الآيات 17-26

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ﴿17﴾ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿18﴾ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴿19﴾ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴿20﴾ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴿21﴾ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴿22﴾ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ﴿23﴾ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴿24﴾ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴿25﴾ اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ﴿26﴾

بيان:

لما أتم الحجة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثم أبان لهم الفرق الجلي بين الحق والباطل والفرق بين من يأخذ بهذا أو يتعاطى ذاك بقوله: ﴿قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور﴾ أخذ في البيان التفصيلي للفرق بين الطريقين طريق الحق الذي هو الإيمان بالله والعمل الصالح وطريق الباطل الذي هو الشرك والعمل السيىء وأهلهما الذين هم المؤمنون والمشركون، وأن للأولين السلام وعاقبة الدار وللآخرين اللعنة ولهم سوء الدار والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وبدأ سبحانه الكلام في ذلك كله بمثل يبين به حال الحق والباطل وأثر كل منهما الخاص به ثم بنى الكلام على ذلك في وصف حال الطريقين والفريقين.

قوله تعالى: ﴿أنزل من السماء ماء﴾ إلى آخر الآية قال في مجمع البيان،: الوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، ومنه اشتقاق الدية لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل، والقدر اقتران الشيء بغيره من غير زيادة ولا نقصان والوزن يزيد وينقص فإذا كان مساويا فهو القدر، وقرأ الحسن بقدرها بسكون الدال، وهما لغتان يقال: أعطي قدر شبر وقدر شبر، والمصدر بالتخفيف لا غير.

قال: والاحتمال رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له، ويقال: علا صوته على فلان فاحتمله ولم يغضبه، والزبد وضر الغليان وهو خبث الغليان ومنه زبد القدر وزبد السيل.

والجفاء ممدود مثل الغثاء وأصله الهمز يقال: جفأ الوادي جفاء قال أبو زيد: يقال: جفأت الرجل إذا صرعته وأجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، قال الفراء: كل شيء ينضم بعضه إلى بعض فإنه يجيء على فعال مثل الحطام والقماش والغثاء والجفاء.

والإيقاد إلقاء الحطب في النار استوقدت النار، واتقدت وتوقدت، والمتاع ما تمتعت به، والمكث السكون في المكان على مرور الزمان يقال: مكث ومكث - بفتح الكاف وضمها - وتمكث أي تلبث.

وقال الراغب: الباطل نقيض الحق وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه قال تعالى: ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل﴾ وقد يقال ذلك في الاعتبار إلى المقال والفعال يقال: بطل بطولا وبطلا بطلانا وأبطله غيره قال عز وجل: ﴿وبطل ما كانوا يعملون﴾ وقال: ﴿لم تلبسون الحق بالباطل﴾.

فبطلان الشيء هو أن يقدر للشيء نوع من الوجود ثم إذا طبق على الخارج لم يثبت على ما قدر ولم يطابقه الخارج والحق بخلافه فالحق والباطل يتصف بهما أولا الاعتقاد ثم غيره بعناية ما.

فالقول نحو السماء فوقنا والأرض تحتنا يكون حقا لمطابقة الواقع إياه إذا فحص عنه وطبق عليه، ولقولنا: السماء تحتنا والأرض فوقنا كان باطلا لعدم ثباته في الواقع على ما قدر له من الثبات، والفعل يكون حقا إذا وقع على ما قدر له من الغاية أو الأمر كالأكل للشبع والسعي للرزق وشرب الدواء للصحة مثلا إذا أثر أثره وبلغ غرضه، ويكون باطلا إذا لم يقع على ما قدر عليه من الغاية أو الأمر والشيء الموجود في الخارج حق من جهة أنه موجود كما اعتقد كوجود الحق تعالى، والشيء غير الموجود وقد اعتقد له الوجود باطل وكذا لو كان موجودا لكن قدر له من خواص الوجود ما ليس له كتقدير الاستقلال والبقاء للموجود الممكن فالموجود الممكن باطل من جهة عدم الاستقلال أو البقاء المقدر له وإن كان حقا من جهة أصل الوجود قال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.

