الآيات 1-9

الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ﴿1﴾ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴿2﴾ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿3﴾ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴿4﴾ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴿5﴾ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴿6﴾ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿7﴾ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ﴿8﴾ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿9﴾

بيان:

تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفار بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورميه بالجنون ورمي القرآن الكريم بأنه من إهذار المجانين ففيها تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره بالصبر والثبات والصفح عنهم وتطييب لنفسه الشريفة وإنذار وتبشير.

وهي مكية على ما تشهد به آياتها، ونقل في المجمع عن الحسن استثناء قوله: ﴿ولقد آتيناك سبعا من المثاني﴾ الآية، وقوله ﴿كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين﴾ وسيأتي ما فيه.

وتشتمل السورة على قوله تعالى: ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين﴾ إلخ، والآية تقبل الانطباق على ما ضبطه التاريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اكتتم في أول البعثة ثلاث سنين أو أربعا أو خمسا لا يعلن دعوته لاشتداد الأمر عليه فكان لا يدعو إلا آحادا ممن يرجو منهم الإيمان يدعوهم خفية ويسر إليهم الدعوة حتى أذن له ربه في ذلك وأمره أن يعلن دعوته.

وتؤيده الروايات المأثورة من طرق الشيعة وأهل السنة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكتتم في أول بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى أنزل الله تعالى عليه: ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزءين﴾ فخرج إلى الناس وأظهر الدعوة، وعليه فالسورة مكية نازلة في أول الدعوة العلنية.

ومن غرر الآيات القرآنية المشتملة على حقائق جمة في السورة قوله تعالى: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾ الآية، وقوله: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾.

قوله تعالى: ﴿الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين﴾ الإشارة إلى الآيات الكريمة القرآنية فالمراد بالكتاب القرآن، وتنكير القرآن للدلالة على عظم شأنه وفخامة أمره كما أن التعبير بتلك وهي للإشارة إلى البعيد لذلك.

والمعنى هذه الآيات العالية منزلة الرفيعة درجة التي ننزلها إليك آيات الكتاب الإلهي وآيات قرآن عظيم الشأن فاصل بين الحق.

والباطل على خلاف ما يرميها به الكفار بما يرمونك بالجنة مستهزءين بكلام الله.

ومن الممكن أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ فإن القرآن منه وفيه قال تعالى: ﴿إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون﴾ الواقعة: 78، وقال: ﴿بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ﴿: البروج: 22 فيكون قوله: ﴿تلك آيات الكتاب وقرآن مبين﴾ كالملخص من قوله: ﴿والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾ الزخرف: 4.

قوله تعالى: ﴿ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين توطئة لما سيتعرض له من قولهم للنبي﴾ ﴿يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون﴾ يشير به إلى أنهم سيندمون على ما هم عليه من الكفر ويتمنون الإسلام لله والإيمان بكتابه يوم لا سبيل لهم إلى تحصيل ذلك.

فقوله: ﴿ربما يود﴾ المراد به ودادة التمني لا مطلق الودادة والحب، والدليل على ذلك قوله في بيان هذه المودة: ﴿لو كانوا مسلمين﴾ فإن لفظي ﴿لو﴾ و﴿كانوا﴾ تدلان على أن ودادتهم ودادة تمن وأنهم يتمنون الإسلام بالنسبة إلى ماضي حالهم مما فاتهم ولن يعود إليهم فليس إلا الإسلام ما داموا في الدنيا.

فالآية تدل على أن الذين كفروا سيندمون على كفرهم ويتمنون أن لو كانوا مسلمين بعد انطواء بساط الحياة الدنيا.

قوله تعالى: ﴿ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون﴾ الإلهاء الصرف والإشغال يقال: ألهاه كذا عن كذا أي شغله عنه وأنساه ذكره.

وقوله: ﴿ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل﴾ أمر برفع اليد عنهم وتركهم وما هم فيه من الباطل، وهو كناية عن النهي عن الجدال معهم والاحتجاج عليهم لإثبات هذه الحقيقة وهي أنهم سوف يودون الإسلام ويتمنونه ولا سبيل لهم إلى تحصيله وتدارك ما فات منه، وقوله: ﴿فسوف يعلمون﴾ في موضع التعليل للأمر أي ذرهم ولا تجادلهم ولا تحاجهم فلا حاجة إلى ذلك لأنهم سوف يعلمون ذلك فإن الحق ظاهر لا محالة.

وفي الآية تعريض لهم أنهم لا غاية لهم في حياتهم إلا الأكل والتمتع بلذات المادة والتلهي بالآمال والأماني فلا منطق لهم إلا منطق الأنعام والحيوان العجم فمن الحري أن يتركوا وما هم فيه، ولا يلقى إليهم الحجج الحقة المبنية على أساس العقل السليم والمنطق الإنساني.

قوله تعالى: ﴿وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم﴾ إلى آخر الآيتين تثبيت وتوكيد لقوله في الآية السابقة: ﴿فسوف يعلمون﴾ على ما يعطيه السياق والمعنى دعهم فإنهم لا يسلمون في هذه الحياة الدنيا وإنما يودون الإسلام بعد حلول أجلهم ونزول الهلاك بهم، والناس ليسوا بذوي خيرة في ذلك بل لكل أمة كتاب معلوم عند الله مكتوب فيه أجلهم لا يقدرون أن يستقدموه ولا يستأخروه ساعة.

وفي الآيتين دلالة على أن الأمة من الإنسان لها كتاب كما أن للفرد منه كتابا، قال تعالى: ﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا﴾ الإسراء: 13.

قوله تعالى: ﴿وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون﴾ كلام خارج مخرج الاستهزاء ولذلك خاطبوه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا باسمه بل بوصف نزول الذكر عليه كما كان يدعيه، وجاءوا بالفعل المجهول للدلالة على أن منزله غير معلوم عندهم ولا اعتماد ولا وثوق لهم بما يدعيه هو أن الله تعالى هو الذي أنزله، وتوصيفه بالذي نزل عليه الذكر وكذا تسمية النازل عليه ذكرا كل ذلك من الاستهزاء كما أن قولهم: ﴿إنك لمجنون﴾ رمي وتكذيب.

قوله تعالى: ﴿لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين﴾ لو ما مثل هلا للتحضيض أي هلا تأتينا بالملائكة إن كنت صادقا في دعوى النبوة ليشهدوا على صدق دعواك وينذر معك، فهو قريب المعنى من قولهم على ما حكاه الله: ﴿لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا﴾ الفرقان: 7.

ووجه اقتراحهم على الأنبياء أن يأتوا بالملائكة ويظهروهم لهم اعتقادهم أن البشرية كينونة مادية مغمورة في قذارة الشهوة والغضب لا نسبة بينها وبين العالم السماوي الذي هو محض النورانية والطهارة فمن ادعى نوعا من الاتصال بذاك العالم الروحاني فعليه أن يأتي ببعض أهله من الملائكة الكرام ليصدقوه في دعواه ويعينوه في دعوته.

على أن الملائكة عند الوثنيين آلهة دون الله سبحانه فدعوتهم إلى التوحيد معناها أن هؤلاء الآلهة في معزل من الشفاعة والعبادة بأمر من الله سبحانه وهو إله الآلهة ولا دليل على ذلك كاعترافهم به فلينزلوا وليعترفوا ويصدقوا النبوة.

قوله تعالى: ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين﴾ جواب عما اقترحوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم بالملائكة حتى يصدقوه، ومحصل الجواب أن السنة الإلهية جارية على ستر ملائكته عنهم تحت أستار الغيب فلو أنزلهم وأظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماوية خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم، ومن شأن الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس أن يعقبها عذاب الاستئصال والهلاك القطعي إن لم يؤمنوا بها، وهؤلاء الكفار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.

