة فرعون الطاغي الذي كان ينازع الله في ربوبيته وينادي أنا ربكم الأعلى، وكان يذكر ما عليه بنو إسرائيل من الضعف والإسارة بين آل فرعون ثم الجهل وانحطاط الفكر، وكان كأنه يرى ما ستجره إليه هذه الدعوة من الشدائد والمصائب ويشاهد ما سيعقبه تبليغ هذه الرسالة من الفظائع والفجائع وهو رجل قليل التحمل سريع الانقلاب في ذات الله ينكر الظلم ويأبى الضيم كما يشهد به قصة قتله القبطي واستقائه في ماء مدين وفي لسانه - وهو السلاح الوحيد لمن أراد الدعوة والتبليغ - عقدة ربما منعته بيان ما يريد بيانه.

فلذلك سأل ربه حل هذه المشكلات فسأل أولا أن يوسع صدره لما يحمله ربه من أعباء الرسالة ولما ستستقبله من العظائم والشدائد في مسيره في الدعوة فقال: ﴿رب اشرح لي صدري﴾.

ثم قال: ﴿ويسر لي أمري﴾ وهو الأمر الذي قلده من الرسالة ولم يسأله تعالى أن يخفف في رسالته ويتنزل بعض التنزل عما أمره به أولا فيقنع بما هو دونه فتصير رسالة يسيرة في نفسها بعد ما كانت خطيرة وإنما سأل أن يجعلها على ما بها من العسر والخطر يسيرة بالنسبة إليه هينة عنده والدليل على ذلك قوله: ﴿ويسر لي﴾.

ووجه الدلالة أن قوله: ﴿لي﴾ والمقام هذا المقام يفيد الاختصاص فيؤدي ما هو معنى قولنا: ويسر لي، وأنا الذي أوقفتني هذا الموقف وقلدتني ما قلدتني أمري الذي قلدتنيه ومن المعلوم أن مقتضى هذا السؤال تيسير الأمر بالنسبة إليه لا تيسيره في نفسه، ونظير الكلام يجري في قوله: ﴿اشرح لي﴾ فمعناه اشرح لي وأنا الذي أمرتني بالرسالة وقبالها شدائد ومكاره ﴿صدري﴾ حتى لا يضيق إذا ازدحمت علي ودهمتني، ولو قيل: رب اشرح صدري ويسر أمري فاتت هذه النكتة.

وقوله: ﴿واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي﴾ سؤال له آخر يرجع إلى عقدة من لسانه والتنكير في ﴿عقدة﴾ للدلالة على النوعية فله وصف مقدر وهو الذي يلوح من قوله: ﴿يفقهوا قولي﴾ أي عقدة تمنع من فقه قولي.

وقوله: ﴿واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي﴾ سؤال له آخر وهو رابع الأسئلة وآخرها، والوزير فعيل من الوزر بالكسر فالسكون بمعنى الحمل الثقيل سمي الوزير وزيرا لأنه يحمل ثقل حمل الملك، وقيل: من الوزر بفتحتين بمعنى الجبل الذي يلتجأ إليه سمي به لأن الملك يلتجىء إليه في آرائه وأحكامه.

وبالجملة هو يسأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله ويبينه أنه هارون أخي وإنما يسأل ذلك لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف لا يسع موسى أن يقوم به وحده بل يحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك فيقوم ببعض الأمر فيخفف عنه فيما يقوم به هذا الوزير ويكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى وهذا معنى قوله - وهو بمنزلة التفسير لجعله وزيرا - ﴿اشدد به أزرى وأشركه في أمري﴾.

فمعنى قوله: ﴿وأشركه في أمري﴾ سؤال إشراك في أمر كان يخصه وهو تبليغ ما بلغه من ربه بادي مرة فهو الذي يخصه ولا يشاركه فيه أحد سواه ولا له أن يستنيب فيه غيره وأما تبليغ الدين أو شيء من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي فليس مما يختص بالنبي بل هو وظيفة كل من آمن به ممن يعلم شيئا من الدين وعلى العالم أن يبلغ الجاهل وعلى الشاهد أن يبلغ الغائب ولا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر لا يخصه بل يعمه وأخاه وكل من آمن به من الإرشاد والتعليم والبيان والتبليغ فتبين أن معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربه عنه وسائر ما يختص به من عند الله كافتراض الطاعة وحجية الكلمة.