وكل نعيم لا محالة زائل.

والآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية تبحث عن طبيعة الحق والباطل فتصف بدء تكونهما وكيفية ظهورهما والآثار الخاصة بكل منهما وسنة الله سبحانه الجارية في ذلك ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا.

بين تعالى ذلك بمثل ضربه للناس، وليس بمثلين كما قاله بعضهم ولا بثلاثة أمثال كما ذكره آخرون كما سنشير إليه إن شاء الله وإنما هو مثل واحد ينحل إلى أمثال فقال تعالى: ﴿أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا﴾ وقوله: ﴿أنزل﴾ فعل فاعله هو الله سبحانه لم يذكر لوضوحه، وتنكير ﴿ماء﴾ للدلالة على النوع وهو الماء الخالص الصافي يعني نفس الماء من غير أن يختلط بشيء أو يشوبه تغير، وتنكير ﴿أودية﴾ للدلالة على اختلافها في الكبر والصغر والطول والقصر وتغايرها في السعة والوعي، ونسبة السيلان إلى الأودية نسبة مجازية نظير قولنا: جرى الميزاب وتوصيف الزبد بالرابي لكونه طافيا يعلو سيل دائما وهذا كله بدلالة السياق، وإنما مثل بالسيل لأن احتمال الزبد الرابي فيه أظهر.

والمعنى: أنزل الله سبحانه من السماء وهي جهة العلو ماء بالأمطار فسالت الأدوية الواقعة في محل الأمطار المختلفة بالسعة والضيق والكبر والصغر بقدرها أي كل بقدره الخاص به فالكبير بقدره والصغير بقدره فاحتمل السيل الواقع في كل واحد من الأودية المختلفة زبدا طافيا عاليا هو الظاهر على الحس يستر الماء سترا.

ثم قال تعالى: ﴿ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله﴾ من نشوية وما يوقدون عليه أنواع الفلزات والمواد الأرضية القابلة للإذابة المصوغة منها آلات الزينة وأمتعة الحياة التي يتمتع بها والمعنى ويخرج من الفلزات والمواد الأرضية التي يوقدون عليها في النار طلبا للزينة كالذهب والفضة أو طلبا لمتاع كالحديد وغيره يتخذ منه الآلات والأدوات، زبد مثل الزبد الذي يربو السيل يطفو على المادة المذابة ويعلوه.

ثم قال تعالى: ﴿كذلك يضرب الله الحق والباطل﴾ أي يثبت الله الحق والباطل نظير ما فعل في السيل وزبده وما يوقدون عليه في النار وزبده.

فالمراد بالضرب - والله أعلم - نوع من التثبيت من قبيل قولنا: ضربت الخيمة أي نصبتها وقوله: ضربت عليهم الذلة والمسكنة أي أوقعت وأثبتت وضرب بينهم بسور أي أوجد وبني، واضرب لهم طريقا في البحر أي افتح وثبت وإلى هذا المعنى أيضا يعود ضرب المثل لأنه تثبيت ونصب لما يماثل الممثل حتى يتبين به حاله، والجميع في الحقيقة من قبيل إطلاق الملزوم وإرادة اللازم فإن الضرب وهو إيقاع شيء على شيء بقوة وعنف لا ينفك عادة عن تثبيت أمر في ما وقع عليه الضرب كثبوت الوتد في الأرض بضرب المطرقة وحلول الألم في جسم الحيوان بضربه فقد أطلق الضرب وهو الملزوم وأريد التثبيت وهو الأمر اللازم.

ومن هنا يظهر أن قول المفسرين إن في الجملة حذفا أو مجازا والتقدير كذلك يضرب الله مثل الحق والباطل أو مثل الحق ومثل الباطل - على اختلاف تفسيرهم - في غير محله فإنه تكلف من غير موجب ولا دليل يدل عليه.

