الآيات 1-10

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿1﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿2﴾ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿3﴾ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿4﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿5﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴿6﴾ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴿7﴾ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿8﴾ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿9﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿10﴾

بيان:

تتضمن السورة مسائل من شرائع الدين بها تتم الحياة السعيدة للفرد ويستقر النظام الصالح الطيب في المجتمع منها ما هو أدب جميل للعبد مع الله سبحانه ومع رسوله كما في الآيات الخمس في مفتتح السورة، ومنها ما يتعلق بالإنسان مع أمثاله من حيث وقوعهم في المجتمع الحيوي، ومنها ما يتعلق بتفاضل الأفراد وهو من أهم ما ينتظم به الاجتماع المدني ويهدي الإنسان إلى الحياة السعيدة والعيش الطيب الهنيء ويتميز به دين الحق من غيره من السنن الاجتماعية القانونية وغيرها وتختتم السورة بالإشارة إلى حقيقة الإيمان والإسلام وامتنانه تعالى بما يفيضه من نور الإيمان.

والسورة مدنية بشهادة مضامين آياتها سوى ما قيل في قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى﴾ الآية وسيجيء.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم﴾ بين يدي الشيء أمامه وهو استعمال شائع مجازي أو استعاري وإضافته إلى الله ورسوله معا لا إلى الرسول دليل على أنه أمر مشترك بينه تعالى وبين رسوله وهو مقام الحكم الذي يختص بالله سبحانه وبرسوله بإذنه كما قال تعالى: ﴿إن الحكم إلا لله﴾ يوسف: 40، وقال: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ النساء: 64.

ومن الشاهد على ذلك تصدير النهي بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وتذييله بقوله: ﴿واتقوا الله إن الله سميع عليم﴾ الظاهر في أن المراد بما بين يدي الله ورسوله هو المقام الذي يربط المؤمنين المتقين بالله ورسوله وهو مقام الحكم الذي يأخذون منه أحكامهم الاعتقادية والعملية.

وبذلك يظهر أن المراد بقوله: ﴿لا تقدموا﴾ تقديم شيء ما من الحكم قبال حكم الله ورسوله إما بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله ورسوله أو إلى فعل قبل أن يتلقوا الأمر به من الله ورسوله لكن تذييله تعالى النهي بقوله: ﴿إن الله سميع عليم﴾ يناسب تقديم القول دون تقديم الفعل ودون الأعم الشامل للقول والفعل وإلا لقيل: إن الله سميع بصير ليحاذي بالسميع القول وبالبصير الفعل كما يأتي تعالى في كثير من موارد الفعل بمثل قوله: ﴿والله بما تعملون بصير﴾ الحديد: 4، فمحصل المعنى: أن لا تحكموا فيما لله ولرسوله فيه حكم إلا بعد حكم الله ورسوله أي لا تحكموا إلا بحكم الله ورسوله ولتكن عليكم سمة الاتباع والاقتفاء.

لكن بالنظر إلى أن كل فعل وترك من الإنسان لا يخلو من حكم له فيه وكذلك العزم والإرادة إلى فعل أو ترك يدخل الأفعال والتروك وكذا إرادتها والعزم عليها في حكم الاتباع، ويفيد النهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله النهي عن المبادرة والإقدام إلى قول لم يسمع من الله ورسوله، وإلى فعل أو ترك أو عزم وإرادة بالنسبة إلى شيء منهما قبل تلقي الحكم من الله ورسوله فتكون الآية قريبة المعنى من قوله تعالى في صفة الملائكة: ﴿بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ الأنبياء: 27.

وهذا الاتباع المندوب إليه بقوله: ﴿لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾ هو الدخول في ولاية الله والوقوف في موقف العبودية والسير في مسيرها بجعل العبد مشيته تابعة لمشية الله في مرحلة التشريع كما أنها تابعة لها في مرحلة التكوين قال تعالى: ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله﴾ الإنسان: 30، وقال: ﴿والله ولي المؤمنين﴾ آل عمران: 68، وقال: ﴿والله ولي المتقين﴾ الجاثية: 19.