وأما الإشراك في النبوة خاصة بمعنى تلقي الوحي من الله سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التفرد في ذلك حتى يسأل الشريك وإنما كان يخاف التفرد في التبليغ وإدارة الأمور في إنجاء بني إسرائيل وما يلحق بذلك، وقد نقل ذلك عن موسى نفسه في قوله: ﴿وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني﴾ القصص: 34.

على أنه صح من طرق الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا بهذا الدعاء بألفاظه في حق علي (عليه السلام) ولم يكن نبيا.

وقوله: ﴿كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا﴾ ظاهر السياق وقد ذكر في الغاية تسبيحهما معا وذكرهما معا أن الجملة غاية لجعل هارون وزيرا له إذ لا تعلق لتسبيحهما معا وذكرهما معا بمضامين الأدعية السابقة وهي شرح صدره وتيسير أمره وحل عقدة من لسانه ويترتب على ذلك أن المراد بالتسبيح والذكر تنزيههما معا لله سبحانه وذكرهما له بين الناس علنا لا في حال خلوتهما أو في قلبيهما سرا إذ لا تعلق لذلك أيضا بجعله وزيرا بل المراد أن يسبحاه ويذكراه معا بين الناس في مجامعهم ونواديهم وأي مجلس منهم حلا فيه وحضرا فتكثر الدعوة إلى الإيمان بالله ورفض الشركاء.

وبذلك يرجع ذيل السياق إلى صدره كأنه يقول: إن الأمر خطير وقد غر هذا الطاغية وملأه وأمته عزهم وسلطانهم ونشب الشرك والوثنية بأعراقه في قلوبهم وأنساهم ذكر الله من أصله وقد امتلأت أعين بني إسرائيل بما يشاهدونه من عزة فرعون وشوكة ملئه واندهشت قلوبهم من سطوة آل فرعون وارتاعت نفوسهم من سلطتهم فنسوا الله ولا يذكرون إلا الطاغية، فهذا الأمر أمر الرسالة والدعوة في نجاحه ومضيه في حاجة شديدة إلى تنزيهك بنفي الشريك كثيرا وإلى ذكرك بالربوبية والألوهية بينهم كثيرا ليتبصروا فيؤمنوا وهذا أمر لا أقوى عليه وحدي فاجعل هارون وزيرا لي وأيدني به وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا لعل السعي ينجع والدعوة تنفع.

وبهذا البيان يظهر وجه تعلق هذه الغاية أعني قوله: ﴿كي نسبحك﴾ إلخ، بما تقدمه.

وثانيا: وجه ورود قوله: ﴿كثيرا﴾ مرتين وأنه ليس من التكرار في شيء إذ كل من التسبيح والذكر يجب أن يكون في نفسه كثيرا، ولو قيل كي نسبحك ونذكرك كثيرا أفاد كثرتهما مجتمعين وهو غير مراد.

وثالثا: وجه تقديم التسبيح على الذكر فإن المراد بالتسبيح تنزيهه تعالى عن الشريك بدفع ألوهية الآلهة من دون الله وإبطال ربوبيتها لتقع الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، وهو المراد بالذكر، موقعها.

فالتسبيح من قبيل دفع المانع المتقدم على تأثير المقتضي، وقد ذكر لهذه الخصوصيات وجوه أخر مذكورة في المطولات لا جدوى فيها ولا في نقلها.

وقوله: ﴿إنك كنت بنا بصيرا﴾ هو بظاهره تعليل كالحجة على قوله: ﴿كي نسبحك كثيرا﴾ إلخ، أي أنك كنت بصيرا بي وبأخي منذ خلقتنا وعرفتنا نفسك وتعلم أنا لم نزل نعبدك بالتسبيح والذكر ساعيين مجدين في ذلك فإن جعلته وزيرا لي وأيدتني به وأشركته في أمري تم أمر الدعوة وسبحناك كثيرا وذكرناك كثيرا، والمراد بقوله ﴿بنا﴾ على هذا هو وأخوه.