وبالجملة لو أنزل الله الملائكة والحال هذا الحال - هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحق وتميط الباطل لأنزلهم بالحق الفاصل المميز وما كانوا إذا منظرين بل يهلكون ويقطع دابرهم، هذا محصل ما ذكره بعضهم.

وقيل: المراد بالحق في الآية الموت والمعنى ما نزل الملائكة على الناس إلا مصاحبا للحق الذي هو الموت وما كانوا إذا منظرين، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى: ﴿يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين﴾ الآية.

وقيل: المراد بالحق الرسالة أي ما نزل الملائكة إلا بالوحي والرسالة وكأنه مأخوذ من نحو قوله: ﴿قد جاءكم الرسول بالحق﴾ النساء: 170، ﴿وقوله فقد كذبوا بالحق لما جاءهم﴾ الأنعام: 5.

فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية ودونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير وهي جميعا لا تخلو من شيء وهو أن شيئا منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله: ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق﴾ فنزول الملائكة لا يختص بعذاب الاستئصال فقط ولا بالموت فقط، ولا بالوحي والرسالة فقط، وتوجيه الآية بما يختص بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحق يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها إطلاق الآية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقررة آنفا.

ويمكن أن يقرر معنى الآية باستمداد من التدبر في آيات أخر أن ظرف الحياة المادية أعني هذه النشأة الدنيوية ظرف يختلط فيه الحق والباطل من غير أن يتمحض الحق في الظهور بجميع خواصه وآثاره كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿كذلك يضرب الله الحق والباطل﴾ الرعد: 17، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شيء من الحق إلا وهو يحتمل شيئا من اللبس والشك كما يصدقه استقراء الموارد التي صادفناها مدى أعمارنا، ومن الشاهد عليه قوله تعالى: ﴿ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾ الأنعام: 9، والظرف ظرف الامتحان والاختيار ولا اختيار إلا مع إمكان التباس الحق بالباطل واختلاط الخير والشر بنحو حتى يقف الإنسان على ملتقى الطريقين ومنشعب النجدين فيستدل على الخير والشر بآثارهما وأماراتهما ثم يختار ما يستحقه من السعادة والشقاوة.

وأما عالم الملائكة وظرف وجودهم فإنما هو عالم الحق غير مشوب بشيء من الباطل كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ التحريم: 6، وقوله: ﴿بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ الأنبياء: 27.

فمقتضى الآيات وما في معناها أنهم في أنفسهم مخلوقات شريفة ووجودات طاهرة نورانية منزهة عن النقص والشين لا تحتمل الشر والشقاء وليس عندها إمكان الفساد والمعصية والتقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادي المبني على أساس الإمكان والاختيار وجواز الصلاح والفساد والطاعة والمعصية والسعادة والشقاء جميعا، وسيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله.

وسيأتي أيضا أن الإنسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحق ما دام متوغلا في هذا العالم المادي متورطا في ورطات الشهوات والأهواء كأهل الكفر والفسوق إلا ببطلان عالمهم وخروجهم إلى العالم الحق وظهوره عليهم وانكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ ق: 22، وهذا هو العالم الذي يسمى بالنسبة إلى الإنسان آخرة.

فتبين أن ظهور عالم الملائكة للناس المتوغلين في عالم المادة متوقف على تبدل الظرف والانتقال من الدنيا إلى الآخرة وهو الموت اللهم إلا في المصطفين من عباد الله وأوليائه المطهرين من أقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهلية مشاهدة الغيب وهم في عالم الشهادة كالأنبياء (عليهم السلام).

ولعل ما قدمناه هو المراد بقوله: ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين﴾ فإنهم إنما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصلية حتى يصدقوا وهذا الحال لا تتمهد لهم إلا بالموت كما قال تعالى: ﴿وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة - إلى أن قال - يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ الفرقان: 23.

وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: ﴿وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾ الأنعام: 9، يقول تعالى: لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدقة للنبوة كان لازمه القضاء عليهم وهلاكهم ولو قلدنا الملك النبوة والرسالة كان لازمه أن نصوره في صورة رجل من الإنسان، وأن نوقفه موقفا يحتمل اللبس فإن الرسالة إحدى وسائل الامتحان والابتلاء الإلهي ولا امتحان إلا بما يحتمل السعادة والشقاء والفوز والخيبة ويجوز معه النجاة والهلاك ولو توصل إلى الرسالة بما يضطر العقول إلى الإيمان ويلجىء النفوس إلى القبول واليقين لبطل ذلك كله.

قوله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ صدر الآية مسوق سوق الحصر، وظاهر السياق أن الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردهم القرآن بأنه من أهذار الجنون وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مجنون لا عبرة بما صنع ولا حجر ومن اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدقوه في دعوته وأن القرآن كتاب سماوي حق.

والمعنى - على هذا والله أعلم - أن هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتى يعجزوك ويبطلوه بعنادهم وشدة بطشهم وتتكلف لحفظه ثم لا تقدر، وليس نازلا من عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم وتصديقهم إياه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالا تدريجيا وإنا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.

فهو ذكر حي خالد مصون من أن يموت وينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكرا مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته وسياقه بحيث يتغير به صفة كونه ذكرا لله مبينا لحقائق معارفه.

فالآية تدل على كون كتاب الله محفوظا من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكرا لله سبحانه فهو ذكر حي خالد.

ونظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظا بحفظ الله مصونا من التحريف والتصرف بأي وجه كان من جهة كونه ذكرا له سبحانه قوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد﴾ حم السجدة: 42.

وقد ظهر بما تقدم أن اللام في الذكر للعهد الذكري وأن المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربما يورد على الآية أنها لو دلت على نفي التحريف من القرآن لأنه ذكر لدلت على نفيه من التوراة والإنجيل أيضا لأن كلا منهما ذكر مع أن كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.

وذلك أن الآية بقرينة السياق إنما تدل على حفظ الذكر الذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، ولا دلالة فيها على علية الذكر للحفظ الإلهي ودوران الحكم مداره.

وسنستوفي البحث عما يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.

بحث روائي:

في تفسير القمي، بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله: لا يدخل الجنة إلا مسلم فيومئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.

ثم قال: ﴿ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل﴾ أي ﴿شغلهم فسوف يعلمون﴿.

أقول: وروى العياشي، عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام): في تفسير الآية مثله.

وفي الدر المنثور، أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من النار.

ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿ربما يود الذين كفرا لو كانوا مسلمين﴾.

أقول: وهذا المعنى مروي بطرق أخرى عن أبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفيه، أخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في السنة عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين من دخل منهم جهنم لا تزرق أعينهم، ولا تسود وجوههم، ولا يقرنون بالشياطين ولا يغلون بالسلاسل، ولا يجرعون الحميم، ولا يلبسون القطران حرم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد، وصورهم على النار من أجل السجود.

فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه، ومنهم من تأخذه النار إلى عقبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى فخذيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم وأعمالهم، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى.

فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وأنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين الجنة والصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثم يدخلون الجنة مكتوب في جباههم: هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن فيمكثون في الجنة ما شاء الله أن يمكثوا.

ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكا فيمحوه ثم يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها يسمرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه، ويشتغل عنهم أهل الجنة بنعيمهم ولذاتهم، وذلك قوله: ﴿ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين﴾.

أقول: الطرثوث نبت وحميل السيل غثاؤه، وقد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.

وفيه، أخرج أحمد وابن مردويه عن أبي سعيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غرس عودا بين يديه وآخر إلى جنبه وآخر بعده. قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن هذا الإنسان وهذا أجله وهذا أمله فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك: أقول: وروي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي المجمع، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق - وما كانوا إذا منظرين﴾ قال: قال (عليه السلام): لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا وهلكوا.

