الآيات 58-66

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿58﴾ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿59﴾ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴿60﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿61﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ يُّ الْكَبِيرُ ﴿62﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿63﴾ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿64﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿65﴾ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ ﴿66﴾

بيان:

الآيات تعقب الغرض السابق وتبين ثواب الذين هاجروا ثم قتلوا جهادا في سبيل الله أو ماتوا، وفيها بعض التحريض على القتال والوعد بالنصر كما يدل عليه قوله: ﴿ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله﴾ الآية.

وقد اختصت هذه الآيات بخصوصية لا توجد في جميع القرآن الكريم إلا فيها فهي ثمان آيات متوالية ختمت كل منها باسمين من أسماء الله الحسنى وراء لفظ الجلالة وقد اجتمعت فيها - بناء على اسمية الضمير ﴿هو﴾ - ستة عشر اسما وإن الله لهو خير الرازقين العليم الحليم العفو الغفور السميع البصير العلي الكبير اللطيف الخبير الغني الحميد الرءوف الرحيم، ثم ذكر في الآية التاسعة أنه تعالى يحيي ويميت وفي أثنائها أنه الحق وأن له ما في السماوات والأرض وهي في معنى أربعة أسماء أعني المحيي المميت الحق المالك أو الملك فتلك عشرون اسما من أسمائه اجتمعت في الآيات الثمان على ألطف وجه وأبدعه.

قوله تعالى: ﴿والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا﴾ لما ذكر إخراج المهاجرين من ديارهم ظلما عقبه بذكر ما يثيبهم به على مهاجرتهم ومحنتهم في سبيل الله وهو وعد حسن برزق حسن.

وقد قيد الهجرة بكونها في سبيل الله لأن المثوبة إنما تترتب على صالح العمل، وإنما يكون العمل صالحا عند الله بخلوص النية فيه وكونه في سبيله لا في سبيل غيره من مال أو جاه أو غيرهما من المقاصد الدنيوية، وبمثل ذلك يتقيد قوله: ﴿ثم قتلوا أو ماتوا﴾ أي قتلوا في سبيل الله أو ماتوا وقد تغربوا في سبيل الله.

وقوله: ﴿وإن الله لهو خير الرازقين﴾ ختم للآية يعلل به ما ذكر فيها من الرزق الحسن وهو النعمة الأخروية إذ موطنها بعد القتل والموت، وفي الآية إطلاق الرزق على نعم الجنة كما في قوله: ﴿أحياء عند ربهم يرزقون﴾ آل عمران: 169.

قوله تعالى: ﴿ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم﴾ المدخل بضم الميم وفتح الخاء اسم مكان من الإدخال واحتمال كونه مصدرا ميميا لا يناسب السياق تلك المناسبة.

وتوصيف هذا المدخل وهو الجنة بقوله: ﴿يرضونه﴾ والرضا مطلق، دليل على اشتمالها على أقصى ما يريده الإنسان كما قال: ﴿لهم فيها ما يشاءون﴾ الفرقان: 16.

وقوله: ﴿ليدخلنهم مدخلا يرضونه﴾ بيان لقوله: ﴿ليرزقنهم الله رزقا حسنا﴾ وإدخاله إياهم مدخلا يرضونه ولا يكرهونه على الرغم من إخراج المشركين إياهم إخراجا يكرهونه ولا يرضونه ولذا علله بقوله: ﴿وإن الله لعليم حليم﴾ أي عليم بما يرضيهم فيعده لهم إعدادا حليم فلا يعاجل العقوبة لأعدائهم الظالمين لهم.

قوله تعالى: ﴿ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور﴾ ذلك خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك الذي أخبرناك به وذكرناه لك، والعقاب مؤاخذة الإنسان بما يكرهه بإزاء فعله ما لا يرتضيه المعاقب وإنما سمي عقابا لأنه يأتي عقيب الفعل.

والعقاب بمثل العقاب كناية عن المعاملة بالمثل ولما لم يكن هذه المعاملة بالمثل حسنا إلا فيما كان العقاب الأول من غير حق قيده بكونه بغيا فعطف قوله: ﴿بغي عليه﴾ بثم عليه.

وقوله: ﴿لينصرنه الله﴾ ظاهر السياق - والمقام مقام الإذن في الجهاد - أن المراد بالنصر هو إظهار المظلومين على الظالمين الباغين وتأييدهم عليهم في القتال لكن يمكن أن يستظهر من مثل قوله: ﴿ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا﴾ الإسراء: 33 أن المراد بالنصر هو تشريع حكم للمظلوم يتدارك به ما وقع عليه من وصمة الظلم والبغي فإن في إذنه أن يعامل الظالم الباغي عليه بمثل ما فعل بسطا ليده على من بسط عليه اليد.