ويمكن أن يكون المراد بالضمير في ﴿بنا﴾ أهله، والمعنى: أنك كنت بصيرا بنا أهل البيت أنا أهل تسبيح وذكر فإن جعلت هارون أخي، وهو من أهلي، وزيرا لي سبحناك كثيرا وذكرناك كثيرا، وهذا الوجه أحسن من سابقه لأنه يفي ببيان النكتة في ذكر الأهل في قوله السابق: ﴿واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي﴾ أيضا فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿قال قد أوتيت سؤلك يا موسى﴾ إجابة لأدعيته جميعا وهو إنشاء نظير ما مر من قوله: ﴿وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى﴾.

قوله تعالى: ﴿ولقد مننا عليك مرة أخرى - إلى قوله - كي تقر عينها ولا تحزن﴾ يذكره تعالى بمن آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوة والرسالة ويؤتي سؤله وهو منه عليه حينما تولد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كل مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتى إذا ولد موسى أوحى الله إلى أمه أن لا تخاف وترضعه فإذا خافت عليه من عمال فرعون وجلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليم إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له وكان لا عقب له ولا يقتله ثم إن الله سيرده إليها.

ففعلت كما أوحي إليها فلما جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها وهي أخت موسى أن تجس أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلتهم أخت موسى على أمها فاسترضعوها له فأخذت ولدها وقرت به عينها وصدق الله وعده وقد عظم منه على موسى.

فقوله: ﴿ولقد مننا عليك مرة أخرى﴾ امتنان بما صنعه به أول عمره وقد تغير السياق من التكلم وحده إلى التكلم بالغير لأن المقام مقام إظهار العظمة وهو ينبىء عن ظهور قدرته التامة بتخييب سعي فرعون الطاغية وإبطال كيده لإخماد نور الله ورد مكره إليه وتربية عدوه في حجره، وأما موقف نداء موسى وتكليمه إذ قال: ﴿يا موسى إني أنا ربك﴾ إلخ فسياق التكلم وحده أنسب له.

وقوله: ﴿إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى﴾ المراد به الإلهام وهو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، والوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوة كما قال تعالى: ﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ النحل: 68، وأما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن ولا يوحى إليهن بذلك قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى﴾ يوسف: 109 وقوله: ﴿أن اقذفيه في التابوت﴾ إلى آخر الآية هو مضمون ما أوحي إلى أم موسى و﴿أن﴾ للتفسير، وقيل: مصدرية متعلق بأوحي والتقدير أوحي بأن اقذفيه، وقيل: مصدرية والجملة بدل من: ﴿ما يوحى﴾.

والتابوت الصندوق وما يشبهه والقذف الوضع والإلقاء وكأن القذف الأول في الآية بالمعنى الأول والقذف الثاني بالمعنى الثاني ويمكن أن يكونا معا بالمعنى الثاني بعناية أن وضع الطفل في التابوت وإلقاءه في اليم إلقاء وطرح له من غير أن يعبأ بحاله، واليم البحر: وقيل: البحر العذب، والساحل شاطىء البحر وجانبه من البر، والصنع والصنيعة الإحسان.

وقوله: ﴿فليلقه اليم﴾ أمر عبر به إشارة إلى تحقق وقوعه ومفاده أنا أمرنا اليم بذلك أمرا تكوينيا فهو واقع حتما مقضيا، وكذا قوله: ﴿يأخذه عدو لي﴾ إلخ وهو جزاء مترتب على هذا الأمر.

ومعنى الآيتين إذ أوحينا وألهمنا أمك بما يوحى ويلهم وهو أن ضعيه - أو ألقيه - في التابوت وهو الصندوق فألقيه في اليم والبحر وهو النيل فمن المقضي من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل والشاطىء يأخذه عدو لي وعدو له وهو فرعون لأنه كان يعادي الله بدعوى الألوهية ويعادي موسى بقتله الأطفال وكان طفلا هذا ما أوحيناه إلى أمك.

وقوله: ﴿وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني﴾ ظاهر السياق أن هذا الفصل إلى قوله: ﴿ولا تحزن﴾ فصل ثان تال للفصل السابق متمم له والمجموع بيان للمن المشار إليه بقوله: ﴿ولقد مننا عليك مرة أخرى﴾.