كلام في أن القرآن مصون عن التحريف في فصول:

الفصل الأول:

من ضروريات التاريخ أن النبي العربي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء قبل أربعة عشر قرنا - تقريبا - وادعى النبوة وانتهض للدعوة وآمن به أمة من العرب وغيرهم، وأنه جاء بكتاب يسميه القرآن وينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف وكليات الشريعة التي كان يدعو إليها، وكان يتحدى به ويعده آية لنبوته، وأن القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى أنه لم يضع من أصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه وينسب إليه ويشتهر بين الناس بأنه القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فهذه أمور لا يرتاب في شيء منها إلا مصاب في فهمه ولا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين والمؤالفين.

وإنما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شيء يسير كالجملة أو الآية أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، وأما جل الكتاب الإلهي فهو على ما هو في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يضع ولم يفقد.

ثم إنا نجد القرآن يتحدى بأوصاف ترجع إلى عامة آياته ونجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفتين واجدا لما وصف به من أوصاف تحدى بها من غير أن يتغير في شيء منها أو يفوته ويفقد.

فنجده يتحدى بالبلاغة والفصاحة ونجد ما بأيدينا مشتملا على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله ولا يشابهه شيء من كلام البلغاء والفصحاء المحفوظ منهم والمروي عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك وهذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود والقلوب.

ونجده يتحدى بقوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ النساء: 82 بعدم وجود اختلاف فيه ونجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء وأوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلا ويرفعه آية أخرى، وما من خلاف أو مناقضة يتوهم بادىء الرأي من شطر إلا وهناك ما يدفعه ويفسره.

ونجده يتحدى بغير ذلك مما لا يختص فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا﴾ الإسراء: 88، وقوله: ﴿إنه لقول فصل وما هو بالهزل﴾ الطارق: 14، ثم نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحق الذي لا مرية فيه، ويهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من أصول المعارف الحقيقية وكليات الشرائع الفطرية وتفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة والخلل أو نحصل على شيء من التناقض والزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها وكثرتها حية بحياة واحدة مدبرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنية والأصل الذي إليه ينتهي الجميع ويرجع وهو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل وهو يعود إلى كل منها بالتركيب.

ونجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء وأممهم ونجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم ويفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين ويناسب نزاهة ساحة النبوة وخلوصها للعبودية والطاعة وكلما طبقنا قصة من القصص القرآنية على ما يماثلها مما ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.

ونجده يورد آيات في الملاحم ويخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح ثم نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدقة.

ونجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنه نور وأنه هاد يهدي إلى صراط مستقيم وإلى الملة التي هي أقوم ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من ذلك ولا يهمل من أمر الهداية والدلالة ولا دقيقة.

ومن أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنه ذكر لله فإنه يذكر به تعالى بما أنه آية دالة عليه حية خالدة وبما أنه يصفه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ويصف سنته في الصنع والإيجاد، ويصف ملائكته وكتبه ورسله، ويصف شرائعه وأحكامه، ويصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة وهو المعاد ورجوع الكل إليه سبحانه، وتفاصيل ما يئول إليه أمر الناس من السعادة والشقاء، والجنة والنار.

ففي جميع ذلك ذكر الله، وهو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنه ذكر ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من معنى الذكر.

ولكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شئون القرآن عبر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان والتغيير والتحريف كقوله تعالى: ﴿إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير، إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد﴾ حم السجدة: 42، فذكر تعالى أن القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل ولا يدخل فيه حالا ولا في مستقبل الزمان لا بإبطال ولا بنسخ ولا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريته عنه.

وكقوله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ الحجر: 9، فقد أطلق الذكر وأطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كل زيادة ونقيصة وتغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكرية ويبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه.

ومن سخيف القول إرجاع ضمير ﴿له﴾ إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه مدفوع بالسياق وإنما كان المشركون يستهزءون بالنبي لأجل القرآن الذي كان يدعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا: ﴿وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون﴾ وقد مر تفسير الآية.

فقد تبين مما فصلناه أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصفه بأنه ذكر محفوظ على ما أنزل مصون بصيانة إلهية عن الزيادة والنقيصة والتغيير كما وعد الله نبيه فيه.

وخلاصة الحجة أن القرآن أنزله الله على نبيه ووصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصة لو كان تغير في شيء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر فقد آثار تلك الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدا لآثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن وأحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا من صفاته فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه فلو فرض سقوط شيء منه أو تغير في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثر في شيء من أوصافه كالإعجاز وارتفاع الاختلاف والهداية والنورية والذكرية والهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك، وذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب ونحوها.

الفصل الثاني:

ويدل على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن وفي حل عقد المشكلات.

وكذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين: ﴿إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا﴾ الحديث فلا معنى للأمر بالتمسك بكتاب محرف ونفي الضلال أبدا ممن تمسك به.

وكذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، وما ذكره بعضهم أن ذلك في الأخبار الفقهية ومن الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام ولا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأن أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصص.

على أن لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أن الأمر بالعرض إنما هو لتمييز الصدق من الكذب والحق من الباطل ومن المعلوم أن الدس والوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدس والوضع في المعارف الاعتقادية وقصص الأنبياء والأمم الماضين وأوصاف المبدإ والمعاد أكثر وأوفر ويؤيد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليات وما يحذو حذوها مما أمر الجعل فيها أوضح وأبين.

وكذا الأخبار التي تتضمن تمسك أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بمختلف الآيات القرآنية في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات بالتحريف، وهذا أحسن شاهد على أن المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم (عليهم السلام) كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل.

وكذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين وسائر الأئمة من ذريته (عليهم السلام) في أن ما بأيدي الناس قرآن نازل من عند الله سبحانه وإن كان غير ما ألفه علي (عليه السلام) من المصحف ولم يشركوه (عليه السلام) في التأليف في زمن أبي بكر ولا في زمن عثمان ومن هذا الباب قولهم (عليهم السلام) لشيعتهم: (اقرءوا كما قرأ الناس).

ومقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألفه علي (عليه السلام) في شيء فإنما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات التي لا يؤثر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئا ولا في الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختل به آثارها.

فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدل دلالة قاطعة على أن الذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير أن يفقد شيئا من أوصافه الكريمة وآثارها وبركاتها.

الفصل الثالث:

ذهب جماعة من محدثي الشيعة والحشوية وجماعة من محدثي أهل السنة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص والتغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.

واحتجوا على نفي الزيادة بالإجماع وعلى وقوع النقص والتغيير بوجوه كثيرة.

أحدها: الأخبار الكثيرة المروية من طرق الشيعة وأهل السنة الدالة على سقوط بعض السور والآيات وكذا الجمل وأجزاء الجمل والكلمات والحروف في الجمع الأول الذي ألف فيه القرآن في زمن أبي بكر وكذا في الجمع الثاني الذي كان في زمن عثمان وكذا التغيير وهذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة وغيرها، وقد ادعى بعضهم أنها تبلغ ألفي حديث، وروتها أهل السنة في صحاحهم كصحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود والسنائي وأحمد وسائر الجوامع وكتب التفاسير وغيرها وقد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء.

وهذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود المصحف المعروف مما ينيف على ستين موضعا، وما يخالف فيه مصحف أبي بن كعب المصحف العثماني وهو في بضع وثلاثين موضعا، وما يختلف فيه المصاحف العثمانية التي اكتتبها وأرسلها إلى الآفاق وهي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكة وإلى الشام وإلى البصرة وإلى الكوفة وإلى اليمن وإلى البحرين وحبس واحدا بالمدينة والاختلاف الذي فيما بينها يبلغ خمسة وأربعين حرفا، وقيل: بضع وخمسين حرفا.

وغير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانية والجمع الأول في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأول في المثاني وسورة براءة في المئين وهما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجيء روايته.

وغير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود وأبي ابن كعب على ما وردت به الرواية وبين المصاحف العثمانية وغير الاختلافات القرائية الشاذة التي رويت عن الصحابة والتابعين فربما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.