على أنه لو أريد به ذلك لكان موضعه المناسب له هو آخر الكلام وقد وقع فيه قوله تعالى: ﴿كذلك يضرب الله الأمثال﴾ وهو يغني عنه.

على أن ما ذكروه من المعنى يرجع إلى ما ذكرناه بالآخرة فإن كون حديث السيل والزبد أو ما يوقد عليه والزبد مثلا للحق والباطل يوجب كون ثبوت الحق نظير ثبوت السيل وثبوت ما يوقد عليه، وكون ثبوت الباطل نظير ثبوت الزبد فلا موجب للتقدير مع استقامة المعنى بدونه.

ثم قال تعالى: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ جمع بين الزبدين أعني زبد السيل وزبد ما يوقدون عليه وقد كانا متفرقين في الذكر لاشتراك الجميع فيما يذكر من الخاصة وهو أنه يذهب جفاء، ولذا قدمنا آنفا أن الآية تتضمن مثلا واحدا وإن انحل إلى غير واحد من الأمثال.

وقد عدل عن ذكر الماء وغيره إلى قوله: ﴿وأما ما ينفع الناس﴾ للدلالة على خاصة يختص بها الحق وهو أن الناس ينتفعون به وهو الغاية المطلوبة لهم.

والمعنى: فأما الزبد الذي كان يطفو على السيل ويعلوه أو يخرج مما يوقدون عليه في النار فيذهب جفاء ويصير باطلا متلاشيا، وأما الماء الخالص أو العين الأرضية المصوغة وفيهما انتفاع الناس وتمتعهم في معاشهم فيمكث في الأرض ينتفع به الناس.

ثم قال تعالى: ﴿كذلك يضرب الله الأمثال﴾ وختم به القول أي إن الأمثال المضروبة للناس في كلامه تعالى يشابه المثل المضروب في هذه الآية في أنها تميز الحق من الباطل وتبين للناس ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم.

ولا يبعد أن تكون الإشارة بقوله: ﴿كذلك﴾ إلى ما ذكره من أمر نزول المطر وجريان الأدوية بسيولها المزبدة وإيقاد المواد الأرضية وخروج زبدها، أعني أن تكون الإشارة إلى نفس هذه الحوادث الخارجية والتكونات العينية لا القول فيدل على أن هذه الوقائع الكونية والحوادث الواقعة في عالم الشهادة أمثال مضروبة تهدي أولي النهي والبصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق كما أن ما في عالم الشهادة آيات دالة على ما في عالم الغيب على ما تكرر ذكره في القرآن الكريم، ولا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالا مضروبة أو آيات دالة وهو ظاهر.

وقد تبين بهذا المثل المضروب في الآية أمور هي من كليات المعارف الإلهية: أحدها: أن الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الذي هو بمنزلة الرحمة السماوية والمطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور والأقدار وإنما يتقدر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الذي يحتمل من القدر والصورة وما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار والصور فإنما تنال الأشياء من العطية الإلهية بقدر قابليتها واستعداداتها وتختلف باختلاف الاستعدادات والظروف والأوعية.

وهذا أصل عظيم يدل عليه أو يلوح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر: 21 وقوله: ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج﴾ الزمر: 6 ومن الدليل عليه جميع آيات القدر.

ثم إن هذه الأمور المسماة بالأقدار وإن كانت خارجة عن الإفاضة السماوية مقدرة لها لكنها غير خارجة عن ملك الله سبحانه وسلطانه ولا واقعة من غير إذنه وقد قال تعالى، ﴿إليه يرجع الأمر كله﴾ هود: 123، وقال: ﴿بل لله الأمر جميعا﴾ الآية: 31 من السورة وبانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدق معنى وأوسع مصداقا.

وثانيها: أن تفرق هذه الرحمة السماوية في أودية العالم وتقدرها بالأقدار المقارنة لها لا ينفك عن أخباث وفضولات تعلوها وتظهر منها غير أنها باطلة أي زائلة غير ثابتة بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدرة بالأقدار فإنها باقية ثابتة أي حقة وعند ذلك ينقسم ما في الوجود إلى حق وهو الثابت الباقي وباطل وهو الزائل غير الثابت.