فالفصل الأول يقص الوحي إلى أمه بقذفه في التابوت ثم في البحر لينتهي إلى فرعون فيأخذه عدو الله وعدوه والفصل الثاني يقص إلقاء المحبة عليه لينصرف فرعون عن قتله ويحسن إليه حتى ينتهي الأمر إلى رجوعه إلى أمه واستقراره في حجرها لتقر عينها ولا تحزن وقد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص: ﴿فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق﴾ القصص: 13، ولازم هذا المعنى كون الجملة أعني قوله: ﴿وألقيت عليك﴾ إلخ، معطوفا على قوله: ﴿أوحينا إلى أمك﴾.

ومعنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الإلهية استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه وجذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييلية وفي تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها وغرابة أمرها.

واللام في قوله: ﴿ولتصنع على عيني﴾ للغرض، والجملة معطوفة على مقدر والتقدير ألقيت عليك محبة مني لأمور كذا وكذا وليحسن إليك على عيني أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك ولا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك وشفقتي عليك.

وربما قيل: إن المراد بقوله: ﴿ولتصنع على عيني﴾ الإحسان إليه بإرجاعه إلى أمه وجعل تربيته في حجرها.

وكيف كان فهذا اللسان وهو لسان كمال العناية والشفقة يناسب سياق التكلم وحده ولذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير.

وقوله: ﴿إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن﴾ الظرف - على ما يعطيه السياق - متعلق بقوله: ﴿ولتصنع﴾ والمعنى: وألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا وكذا وليحسن إليك بمرأى مني وتحت مراقبتي في وقت تمشي أختك لتجوس خبرك وترى ما يصنع بك فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم - والاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية - عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة والإرضاع فرددناك إلى أمك كي تسر ولا تحزن.

وقوله: ﴿فرجعناك﴾ بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق وهو التكلم بالغير وليس بالتفات.

قوله تعالى: ﴿وقتلت نفسا فنجيناك من الغم﴾ إلى آخر الآية، إشارة إلى من أو منن أخرى ملحقة بالمنين السابقين وهو قصة قتله (عليه السلام) القبطي وائتمار الملإ أن يقتلوه وفراره من مصر وتزوجه هناك ببنت شعيب النبي وبقاؤه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، والقصة مفصلة مذكورة في سورة القصص.

فقوله: ﴿وقتلت نفسا﴾ هو قتله القبطي بمصر، وقوله: ﴿فنجيناك من الغم﴾ وهو ما كان يخافه أن يقتله الملأ من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره شعيب وورد عليه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.

وقوله: ﴿وفتناك فتونا﴾ أي ابتليناك واختبرناك ابتلاء واختبارا، قال الراغب من المفردات،: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار، قال: ﴿يوم هم على النار يفتنون﴾ ﴿ذوقوا فتنكم﴾ أي عذابكم، قال: وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله: ﴿ألا في الفتنة سقطوا﴾ وتارة في الاختبار، نحو: ﴿وفتناك فتونا﴾ وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا وقد قال فيهما: ﴾ نبلوكم بالشر والخير فتنة﴾ انتهى موضع الحاجة من كلامه.

وقوله: ﴿فلبثت سنين في أهل مدين﴾ متفرع على الفتنة.

وقوله: ﴿ثم جئت على قدر يا موسى﴾ لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر وهو ما حصله من العلم والعمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر ولبثه في أهل مدين.

وعلى هذا فمجموع قوله: ﴿وقتلت نفسا فنجيناك﴾ - إلى قوله - يا موسى﴾ من واحد وهو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر وهو ما اكتسبه من فعلية الكمال.

وربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن هاهنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، وربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك، والوجهان مبنيان على فصل قوله: ﴿فلبثت﴾ إلى آخر الآية عما قبله ولذا قال بعضهم: إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في مدين لمكان فاء التفريع في قوله: ﴿فلبثت سنين في أهل مدين﴾ الدال على تأخر اللبث عن الفتنة زمانا، وفيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب وليس من الواجب أن يكون تفرعا زمانيا دائما.

