سورة هود

﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (1).

س - ما معنى إحكام آياته، ولماذا عطف التفصيل عليه؟

ج - ذكر المفسرون عدة آراء لهم في ذلك، لكن الذي نرجحه والله العالم أنَ الإحكام يرتبط بمضمون الآيات القرآنية، وأنه المنهج المستقيم والحقائق الثابتة المحكمة المنزّهة عن الباطل، بعكس المناهج الجوفاء للمبادئ المنحرفة، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*... تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ...﴾(1).

أما التفصيل فهو في مرحلة بيان تلك المضامين المحكمة, وهي مرحلة متأخرة عنها، فكان من الطبيعي على هذا التوجيه عطف التفصيل على الإحكام.

﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا...﴾ (3).

س - لماذا أخّر الأمر بالتوبة مع أنّ الاستغفار مكمّل لها؟

ج - إذا تعلّقت التوبة بالذنب كقولك: تبت من ذنبي فهي قبل الاستغفار، وتعني الندم على الذنب، أما التوبة إلى الله فهي الرجوع والإنابة إليه، ومحلّها بعد الاستغفار، حيث ينتهج العبد طريق الاستقامة فيما يستقبل من حياته.

﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ...﴾ (8).

س - ما معنى تأخير العذاب إلى أُمة؟

ج - الاُمة هنا بمعنى الفترة، وهو احدى معاني الاُمة في اللغة.

﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (12).

س - هل يعني ذلك أنّ النبي كان يهمّ بترك تبليغ بعض الآيات؟

ج - كلاّ، بل حيث إن الترجي وكل شك وتردّد مستحيل في حق الله تعالى، فتحمل ألفاظها مثل لعلّ في الآية على قصد معانٍ أخرى مثل الإرشاد والتذكير بعظم المسؤولية وتقوية عزيمة الرسول ونحو ذلك.

﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (34).

س - إذا كان الله يريد إغواءهم فكيف يعاقبهم على ذلك؟

ج - ليس المقصود جبرهم على ذلك، لأنّه تعالى لا يجبر عباده على الغواية ولا على الهداية، وإنما ذلك يرجع إلى اختيار الإنسان نفسه، وطبيعة تفاعله مع آيات الله وحججه، فمن يعيها ويبصرها بموضوعية يهتدي بها، ومن يقابلها بالجحود والصدّ تصير سبباً لغيّه وضلاله، وإنّما يُنسب ذلك إلى الله تعالى باعتبار أنه هو الذي يُنزل تلك الآيات، وهو الذي تجري الأمور بقضائه وقدره من دون سلب اختيار الإنسان.

وقد أشارت إلى ذلك مجموعة من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(3).

﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ (36).

س - هل انحصار الإيمان بتلك الجماعة المؤمنة يوجب عدم حزنه وابتئاسه بما كانوا يفعلون؟

ج - كلاّ، وإنما ذلك يوجب اليأس من إيمان الآخرين، مما يعني انتهاءَ مهمّة نوح في سعيه لهداية قومه، وحلولَ وقت عقابهم، كما أشار إليه قوله تعالى عقيب ذلك: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾(4).

فانتهاء معاناة نوح (عليه السلام) وحلول وقت عقاب الكافرين هو الذي يُنهي حزنه وابتئاسه.

﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ...﴾ (43).

س - كيف يستثني مَّن رحمهُ الله من العاصم الذي هو الله تعالى، والمفروض استثناؤه من المعصوم؟

ج - الاستثناء هنا منقطع كما يسميه النحاة والمستثنى منه الحقيقي هو المعصوم المفهوم نفيه من خلال الملازمة بين نفي العاصم ونفيه، لأنه إذا لم يكن هناك عاصم فمن الطبيعي أن لا يكون هناك معصوم.

والذي حسََّن هذا الأسلوب بلاغياً، أن هدف نوح (عليه السلام) نفي المعصوم أي إقناع ولده بأنه ليس هناك معصوم من الغرق إلاّ من يرحمه الله، بينما اعتمد ولده على الجبل مدّعياً أنه عاصم من الماء، فكان على نوح (عليه السلام) أن ينفي كلا الأمرين العاصم والمعصوم، فجاء النفي بهذا الأسلوب الموجز الرائع.

﴿... قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي...﴾ (78).

س - كيف يعرض عليهم بناته وهنّ محرّمات عليهم؟

ج - لقد عرض عليهم الزواج المشروع منهنّ، ولذلك قال: ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ كما يناسبه أيضاً قوله: ﴿فَاتَّقُواْ اللّهَ﴾. اذ الفاحشة لا تنسجم مع الطهر وتقوى الله تعالى.

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ (106).

