الآيات 16-25

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴿16﴾ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴿17﴾ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴿18﴾ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ﴿19﴾ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴿20﴾ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴿21﴾ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴿22﴾ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ﴿23﴾ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ﴿24﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿25﴾

بيان:

لما ذكر سبحانه إعراضهم عن آية القرآن المعجزة واقتراحهم آية أخرى وهي الإتيان بالملائكة وأجاب عنه أنه ممتنع وملازم لفنائهم عدل إلى عد عدة من آيات السماء والأرض الدالة على التوحيد ليعتبروا بها إن كانوا يعقلون وتتم الحجة بها على المجرمين، وقد ضمن سبحانه فيها طرفا عاليا من المعارف الحقيقية والأسرار الإلهية.

قوله تعالى: ﴿ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين﴾ إلى آخر الآيات الثلاث البروج جمع برج وهو القصر سميت بها منازل الشمس والقمر من السماء بحسب الحس تشبيها لها بالقصور التي ينزلها الملوك.

والضمير في قوله: ﴿وزيناها﴾ للسماء كما في قوله: ﴿وحفظناها﴾ وتزيينها للناظرين هو ما نشاهده في جوها من البهجة والجمال الذي يوله الألباب بنجومها الزاهرة وكواكبها اللامعة على اختلاف أقدارها وتنوع لمعاتها وقد كرر سبحانه ذكر هذا التزيين الكاشف عن مزيد عنايته به كقوله: ﴿وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا﴾ حم السجدة: 12، وقوله: ﴿إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد، لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب﴾ الصافات: 10.

واستراق السمع أخذ الخبر المسموع في خفية كمن يصغي خفية إلى حديث قوم يسرونه فيما بينهم، واستراق السمع من الشياطين هو محاولتهم أن يطلعوا على بعض ما يحدث به الملائكة فيما بينهم كما يدل عليه ما تقدم آنفا من آيات سورة الصافات.

والشهاب هو الشعلة الخارجة من النار ويطلق على ما يشاهد في الجو من أجرام مضيئة كان الواحد منها كوكب ينقض دفعه من جانب إلى آخر فيسير سيرا سريعا ثم لا يلبث دون أن ينطفىء.

فظاهر معنى الآيات ولقد جعلنا في السماء - وهي جهة العلو - بروجا وقصورا هي منازل الشمس والقمر وزيناها أي السماء للناظرين بزينة النجوم والكواكب وحفظناها أي السماء من كل شيطان رجيم أن ينفذ فيها فيطلع على ما تحتويه من الملكوت إلا من استرق السمع من الشياطين بالاقتراب منه ليسمع ما يحدث به الملائكة من أحاديث الغيب المتعلقة بمستقبل الحوادث وغيرها فإنه يتبعه شهاب مبين.

وسنتكلم إن شاء الله في الشهب ومعنى رمي الشياطين فيما سيأتي من تفسير سورة الصافات.

قوله تعالى: ﴿والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون﴾ مد الأرض بسطها طولا وعرضا وبذلك صلحت للزرع والسكنى ولو أغشيت حبالا شاهقة مضرسة لفقدت كمال حياة الحيوان عليها.

والرواسي صفة محذوفة الموصوف والتقدير وألقينا فيها جبالا رواسي وهو جمع راسية بمعنى الثابتة إشارة إلى ما وقع في غير هذا الموضع أنها تمنع الأرض من الميدان كما قال: ﴿وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم﴾ النحل: 15.

والموزون من الوزن وهو تقدير الأجسام من جهة ثقلها ثم عمم لكل تقدير لكل ما يمكن أن يتقدر بوجه كتقدير الطول بالشبر والذراع ونحو ذلك وتقدير الحجم وتقدير الحرارة والنور والقدرة وغيرها، وفي كلامه تعالى: ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة﴾ الأنبياء: 47، وهو توزين الأعمال ولا يتصف بثقل وخفة من نوع ما للأجسام الأرضية منهما.

وربما يكنى به عن كون الشيء بحيث لا يزيد ولا ينقص عما يقتضيه الطبع أو الحكمة كما يقال: كلامه موزون وقامته موزونة وأفعاله موزونة أي مستحسنة متناسبة الأجزاء لا تزيد ولا تنقص مما يقتضيه الطبع أو الحكمة.