وقال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير والمراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها وفيه أن القدر والقدر بسكون الدال وفتحها - كما صرحوا به كالنعل والنعل بمعنى واحد.

على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعين.

وذكر لمجيئه على مقدار بعض معان أخر وهي سخيفة لا جدوى فيها.

و ختم ذكر المن بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له.

قوله تعالى: ﴿واصطنعتك لنفسي﴾ الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الإحسان - على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه واصطنعه أي حقق إحسانه إليه وثبته فيه، ونقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه.

وعلى هذا يئول معنى اصطناعه إياه إلى إخلاصه تعالى إياه لنفسه ويظهر موقع قوله: ﴿لنفسي﴾ أتم ظهور وأما على المعنى الأول فالأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمنا معنى الإخلاص، والمعنى على أي حال وجعلتك خالصا لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني وإحساني ولا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصا وينطبق ذلك على قوله: ﴿واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا﴾ مريم: 51.

ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، ومعنى اختياره لنفسه جعله حجة بينه وبين خلقه كلامه كلامه ودعوته دعوته وكذا قول بعضهم إن المراد بقوله: ﴿لنفسي﴾ لوحيي ورسالتي، وقول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل التقييد من غير مقيد.

ويظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم النعم ومن الممكن أن يكون معطوفا على قوله: ﴿جئت على قدر﴾ عطف تفسير.

والاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه وبين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوما في سلكها - على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره - فالأولى جعله تمهيدا لإرساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.

وفيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد اللطف وتقريبه من موقف الأنس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير إلى التكلم وحده بقوله: ﴿واصطنعتك لنفسي﴾.

قوله تعالى: ﴿اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري﴾ تجديد للأمر السابق خطابا لموسى وحده في قوله: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ بتغيير ما فيه بإلحاق أخي موسى به لتغير ما في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجه الخطاب ثانيا إليهما معا.

وأمرهما أن يذهبا بآياته ولم يؤت وقتئذ إلا آيتين وعد جميل بأنه مؤيد بغيرهما وسيؤتاه حين لزومه، وأما القول بأن المراد هما الآيتان والجمع ربما يطلق على الاثنين، أو أن كلا من الآيتين ينحل إلى آيات كثيرة مما لا ينبغي الركون إليه.

وقوله: ﴿ولا تنيا في ذكري﴾ نهي عن الوني وهو الفتور، والأنسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الإيمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجه إليه قلبا أو لسانا كما قيل.

قوله تعالى: ﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى﴾ جمعهما في الأمر ثانيا فخاطب موسى وهارون معا وكذلك في النهي الذي قبله في قوله: ﴿ولا تنيا﴾ وقد مهد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله: ﴿اذهب أنت وأخوك﴾ وليس ببعيد أن يكون نقلا لمشافهة أخرى وتخاطب وقع بينه تعالى وبين رسوليه مجتمعين أو متفرقين بعد ذاك الموقف ويؤيده سياق قوله بعد: ﴿قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا﴾ إلخ.

والمراد بقوله: ﴿فقولا له قولا لينا﴾ المنع من أن يكلماه بخشونة وعنف وهو من أوجب آداب الدعوة.

وقوله: ﴿لعله يتذكر أو يخشى﴾ رجاء لتذكره أو خشيته وهو قائم بمقام المحاورة لا به تعالى العالم بما سيكون، والتذكر مطاوعة التذكير فيكون قبولا والتزاما لما تقتضيه حجة المذكر وإيمانه به والخشية من مقدمات القبول والإيمان فمآل المعنى لعله يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه.

واستدل بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالآية استنادا إلى أن ﴿لعل﴾ من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عباس وقدماء المفسرين فالآية تدل على تحتم وقوع أحد الأمرين التذكر أو الخشية وهو مدار النجاة.

وفيه أنه ممنوع ولا تدل عسى ولعل في كلامه تعالى إلا على ما يدل عليه في كلام غيره وهو الترجي غير أن معنى الترجي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل وتقدس وإنما يقوم بالمقام بمعنى أن من وقف هذا الموقف واطلع على أطراف الكلام فهم أن من المرجو أن يقع كذا وكذا وأما في كلام غيره فربما قام الترجي بنفس المتكلم وربما قام بمقام التخاطب.