الوجه الثاني: أن العقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقا متشتتا منتشرا عند الناس وتصدى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.

الوجه الثالث: ما روته العامة والخاصة: أن عليا (عليه السلام) اعتزل الناس بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يرتد إلا للصلاة حتى جمع القرآن ثم حمله إلى الناس وأعلمهم أنه القرآن الذي أنزله الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد جمعه فردوه واستغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفا لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحمله إليهم وإعلامهم ودعوتهم إليه وجه، وقد كان (عليه السلام) أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر وقال في الحديث المتفق عليه: علي مع الحق والحق مع علي.

الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة، بالقذة وقد حرفت بنو إسرائيل كتاب نبيهم على ما يصرح به القرآن الكريم والروايات المأثورة، فلا بد أن يقع نظيره في هذه الأمة فيحرفوا كتاب ربهم وهو القرآن الكريم.

ففي صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموه قلنا: يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟: والرواية مستفيضة مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة كأبي سعيد الخدري كما مر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر، وابن عباس وحذيفة وعبد الله بن مسعود وسهل بن سعد وعمر بن عوف وعمرو بن العاص وشداد بن أوس والمستورد بن شداد في ألفاظ متقاربة.

وهي مروية مستفيضة من طرق الشيعة عن عدة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في تفسير القمي، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): لتركبن سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا تخطىء شبر بشبر وذراع بذراع وباع بباع حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه قالوا: اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة وآخره الصلاة.

والجواب عن استدلالهم بإجماع الأمة على نفي تحريف القرآن بالزيادة بأنها حجة مدخولة لكونها دورية.

بيان ذلك: أن الإجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية بل هو عند القائلين باعتباره حجة شرعية لو أفاد شيئا من الاعتقاد فإنما يفيد الظن سواء في ذلك محصله ومنقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أن الإجماع المحصل مفيد للقطع وذلك أن الذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التي تفيدها آحاد الأقوال والواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلا الظن بإصابة الواقع، وانضمام القول الثاني الذي يوافقه إليه إنما يفيد قوة الظن دون القطع لأن القطع اعتقاد خاص بسيط مغاير للظن وليس بالمركب من عدة ظنون.

وهكذا كلما انضم قول إلى قول وتراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظن قوة وتراكمت الظنون واقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدم، هذا في المحصل من الإجماع وهو الذي نحصله بتتبع جميع الأقوال والحصول على كل قول قول، وأما المنقول منه الذي ينقله الواحد والاثنان من أهل العلم والبحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلا الظن إن أفاد شيئا من الاعتقاد.

فالإجماع حجة ظنية شرعية دليل اعتبارها عند أهل السنة مثلا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تجتمع أمتي على خطإ أو ضلال وعند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.

فحجية الإجماع بالجملة متوقفة على صحة النبوة وذلك ظاهر، وصحة النبوة اليوم متوقفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية وفصل القول وخاصة الإعجاز فإنه لا دليل حيا خالدا على خصوص نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، ومع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر لا وثوق بشيء من آياته ومحتوياته أنه كلام الله محضا وبذلك تسقط الحجة وتفسد الآية، ومع سقوط كتاب الله عن الحجية يسقط الإجماع عن الحجية.

ولا ينفع في المقام ما قدمناه في أول الكلام أن وجود القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريات التاريخ.

وذلك لأن مجرد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعي لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر في كل آية أو جملة أريد التمسك بها لإثبات مطلوب.

والجواب عن الوجه الأول الذي أقيم لوقوع التحريف بالنقص والتغيير وهو الذي تمسك فيه بالأخبار: أما أولا فبأن التمسك بالأخبار بما أنها حجة شرعية يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسك بالإجماع بنظير البيان الذي تقدم آنفا.

فلا يبقى للمستدل بها إلا أن يتمسك بها بما أنها أسناد ومصادر تاريخية وليس فيها حديث متواتر ولا محفوف بقرائن قطعية تضطر العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرقة متشتتة مختلفة منها صحاح ومنها ضعاف في أسنادها ومنها قاصرة في دلالتها فما أشذ منها ما هو صحيح في سنده تام في دلالته.

وهذا النوع على شذوذه وندرته غير مأمون فيه الوضع والدس فإن انسراب الإسرائيليات وما يلحق بها من الموضوعات والمدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره ولا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدس والوضع.

ومع الغض عن ذلك فهي تذكر من الآيات والسور ما لا يشبه النظم القرآني بوجه، ومع الغض عن جميع ذلك فإنها مخالفة للكتاب مردودة: أما ما ذكرنا أن أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها، والسالم منها من هذه العلل أقل قليل.

وأما ما ذكرنا أن منها ما هو قاصر في دلالتها فإن كثيرا مما وقع فيها من الآيات المحكية من قبيل التفسير وذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرفة وذلك كما في روضة الكافي، عن أبي الحسن الأول: في قول الله: ﴿أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم - فأعرض عنهم فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء وسبق لهم العذاب وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا﴾.

وما في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وإن تلووا أو تعرضوا﴾ قال: ﴿إن تلووا الأمر وتعرضوا عما أمرتم به فإن الله كان بما تعملون خبيرا﴾ إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.

ويلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات التي تذكر هذه الآية هكذا: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في علي﴾ والآية نازلة في حقه (عليه السلام)، وما روي: أن وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقفوا على باب الحجرة ونادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا: ﴿إن الذين ينادونك من وراء الحجرات بنو تميم أكثرهم لا يعقلون﴾ فظن أن في الآية سقطا.

ويلحق بهذا الباب أيضا ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن وانطباقه كما ورد في قوله: ﴿وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم﴾ وما ورد من قوله: ﴿ومن يطع الله ورسوله في ولاية علي والأئمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما﴾ وهي كثيرة جدا.

ويلحق بها أيضا ما أتبع فيه القراءة بشيء من الذكر والدعاء فتوهم أنه من سقط القرآن كما في الكافي، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد، قال: قلت: كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس وزاد فيه كذلك الله ربي كذلك الله ربي.

ومن قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالتي وردت في قوله تعالى: ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة﴾ ففي بعضها أن الآية هكذا: ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء﴾ وفي بعضها: ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم قليل﴾.

وهذا الاختلاف ربما كان قرينة على أن المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة ويؤيده ما ورد في بعضها من قوله (عليه السلام): لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة وفيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وربما لم يكن إلا من التعارض والتنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على ما ورد في روايات الخاصة والعامة وهي في بعضها: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة. وفي بعضها. الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة، وفي بعضها ﴿بما قضيا من اللذة﴾ وفي بعضها آخرها: ﴿نكالا من الله والله عليم حكيم﴾ وفي بعضها: ﴿نكالا من الله والله عزيز حكيم﴾.

وكآية الكرسي على التنزيل التي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا: ﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا من ذا الذي يشفع عنده - إلى قوله - وهو العلي العظيم والحمد لله رب العالمين﴾.

وفي بعضها - إلى قوله - هم فيها خالدون والحمد لله رب العالمين، وفي بعضها هكذا: ﴿له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم﴾ إلخ.

وفي بعضها: ﴿عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام رب العرش العظيم﴾ وفي بعضها: ﴿عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم﴿.

وما ذكره بعض المحدثين أن اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتفاقها في أصل التحريف.

مردود بأن ذلك لا يصلح ضعف الدلالة ودفع بعضها لبعض.

وأما ما ذكرنا من شيوع الدس والوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع والإيجاد وقصص الأنبياء والأمم والأخبار الواردة في تفاسير الآيات والحوادث الواقعة في صدر الإسلام وأعظم ما يهم أمره لأعداء الدين ولا يألون جهدا في إطفاء نوره وإخماد ناره وإعفاء أثره هو القرآن الكريم الذي هو الكهف المنيع والركن الشديد الذي يأوي إليه ويتحصن به المعارف الدينية والسند الحي الخالد لمنشور النبوة ومواد الدعوة لعلمهم بأنه لو بطلت حجة القرآن لفسد بذلك أمر النبوة واختل نظام الدين ولم يستقر من بنيته حجر على حجر.