وبالنظر إلى اختلاف اعتباراته المذكورة ذكر بعضهم أن المراد به إخراج كل ما يوزن من المعدنيات كالذهب والفضة وسائر الفلزات، وقال بعضهم: إنه إنبات النباتات على ما لكل نوع منها من النظام البديع الموزون، وقيل: إنه خلق كل أمر مقدر معلوم.

والذي يجب التنبه له التعبير بقوله: ﴿من كل شيء موزون﴾ دون أن يقال: من كل نبات موزون فهو يشمل غير النبات مما يظهر وينمو في الأرض كما أنه يشمل النبات لمكان قوله: ﴿وأنبتنا﴾ دون أن يقال: أخرجنا أو خلقنا وقد جيء بمن وظاهرها التبعيض فالمراد - والله أعلم - إنبات كل أمر موزون ذي ثقل مادي يمكن أن يزيد وينقص من الأجسام النباتية والأرضية، ولا مانع على هذا من أخذ الموزون بكل من معنييه الحقيقي والكنائي.

والمعنى: والأرض بسطناها وطرحنا فيها جبالا ثابتة لتسكنها من الميد وأنبتنا فيها من كل شيء موزون - ثقيل واقع تحت الجاذبة أو متناسب - مقدارا تقتضيه الحكمة.

قوله تعالى: ﴿وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين﴾ المعايش جمع معيشة وهي ما به يعيش الحيوان ويديم حياته من المأكول والمشروب وغيرهما ويأتي مصدرا كالعيش والمعاش.

وقوله: ﴿ومن لستم له برازقين﴾ معطوف على الضمير المجرور في ﴿لكم﴾ على ما ذهب إليه من النحاة الكوفيون ويونس والأخفش من جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وأما على قول غيرهم فربما يعطف على معايش والتقدير وجعلنا لكم من لستم له برازقين كالعبيد والحيوان الأهلي، وربما جعل ﴿من﴾ مبتدأ محذوف الخبر والتقدير: ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهذا كله تكلف ظاهر.

وكيف كان، المراد بمن العبيد والدواب - على ما قيل - أتي بلفظة من وهي لأولي العقل تغليبا هذا، وليس من البعيد أن يكون المراد به كل ما عدا الإنسان من الحيوان والنبات وغيرهما فإنها تسأل الرزق كما يسأله العقلاء ومن دأبه سبحانه في كلامه أن يطلق الألفاظ المختصة بالعقلاء على غيرهم إذا أضيف إليها شيء من الآثار المختصة بهم كقوله تعالى في الأصنام: ﴿فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾ الأنبياء: 63، وقوله: ﴿فإنهم عدو لي﴾ الشعراء: 77، إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة لحال الأصنام التي كانوا يعبدونها ولا يستقيم للمعبود إلا أن يكون عاقلا، وكذا قوله: ﴿فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين﴾ حم السجدة: 11، وغير ذلك.

والمعنى: وجعلنا لكم معشر البشر في الأرض أشياء تعيشون بها مما تدام به الحياة ولغيركم من أرباب الحياة مثل ذلك.

قوله تعالى: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الخزائن جمع خزانة وهي مكان خزن المال وحفظه وادخاره، والقدر بفتحتين أو فتح فسكون مبلغ الشيء وكميته المتعينة.

ولما كانت الآية واقعة في سياق الكلام في الرزق الذي يعيش به الإنسان والحيوان كان المراد بالشيء الموصوف في الآية النبات وما يتبعه من الحبوب والثمرات فالمراد بخزانته التي عند الله وهو ينزل بقدر معلوم المطر النازل من السماء الذي ينبت به النبات فيأتي بالحبوب والأثمار ويعيش بذلك الإنسان والحيوان هذا ملخص ما ذكره جمع من المفسرين.

ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف فتخصيص ما في قوله: ﴿وإن من شيء﴾ من العموم وحصره في النبات من تخصيص الأكثر من غير شك والمورد لا يخصص وأردى منه تسمية المطر خزائن النبات وليس إلا سببا من أسبابه وجزء من أجزاء كثيرة يتكون النبات بتركبها الخاص، على أن المطر إنما تتكون حينما ينزل فكيف يسمى خزانة وليس بموجود ولا أن الذي هو خزانته موجود فيه.