والحق من الله سبحانه والباطل ليس إليه وإن كان بإذنه قال تعالى: ﴿الحق من ربك﴾ آل عمران: 60 وقال: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا﴾ ص: 27 فهذه الموجودات يشتمل كل منها على جزء حق ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو الباطل منها كما قال: ﴿ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى﴾ الأحقاف: 3 وقال: ﴿ويحق الله الحق بكلماته﴾ يونس: 82 وقال: ﴿إن الباطل كان زهوقا﴾ الإسراء: 81 وقال: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾ الأنبياء: 18.

وثالثها: أن من حكم الحق أنه لا يعارض حقا غيره ولا يزاحمه بل يمده وينفعه في طريقه إلى كماله ويسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة، يدل على ذلك تعليقه البقاء والمكث في الآية على الحق الذي ينفع الناس.

وليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع والتزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود فإنما هو دار التنازع والتزاحم لا يرى فيه إلا نار يخمدها ماء وماء تفنيها نار وأرض يأكلها نبات ونبات يأكله حيوان ثم الحيوان يأكل بعضه بعضا ثم الأرض يأكل الجميع بل المراد أن هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس والانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض الإلهية ويتسبب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعية فمثلها مثل القدوم والخشب فإنهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجار في صنعة الباب مثلا، ومثل كفتي الميزان فإنهما في تعارضهما وتصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن، وهذا بخلاف الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنه يعارض الغرض الحق ويخيب السعي فيفسد من غير إصلاح ويضر من غير نفع.

ومن هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله: ﴿وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه﴾ الجاثية: 13 فكل شيء منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنه يسلك في ذلك إلى تحصيل ما أراده الله سبحانه من الأمر.

وهذه الأصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل أحكام الصنع والإيجاد، ولئن تدبرت في الآيات القرآنية التي تذكر الحق والباطل وأمعنت فيها رأيت عجبا.

واعلم أن هذه الأصول كما تجري في الأمور العينية والحقائق الخارجية كذلك تجري في العلوم والاعتقادات فمثل الاعتقادات الحق في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء الجاري في الأودية على اختلاف سعتها وينتفع به الناس وتحيى قلوبهم ويمكث فيهم الخير والبركة، ومثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الذي يربو السيل لا يلبث دون أن يذهب جفاء ويصير سدى، قال تعالى: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء﴾ إبراهيم: 27.

قوله تعالى: ﴿للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له﴾ إلى آخر الآية المهاد الفراش الذي يوطأ لصاحبه والمكان الممهد الموطأ وسميت جهنم مهادا لأنها مهدت لاستقرارهم فيها لكفرهم وأعمالهم السيئة.

والآية وما بعدها من الآيات التسعة متفرعة على المثل المضروب في الآية السابقة - كما تقدمت الإشارة إليه يبين الله سبحانه فيها آثار الاعتقاد الحق والإيمان به والاستجابة لدعوته، وآثار الاعتقاد الباطل والكفر به وعدم استجابة دعوته ويشهد بذلك سياق الآيات فإن الحديث فيها يدور حول عاقبة الإيمان والكفر وأن العاقبة المحمودة التي للإيمان لا يقوم مقامها شيء ولو كان ضعف ما في الدنيا من نعمة.

وعلى هذا فالأظهر أن يكون المراد بالحسنى العاقبة الحسنى وما ذكره بعضهم أن المراد بها المثوبة الحسنى أو الجنة وإن كان حقا بحسب المآل فإن عاقبة الإيمان والعمل الصالح المحمودة هي المثوبة الإلهية الحسنى وهي الجنة لكن المثوبة أو الجنة غير مقصودة في المقام بما أنها مثوبة أو جنة بل بما أنها عاقبة أمرهم وينتهي إليها سعيهم.