وللقوم في قوله تعالى: ﴿لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾ وجوه منها: أن التقديم بمعنى التقدم فهو لازم ومعنى ﴿لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾ لا تعجلوا بالأمر والنهي دون الله ورسوله ولا تقطعوا بالأمر والنهي دون الله ورسوله، وربما قيل: إن التقديم في الآية بمعناه المعروف لكنه مستعمل بالإعراض عن متعلقاته كقوله: ﴿يحيي ويميت﴾ الحديد: 2، فيئول المعنى إلى مجرد كون شيء قدام شيء فيرجع إلى معنى التقدم.

واللفظ مطلق يشمل التقدم في قول أو فعل حتى التقدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المشية والجلسة، والتقدم بالطاعات الموقتة قبل وقتها وغير ذلك.

ومنها: أن المراد النهي عن التكلم قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي إذا كنتم في مجلسه وسئل عن شيء فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب هو أولا.

ومنها: أن المعنى: لا تسبقوه بقول أو فعل حتى يأمركم به.

ومنها: أن المعنى: لا تقدموا أقوالكم وأفعالكم على قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفعله ولا تمكنوا أحدا يمشي أمامه.

والظاهر أن تفسير ﴿لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾ بالنهي عن التقديم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط في هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة مبني على حملهم ذكر الله تعالى مع رسوله في الآية على نوع من التشريف كقوله: أعجبني زيد وكرمه فيكون ذكره تعالى للإشارة إلى أن السبقة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أي حال في معنى السبقة على الله سبحانه.

ولعل التأمل فيما قدمناه من الوجه يكفيك في المنع عن المصير إلى شيء من هذه الوجوه.

وقوله: ﴿واتقوا الله إن الله سميع عليم﴾ أمر بالتقوى في موقف الاتباع والعبودية ولا ظرف للإنسان إلا ظرف العبودية ولذلك أطلق التقوى.

وفي قوله: ﴿إن الله سميع عليم﴾ تعليل للنهي والتقوى فيه أي اتقوه بالانتهاء عن هذا النهي فلا تقدموا قولا بلسانكم ولا في سركم لأن الله سميع يسمع أقوالكم عليم يعلم ظاهركم وباطنكم وعلانيتكم وسركم.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي﴾ إلخ، وذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته وتكليمه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرفع من صوته وأجهر لأن في ذلك كما قيل أحد شيئين: إما نوع استخفاف به وهو الكفر، وإما إساءة الأدب بالنسبة إلى مقامه وهو خلاف التعظيم والتوقير المأمور به.

وقوله: ﴿ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض﴾ فإن من التعظيم عند التخاطب أن يكون صوت المتكلم أخفض من صوت مخاطبه فمطلق الجهر بالخطاب فاقد لمعنى التعظيم فخطاب العظماء بالجهر فيه كخطاب عامة الناس لا يخلو من إساءة الأدب والوقاحة.

وقوله: ﴿أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾ أي لئلا تحبط أو كراهة أن تحبط أعمالكم، وهو متعلق بالنهيين جميعا أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته والجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض لئلا تبطل أعمالكم بذلك من حيث لا تشعرون فإن فيهما الحبط، وقد تقدم القول في الحبط في الجزء الثاني من الكتاب.

وجوز بعضهم كون ﴿أن تحبط﴾ إلخ، تعليلا للمنهي عنه وهو الرفع والجهر، والمعنى: فعلكم ذلك لأجل الحبوط منهي عنه، والفرق بين تعليله للنهي وتعليله للمنهي عنه أن الفعل المنهي عنه معلل على الأول والفعل المعلل منهي عنه على الثاني، وفيه تكلف ظاهر.

وظاهر الآية أن رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والجهر له بالقول معصيتان موجبتان للحبط فيكون من المعاصي غير الكفر ما يوجب الحبط.

وقد توجه الآية بأن المراد بالحبط فقدان نفس العمل للثواب لا إبطال العمل ثواب سائر الأعمال كما في الكفر، قال في مجمع البيان،: وقال أصحابنا: أن المعنى في قوله: ﴿أن تحبط أعمالكم﴾ إنه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوقيره لاستحقوا الثواب فلما أوقعوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلق لأهل الوعيد بهذه الآية.

ولأنه تعالى علق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل وهم يعلقونه بالمستحق على العمل وذلك خلاف الظاهر.