وبهذا يتضح معنى تعليل النصر بقوله: ﴿إن الله لعفو غفور﴾ فإن الإذن والإباحة في موارد الاضطرار والحرج وما شابه ذلك من مقتضيات صفتي العفو والمغفرة كما تقدم مرارا في أمثال قوله تعالى: ﴿فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم﴾ المائدة: 3 وقد أوضحنا ذلك في المجازاة والعفو في آخر الجزء السادس من الكتاب.

والمعنى - على هذا - ومن عامل من عاقبه بغيا عليه بمثل ما عاقب نصره الله بإذنه فيه ولم يمنعه عن المعاملة بالمثل لأن الله عفو غفور يمحو ما تستوجبه هذه المعاملة والانتقام من المساءة والتبعة كأن العقاب وإيصال المكروه إلى الناس مبغوض في نظام الحياة غير أن الله سبحانه يمحو ما فيه من المبغوضية ويستر على أثره السيىء إذا كان عقابا من مظلوم لظالمه الباغي عليه بمثل ما بغي عليه، فيجيز له ذلك ولا يمنعه بالتحريم والحظر.

وبذلك يظهر أيضا مناسبة ذكر وصف الحلم في آخر الآية السابقة - إن الله لعليم حليم - ويظهر أيضا أن ﴿ثم﴾ في قوله: ﴿ثم بغي عليه﴾ للتراخي بحسب الذكر لا بحسب الزمان.

وأما ما أوردوه في معنى الآية: ومن جازى الجاني بمثل ما جنى به عليه ثم بغي عليه بالمعاودة إلى العقاب لينصرنه الله على من بغي عليه إن الله لعفو غفور لمن ارتكبه من العقاب إذ كان تركا للأولى لأن الأولى هو الصبر والعفو عن الجاني كما قال تعالى: ﴿وأن تعفوا أقرب للتقوى﴾ وقال: ﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ وقال: ﴿ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور﴾ الشورى: 43.

ففيه أولا: أنه لما أخذت ﴿ثم﴾ للتراخي بحسب الزمان أفاد كون العقاب غير البغي ومطلق العقاب أعم من أن يكون جناية، وعمومها للجناية وغيرها يفسد معنى الكلام، وإرادة خصوص الجناية منه - كما فسر - إرادة معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ.

وثانيا: أنه فسر النصرة بالنصرة التكوينية دون التشريعية فكان إخبارا عن نصره تعالى المظلوم على الظالم إذا قابله بالمجازاة على جنايته ثم بغيه والواقع ربما يتخلف عن ذلك.

وثالثا: أن قتال المشركين والجهاد في سبيل الله من مصاديق هذه الآية قطعا، ولازم ما ذكر أن يكون تركه بالعفو عنهم أولى من فعله وهو واضح الفساد.

قوله تعالى: ﴿ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير﴾ إيلاج كل من الليل والنهار في الآخر حلوله محل الآخر كورود ضوء الصباح على ظلمة الليل كشيء يلج في شيء ثم اتساعه وإشغال النهار من الفضاء ما أشغله الليل، وورود ظلمة المساء على نور النهار كشيء يلج في شيء ثم اتساعها وشمول الليل.

والمشار إليه بذلك - بناء على ما تقدم من معنى النصر - ظهور المظلوم بعقابه على الظالم الباغي عليه، والمعنى أن ذلك النصر بسبب أن من سنة الله أن يظهر أحد المضادين والمتزاحمين على الآخر كما يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع لأقوالهم بصير بأعمالهم فينصر المظلوم وهو مهضوم الحق بعينه وما يسأله بلسان حاله في سمعه.

وذكر في معنى الآية وجوه أخر غير منطبقة على السياق رأينا الصفح عن ذكرها أولى.

قوله تعالى: ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير﴾ الإشارة بذلك إلى النصر أو إليه وإلى ما ذكر من سببه.

والحصر أن في قوله: ﴿بأن الله هو الحق﴾ وقوله: ﴿وأن ما يدعون من دونه هو الباطل﴾ إما بمعنى أنه تعالى حق لا يشوبه باطل وأن ما يدعون من دونه وهي الأصنام باطل لا يشوبه حق فهو قادر على أن يتصرف في تكوين الأشياء وأن يحكم لها وعليها بما شاء.