س - هل يختص الزفير والشهيق بأهل النار؟

ج - المقصود منه المصاحب للحزن والكرب، قال الزجاج: الزفر من شدّة الأنين وقبيحه، والشهيق: الأنين الشديد المرتفع جدّاًَ(5). وفي الآية إشارة إلى الشدة التي تلازمهم في كل نفس.

﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ (1 108).

س - كيف يربط خلودهم بدوام السماوات والأرض مع أنها ليست خالدة، بل هي تفنى قبل يوم القيامة، كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾(6) وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾(7) ؟

ج - إما أن يكون ذلك جرياً على العرف العام الذي يعتبر دوام السماوات والأرض رمزاً وتعبيراً عن التأبيد، أو يكون المقصود من السماوات والأرض ما يُظلل الإنسان وما يستقرّ عليه، وهما متحققان في الدار الآخرة وخالدان بخلودها، وقد قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾(8).

س - ألا يعني استثناء المشيئة الإلهية أنّ الكافرين قد لا يخلدون في النار وأنّ المؤمنين قد لا يخلدون في الجنّة؟

ج - بالنسبة لأهل النار لا مانع من شمول رحمة الله وعفوه لبعضهم، فيخرجهم من النار، كما تضمنت ذلك بعض النصوص، ففي الحديث عن حمران عن الإمام الباقر (عليه السلام) عندما سأله عن ذلك فقال: ﴿هذه في الذين يخرجون من النار﴾(9).

وهناك وجه آخر ينطبق على كلتا الآيتين، وهو انّ استثناء المشيئة في كليهما لتأكيد أن خلود كلا الفريقين خاضع لمشيئة الله، وليس أمراً مفروضاً عليه، ولا يَخرج الفريقان بذلك عن مشيئته وارادته، ولا عن سلطانه تعالى وملكه(10).

﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ (113).

س - كيف يكون الركون إلى الظالم؟

ج - الظاهر أنّه مأخوذ من الركن بمعنى القوة، قال ابن منظور: ركن الإنسان: قوّته وشدته(11). فيكون الركون إلى الظالم بمعنى الاستناد إليه والتقوي به، فينطبق على الخروج عن التعاليم الدينية ممالأةً ومداراةً للمشركين، كما ينطبق على السير في ركاب الطغاة والانتساب إليهم واتبّاعهم في ظلمهم. وعن تفسير القمي: قال (عليه السلام): (ركون مودة ونصيحة وطاعة)(12).

ولذلك نلاحظ الآية الكريمة تؤكد أنّه ليس هناك مَن ينصر الإنسان من دون الله تعالى مما يعني أن الاعتماد على غيره لا فائدة فيه مهما توفرت فيه من قوّة.

﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ...﴾ (116).

س - من هم أولوا بقيّة، وما هو وجه وصفهم بذلك؟

ج - البقية كناية عن الفضل والتعقل، والمقصود بهم القلّة الواعية من الأمم السابقة.

قال الطبرسي: والبقية ما بقي من الشيء بعد ذهابه، وهو الاسم من الإبقاء. ويقال: في فلان بقية أي فضل مما يمدح به وخير، كأنه قيل: بقية خير من الخير الماضي...(13).

﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (118- 119).

س - - ما هو مرجع اسم الإشارة في قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ ؟

ج - يمكن أن يرجع إلى الرحمة، باعتبار أن الله تعالى أرحم الراحمين خلق الخليقة ليرحمهم.

وقد تكون اللام للعاقبة، ويكون ذلك إشارة إلى اختلافهم المتقدم في قوله: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ حيث لم يفرض عليهم الإيمان تكويناً ويخلقهم مؤمنين، لأن الهدف من خلق الإنسان في هذه الحياة الدنيا بما يمتلك من عقل واختيار هو ابتلاؤه واختباره وتحميله المسؤولية، ليتميّز المطيع من العاصي، كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾(14) وقوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ ((15). وربمّا يشير إلى هذا الوجه قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾. فانّ الله تعالى لم يخلق الجن والأنس ليملؤا جهنّم، وإنما خلقهم ليختبرهم ففشلوا بسوء اختيارهم، وكانت النتيجة أن امتلأت جهنم بهم. نعوذ بالله تعالى من الخذلان وسوء العاقبة.


1- تفسير العياشي : 2/ 135.

2- تفسير العياشي : 2/ 135.

3- تفسير العياشي : 2/ 135.

4- تفسير العياشي : 2/ 135.

5- تفسير العياشي : 2/ 135.

6- تفسير العياشي : 2/ 135.

7- تفسير العياشي : 2/ 135.

8- تفسير العياشي : 2/ 135.

9- تفسير العياشي : 2/ 135.

10- تفسير العياشي : 2/ 135.

11- تفسير العياشي : 2/ 135.

12- تفسير العياشي : 2/ 135.

13- تفسير العياشي : 2/ 135.

14- تفسير العياشي : 2/ 135.

15- سورة الأنبياء : 35.