وذكر بعض المفسرين أن المراد بكون خزائن كل شيء عند الله سبحانه شمول قدرته المطلقة له.

فله تعالى من كل نوع من أنواع الأشياء كالإنسان والفرس والنخلة وغير ذلك من الأعيان وصفاتها وآثارها وأفعالها مقدورات في التقدير غير متناهية عددا لا يخرج منها دائما من التقدير والفرض إلى التحقق والفعلية إلا قدر معلوم وعدد معين محدود.

وعلى هذا فالمراد من كل شيء نوعه لا شخصه كالإنسان مثلا لا كزيد وعمرو، والمراد من القدر المعلوم الكمية المعينة من الأفراد والمراد من وجود خزائنه ووجوده في خزائنه وجوده بحسب التقدير لا بحسب التحقق فيرجع إلى نوع من التشبيه والمجاز.

وأنت خبير بأن فيه تخصيصا للشيء من غير مخصص، وفيه قصر للقدر في العدد من غير دليل، والقدر في اللغة قريب المعنى من الحد وهو المفهوم من سياق قوله تعالى: ﴿قد جعل الله لكل شيء قدرا﴾ الطلاق: 3، وقوله: ﴿وكل شيء عنده بمقدار﴾ الرعد: 8، وقوله: ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾ القمر: 49، وقوله: ﴿وخلق كل شيء فقدره تقديرا﴾ الفرقان: 2 إلى غير ذلك.

وفيه إرجاع الكلام إلى معنى مجازي استعاري من غير موجب مع ما فيه من ورود الخزائن بصيغة الجمع من غير نكتة ظاهرة.

وذكر بعض معاصري المفسرين وجها آخر وهو أن المراد بالخزائن العناصر المختلفة التي تتألف منها الأرزاق وغيرها وقد أعد الله منها في عالمنا المشهود كمية عظيمة لا تنفد بعروض التركيب والأسباب الكلية التي تعمل في تركب المركبات كالضوء والحرارة والرياح الدائمة المنظمة وغيرها التي تتكون منها الأشياء مما يحتاج إليه الإنسان في إدامة حياته وغيره.

فكل من هذه الأشياء مدخرة بأجزائها والقوى الفعالة فيها في تلك الخزائن غير القابلة للنفاد من جهة عظمة مقداره ومن جهة ما يعود إليه من الأجزاء الجديدة بانحلال تركيب المركبات بموت أو فساد ورجوعها إلى عناصرها الأولية كالنبات يفسد والحيوان يموت فيعود عناصرها بانحلال التركيب إلى مقارها ويتسع بذلك المكان لكينونة نبات وحيوان آخر يخلفان سلفهما.

فالضوء وخاصة ضوء الشمس الذي يعمل الليل والنهار والفصول الأربعة ويربي النبات والحيوان وسائر المركبات ويسوقها إلى غاياتها ومقاصدها من خزائن الله تعالى والرياح التي تلقح النبات وتسوق السحب وتنقل الأهوية من مكان إلى مكان وتدفع فاسد الهواء وتجري السفن خزانة أخرى، والماء النازل من السماء الذي تحتاج إليه المركبات ذوات الحياة في كينونتها وبقائها خزانة أخرى، وكذلك العناصر البسيطة التي تتركب منها المركبات كل منها خزانة تنزل من مجموعها أو من عدة منها الأشياء المركبة، ولا ينزل قط إلا عدد معلوم من كل نوع من غير أن تنفد به الخزائن.

وعلى هذا فمراد الآية بالشيء هو نوعه لا شخصه كما تقدم في الوجه الأول والمراد بخزائنه مجموع ما في الكون من أصوله وعناصره وأسبابه العامة المادية ومجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها والمراد بنزوله بقدر معلوم كينونة عدد محدود منه في كل حين من غير أن يستوفى عدد جميع ما في خزائنه.