والعجب من هؤلاء المحتجين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على تحريف كتاب الله سبحانه وإبطال حجيته، وببطلان حجة القرآن تذهب النبوة سدى والمعارف الدينية لغا لا أثر لها، وما ذا يغني قولنا: إن رجلا في تاريخ كذا ادعى النبوة وأتى بالقرآن معجزة أما هو فقد مات وأما قرآنه فقد حرف، ولم يبق بأيدينا مما يؤيد أمره إلا أن المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه وأن القرآن الذي جاء به كان معجزا دالا على نبوته، والإجماع حجة لأن النبي المذكور اعتبر حجيته أو لأنه يكشف مثلا عن قول أئمة أهل بيته.

وبالجملة احتمال الدس - وهو قريب جدا مؤيد بالشواهد والقرائن - يدفع حجية هذه الروايات ويفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجية شرعية ولا حجية عقلائية حتى ما كان منها صحيح الأسناد فإن صحة السند وعدالة رجال الطريق إنما يدفع تعمدهم الكذب دون دس غيرهم في أصولهم وجوامعهم ما لم يرووه.

وأما ما ذكرناه أن روايات التحريف تذكر آيات وسورا لا يشبه نظمها النظم القرآني بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنه يعثر فيها بشيء كثير من ذلك كسورتي الخلع والحفد اللتين رويتا بعدة من طرق أهل السنة فسورة الخلع هي: (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك) وسورة الحفد هي: (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى نقمتك إن عذابك بالكافرين ملحق).

وكذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية وغيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلد النظم القرآني فخرج الكلام عن الأسلوب العربي المألوف ولم يبلغ النظم الإلهي المعجز فعاد يستبشعه الطبع وينكره الذوق ولك أن تراجعها حتى تشاهد صدق ما ادعيناه وتقضي أن أكثر المعتنين بهذه السور والآيات المختلقة المجعولة إنما دعاهم إلى ذلك التعبد الشديد بالروايات والإهمال في عرضها على الكتاب، ولو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنها ليست بكلام إلهي نظرة.

وأما ما ذكرنا أن روايات التحريف على تقدير صحة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرد مخالفتها لظاهر قوله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ وقوله: ﴿وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ الآيتان حتى تكون مخالفة ظنية لكون ظهور الألفاظ من الأدلة الظنية بل المراد مخالفتها للدلالة القطعية من مجموع القرآن الذي بأيدينا حسب ما قررناه في الحجة الأولى التي أقمناها لنفي التحريف.

كيف لا؟ والقرآن الذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته وأبعاضه غير ناقص ولا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقية وعلومه الإلهية الكلية والجزئية المرتبطة بعضها ببعض المترتبة فروعها على أصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواص النظم القرآني الذي وصفه الله بها.

والجواب عن الوجه الثاني أن دعوى الامتناع العادي مجازفة بينة نعم يجوز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلا أن تقوم قرائن تدل على ذلك وهي قائمة كما قدمنا، وأما أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العادي فلا.

والجواب عن الوجه الثالث أن جمعه (عليه السلام) القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم لا يدل على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينية الأصلية أو الفرعية إلا أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينية.

ولو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد إعراضهم عما جمعه واستغنائهم عنه كما روي عنه (عليه السلام) في موارد شتى ولم ينقل عنه (عليه السلام) فيما روي من احتجاجاته أنه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدل على ذلك، وجبههم على إسقاطها أو تحريفها.

وهل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين وتحرزا عن شق العصا فإنما كان يتصور ذلك بعد استقرار الأمر واجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع وقبل أن يقع في الأيدي ويسير في البلاد.

وليت شعري هل يسعنا أن ندعي أن ذاك الجم الغفير من الآيات التي يرون سقوطها وربما ادعوا أنها تبلغ الألوف كانت جميعا في الولاية أو كانت خفية مستورة عن عامة المسلمين لا يعرفها إلا النزر القليل منهم مع توفر دواعيهم وكثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلما نزل وتعلمه وبلوغ اجتهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبليغه وإرساله إلى الآفاق وتعليمه وبيانه، وقد نص على ذلك القرآن قال تعالى: ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ الجمعة: 2، وقال: ﴿لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ النحل: 44 فكيف ضاع؟ وأين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنه سقط في آية من أول سورة النساء بين قوله: ﴿وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى﴾ وقوله: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء﴾ أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية، وما ورد من طرق أهل السنة أن سورة براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، وأن الأحزاب كانت أعظم من البقرة وقد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!.

أو أن هذه الآيات - وقد دلت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة - كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من أهل السنة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أن من القرآن ما أنساه الله ونسخ تلاوته.

فما معنى إنساء الآية ونسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة وآية نكاح الزانية والزاني وآية العدة وغيرها؟ وهم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة والعمل معا ومنسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.

أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتى أبطلها الله بإمحاء ذكرها وإذهاب أثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا منزها من الاختلاف، ولا قولا فصلا ولا هاديا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ولا معجزا يتحدى به ولا، ولا، فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنه في لوح محفوظ، وأنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه قول فصل، وأنه هدى، وأنه نور، وأنه فرقان بين الحق والباطل، وأنه آية معجزة، وأنه، وأنه؟.

فهل يسعنا أن نقول: إن هذه الآيات على كثرتها وإباء سياقها عن التقييد مقيدة بالبعض فبعض الكتاب فقط وهو غير المنسي ومنسوخ التلاوة لا يأتيه الباطل وقول فصل وهدى ونور وفرقان ومعجزة خالدة؟.

وهل جعل الكلام منسوخ التلاوة ونسيا منسيا غير إبطاله وإماتته؟ وهل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد ولا يصلح شأنا مما فسد غير إلغائه وطرحه وإهماله؟ وكيف يجامع ذلك كون القرآن ذكرا؟.

فالحق أن روايات التحريف المروية من طرق الفريقين وكذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية.

والجواب عن الوجه الرابع: أن أصل الأخبار القاضية بمماثلة الحوادث الواقعة في هذه الأمة لما وقع في بني إسرائيل مما لا ريب فيه، وهي متظافرة أو متواترة، لكن هذه الروايات لا تدل على المماثلة من جميع الجهات، وهو ظاهر بل الضرورة تدفعه.

فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج والآثار، وحينئذ فمن الجائز أن تكون مماثلة هذه الأمة لبني إسرائيل في مسألة تحريف الكتاب إنما هي في حدوث الاختلاف والتفرق بين الأمة بانشعابها إلى مذاهب شتى يكفر بعضهم بعضا وافتراقها إلى ثلاث وسبعين فرقة كما افترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين واليهود إلى واحدة وسبعين وقد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادعى بعضهم كونها متواترة.

ومن المعلوم أن الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله، وليس ذلك إلا من جهة تحريف الكلم عن مواضعه، وتفسير القرآن الكريم بالرأي، والاعتماد على الأخبار الواردة في تفسير الآيات من غير العرض على الكتاب وتمييز الصحيح منها من السقيم.

وبالجملة أصل الروايات الدالة على المماثلة بين الأمتين لا يدل على شيء من التحريف الذي يدعونه نعم وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير والإسقاط، وهذه الطائفة على ما بها من السقم مخالفة للكتاب كما تقدم.

الفصل الرابع:

في تاريخ اليعقوبي: قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة فلو جمعت القرآن فإني أخاف عليه أن يذهب حملته، فقال له أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف، وكان مفرقا في الجريد وغيرها.