وفيه أن الحبط المتعلق بالكفر الذي لا ريب في تعلقه بثواب الأعمال أيضا متعلق في كلامه بنفس الأعمال كما في هذه الآية فلتحمل هذه على ما حملت عليه ذلك من غير فرق، وكونه خلاف الظاهر ممنوع فإن بطلان العمل بطلان أثره المترتب عليه.

وقد توجه الآية أيضا بالبناء على اختصاص الحبط بالكفر بأن رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والجهر له بالقول ليسا بمحبطين من حيث أنفسهما بل من حيث أدائهما أحيانا إلى إيذائه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإيذاؤه كفر والكفر محبط للعمل.

قال بعضهم: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت مطلقا ومعلوم أن ملاكه التحذر مما يتوقع فيه من إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو كفر محبط للعمل بالاتفاق.

فورد النهي عما هو مظنة أذاه - سواء وجد هذا المعنى أو لا - حماية للحومة وحسما للمادة.

ثم لما كان هذا المنهي عنه منقسما إلى ما يبلغ حد الكفر وهو المؤذي له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ، ولا دليل يميز أحد القسمين من الآخر ولو فرض وجوده لم يلتفت إليه في كثير من الأحيان، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا مخافة أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى.

وإلى التباس أحد القسمين بالآخر الإشارة بقوله تعالى: ﴿أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾ وإلا فلو كان رفع الصوت والجهر بالقول منهيا عنهما مطلقا سواء بلغا حد الأذى أو لم يبلغا لم يكن موقع لقوله تعالى: ﴿وأنتم لا تشعرون﴾ إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت أو الجهر بالقول بالغا حد الأذى فيكون كفرا محبطا قطعا أو غير بالغ فيكون أيضا ذنبا محبطا قطعا فالإحباط محقق على أي تقدير فلا موقع لإدعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا للعلم به بعد النهي.

وفيه أن ظهور قوله: ﴿لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض﴾ في النهي النفسي دون النهي المقدمي أخذا بالاحتياط مما لا ريب فيه لكن كلا من الفعلين مما يدرك كونه عملا سيئا عقلا قبل ورود النهي الشرعي عنه كالافتراء والإفك، وكان الذين يأتون بهما المؤمنين كما صدر النهي بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وهم وإن أمكن أن يسامحوا في بعض السيئات بحسبانه هينا لكنهم لا يرضون ببطلان إيمانهم وأعمالهم الصالحة من أصله.

فنبه سبحانه بقوله: ﴿أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾ على أنكم لا تشعرون بما لذلك من الأثر الهائل العظيم فإنما هو إحباط الأعمال فلا تقربوا شيئا منهما أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.

فقوله: ﴿وأنتم لا تشعرون﴾ ناظر إلى حالهم قبل النهي حيث كانوا يشعرون بكون الفعل سيئة لكنهم ما كانوا يعلمون بعظمة مساءته لهذا الحد، وأما بعد صدور البيان الإلهي فهم شاعرون بالإحباط.

فالآية من وجه نظيره قوله تعالى في آيات الإفك: ﴿وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم﴾ النور: 15، وقوله في آيات القيامة: ﴿وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون﴾ الزمر: 47.

قوله تعالى: ﴿إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى﴾ إلخ، غض الصوت خلاف رفعه، ومعنى الامتحان الابتلاء والاختبار وإنما يكون لتحصيل العلم بحال الشيء المجهول قبل ذلك، وإذ يستحيل ذلك في حقه تعالى فالمراد به هنا التمرين والتعويد - كما قيل - أو حمل المحنة والمشقة على القلب ليعتاد بالتقوى.

والآية مسوقة للوعد الجميل على غض الصوت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد توصيفهم بأن قلوبهم ممتحنة للتقوى والذي امتحنهم لذلك هو الله سبحانه، وفيه تأكيد وتقوية لمضمون الآية السابقة وتشويق للانتهاء بما فيها من النهي.