وهذا وجه حسن في نفسه تؤيده الأبحاث العلمية عن كينونة هذه الحوادث وتصدقه آيات كثيرة متفرقة في الكتاب العزيز كقوله في الآية التالية: ﴿وأرسلنا الرياح لواقح وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه﴾ وقوله: ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾ الأنبياء: 30، وقوله: ﴿وسخر لكم الشمس والقمر دائبين﴾ إبراهيم: 33، وقوله: ﴿والسحاب المسخر بين السماء والأرض﴾ البقرة: 164 إلى غير ذلك من الآيات.

لكن الآية وهي من آيات القدر كما يعطيه سياقها تأبى الحمل عليه كما تأبى عنه أخواتها وكيف يحمل عليه قوله: ﴿وخلق كل شيء فقدره تقديرا﴾ الفرقان: 2، وقوله: ﴿الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾ الأعلى: 3، وقوله: ﴿وكل شيء عنده بمقدار﴾ الرعد: 8، وقوله: ﴿إلا امرأته قدرناها من الغابرين﴾ النمل: 57، وقوله: ﴿من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره﴾ عبس: 19، وقوله: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ إلى آخر السورة إلى غير ذلك من الآيات.

على أنه يرد عليه بعض ما أورد على الوجهين السابقين كتخصيص عموم ﴿شيء﴾ من غير مخصص وغير ذلك.

والذي يعطيه التدبر في الآية وما يناظرها من الآيات الكريمة أنها من غرر كلامه تعالى تبين ما هو أدق مسلكا وأبعد غورا مما فسروها به وهو ظهور الأشياء بالقدر والأصل الذي لها قبل إحاطته بها واشتماله عليها.

وذلك أن ظاهر قوله: ﴿وإن من شيء﴾ على ما به من العموم بسبب وقوعه في سياق النفي مع تأكيده بمن، كل ما يصدق عليه أنه شيء من دون أن يخرج منه إلا ما يخرجه نفس السياق وهو ما تدل عليه لفظة ﴿نا﴾ و﴿عند﴾ و﴿خزائن﴾ وما عدا ذلك مما يرى ولا يرى مشمول للعام.

فشخص زيد مثلا وهو فرد إنساني من الشيء ونوع من الإنسان أيضا الموجود في الخارج بأفراده من الشيء والآية تثبت لذلك خزائن عند الله سبحانه فلننظر ما معنى كون زيد مثلا له خزائن عند الله؟.

والذي يسهل الأمر فيه أنه تعالى يعد هذا الشيء المذكور نازلا من عنده والنزول يستدعي علوا وسفلا ورفعة وخفضة وسماء وأرضا مثلا ولم ينزل زيد المخلوق مثلا من مكان عال إلى آخر سافل بشهادة العيان فليس المراد بإنزاله إلا خلقه لكنه ذو صفة يصدق عليه النزول بسببها، ونظير الآية قوله تعالى: ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج﴾ الزمر: 6، وقوله: ﴿وأنزلنا الحديد﴾ الحديد: 25.

ثم قوله: ﴿وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ يقرن النزول وهو الخلقة بالقدر قرنا لازما غير جائز الانفكاك لمكان الحصر، والباء إما للسببية أو الآلة أو المصاحبة والمآل واحد فكينونة زيد وظهوره بالوجود إنما هو بماله من القدر المعلوم فوجوده محدود لا محالة، كيف؟ وهو تعالى يقول: ﴿إنه بكل شيء محيط﴾ حم السجدة: 54، ولو لم يكن محدودا لم يكن محاطا له تعالى فمن المحال أن يحاط بما لا حد له ولا نهاية.

وهذا القدر هو الذي بسببه يتعين الشيء ويتميز من غيره ففي زيد مثلا شيء به يتميز من عمرو وغيره من أفراد الإنسان ويتميز من الفرس والبقر والأرض والسماء ويجوز لنا به أن نقول ليس هو بعمرو ولا بالفرس والبقر والأرض والسماء ولو لا هذا الحد لكان هو هي وارتفع التميز.

وكذلك ما عنده من القوى والآثار والأعمال محدودة مقدرة فليس إبصاره مثلا إبصارا مطلقا في كل حال وفي كل زمان وفي كل مكان ولكل شيء وبكل عضو مثلا بل إبصار في حال وزمان ومكان خاص ولشيء خاص وبعضو خاص وعلى شرائط خاصة، ولو كان إبصارا مطلقا لأحاط بكل إبصار خاص وكان الجميع له ونظيره الكلام في سائر ما يعود إليه من خصائص وجوده وتوابعه فافهم ذلك.