ويؤيده بل يدل عليه قوله تعالى فيهم في الآيات التالية بعد تعريفهم بصفاتهم المختصة بهم: ﴿أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها﴾ الآية.

وعلى هذا أيضا فقوله: ﴿لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به﴾ موضوع موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها وبلوغها الغاية من حمل الهول والدهشة والشر والشقوة بما لا يذكر.

والمعنى: والذين لم يستجيبوا لربهم يحل بهم أمر - أو يفوتهم أمر وهو نتيجة الاستجابة وعاقبتها الحسنى من صفته أنه لو أن لهم ما في الأرض من نعمة تلتذ بها النفس الإنسانية وهو غاية ما يمكن لإنسان أن يأمله ويتمناه ثم أضيف إليه مثله وهو فوق منية الإنسان وبعبارة ملخصة لو كانوا يملكون غاية مناهم في الحياة وما فوق هذه الغاية رضوا أن يفتدوا بهذا الذي يملكونه فرضا عما يفوتهم من الحسنى، وفي بعض كلمات علي (عليه السلام): في وصفه: ﴿غير موصوف ما نزل بهم﴾ .

ثم أخبر تعالى عن هذا الذي لا يوصف من عاقبة أمرهم فقال: ﴿أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم﴾ وسوء الحساب الحساب الذي يسوؤهم ولا يسرهم فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ثم ذم تعالى ذلك مشيرا إلى سوء العاقبة بقوله: ﴿وبئس المهاد﴾ أي بئس المهاد مهادهم الذي مهد لهم ويستقرون فيه، ومجموع قوله: ﴿أولئك لهم سوء الحساب﴾ إلخ في موضع التعليل لما ذكر من الافتداء والتعليل بالإشارة كثير في الكلام يقال: افعل بفلان كذا وكذا ذاك الذي من صفته كذا وكذا.

ومعنى الآية والله أعلم - للذين استجابوا لدعوة ربهم الحقة العاقبة الحسنى والذين لم يستجيبوا له لهم من عاقبة الأمر ما يرضون أن يفدوا للتخلص منه فوق ما يمكنهم أن يتمنوه لأن الذي يحل بهم من العاقبة السيئة يتضمن أو يقارن سوء الحساب والقرار في وبئس المهاد مهادهم.

وقد وضع في الآية الاستجابة وعدم الاستجابة مكان الإيمان والكفر لمناسبة المثل المضروب في الآية السابقة من نزول الماء من السماء وقبول الأودية منه كل بقدره، والاستجابة قبول الدعوة.

قوله تعالى: ﴿أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب﴾ استفهام إنكاري وهو في موضع التعليل لما تتضمنه الآية السابقة، وبيان تفصيلي لعاقبة حال الفريقين من حيث استجابة دعوة الحق وعدمها.

وملخص البيان: أن الحق يستقر في قلوب هؤلاء الذين استجابوا لربهم فتصير قلوبهم ألبابا وقلوبا حقيقية لها آثارها وبركاتها وهو التذكر والتبصر، ومن خواص هذه القلوب التي يعرف بها صاحبوها أن أولي الألباب يثبتون على الوفاء بعهد الله المأخوذ عنهم بفطرتهم فلا ينقضون ميثاق ربهم، ويثبتون على احترام ما وصلهم الله به وهي الرحم التي أجرى الله الخلقة من طريقها فيصلونها وهم خاشعون خائفون، ويثبتون بالصبر عند المصائب وعن المعصية وعلى الطاعة، ويجرون بالتوجه إلى ربهم وهو الصلاة، وإصلاح المجتمع وهو الإنفاق، ودرء السيئات بالحسنات.

فهؤلاء لهم عاقبة الدار المحمودة وهي الجنة يدخلونها وتنعكس إليهم فيها مثوبات أعمالهم الحسنة المذكورة فيصاحبون فيها الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم كما وصلوا الرحم في الدنيا، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب مسلمين عليهم بما صبروا كما فتحوا أبواب العبادات والطاعات المختلفة في الدنيا فهذا هو أثر الحق.