وقال الإمام الرازي في تفسيره، إنه لا يعلم سر إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنه لا يؤمن إلا الله، ولا سبيل في المقام وأمثاله إلى غير التسليم وترك الاعتراض.

وهو عجيب فإنه إن كان المراد بسر الإرسال وجه صحة الأمر بالشيء مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشيء أو وجوب وقوعه إنما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علته التامة التي هي الفاعل وسائر العوامل الخارجة عنه في وجوده والأمر لا يتعلق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة وإنما يتعلق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الذي هو أحد أجزاء علته التامة ونسبة الفعل وعدمه إليه بالإمكان دائما لكونه علة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل ولا عدمه فالإرسال والدعوة وكذا الأمر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الإجابة والائتمار بالنسبة إليه نفسه اختيارية ممكنة وإن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة، هذا جواب القائلين بالاختيار، وأما المجبرة - وهو منهم - فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر وقد أجابوا عنها على زعمهم بأن التكليف صوري يترتب عليه تمام الحجة وقطع المعذرة.

وإن كان المراد بسر الإرسال مع العلم بأنه لا يؤمن الفائدة المترتبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغوية فالدعوة الحقة كما تؤثر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى: ﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا﴾ الإسراء: 82، ولو ألغي التكميل في جانب الشقاء لغا الامتحان فيه فلم تتم الحجة فيه، ولا انقطع العذر، ولو لم تتم الحجة في جانب وانتقضت لم تنجع في الجانب الآخر وهو ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى﴾ الفرط التقدم والمراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجل بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار الآية المعجزة، والمراد بأن يطغى أن يتجاوز حده في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل والاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترىء عليه قبل الدعوة ونسبة الخوف إليهما لا بأس بها كما تقدم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى: ﴿قال خذها ولا تخف﴾ .

واستشكل على الآية بأن قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال: ﴿سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما﴾ القصص: 35﴿، يدل على إعطاء الأمن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله ﴿سنشد عضدك بأخيك﴾ فلا معنى لإظهارهما الخوف بعد ذلك.

وأجيب بأن خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك.

﴿ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون﴾ الشعراء: 14، والذي في هذه الآية خوف منهما على الدعوة كما تقدم.

على أن من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكي في الآية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة وخوف هارون بعد بلوغ الأمر إليه فالتقطا وجمعا معا في هذا المورد، وقد تقدم احتمال أن يكون قوله: ﴿اذهبا إلى فرعون﴾ إلى آخر الآيات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد.

قوله تعالى: ﴿قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى﴾ أي لا تخافا من فرطه وطغيانه إنني حاضر معكما أسمع ما يقال وأرى ما يفعل فأنصركما ولا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله: ﴿لا تخافا﴾ تأمين، وقوله: ﴿إنني معكما أسمع وأرى﴾ تعليل للتأمين بالحضور والسمع والرؤية، وهو الدليل على أن الجملة كناية عن المراقبة والنصرة وإلا فنفس الحضور والعلم يعم جميع الأشياء والأحوال.

وقد استدل بعضهم بالآية على أن السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله: ﴿إنني معكما﴾ دال على العلم ولو دل ﴿أسمع وأرى﴾ عليه أيضا لزم التكرار وهو خلاف الأصل.

وهو من أوهن الاستدلال، أما أولا: فلما عرفت أن مفاد ﴿إنني معكما﴾ هو الحضور والشهادة وهو غير العلم.

وأما ثانيا: فلقيام البراهين اليقينية على عينية الصفات الذاتية وهي الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر بعضها لبعض والمجموع للذات، ولا ينعقد مع اليقين ظهور لفظي ظني مخالف البتة.

وأما ثالثا: فلأن المسألة من أصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى.