ومن هنا يظهر أن القدر خصوصية وجود الشيء وكيفية خلقته كما يستفاد أيضا من قوله تعالى: ﴿الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾ الأعلى: 3، وقوله: ﴿الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ طه: 50 فإن الآية الأولى رتبت الهداية وهي الدلالة على مقاصد الوجود على خلق الشيء وتسويته وتقديره، والآية الثانية رتبتها على إعطائه ما يختص به من الخلق، ولازم ذلك - على ما يعطيه سياق الآيتين - كون قدر الشيء خصوصية خلقه غير الخارجة عنه.

ثم إنه تعالى وصف قدر كل شيء بأنه معلوم إذ قال: ﴿وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ ويفيد بحسب سياق الكلام أن هذا القدر معلوم له حينما يتنزل الشيء ولما يتم نزوله ويظهر وجوده فهو معلوم القدر معينة قبل إيجاده، وإليه يئول معنى قوله: ﴿وكل شيء عنده بمقدار﴾ الرعد: 8، فإن ظاهر الآية أن كل شيء بما له من المقدار حاضر عنده معلوم له فقوله هناك: ﴿عنده بمقدار﴾ في معنا قوله هاهنا ﴿بقدر معلوم﴾ ونظير ذلك قوله في موضع آخر: ﴿قد جعل الله لكل شيء قدرا﴾ الطلاق: 3، أي قدرا لا يتجاوزه معينا غير مبهم معلوما غير مجهول وبالجملة للقدر تقدم على الشيء بحسب العلم والمشية وإن كان مقارنا له غير منفك عنه في وجوده.

ثم إنه تعالى أثبت بقوله: ﴿عندنا خزائنه وما ننزله﴾ إلخ، للشيء عنده قبل نزوله إلى هذه النشأة واستقراره فيها خزائن، وجعل القدر متأخرا عنها ملازما لنزوله فالشيء وهو في هذه الخزائن غير مقدر بقدر ولا محدود بحد وهو مع ذلك هو.

وقد جمع في تعريف هذه الخزائن بين كونها فوق القدر الذي يلحق الشيء وبين كونها خزائن فوق الواحدة والاثنتين، ومن المعلوم أن العدد لا يلحق إلا الشيء المحدود وأن هذه الخزائن لو لم تكن محدودة متميزة بعضها من بعض كانت واحدة البتة.

ومن هنا يتبين أن هذه الخزائن بعضها فوق بعض وكل ما هو عال منها غير محدود بحد ما هو دان غير مقدر بقدره ومجموعها غير محدود بالحد الذي يلحق الشيء وهو في هذه النشأة، ولا يبعد أن يكون التعبير بالتنزيل الدال على نوع من التدريج في قوله: ﴿وما ننزله﴾ إشارة إلى كونه يطوي في نزوله مرحلة بعد مرحلة وكلما ورد مرحلة طرأه من القدر أمر جديد لم يكن قبل حتى إذا وقع في الأخيرة أحاط به القدر من كل جانب قال تعالى: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا﴾ الدهر: 1، فقد كان الإنسان ولكنه لم يكن شيئا مذكورا.

وهذه الخزائن جميعا فوق عالمنا المشهود لأنه تعالى وصفها بأنها عنده وقد أخبرنا بقوله: ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق﴾ أن ما عنده ثابت لا يزول ولا يتغير عما هو عليه فهذه الخزائن كائنة ما كانت أمور ثابتة غير زائلة ولا متغيرة، والأشياء في هذه النشأة المادية المحسوسة متغيرة فانية لا ثابتة ولا باقية فهذه الخزائن الإلهية فوق عالمنا المشهود.

هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة وهو وإن كان لا يخلو من دقة وغموض يعضل على بادىء الفهم لكنك لو أمعنت في التدبر وبذلت في ذلك بعض جهدك استنار لك ووجدته من واضحات كلامه إن شاء الله تعالى وعلى من لم يتيسر له قبوله أن يعتمد الوجه الثالث المتقدم فهو أحسن الوجوه الثلاثة المتقدمة والله ولي الهداية وسنرجع إلى بحث القدر في كلام مستقل يختص به إن شاء الله في موضع يناسبه.