وقوله: ﴿أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى﴾ الاستفهام فيه للإنكار - كما تقدم - وفيه نفي التساوي بين من استقر في قلبه العلم بالحق ومن جهل الحق وفي توصيف الجاهل بالحق بالأعمى إيماء إلى أن العالم به يصير وقد سماه بالأعمى والبصير في قوله آنفا: ﴿قل هل يستوي الأعمى والبصير﴾ الآية، فالعلم بالحق بصيرة والجهل به عمى والتبصر يفيد التذكر ولذا عده من خواص أولي العلم بقوله: ﴿إنما يتذكر﴾.

وقوله: ﴿إنما يتذكر أولوا الألباب﴾ في مقام التعليل لما سبقه أعني قوله: ﴿أفمن يعلم﴾ إلخ، أي أنهما لا يستويان لأن لأولي العلم تذكر ليس لأولي العمى والجهل، وقد وضع في موضع أولي العلم أولوا الألباب فدل على دعوى أخرى تفيد فائدة التعليل كأنه قيل: لا يستويان لأن لأحد الفريقين تذكرا ليس للآخر، وإنما اختص التذكر بهم لأن لهم ألبابا وقلوبا وليس ذلك لغيرهم.

قوله تعالى: ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾ ظاهر السياق أن الجملة الثانية عطف تفسيري على الجملة الأولى فالمراد بالميثاق الذي لا ينقضونه هو عهد الله الذي يوفون به، والمراد بهذا العهد والميثاق بقرينة ما ذكر في الآية السابقة من تذكرهم هو ما عاهدوا به ربهم وواثقوه بلسان فطرتهم أن يوحدوه ويجروا على ما يقتضيه توحيده من الآثار فإن الإنسان مفطور على توحيده تعالى وما يهتف به توحيده، وهذا عهد عاهدته الفطرة وعقد عقدته.

وأما العهود والمواثيق المأخوذة بوسيلة الأنبياء والرسل عن أمر من الله والأحكام والشرائع فكل ذلك من فروع الميثاق الفطري فإن الدين فطري.

قوله تعالى: ﴿والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾ إلخ، الظاهر أن المراد بالأمر هو الأمر التشريعي النازل بشهادة ذيل الآية ﴿ويخافون سوء الحساب﴾ فإن الحساب على الأحكام النازلة في الشريعة ظاهرا وإن كانت مدركة بالفطرة كقبح الظلم وحسن العدل فإن المستضعف الذي لم يبلغه الحكم الإلهي ولم يقصر لا يحاسب عليه كما يحاسب غيره، وقد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الحجة لا تتم على الإنسان بمجرد الإدراك الفطري لو لا انضمام طريق الوحي إليه قال تعالى: ﴿لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾ النساء: 165.

والآية مطلقة فالمراد به كل صلة أمر الله سبحانه بها ومن أشهر مصاديقه صلة الرحم التي أمر الله بها وأكد القول في وجوبها، قال تعالى: ﴿واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام﴾ النساء: 1.

وقد أكد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله: ﴿ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب﴾ فأشار إلى أن في ترك الصلة مخالفة لأمر الله فليخش الله في ذلك وعملا سيئا مكتوبا في صحيفة العمل محفوظا على الإنسان يجب أن يخاف من حسابه السيىء.

والظاهر أن الفرق بين الخشية والخوف أن الخشية تأثر القلب من إقبال الشر أو ما في حكمه، والخوف هو التأثر عملا بمعنى الإقدام على تهيئة ما يتقى به المحذور وإن لم يتأثر القلب ولذا قال سبحانه في صفة أنبيائه: ﴿ولا يخشون أحدا إلا الله﴾ الأحزاب: 39.

فنفى عنهم الخشية عن غيره وقد أثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه كقوله: ﴿فأوجس في نفسه خيفة موسى﴾ طه: 67 وقوله: ﴿وإما تخافن من قوم خيانة﴾ الأنفال: 58.

ولعله إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما أن الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم.