وفي التعبير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية برسول الله بعد التعبير عنه في الآية السابقة بالنبي إشارة إلى ملاك الحكم فإن الرسول بما هو رسول ليس له من الأمر شيء فما له فلمرسله، وتعظيمه وتوقيره تعظيم لمرسله وتوقير له فغض الصوت عند رسول الله تعظيم وتكبير لله سبحانه، والمداومة والاستمرار على ذلك - كما يستفاد من قوله: ﴿يغضون﴾ المفيد للاستمرار - كاشف عن تخلقهم بالتقوى وامتحانه تعالى قلوبهم للتقوى.

وقوله: ﴿لهم مغفرة وأجر عظيم﴾ وعد جميل لهم بإزاء ما في قلوبهم من تقوى الله، والعاقبة للتقوى.

قوله تعالى: ﴿إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون﴾ سياق الآية يؤدي أنه واقع وأنهم كانوا قوما من الجفاة ينادونه (صلى الله عليه وآله وسلم) من وراء حجرات بيته من غير رعاية لمقتضى الأدب وواجب التعظيم والتوقير فذمهم الله سبحانه حيث وصف أكثرهم بأنهم لا يعقلون كالبهائم من الحيوان.

قوله تعالى: ﴿ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم﴾ أي ولو أنهم صبروا عن ندائك فلم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لما فيه من حسن الأدب ورعاية التعظيم والتوقير لمقام الرسالة، وكان ذلك مقربا لهم إلى مغفرة الله ورحمته لأنه غفور رحيم.

فقوله: ﴿والله غفور رحيم﴾ كالناظر إلى ما ذكر من الصبر ويمكن أن يكون ناظرا إلى كون أكثرهم لا يعقلون والمعنى: أن ما صدر عنهم من الجهالة وسوء الأدب معفو عنه لأنه لم يكن عن تعقل وفهم منهم بل عن قصور في ذلك والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾ إلخ، الفاسق - كما قيل - الخارج عن الطاعة إلى المعصية، والنبأ الخبر العظيم الشأن، والتبين والاستبانة والإبانة - على ما في الصحاح - بمعنى واحد وهي تتعدى ولا تتعدى فإذا تعدت كانت بمعنى الإيضاح والإظهار يقال: تبينت الأمر واستبنته وأبنته أي أوضحته وأظهرته، وإذا لزمت كانت بمعنى الاتضاح والظهور يقال: أبان الأمر واستبان وتبين أي اتضح وظهر.

ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر ذي شأن فتبينوا خبره بالبحث والفحص للوقوف على حقيقته حذر أن تصيبوا قوما بجهالة فتصيروا نادمين على ما فعلتم بهم.

وقد أمضى الله سبحانه في هذه الآية أصل العمل بالخبر وهو من الأصول العقلائية التي يبتني عليه أساس الحياة الاجتماعية الإنسانية، وأمر بالتبين في خبر الفاسق وهو في معنى النهي عن العمل بخبره، وحقيقته الكشف عن عدم اعتبار حجيته وهذا أيضا كالإمضاء لما بني عليه العقلاء من عدم حجية الخبر الذي لا يوثق بمن يخبر به وعدم ترتيب الأثر على خبره.

بيان ذلك: أن حياة الإنسان حياة علمية يبني فيها سلوكه طريق الحياة على ما يشاهده من الخير والشر والنافع والضار والرأي الذي يأخذ به فيه، ولا يتيسر له ذلك إلا فيما هو بمرأى منه ومشهد، وما غاب عنه مما تتعلق به حياته ومعاشه أكثر مما يحضره وأكثر فاضطر إلى تتميم ما عنده من العلم بما هو عند غيره من العلم الحاصل بالمشاهدة والنظر، ولا طريق إليه إلا السمع وهو الخبر.

فالركون إلى الخبر بمعنى ترتيب الأثر عليه عملا ومعاملة مضمونة معاملة العلم الحاصل للإنسان من طريق المشاهدة والنظر في الجملة مما يتوقف عليه حياة الإنسان الاجتماعية توقفا ابتدائيا، وعليه بناء العقلاء ومدار العمل.

فالخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرائن قطعية توجب قطعية مضمونه كان حجة معتبرة من غير توقف فيها فإن لم يكن متواترا ولا محفوفا بما يفيد قطعية مضمونه وهو المسمى بخبر الواحد اصطلاحا كان المعتبر منه عندهم ما هو الموثوق به بحسب نوعه وإن لم يفده بحسب شخصه، وكل ذلك لأنهم لا يعملون إلا بما يرونه علما وهو العلم الحقيقي أو الوثوق والظن الاطمئناني المعدود علما عادة.