قوله تعالى: ﴿فأتياه فقولا إنا رسولا ربك﴾ إلى آخر الآية، جدد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما ووعدهما بالحفظ والنصر وبين تمام ما يكلفان به من الرسالة وهو أن يدعوا فرعون إلى الإيمان وإلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل وإرسالهم معهما فكلما تحول حال في المحاورة جدد الأمر حسب ما يناسبه وهو قوله أولا لموسى: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ ، ثم قوله ثانيا لما ذكر أسئلته وأجيب إليها: ﴿اذهب أنت وأخوك﴾ ﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى﴾ ثم قوله لما ذكرا خوفهما وأجيبا بالأمن: ﴿فأتياه فقولا﴾ إلخ، وفيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له.

فقوله: ﴿فأتياه فقولا إنا رسولا ربك﴾ تبليغ أنهما رسولا الله، وفي قوله بعد: ﴿والسلام على من اتبع الهدى﴾ إلخ، دعوته إلى بقية أجزاء الإيمان.

وقوله: ﴿فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم﴾ تكليف فرعي متوجه إلى فرعون.

و قوله: ﴿قد جئناك بآية من ربك﴾ استناد إلى حجة تثبت رسالتهما وفي تنكير الآية سكوت عن العدد وإشارة إلى فخامة أمرها وكبر شأنها ووضوح دلالتها.

وقوله: ﴿والسلام على من اتبع الهدى﴾ كالتحية للوداع يشار به إلى تمام الرسالة ويبين به خلاصة ما تتضمنه الدعوة الدينية وهو أن السلامة منبسط على من اتبع الهدى والسعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا ولا في عقبى.

وقوله: ﴿إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى﴾ في مقام التعليل لسابقه أي إنما نسلم على المهتدين فحسب لأن الله سبحانه أوحي إلينا أن العذاب وهو خلاف السلام على من كذب بآيات الله - أو بالدعوة الحقة التي هي الهدى - وتولى وأعرض عنها.

وفي سياق الآيتين من الاستهانة بأمر فرعون وبما تزين به من زخارف الدنيا وتظاهر به من الكبر والخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل: ﴿فأتياه﴾ ولم يقل: اذهبا إليه وإتيان الشيء أقرب مساسا به من الذهاب إليه ولم يكن إتيان فرعون وهو ملك مصر وإله القبط بذاك السهل الميسور، وقيل: ﴿فقولا﴾ ولم يقل: فقولا له كأنه لا يعتني به، وقيل: ﴿إنا رسولا ربك﴾ و﴿بآية من ربك﴾ فقرع سمعه مرتين بأن له ربا وهو الذي كان ينادي بقوله: ﴿أنا ربكم الأعلى﴿، وقيل: ﴿والسلام على من اتبع الهدى﴾ ولم يورد بالخطاب إليه، ونظيره قوله: ﴿إن العذاب على من كذب وتولى﴾ من غير خطاب.

وهذا كله هو الأنسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى: ﴿لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى﴾ من كمال الإحاطة والعزة والقدرة التي لا يقوم لها شيء.

وليس مع ذلك فيما أمرا أن يخاطباه به من قولهما: ﴿إنا رسولا ربك﴾ إلى آخر الآيتين خشونة في الكلام وخروج عن لين القول الذي أمرا به أولا فإن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملق ولا احتشام وتأثر من ظاهر سلطانه الباطل وعزته الكاذبة.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿آتيكم منها بقبس﴾ يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد ﴿أو أجد على النار هدى﴾ كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.

وفي الفقيه، سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿فاخلع نعليك - إنك بالواد المقدس طوى﴾ قال: كانتا من جلد حمار ميت.

أقول: ورواه أيضا في تفسير القمي، مرسلا ومضمرا، وروى هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد الرزاق والفاريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن علي.

وقد ورد ذلك في بعض الروايات، وسياق الآية يعطي أن الخلع لاحترام الموقف.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿أقم الصلاة لذكري﴾ قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن.

عن أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام):، ويعضده ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك:، رواه مسلم في الصحيح:.

أقول: والحديث مروي بطرق أخرى مسندة وغير مسندة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق أهل السنة وعن الصادقين (عليهما السلام) من طرق الشيعة.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿أكاد أخفيها﴾ روي عن ابن عباس ﴿أكاد أخفيها عن نفسي﴾ وهي كذلك في قراءة أبي، وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام).