قوله تعالى: ﴿وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين﴾ اللواقح جمع لاقحة من اللقح بالفتح فالسكون يقال لقح النخل لقحا أي وضع اللقاح - بفتح اللام - وهو طلع الذكور من النخل على الإناث لتحمل بالتمر، وقد ثبت بالأبحاث الحديثة في علم النبات أن حكم الزوجية جار في عامة النبات وأن فيه ذكورية وأنوثية وأن الرياح في مهبها تحمل الذرات من نطفة الذكور فتلقح بها الإناث، وهو قوله تعالى: ﴿وأرسلنا الرياح لواقح﴾.

وقوله: ﴿فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه﴾ إشارة إلى المطر النازل من السحاب وقد تسلم الأبحاث العلمية الحديثة أن الماء الموجود في الكرة الأرضية من الأمطار النازلة عليها من السماء على خلاف ما كانت تعتقده القدماء أنه كرة ناقصة محيطة بكرة الأرض إحاطة ناقصة وهو عنصر من العناصر الأربعة.

وهذه الآية التي تثبت بشطرها الأول: ﴿وأرسلنا الرياح لواقح﴾ مسألة الزوجية واللقاح في النبات، وبشطرها الثاني: ﴿فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه﴾ أن المياه الموجودة المدخرة في الأرض تنتهي إلى الأمطار، وقوله تعالى السابق: ﴿وأنبتنا فيها من كل شيء موزون﴾ الظاهر في أن للوزن دخلا خاصا في الإنبات والإنماء من نقود العلم التي سبق إليها القرآن الكريم الأبحاث العلمية وهي تتلو المعجزة أو هي هي.

قوله تعالى: ﴿وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون﴾ الكلام مسوق للحصر يريد بيان رجوع كل التدبير إليه، وقد كان ما عده من النعم كالسماء ببروجها والأرض برواسيها، وإنبات كل شيء موزون وجعل المعايش وإرسال اللواقح وإنزال الماء من السماء إنما يتم نظاما مبنيا على الحكمة والعلم إذا انضم إليه الحياة والموت والحشر، وكان مما ربما يظن أن بعض الحياة والموت ليس إليه تعالى ولذا أكد الكلام وأتى بالحصر دفعا لذلك.

ثم جاء بقوله: ﴿ونحن الوارثون﴾ أي الباقون بعد إماتتكم المتصرفون فيما خولناكموه من أمتعة الحياة كأنه تعالى يقول إلينا تدبير أمركم ونحن محيطون بكم نحييكم بعد ما لم تكونوا فنحن قبلكم، ونميتكم ونرثكم فنحن بعدكم.

قوله تعالى: ﴿ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين﴾ لما كانت الآيات السابقة التي تعد النعم الإلهية وتصف التدبير مسوقة لبيان وحدانيته تعالى في ربوبيته، وكان لا ينفع الخلق والنظم من غير انضمام علمه تعالى وخاصة بمن يحييه ويميته عقبها بهذه الآية الدالة على علمه بمن استقدم منهم بالوجود ومن استأخر أي المتقدمين من الناس والمتأخرين على ما يفيده السياق.

وقيل: المراد بالمستقدمين المستقدمون في الخير، وقيل: المستقدمون في صفوف الحرب، وقيل: المستقدمون إلى الصف الأول في صلاة الجماعة والمستأخرون خلافهم، وهي أقوال ردية.

قوله تعالى: ﴿وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم﴾ الكلام مسوق للحصر أي هو يحشرهم لا غير فهو الرب.

وأورد عليه أنه في مثل ذلك من الحصر يكون الفعل مسلم الثبوت والنزاع إنما هو في الفاعل، وهاهنا ليس كذلك فإن الخصم لا يسلم الحشر من أصله هذا.

وقد ذهب على هذا المعترض أن الآية حولت الخطاب السابق للناس عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التفاتا فقيل: ﴿وإن ربك هو يحشرهم﴾ ولم يقل إن ربكم هو يحشركم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مسلم للحشر.

وبذلك يظهر نكتة الالتفات في الآية في مورده تعالى من التكلم مع الغير إلى الغيبة، وفي مورد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغيبة إلى الخطاب وفي مورد الناس بالعكس.