إذا تمهد هذا فقوله تعالى في تعليل الأمر بالتبين في خبر الفاسق: ﴿أن تصيبوا قوما بجهالة﴾ إلخ، يفيد أن المأمور به هو رفع الجهالة وحصول العلم بمضمون الخبر عند ما يراد العمل به وترتيب الأثر عليه ففي الآية إثبات ما أثبته العقلاء ونفي ما نفوه في هذا الباب، وهو إمضاء لا تأسيس.

قوله تعالى: ﴿واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم﴾ إلخ، العنت الإثم والهلاك، والطوع والطاعة الانقياد لكن أكثر ما يقال الطاعة في الائتمار لما أمر والارتسام لما رسم على ما ذكره الراغب لكن ربما يعكس الأمر فيسمى جري المتبوع على ما يريده التابع ويهواه طاعة من المتبوع للتابع ومنه قوله تعالى في الآية: ﴿لو يطيعكم﴾ حيث سمي عمل الرسول على ما يراه ويهواه المؤمنون طاعة منه لهم.

والآية على ما يفيده السياق من تتمة الكلام في الآية السابقة تعمم ما فيها من الحكم وتؤكد ما فيها من التعليل فمضمون الآية السابقة الحكم بوجوب التبين في خبر الفاسق وتعليله بوجوب التحرز عن بناء العمل على الجهالة، ومضمون هذه الآية تنبيه المؤمنين على أن الله سبحانه أوردهم شرع الرشد ولذلك حبب إليهم الإيمان وزينة في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان فعليهم أن لا يغفلوا عن أن فيهم رسول الله وهو مؤيد من عند الله وعلى بينة من ربه لا يسلك إلا سبيل الرشد دون الغي فعليهم أن يطيعوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يأمرهم به ويريدوا ما أراده ويختاروا ما اختاره، ولا يصروا على أن يطيعهم في آرائهم وأهوائهم فإنه لو يطيعهم في كثير من الأمر جهدوا وهلكوا.

فقوله: ﴿واعلموا أن فيكم رسول الله﴾ عطف على قوله في الآية السابقة: ﴿فتبينوا﴾ وتقديم الخبر للدلالة على الحصر، والإشارة إلى ما هو لازمه فإن اختصاصهم بكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم لازمه أن يتعلقوا بالرشد ويتجنبوا الغي ويرجعوا الأمور إليه ويطيعوه ويتبعوا أثره ولا يتعلقوا بما تستدعيه منهم أهواؤهم.

فالمعنى: ولا تنسوا أن فيكم رسول الله، وهو كناية عن أنه يجب عليهم أن يرجعوا الأمور ويسيروا فيما يواجهونه من الحوادث على ما يراه ويأمر به من غير أن يتبعوا أهواء أنفسهم.

وقوله: ﴿لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم﴾ أي جهدتم وهلكتم، والجملة كالجواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: لما ذا نرجع إليه ولا يرجع إلينا ولا يوافقنا؟ فأجيب بأنه ﴿لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم﴾.

وقوله: ﴿ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم﴾ استدراك عما يدل عليه الجملة السابقة: ﴿لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم﴾ من أنهم مشرفون بالطبع على الهلاك والغي فاستدرك أن الله سبحانه أصلح ذلك بما أنعم عليهم من تحبيب الإيمان وتكريه الكفر والفسوق والعصيان.

والمراد بتحبيب الإيمان إليهم جعله محبوبا عندهم وبتزيينه في قلوبهم تحليته بجمال يجذب قلوبهم إلى نفسه فيتعلقون به ويعرضون عما يلهيهم عنه.

وقوله: ﴿وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان﴾ عطف على ﴿حبب﴾ وتكريه الكفر وما يتبعه إليهم جعلها مكروهة عندهم تتنفر عنها نفوسهم، والفرق بين الفسوق والعصيان - على ما قيل - إن الفسوق هو الخروج عن الطاعة إلى المعصية، والعصيان نفس المعصية وإن شئت فقل: جميع المعاصي، وقيل: المراد بالفسوق الكذب بقرينة الآية السابقة والعصيان سائر المعاصي.