وأجلس خمسة وعشرين رجلا من قريش وخمسين رجلا من الأنصار فقال: اكتبوا القرآن واعرضوا على سعيد بن العاص فإنه رجل فصيح.

وروى بعضهم: أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان جمعه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتى به يحمله على جمل فقال: هذا القرآن قد جمعته. قال: وكان قد جزأه سبعة أجزاء ثم ذكر الأجزاء.

وفي تاريخ أبي الفداء: وقتل في قتال مسيلمة جماعة من القراء من المهاجرين والأنصار، ولما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال وجريد النخل والجلود، وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

والأصل فيما ذكراه الروايات فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال عمر: هذا والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر.

قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: هو والله خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسف واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره: ﴿لقد جاءكم رسول﴾ حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر.

وعن ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان.

وعنه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه وفي الطريق انقطاع: أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.

وفي الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف، عن الليث بن سعد قال: أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل، وإن آخر سورة براءة لم يوجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت فقال: اكتبوها فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده.

وعن ابن أبي داود في المصاحف، من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووعيتهما، فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها في آخرها.

وعنه أيضا من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب: أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ﴿ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم - بأنهم قوم لا يفقهون﴾ ظنوا أن هذا آخر ما أنزل فقال أبي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقرأني بعد هذا آيتين ﴿لقد جاءكم رسول﴾ إلى آخر السورة.

وفي الإتقان، عن الدير عاقولي في فوائده حدثنا إبراهيم بن يسار حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت قال: قال: قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن القرآن جمع في شيء.

وفي مستدرك الحاكم، بإسناده عن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نؤلف القرآن من الرقاع، الحديث.

أقول: ولعل المراد ضم بعض الآيات النازلة نجوما إلى بعض السور أو إلحاق بعض السور إلى بعضها مما يتماثل صنفا كالطوال والمئين والمفصلات، فقد ورد لها ذكر في الأحاديث النبوية، وإلا فتأليف القرآن وجمعه مصحفا واحدا إنما كان بعد ما قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا إشكال، وعلى مثل هذا ينبغي أن يحمل ما يأتي.

في صحيح النسائي، عن ابن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: اقرأه في شهر.

وفي الإتقان، عن ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري.

وفيه، عن البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة لا يختلف فيهم معاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو زيد واختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبي الدرداء وعثمان وقيل: عثمان وتميم الداري.

وفيه، عنه وعن ابن أبي داود عن الشعبي قال: جمع القرآن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعة: أبي وزيد ومعاذ وأبو الدرداء وسعيد بن عبيد وأبو زيد ومجمع بن حارثة، وقد أخذه إلا سورتين أو ثلاث.

وفيه، أيضا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال: أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه.

أقول: أقصى ما تدل عليه هذه الروايات مجرد جمعهم ما نزلت من السور والآيات، وأما العناية بترتيب السور والآيات كما هو اليوم أو بترتيب آخر فلا.

هذا هو الجمع الأول في عهد أبي بكر.

الفصل الخامس:

وقد جمع القرآن ثانيا في عهد عثمان لما اختلفت المصاحف وكثرت القراءات.

قال اليعقوبي في تاريخه: وجمع عثمان القرآن وألفه وصير الطوال مع الطوال والقصار مع القصار من السور، وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت ثم سلقها بالماء الحار والخل، وقيل: أحرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود.

وكان ابن مسعود بالكوفة فامتنع أن يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر وكتب ﴿إليه﴾ عثمان أن أشخصه إن لم يكن هذا الدين خبالا وهذه الأمة فسادا فدخل المسجد وعثمان يخطب فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء فكلم ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان فجر برجله حتى كسر له ضلعان فتكلمت عائشة وقالت قولا كثيرا.

وبعث بها إلى الأمصار وبعث بمصحف إلى الكوفة ومصحف إلى البصرة ومصحف إلى المدينة ومصحف إلى مكة ومصحف إلى مصر ومصحف إلى الشام ومصحف إلى البحرين ومصحف إلى اليمن ومصحف إلى الجزيرة.

وأمر الناس أن يقرءوا على نسخة واحدة، وكان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون: قرآن آل فلان فأراد أن يكون نسخته واحدة، وقيل: إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه فلما بلغه أنه كان يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا، وقيل: كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان.

وفي الإتقان، روى البخاري عن أنس: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

قال زيد: آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ فألحقناها في سورتها في المصحف.

وفيه، أخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة قال: حدثني رجل من بني عامر يقال له: أنس بن مالك قال: اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال: عندي تكذبون به وتلحنون فيه فمن نأى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا يا أصحاب محمد اجتمعوا واكتبوا للناس إماما.

فاجتمعوا فكانوا إذا اختلفوا وتدارءوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلانا فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له: كيف أقرأك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية كذا وكذا؟ فيقول كذا وكذا فيكتبونها وقد تركوا لذلك مكانا.

وفيه، عن ابن أبي داود من طريق ابن سيرين عن كثير بن أفلح قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه. قال محمد: فظننت أنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونه على قوله.

وفيه، أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال: قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا قال ما تقولون في هذه القراء؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفرا قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا يكون فرقة ولا اختلاف.

قلنا: فنعم ما رأيت.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أن عثمان بن عفان: لما أراد أن يكتب المصاحب أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة: ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة﴾ قال أبي: لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها.

وفي الإتقان، عن أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقربتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال. فقال عثمان: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال.

أقول: السبع الطوال - على ما يظهر من هذه الرواية وروي أيضا عن أبي جبير - هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس، وقد كانت موضوعة في الجمع الأول على هذا الترتيب ثم غير عثمان هذا الترتيب فأخذ الأنفال وهي من المثاني وبراءة وهي من المئين قبل المثاني فوضعهما بين الأعراف ويونس مقدما الأنفال على براءة.

الفصل السادس:

الروايات الموضوعة في الفصلين السابقين هي أشهر الروايات الواردة في باب جمع القرآن وتأليفه بين صحيحة وسقيمة، وهي تدل على أن الجمع الأول كان جمعا لشتات السور المكتوبة في العسب واللخاف والأكتاف والجلود والرقاع وإلحاق الآيات النازلة متفرقة إلى سور تناسبها.

وإن الجمع الثاني وهو الجمع العثماني كان رد المصاحف المنتشرة عن الجمع الأول بعد عروض تعارض النسخ واختلاف القراءات عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا ما كان من قول زيد إنه ألحق قوله: ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ الآية، في سورة الأحزاب في المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة سنة وليست فيها الآية.

وقد روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان ﴿والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا﴾ قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.

والذي يعطيه النظر الحر في أمر هذه الروايات ودلالتها - وهي عمدة ما في هذا الباب - أنها آحاد غير متواترة لكنها محفوفة بقرائن قطعية فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغ الناس ما نزل إليه من ربه من غير أن يكتم منه شيئا، وكان يعلمهم ويبين لهم ما نزل إليهم من ربهم على ما نص عليه القرآن، ولم يزل جماعة منهم يعلمون ويتعلمون القرآن تعلم تلاوة وبيان وهم القراء الذين قتل جم غفير منهم في غزوة اليمامة.

وكان الناس على رغبة شديدة في أخذ القرآن وتعاطيه ولم يترك هذا الشأن ولا ارتفع القرآن من بينهم ولا يوما أو بعض يوم حتى جمع القرآن في مصحف واحد ثم أجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتليت به التوراة والإنجيل وكتب سائر الأنبياء.

أضف إلى ذلك روايات لا تحصى كثرة وردت من طرق الشيعة وأهل السنة في قراءاته (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا من السور القرآنية في الفرائض اليومية وغيرها بمسمع من ملإ الناس، وقد سمي في هذه الروايات جم غفير من السور القرآنية مكيتها ومدنيتها.