ولذا خص العلماء بها في قوله.

﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ وكذا قول بعضهم: إن الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية أي يابسة.

وكذا قول بعضهم: إن الخوف يتعلق بالمكروه وبمنزله يقال: خفت المرض وخفت زيدا بخلاف الخشية فإنها تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه يقال: خشيت الله.

ولو لا رجوعها إلى ما قدمناه لكانت ظاهرة النقض وذكر بعضهم أن الفرق أغلبي لا كلي، والآخرون أن لا فرق بينهما أصلا وهو مردود بما قدمناه من الآيات.

قوله تعالى: ﴿والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا﴾ إلى آخر الآية، إطلاق الصبر يدل على اتصافهم بجميع شعبه وأقسامه وهي الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية لكنه مع ذلك مقيد بقوله: ﴿ابتغاء وجه ربهم﴾ أي طلبا لوجه ربهم فصفتهم التي يمدحون بها أن يكون صبرهم لوجه الله لأن الكلام في صفاتهم التي تنشأ وتنمو فيهم من استجابتهم لربهم وعلمهم بحقية ما أنزل إليهم من ربهم لا كل صفة يمدحها الناس فيما بينهم وإن لم ترتبط بعبوديتهم وإيمانهم بربهم كالصبر عند الكريهة تمنعا وعجبا بالنفس أو طلبا لجميل الثناء ونحوه كما قيل: وقولي كلما جشأت وجاشت.

مكانك تحمدي أو تستريحي.

والمراد بوجه الرب تعالى هو الجهة المنسوبة إليه تعالى من العمل ونحوه وهي الجهة التي عليها يظهر ويستقر العمل عنده تعالى أعني المثوبة التي له عنده الباقية ببقائه وقد قال تعالى: ﴿والله عنده حسن الثواب﴾ آل عمران: 195، وقال: ﴿وما عند الله باق﴾ النحل: 96 وقال: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ القصص: 88.

وقوله: ﴿وأقاموا الصلاة﴾ أي جعلوها قائمة غير ساقطة بالإخلال بأجزائها وشرائطها أو بالاستهانة بأمرها، وعطف الصلاة وما بعدها على الصبر من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه وتعظيما لأمره.

وقوله: ﴿وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية﴾ المراد به مطلق الإنفاق أعم من الواجب وغيره، والآية مكية لم ينزل وجوب الزكاة عند نزولها بعد، وتقييد الإنفاق بقوله: ﴿سرا وعلانية﴾ للدلالة على استيفائهم حقه فإن من الإنفاق ما يحسن فيه الإسرار ومنه ما يحسن فيه الإعلان فعلى من آمن بما أنزله الله بالحق أن يستوفي من كل حقه فيسر بالإنفاق إذا كان في إعلانه مظنة الرياء أو السمعة أو أهانة أو إذهاب ماء الوجه، ويعلن فيه فيما كان في إعلانه تشويق الناس على البر والمعروف ودفع التهمة ونحو ذلك.

وقوله: ﴿ويدرؤن بالحسنة السيئة﴾ الدرء الدفع والمعنى إذا صادفوا سيئة جاءوا بحسنة تزيد عليها أو تعادلها فيدفعون بها السيئة، وهذا أعم من أن يكون ذلك في سيئة صدرت من أنفسهم فدفعوها بحسنة جاءوا بها فإن الحسنات يذهبن السيئات أو دفعوها بتوبة إلى ربهم فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له أو في سيئة أتى بها غيرهم بالنسبة إليهم كمن ظلمهم فدفعوه بالعفو أو بالإحسان إليه أو من جفاهم فقابلوه بحسن الخلق والبشر كما إذا خاطبهم الجاهلون فقالوا.

سلاما أو أتى بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف فأمروا به.

فذلك كله من درء السيئة بالحسنة ولا دليل من جانب اللفظ يدل على التخصيص ببعض هذه الوجوه البتة.