وقوله: ﴿أولئك هم الراشدون﴾ بيان أن حب الإيمان والانجذاب إليه وكراهة الكفر والفسوق والعصيان هو سبب الرشد الذي يطلبه الإنسان بفطرته ويتنفر عن الغي الذي يقابله فعلى المؤمنين أن يلزموا الإيمان ويتجنبوا الكفر والفسوق والعصيان حتى يرشدوا ويتبعوا الرسول ولا يتبعوا أهواءهم.

ولما كان حب الإيمان والانجذاب إليه وكراهة الكفر ونحوه صفة بعض من كان الرسول فيهم دون الجميع كما يصرح به الآية السابقة، وقد وصف بذلك جماعتهم تحفظا على وحدتهم وتشويقا لمن لم يتصف بذلك منهم غير السياق والتفت عن خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ﴿أولئك هم الراشدون﴾ والإشارة إلى من اتصف بحب الإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، ليكون مدحا للمتصفين بذلك وتشويقا لغيرهم.

واعلم أن في قوله: ﴿واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم﴾ إشعارا بأن قوما من المؤمنين كانوا مصرين على قبول نبأ الفاسق الذي تشير إليه الآية السابقة، وهو الوليد بن عقبة أرسله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني المصطلق لأخذ زكواتهم فجاء إليهم فلما رآهم هابهم ورجع إلى المدينة وأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم ارتدوا فعزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قتالهم فنزلت الآية فانصرف وفي القوم بعض من يصر على أن يغزوهم.

وسيجيء القصة في البحث الروائي التالي.

قوله تعالى: ﴿فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم﴾ تعليل لما تقدم من فعله تعالى بالمؤمنين من تحبيب الإيمان وتزيينه وتكريه الكفر والفسوق والعصيان أي إن ذلك منه تعالى مجرد عطية ونعمة لا إلى بدل يصل إليه منهم لكن ليس فعلا جزافيا فإنه تعالى عليهم بمورد عطيته ونعمته حكيم لا يفعل ما يفعل جزافا كما قال: ﴿وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما﴾ الفتح: 26.

قوله تعالى: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما﴾ إلى آخر الآية الاقتتال والتقاتل بمعنى واحد كالاستباق والتسابق، ورجوع ضمير الجمع في ﴿اقتتلوا﴾ إلى الطائفتين باعتبار المعنى فإن كلا من الطائفتين جماعة ومجموعهما جماعة كما أن رجوع ضمير التثنية إليهما باعتبار المعنى.

ونقل عن بعضهم في وجه التفرقة بين الضميرين: أنهم أولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم، وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثنى الضمير.

وقوله: ﴿فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ البغي الظلم والتعدي بغير حق، والفيء الرجوع، والمراد بأمر الله ما أمر به الله، والمعنى: فإن تعدت إحدى الطائفتين على الأخرى بغير حق فقاتلوا الطائفة المتعدية حتى ترجع إلى ما أمر به الله وتنقاد لحكمه.

وقوله: ﴿فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل﴾ أي فإن رجعت الطائفة المتعدية إلى أمر الله فأصلحوا بينهما لكن لا إصلاحا بوضع السلاح وترك القتال فحسب بل إصلاحا متلبسا بالعدل بإجراء أحكام الله فيما تعدت به المتعدية من دم أو عرض أو مال أو أي حق آخر ضيعته.

وقوله: ﴿وأقسطوا إن الله يحب المقسطين﴾ الإقساط إعطاء كل ما يستحقه من القسط والسهم وهو العدل فعطف قوله: ﴿وأقسطوا﴾ على قوله: ﴿أصلحوا بينهما بالعدل﴾ من عطف المطلق على المقيد للتأكيد، وقوله: ﴿إن الله يحب المقسطين﴾ تعليل يفيد تأكيدا على تأكيد كأنه قيل: أصلحوا بينهما بالعدل وأعدلوا دائما وفي جميع الأمور لأن الله يحب العادلين لعدالتهم.