وإما بمعنى أنه تعالى حق بحقيقة معنى الكلمة مستقلا بذلك لا حق غيره إلا ما حققه هو، وأن ما يدعون من دونه وهي الأصنام بل كل ما يركن إليه ويدعى للحاجة من دون الله هو الباطل لا غيره إذ مصداق غيره هو الله سبحانه فافهم ذلك، وإنما كان باطلا إذ كان لا حقية له باستقلاله.

والمعنى - على أي تقدير - أن ذلك التصرف في التكوين والتشريع من الله سبحانه بسبب أنه تعالى حق يتحقق بمشيته كل حق غيره، وأن آلهتهم من دون الله وكل ما يركن إليه ظالم باغ من دونه باطل لا يقدر على شيء.

وقوله: ﴿وأن الله هو العلي الكبير﴾ علوه تعالى بحيث يعلو ولا يعلى عليه وكبره بحيث لا يصغر لشيء بالهوان والمذلة من فروع كونه حقا أي ثابتا لا يعرضه زوال وموجودا لا يمسه عدم.

قوله تعالى: ﴿ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير﴾ استشهاد على عموم القدرة المشار إليها آنفا بإنزال الماء من السماء - والمراد بها جهة العلو - وصيرورة الأرض بذلك مخضرة.

وقوله: ﴿إن الله لطيف خبير﴾ تعليل لجعل الأرض مخضرة بإنزال الماء من السماء فتكون نتيجة هذا التعليل وذاك الاستشهاد كأنه قيل: إن الله ينزل كذا فيكون كذا لأنه لطيف خبير وهو يشهد بعموم قدرته.

قوله تعالى: ﴿له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد﴾ ظاهره أنه خبر بعد خبر لأن فهو تتمة التعليل في الآية السابقة كأنه قيل: إن الله لطيف خبير مالك لما في السماوات وما في الأرض يتصرف في ملكه كما يشاء بلطف وخبرة، ويمكن أن يكون استئنافا يفيد تعليلا باستقلاله.

وقوله: ﴿وإن الله لهو الغني الحميد﴾ يفيد عدم حاجته إلى شيء من تصرفاته بما هو غني على الإطلاق وهي مع ذلك جميلة نافعة يحمد عليها بما هو حميد على الإطلاق فمفاد الاسمين معا أنه تعالى لا يفعل إلا ما هو نافع لكن لا يعود نفعه إليه بل إلى الخلق أنفسهم.

قوله تعالى: ﴿ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض﴾ إلخ، استشهاد آخر على عموم القدرة، والمقابلة بين تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك في البحر يؤيد أن المراد بالأرض البر مقابل البحر، وعلى هذا فتعقيب الجملتين بقوله: ﴿ويمسك السماء﴾ إلخ، يعطي أن محصل المراد أن الله سخر لكم ما في السماء والأرض برها وبحرها.

والمراد بالسماء جهة العلو وما فيها فالله يمسكها أن تقع على الأرض إلا بإذنه مما يسقط من الأحجار السماوية والصواعق ونحوها.

وقد ختم الآية بصفتي الرأفة والرحمة تتميما للنعمة وامتنانا على الناس.

قوله تعالى: ﴿وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور﴾ سياق الماضي في ﴿أحياكم﴾ يدل على أن المراد به الحياة الدنيا وأهمية المعاد بالذكر تستدعي أن يكون المراد من قوله: ﴿ثم يحييكم﴾ الحياة الآخرة يوم البعث دون الحياة البرزخية.

وهذه الحياة ثم الموت ثم الحياة من النعم الإلهية العظمى ختم بها الامتنان ولذا عقبها بقوله: ﴿إن الإنسان لكفور﴾ .

بحث روائي:

في جامع الجوامع، في قوله: ﴿والذين هاجروا إلى قوله لعليم حليم﴾ روي أنهم قالوا: يا رسول الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا أن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿ومن عاقب بمثل ما عوقب به﴾ الآية روي أن الآية نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله المسلمين بهم: أقول: ورواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن مقاتل وأثر الضعف ظاهر عليه فإن المشركين كانوا يحرمون الأشهر الحرم، وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير﴾ البقرة: 217، في الجزء الثاني من الكتاب من الروايات في قصة عبد الله بن جحش وأصحابه ما يزيد في ضعف هذه الرواية.