أضف إلى ذلك ما تقدم في رواية عثمان بن أبي العاص: في تفسير قوله تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ الآية: النحل: 90 من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن جبريل أتاني بهذه الآية وأمرني أن أضعها في موضعها من السورة، ونظير الرواية في الدلالة ما دل على قراءته (صلى الله عليه وآله وسلم) لبعض السور النازلة نجوما كآل عمران والنساء وغيرها فيدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر كتاب الوحي بإلحاق بعض الآيات في موضعها.

وأعظم الشواهد القاطعة ما تقدم في أول هذه الأبحاث أن القرآن الموجود بأيدينا واجد لما وصفه الله تعالى من الأوصاف الكريمة.

وبالجملة الذي تدل عليه هذه الروايات هي: أولا: أن الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام الله تعالى فلم يزد فيه شيء ولم يتغير منه شيء وأما النقص فإنها لا تفي بنفيه نفيا قطعيا كما روي بعدة طرق أن عمر كان يذكر كثيرا آية الرجم ولم تكتب عنه وأما حملهم الرواية وسائر ما ورد في التحريف - وقد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء - على منسوخ التلاوة فقد عرفت فساده وتحققت أن إثبات منسوخ التلاوة أشنع من إثبات أصل التحريف.

على أن من كان له مصحف غير ما جمعه زيد أولا بأمر من أبي بكر وثانيا بأمر من عثمان كعلي (عليه السلام) وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود لم ينكر شيئا مما حواه المصحف الدائر غير ما نقل عن ابن مسعود أنه لم يكتب في مصحفه المعوذتين وكان يقول: إنهما عوذتان نزل بهما جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعوذ بهما الحسنين (عليهما السلام)، وقد رده سائر الصحابة وتواترت النصوص من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على أنهما سورتان من القرآن.

وبالجملة الروايات السابقة - كما ترى - آحاد محفوفة بالقرائن القطعية نافية للتحريف بالزيادة والتغيير قطعا دون النقص إلا ظنا، ودعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاث لا مستند لها.

والتعويل في ذلك على ما قدمناه من الحجة في أول هذه الأبحاث أن القرآن الذي بأيدينا واجد للصفات الكريمة التي وصف الله سبحانه بها القرآن الواقعي الذي أنزله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ككونه قولا فصلا ورافعا للاختلاف وذكرا وهاديا ونورا ومبينا للمعارف الحقيقية والشرائع الفطرية وآية معجزة إلى غير ذلك من صفاته الكريمة.

ومن الحري أن نعول على هذا الوجه فإن حجة القرآن على كونه كلام الله المنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة من غير أن يتوقف في ذلك على أمر آخر وراء نفسه كائنا ما كان فحجته معه أينما تحقق وبيد من كان ومن أي طريق وصل.

وبعبارة أخرى لا يتوقف القرآن النازل من عند الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كونه متصفا بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنقل متواتر أو متظافر - وإن كان واجدا لذلك - بل الأمر بالعكس فاتصافه بصفاته الكريمة هو الحجة على الاستناد فليس كالكتب والرسائل المنسوبة إلى المصنفين والكتاب، والأقاويل المأثورة عن العلماء وأصحاب الأنظار المتوقفة صحة استنادها إلى نقل قطعي وبلوغ متواتر أو مستفيض مثلا بل نفس ذاته هي الحجة على ثبوته.

وثانيا: أن ترتيب السور إنما هو من الصحابة في الجمع الأول والثاني ومن الدليل عليه ما تقدم في الروايات من وضع عثمان الأنفال وبراءة بين الأعراف ويونس وقد كانتا في الجمع الأول متأخرتين.

ومن الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع الأول والثاني كليهما كما روي أن مصحف علي (عليه السلام) كان مرتبا على ترتيب النزول فكان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني نقله في الإتقان عن ابن فارس، وفي تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر لمصحفه (عليه السلام).

ونقل عن ابن أشتة في المصاحف بإسناده عن أبي جعفر الكوفي ترتيب مصحف أبي وهو يغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة، وكذا عنه فيه بإسناده عن جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود آخذا من الطوال ثم المئين ثم المثاني ثم المفصل وهو أيضا مغاير للمصحف الدائر.

وقد ذهب كثير منهم إلى أن ترتيب السور توقيفي وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أمر بهذا الترتيب بإشارة من جبريل بأمر من الله سبحانه حتى أفرط بعضهم فادعى ثبوت ذلك بالتواتر وليت شعري أين هذا التواتر وقد تقدمت عمدة روايات الباب ولا أثر فيها من هذا المعنى، وسيأتي استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدريجا.

وثالثا: أن وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرقة موقعها الذي هي فيه الآن لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد كما هو ظاهر روايات الجمع الأول وقد تقدمت.

وأما رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ الآية فلا تدل على أزيد من فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة، وعلى تقدير التسليم لا دلالة لما بأيدينا من الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومجرد حسن الظن بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدل بها على ذلك وإنما يفيد أنهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة ترتيبه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما علموه لا فيما جهلوه.

وفي روايات الجمع الأول المتقدمة أوضح الشواهد على أنهم ما كانوا على علم بمواضع جميع الآيات ولا بنفسها.

ويدل على ذلك الروايات المستفيضة التي وردت من طرق الشيعة وأهل السنة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين إنما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة كما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي والبزار من طريق سعيد بن جبير على ما في الإتقان، عن ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعرف فضل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم زاد البزار: فإذا نزلت عرف أن السورة قد ختمت واستقبلت أو ابتدأت سورة أخرى.

وأيضا عن الحاكم من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت علموا أن السورة قد انقضت، إسناده على شرط الشيخين.

وأيضا عنه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة، إسناده صحيح.

أقول: وروي ما يقرب من ذلك في عدة روايات أخر وروي ذلك من طرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام).

والروايات - كما ترى - صريحة في دلالتها على أن الآيات كانت مرتبة عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب ترتيب النزول فكانت المكيات في السورة المكية والمدنيات في سورة مدنية اللهم إلا أن يفرض سورة نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة، ولا يتحقق هذا الفرض إلا في سورة واحدة.

ولازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستندا إلى اجتهاد من الصحابة.

توضيح ذلك أن هناك ما لا يحصى من روايات أسباب النزول يدل على كون آيات كثيرة في السور المدنية نازلة بمكة وبالعكس وعلى كون آيات من القرآن نازلة مثلا في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي واقعة في سور نازلة في أوائل الهجرة وقد نزلت بين الوقتين سور أخرى كثيرة، وذلك كسورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من الهجرة وفيها آيات الربا وقد وردت الروايات على أنها من آخر ما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ورد عن عمر أنه قال: مات رسول الله ولم يبين لنا آيات الربا، وفيها قوله تعالى: ﴿واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله﴾ البقرة: 281، وقد ورد أنها آخر ما نزل من القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فهذه الآيات النازلة مفرقة الموضوعة في سور لا تجانسها في المكية والمدنية موضوعة في غير موضعها بحسب ترتيب النزول وليس إلا عن اجتهاد من الصحابة.

ويؤيد ذلك ما في الإتقان، عن ابن حجر: وقد ورد عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخرجه ابن أبي داود وهو من مسلمات مداليل روايات الشيعة.

هذا ما يدل عليه ظاهر روايات الباب المتقدمة لكن الجمهور أصروا على أن ترتيب الآيات توقيفي فآيات المصحف الدائر اليوم وهو المصحف العثماني مرتبة على ما رتبها عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإشارة من جبريل، وأولوا ظاهر الروايات بأن جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب وإنما كان جمعا لما كانوا يعلمونه ويحفظونه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من السور وآياتها المرتبة، بين دفتين وفي مكان واحد.

وأنت خبير بأن كيفية الجمع الأول الذي تدل عليها الروايات تدفع هذه الدعوى دفعا صريحا.