وقد ختمت الآية بقوله: ﴿إنه حكيم عليم﴾ لأن الحشر يتوقف على الحكمة المقتضية لحساب الأعمال ومجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وعلى العلم حتى لا يغادر منهم أحد.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ولقد جعلنا في السماء بروجا﴾ قال: قال: منازل الشمس والقمر.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين﴾ قال: قال: لم يزل الشياطين تصعد إلى السماء وتجس حتى ولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي المعاني، عن البرقي عن أبيه عن جده عن البزنطي عن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان إبليس يخترق السماوات السبع فلما ولد عيسى (عليه السلام) حجب عن ثلاث سماوات وكان يخترق أربع سماوات فلما ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجب عن السبع كلها ورميت الشياطين بالنجوم.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال جرير بن عبد الله: حدثني يا رسول الله عن السماء الدنيا والأرض السفلى، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان ثم رفعها وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وزينها بمصابيح النجوم وجعلها رجوما للشياطين وحفظها من كل شيطان رجيم.

أقول: وسيأتي إن شاء الله ما يتبين به معنى هذه الأحاديث.

وفي تفسير القمي، في قوله: ﴿وجعلنا لكم فيها معايش﴾ قال: لكل ضرب من الحيوان قدرنا شيئا مقدرا.

وفيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿وأنبتنا فيها من كل شيء موزون﴾ فإن الله أنبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والحديد والرصاص والكحل والزرنيخ وأشباه ذلك لا تباع إلا وزنا.

أقول: ينبغي أن يحمل على بيان بعض المصاديق على ما في متنه وسنده من الوهن.

وفي روضة الواعظين، لابن الفارسي روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليهم السلام) أنه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر. قال: وهذا تأويل قوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾.

وفي المعاني، بإسناده عن مقاتل بن سليمان قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): لما صعد موسى (عليه السلام) الطور فنادى ربه عز وجل قال: رب أرني خزائنك. قال: يا موسى إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له: كن فيكون.

وفي الدر المنثور، أخرج البزار وابن مردويه في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئا قال له: كن فكان.

أقول: والروايات الثلاث الأخيرة تؤيد ما قدمناه في تقرير معنى الآية، والمراد بقول كن كلمة الإيجاد الذي هو وجود الأشياء.

وهو مما يؤيد عموم الشيء في الآية، وكذا كان يفهمه الصحابة وأهل عصر النزول كما يؤيده ما رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن معاوية أنه قال: أ لستم تعلمون أن كتاب الله حق؟ قالوا: بلى. قال: فاقرءوا هذه الآية ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه - وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ أ لستم تؤمنون بهذا وتعلمون أنه حق؟ قالوا: بلى. قال: فكيف تلومونني بعد هذا؟ فقام الأحنف وقال: يا معاوية والله ما نلومك على ما في خزائن الله ولكن إنما نلومك على ما أنزله الله من خزائنه فجعلته أنت في خزائنك وأغلقت عليه بابك فسكت معاوية.

وفيه، أخرج ابن مردويه والحاكم عن مروان بن الحكم قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله ولقد علمنا المستقدمين منكم الآية.

أقول: وروي فيه، أيضا عن عدة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله: ﴿ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين﴾.

والآية لا تنطبق على ما في هاتين الروايتين لا من جهة اللفظ ولا من جهة السياق الذي وقعت هي فيه.

وهو ظاهر.

وفيه، أخرج ابن أبي حاتم من طريق معتمر بن سليمان عن شعيب بن عبد الملك عن مقاتل بن سليمان: في قوله: ﴿ولقد علمنا المستقدمين منكم﴾ الآية قال: بلغنا أنه في القتال.

قال معتمر فحدثت أبي فقال: لقد نزلت هذه الآية قبل أن يفرض القتال.

أقول: يعني أنها مكية.

وفي تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ﴿ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين﴾ قال: هم المؤمنون من هذه الأمة.

وفي تفسير البرهان، عن الشيباني في نهج البيان، عن الصادق جعفر بن محمد: أن المستقدمين أصحاب الحسنات، والمستأخرين أصحاب السيئات.