قوله تعالى: ﴿إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم﴾ استئناف مؤكد لما تقدم من الإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، وقصر النسبة بين المؤمنين في نسبة الإخوة مقدمة ممهدة لتعليل ما في قوله: ﴿فأصلحوا بين أخويكم﴾ من حكم الصلح فيفيد أن الطائفتين المتقاتلتين لوجود الإخوة بينهما يجب أن يستقر بينهما الصلح، والمصلحون لكونهم إخوة للمتقاتلتين يجب أن يسعوا في إصلاح ما بينهما.

وقوله: ﴿فأصلحوا بين أخويكم﴾ ولم يقل: فأصلحوا بين الأخوين من أوجز الكلام وألطفه حيث يفيد أن المتقاتلتين بينهما أخوة فمن الواجب أن يستقر بينهما الصلح وسائر المؤمنين إخوان للمتقاتلتين فيجب عليهم أن يسعوا في الإصلاح بينهما.

وقوله: ﴿واتقوا الله لعلكم ترحمون﴾ موعظة للمتقاتلتين والمصلحين جميعا.

كلام في معنى الإخوة واعلم أن قوله: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ جعل تشريعي لنسبة الإخوة بين المؤمنين لها آثار شرعية وحقوق مجعولة، وقد تقدم في بعض المباحث المتقدمة أن من الأبوة والبنوة والأخوة وسائر أنواع القرابة ما هو اعتباري مجعول يعتبره الشرائع والقوانين لترتيب آثار خاصة عليه كالوراثة والإنفاق وحرمة الإزدواج وغير ذلك، ومنها ما هو طبيعي بالانتهاء إلى صلب واحد أو رحم واحدة أو هما.

والاعتباري من القرابة غير الطبيعي منها فربما يجتمعان كالأخوين المتولدين بين الرجل والمرأة عن نكاح مشروع، وربما يختلفان كالولد الطبيعي المتولد من زنا فإنه ليس ولدا في الإسلام ولا يلحق بمولده وإن كان ولدا طبيعيا، وكالداعي الذي هو ولد في بعض القوانين وليس بولد طبيعي.

واعتبار المعنى الاعتباري وإن كان لغرض ترتيب آثار حقيقته عليه كما يؤخذ أحد القوم رأسا لهم ليكون نسبته إليهم نسبة الرأس إلى البدن فيدبر أمر المجتمع ويحكم بينهم وفيهم كما يحكم الرأس على البدن.

لكن لما كان الاعتبار لمصلحة مقتضية كان تابعا للمصلحة فإن اقتضت ترتيب جميع آثار الحقيقة ترتبت عليه جميعا وإن اقتضت بعضها كان المترتب على الموضوع الاعتباري ذلك البعض كما أن القراءة مثلا جزء من الصلاة والجزء الحقيقي ينتفي بانتفائه الكل مطلقا لكن القراءة لا ينتفي بانتفائها الصلاة إذا كان ذلك سهوا وإنما تبطل الصلاة إذا تركت عمدا.

ولذلك أيضا ربما اختلفت آثار معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة كجزئية الركوع حيث تبطل الصلاة بزيادته ونقيصته عمدا وسهوا بخلاف جزئية القراءة كما تقدم فمن الجائز أن يختلف الآثار المترتبة على معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة لكن لا تترتب الآثار الاعتبارية إلا على موضوع اعتباري كالإنسان يتصرف في ماله لكن لا بما أنه إنسان بل بما أنه مالك والأخ يرث أخاه في الإسلام لا لأنه أخ طبيعي يشارك الميت في الوالد أو الوالدة أو فيهما - فولد الزنا كذلك ولا يرث أخاه الطبيعي - بل يرثه لأنه أخ في الشريعة الإسلامية.

والإخوة من هذا القبيل فمنها أخوة طبيعية لا أثر لها في الشرائع والقوانين وهي اشتراك إنسانين في أب أو أم أو فيهما، ومنها أخوة اعتبارية لها آثار اعتبارية وهي في الإسلام أخوة نسبية لها آثار في النكاح والإرث، وأخوة رضاعية لها آثار في النكاح دون الإرث، وأخوة دينية لها آثار اجتماعية ولا أثر لها في النكاح والإرث، وسيجيء قول الصادق (عليه السلام): المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه ولا يغشه، ولا يعده عدة فيخلفه.