وربما استدل عليه بما ادعاه بعضهم من الإجماع على ذلك فقد نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي دعوى الإجماع عليه وعن أبي جعفر بن الزبير نفي الخلاف فيه بين المسلمين، وهو إجماع منقول لا يعتمد عليه بعد وجود الخلاف في أصل التحريف ودلالة ما تقدم من الروايات على خلافه.

وربما استدل عليه بالتواتر ويوجد ذلك في كلام كثير منهم ادعوا تواتر الترتيب الموجود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عجيب وقد نقل في الإتقان، بعد نقله ما رواه البخاري وغيره بعدة طرق عن أنس أنه قال: مات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يجمع القرآن غير أربعة. أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، وفي رواية: أبي بن كعب بدل أبي الدرداء - عن المازري أنه قال: وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره سلمنا ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى، انتهى.

أما دعواه أن ظاهر كلام أنس غير مراد فهو مما لا يصغى إليه في الأبحاث اللفظية المبنية على ظاهر اللفظ إلا بقرينة من نفس كلام المتكلم أو ما ينوب منابه أما مجرد الدعوى والاستناد إلى قول آخرين فلا.

على أنه لو حمل كلام أنس على خلاف ظاهره كان من الواجب أن يحمل على أن هؤلاء الأربعة إنما جمعوا في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معظم القرآن وأكثر سورة وآياته لا على أنهم وغيرهم من الصحابة جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف العثماني وحفظوا ترتيب سوره وآياته وضبطوا موضع كل واحدة واحدة منها عن آخرها فهذا زيد بن ثابت نفسه - وهو أحد الأربعة المذكورين في حديث أنس والمتصدي للجمع الأول والثاني كليهما - يصرح في رواياته أنه لم يحفظ جميع الآيات.

ونظيره ما في الإتقان، عن ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: مات أبو بكر ولم يجمع القرآن وقتل عمر ولم يجمع القرآن.

وأما قوله: سلمناه ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك فمقلوب على نفسه فمن أين لهذا القائل أن الواقع في نفس الأمر كما يدعيه وقد عرفت الشواهد على خلاف ما يدعيه؟.

وأما قوله: إنه يكفي في تحقق التواتر أن يحفظ الكل كل القرآن على سبيل التوزيع فمغالطة واضحة لأنه إنما يفيد كون مجموع القرآن من حيث المجموع منقولا بالتواتر وأما كون كل واحدة واحدة من الآيات القرآنية محفوظة من حيث محلها وموضعها بالتواتر فلا وهو ظاهر.

ونقل في الإتقان، عن البغوي أنه قال في شرح السنة: الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير أن قدموا شيئا أو أخروه أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا. فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة.

ونقل عن ابن الحصار أنه قال: ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف انتهى: ونقل أيضا ما يقرب من ذلك عن جماعة غيرهم كالبيهقي والطيبي وابن حجر.

أما قولهم: إن الصحابة إنما كتبوا المصحف على الترتيب الذي أخذوه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير أن يخالفوه في شيء فمما لا يدل عليه شيء من الروايات المتقدمة، وإنما المسلم من دلالتها أنهم إنما أثبتوا ما قامت عليه البينة من متن الآيات ولا إشارة في ذلك إلى كيفية ترتيب الآيات النازلة مفرقة وهو ظاهر نعم في رواية ابن عباس المتقدمة عن عثمان ما يشير إلى ذلك غير أن الذي فيه أنه كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر بعض كتاب الوحي بذلك وهو غير إعلامه جميع الصحابة ذلك على أن الرواية معارضة بروايات الجمع الأول وأخبار نزول بسم الله وغيرها.

وأما قولهم: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقن الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا بتوقيف من جبريل ووحي سماوي فكأنه إشارة إلى حديث عثمان بن أبي العاص المتقدم في آية ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ وقد عرفت مما تقدم أنه حديث واحد في خصوص موضع آية واحدة، وأين ذلك من مواضع جميع الآيات المفرقة.

وأما قولهم: إن القرآن مكتوب على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ أنزله الله إلى السماء الدنيا ثم أنزله الله مفرقا عند الحاجة إلخ، فإشارة إلى ما روي مستفيضا من طرق الشيعة وأهل السنة من نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزوله منها نجوما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن الروايات ليس فيها أدنى دلالة على كون القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ منظما في السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف الذي عندنا وهو ظاهر.

على أنه سيأتي إن شاء الله الكلام في معنى كتابة القرآن في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا في ذيل ما يناسب ذلك من الآيات كأول سورتي الزخرف والدخان وسورة القدر.

وأما قولهم: إنه قد حصل اليقين بالنقل المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الترتيب الموجود في المصاحف فقد عرفت أنه دعوى خالية عن الدليل وأن هذا التواتر لا خبر عنه بالنسبة إلى كل آية آية كيف وقد تكاثرت الروايات أن ابن مسعود لم يكتب في مصحفه المعوذتين وكان يقول إنهما ليستا من القرآن وإنما نزل بهما جبريل تعويذا للحسنين، وكان يحكهما عن المصاحف، ولم ينقل عنه أنه رجع عن قوله فكيف خفي عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الأول.

الفصل السابع:

يتعلق بالبحث السابق البحث في روايات الإنساء - وقد مرت إشارة إجمالية إليها - وهي عدة روايات وردت من طرق أهل السنة في نسخ القرآن وإنسائه حملوا عليها ما ورد من روايات التحريف سقوطا وتغييرا.

فمنها ما في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي بالليل وينساه بالنهار فأنزل الله: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها - نأت بخير منها أو مثلها﴾.

وفيه، عن أبي داود في ناسخه والبيهقي في الدلائل عن أبي أمامة: أن رهطا من الأنصار من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبروه أن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها فلم يقدر منها على شيء إلا بسم الله الرحمن الرحيم ووقع ذلك لناس من أصحابه فأصبحوا فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن السورة فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا ثم قال: نسخت البارحة فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه.

أقول: والقصة مروية بعدة طرق في ألفاظ متقاربة مضمونا.

وفيه، عن عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأبي داود في ناسخه وابنه في المصاحف والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن سعد بن أبي وقاص: أنه قرأ: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسأها﴾ فقيل له: إن سعيد بن المسيب يقرأ ﴿ننسها﴾ فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا آل المسيب قال الله: ﴿سنقرئك فلا تنسى﴾ ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾.

أقول: يريد بالتمسك بالآيتين أن الله رفع النسيان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيتعين أن يقرأ ﴿ننسأها﴾ من النسيء بمعنى الترك والتأخير فيكون المراد بقوله: ﴿ما ننسخ من آية﴾ إزالة الآية عن العمل دون التلاوة كآية صدقة النجوى، وبقوله: ﴿أو ننسأها﴾ ترك الآية ورفعها من عندهم بالمرة وإزالتها عن العمل والتلاوة كما روي تفسيرها بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.

وفيه، أخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال: قال لنا ابن عباس: أي القراءتين تعدون أول؟ قلنا: قراءة عبد الله وقراءتنا هي الأخيرة. فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان وأنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين فشهد منه عبد الله ما نسخ ما بدل.

أقول: وهذا المعنى مروي بطرق أخرى عن ابن عباس وعبد الله بن مسعود نفسه وغيرهما من الصحابة والتابعين وهناك روايات أخر في الإنساء.

ومحصل ما استفيد منها أن النسخ قد يكون في الحكم كالآيات المنسوخة المثبتة في المصحف، وقد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها وقد تقدم في تفسير قوله: ﴿ما ننسخ من آية﴾ البقرة: 106 وسيأتي في قوله: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية﴾ النحل: 101 أن الآيتين أجنبيتان عن الإنساء بمعنى نسخ التلاوة، وتقدم أيضا في الفصول السابقة أن هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على روايات التحريف وطرح القبيلين جميعا.