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإزاء ثبير وهو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري وأن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزرى وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا.

أقول وروي قريبا من هذا المعنى عن السلفي عن الباقر (عليه السلام) وروي أيضا في المجمع، عن ابن عباس عن أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قريبا منه.

وقال في روح المعاني، بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة ولا يصح الاستدلال به على خلافة علي كرم الله وجهه بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل.

ومثله: فيما ذكر ما صح من قوله (عليه السلام) له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته ﴿أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي﴾.

قلت: أما الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته (عليه السلام) بلا فصل فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب وإنما نبحث عن المراد بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعائه لعلي (عليه السلام): ﴿وأشركه في أمري﴾ طبقا لدعاء موسى (عليه السلام) المحكي في الكتاب العزيز فإن له مساسا بما فهمه (صلى الله عليه وآله وسلم) من لفظ الآية والحديث صحيح مؤيد بحديث المنزلة المتواتر.

فمراده (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمر في قوله: ﴿وأشركه في أمري﴾ ليس هو النبوة قطعا لنص حديث المنزلة باستثناء النبوة، وهو الدليل القاطع على أن مراد موسى بالأمر في قوله: ﴿وأشركه في أمري﴾ ليس هو النبوة وإلا بقي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿أمري﴾ بلا معنى يفيده.

وليس المراد بالأمر هو مطلق الإرشاد والدعوة إلى الحق - كما ذكره - قطعا لأنه تكليف يقوم به جميع الأمة ويشاركه فيه غيره وحجة الكتاب والسنة قائمة فيه كأمثال قوله تعالى: ﴿قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني﴾ يوسف: 108، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) - وقد رواه العامة والخاصة -: فليبلغ الشاهد الغائب، وإذا كان أمرا مشتركا بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك علي فيه.

على أن الإضافة في قوله: ﴿أمري﴾ تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، ونظير الكلام يجري في قول موسى المحكي في الآية.

نعم التبليغ الابتدائي وهو تبليغ الوحي لأول مرة أمر يختص بالنبي فليس له أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلا آخر، فالإشراك فيه إشراك في أمره وفي قول موسى ما يشهد بذلك إذ يقول: ﴿وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني﴾ إذ ليس المراد بتصديقه إياه أن يقول: صدق أخي بل أن يوضح ما أبهم من كلامه ويفصل ما أجمل ويبلغ عنه بعض الوحي الذي كان عليه أن يبلغه.

فهذا النوع من التبليغ وما معه من آثار النبوة كافتراض الطاعة مما يختص بالنبي والإشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالأمر في دعائه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المراد أيضا مضافة إليه النبوة في دعاء موسى.

وقد تقدم ما يتعلق بهذا البحث في تفسير أول سورة براءة في حديث بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا بآيات أول براءة إلى مكة بعد عزل أبي بكر عنها استنادا إلى ما أوحي إليه أنه لا يبلغها عنك إلا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب.

وفي تفسير القمي، حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له، وكان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن وذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، وفرق بين الرجال والنساء وحبس الرجال في المحابس.

فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت: يذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه وهو قول الله: ﴿وألقيت عليك محبة مني﴾ فأحبته القبطية الموكلة بها.

وفي العلل، بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عز وجل لموسى ﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى وقولا له قولا لينا - لعله يتذكر أو يخشى﴾ فقال: أما قوله: ﴿فقولا له قولا لينا﴾ أي كنياه وقولا له: يا أبا مصعب وكان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أما قوله: ﴿لعله يتذكر أو يخشى﴾ فإنما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب وقد علم الله عز وجل أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى إلا عند رؤية البأس، ألا تسمع الله عز وجل يقول: ﴿حتى إذا أدركه الغرق - قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل - وأنا من المسلمين﴾ فلم يقبل الله إيمانه وقال: ﴿الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾.

أقول: وروى صدر الحديث في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن علي:.

وتفسير القول اللين بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنه لا ينحصر فيه.

وروى ذيل الحديث أيضا في الكافي، بإسناده عن عدي بن حاتم عن علي (عليه السلام) وفيه تأييد ما قدمنا أن لعل مستعملة في الآية للترجي.