وقد خفي هذا المعنى على بعض المفسرين فأخذ إطلاق الإخوة في كلامه تعالى على المؤمنين إطلاقا مجازيا من باب الاستعارة بتشبيه الاشتراك في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة، والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان، وقيل: هو من باب التشبيه البليغ من حيث انتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للبقاء الأبدي.

بحث روائي:

في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ما سلت السيوف، ولا أقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف، ولا جهر بأذان، ولا أنزل الله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ حتى أسلم أبناء قبيلة الأوس والخزرج.

أقول: وعن ابن عباس أيضا: ما نزل يا أيها الذين آمنوا إلا بالمدينة، ولا ﴿يا أيها الناس﴾ إلا بمكة الخبر.

وتوقف بعضهم في عموم ذيله، واعلم أن هناك روايات في الدر المنثور، وتفسير القمي، في سبب نزول قوله: ﴿لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾ الآية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق تركناها من أراد الوقوف عليها فليراجعهما.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو يعلى والبغوي في معجم الصحابة، وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، عن أنس قال: لما نزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى قوله- وأنتم لا تشعرون﴾ وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حبط عملي أنا من أهل النار، وجلس في بيته حزينا.

ففقده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: فقدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجهر له بالقول حبط عملي وأنا من أهل النار، فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه بذلك فقال: لا بل هو من أهل الجنة.

فلما كان يوم اليمامة قتل.

أقول: قوله: ﴿فلما كان يوم اليمامة قتل﴾ من كلام الراوي يريد أنه استشهد يوم اليمامة فكان ذلك تصديق قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والرواية مروية بطرق مختلفة أخرى باختلاف يسير.

وفيه، أخرج البخاري في الأدب، وابن أبي الدنيا والبيهقي عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشي من خارج بمسوح الشعر وأظن عرض الباب من باب الحجرة إلى باب البيت نحوا من ستة أو سبعة أذرع وأحزر البيت الداخل عشرة أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والسبع: أقول: وروي مثل صدره عن ابن سعد عن عطاء الخراساني قال: أدركت حجر أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود.

وفيه، أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها.

قلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي وترسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا لتأتيك ما جمعت من الزكاة.

فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطه من الله ورسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان وقت لي وقتا يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البعث إلى الحارث.

فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك.

قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله.

قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته ولا أتاني.

فلما دخل الحارث على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله فنزل ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ - فتبينوا إلى قوله حكيم﴾.

أقول: نزول الآية في قصة الوليد بن عقبة مستفيض من طرق أهل السنة والشيعة وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ﴾ نزلت في الوليد بن عقبة.

وفي المحاسن، بإسناده عن زياد الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث له قال: يا زياد ويحك وهل الدين إلا الحب؟ ألا ترى إلى قول الله: ﴿إن كنتم تحبون الله فاتبعوني - يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾ أولا ترون إلى قول الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم﴾ قال: ﴿يحبون من هاجر إليهم﴾ وقال: الحب هو الدين والدين هو الحب: أقول: وروي في الكافي، بإسناده عن فضيل بن يسار عن الصادق (عليه السلام) ما في معناه ولفظه: وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ ثم تلا هذه الآية: ﴿حبب إليكم الإيمان﴾ إلى آخر الآية:.

وفي المجمع، وقيل: الفسوق هو الكذب عن ابن عباس وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).

أقول: وفي هذا المعنى بعض روايات أخر.

وفي الكافي، بإسناده عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه.

أقول: وفي معناه روايات أخر عنه (عليه السلام) وفي بعضها: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يغتابه.

وفي المحاسن، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه وذلك أن الله تبارك وتعالى خلق المؤمن من طينة جنان السماوات، وأجرى فيهم من ريح روحه فلذلك هو أخوه لأبيه وأمه.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليهم قال: إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك.

فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل فيهم ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا - فأصلحوا بينهما﴾.

أقول: وفي بعض الروايات كما في المجمع، أن الذي قال ذلك لعبد الله بن أبي بن سلول هو عبد الله بن رواحة وأن التضارب وقع بين رهطه من الأوس ورهط عبد الله بن أبي من الخزرج، وفي انطباق الآية بموضوعها وحكمها على هذه الروايات خفاء.