وقد اختلف التعبير في هذه الصفات المذكورة لأولي الألباب: ﴿الذين يوفون ولا ينقضون ويصلون ويخشون ويخافون وصبروا وأقاموا وأنفقوا ويدرءون﴾ فأتي في بعضها - وهي ستة بلفظ المضارع، وفي بعضها - وهي ثلاثة - بلفظ الماضي.

وقد نقل عن بعضهم في وجه ذلك أن التعبير في قوله: ﴿والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم﴾ إلخ بلفظ الماضي وفيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن هذه الأفعال وقعت صلة للموصول يعني ﴿الذين﴾ والموصول وصلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطية، والماضي والمضارع يستويان معنى في الجملة الشرطية نحو إن ضربت ضربت وإن تضرب أضرب فكذا فيما بمعناه.

ولذا قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي وأن يراد به الاستقبال فمن الأول ﴿الذين قال لهم الناس﴾ ومن الثاني ﴿إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم﴾.

وفيه أن إلغاء خصوصية زمان الفعل من المضي والاستقبال في الشرط وما في معناه لا يستوجب إلغاء لوازم الأزمنة كالتحقق في الماضي والجريان والاستمرار ونحوهما في المضارع فإن في الماضي مثلا عناية بالتحقق وإن كان ملغى الزمان فصحة السؤال عن نكتة اختلاف التعبير في محله بعد.

ويستفاد من كلام بعض آخر في وجهه أن المراد بالأوصاف المتقدمة أعني الوفاء بالعهد والصلة والخشية والخوف الاستصحاب والاستمرار لكن الصبر لما كان مما يتوقف على تحققه التلبس بتلك الأوصاف اعتني بشأنه فعبر بلفظ الماضي الدال على التحقق وكذا في الصلاة والإنفاق اعتناء بشأنهما.

وفيه أن بعض الصفات السابقة لا يقصر في الأهمية عن الصبر والصلاة والإنفاق كالوفاء بعهد الله الذي أريد به الإيمان بالله بإجابة دعوة الفطرة فلو كان الاعتناء بالشأن هو الوجه كان من الواجب أن يعبر عنه بلفظ الماضي كغيره من الصبر والصلاة والإنفاق.

والذي أحسب - والله أعلم - أن مجموع قوله تعالى: ﴿والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤن بالحسنة السيئة﴾ مسوق لبيان معنى واحد وهو الإتيان بالعمل الصالح أعني إتيان الواجبات وترك المحرمات وتدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة ودرء السيئة بالحسنة الذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل مقصود بالتبع كالمتمم للنقيصة.

فلو جرى الكلام على السياق السابق وقيل: ﴿والذين يصبرون ابتغاء وجه ربهم ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤن بالحسنة السيئة﴾ فاتت هذه العناية وبطل ما ذكر من حديث الأصالة والتبعية لكن قيل: ﴿والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم﴾ فأخذ جميع الصبر المستقر أمرا واحدا مستمرا ليدل على وقوع كل الصبر منهم ثم قيل: ﴿ويدرؤن﴾ إلخ ليدل على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل وكذا في الصلاة والإنفاق فافهمه.

وهذه العناية بوجه نظيرة العناية في قوله تعالى: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة﴾ الآية، حيث يدل على تفرع تنزل الملائكة على تحقق قولهم ﴿ربنا الله﴾ واستقامتهم دون الاستمرار عليه.

وقوله: ﴿أولئك لهم عقبى الدار﴾ أي عاقبتها المحمودة فإنها هي العاقبة حقيقة لأن الشيء لا ينتهي بحسب ما جبله الله عليه إلا إلى عاقبة تناسبه وتكون فيها سعادته، وأما العاقبة المذمومة السيئة ففيها بطلان عاقبة الشيء لخلل واقع فيه، وإنما تسمى عاقبة بنحو من التوسع، ولذلك أطلق في الآية عقبى الدار وأريدت بها العاقبة المحمودة وقوبلت فيما يقابلها من الآيات بقوله: ﴿ولهم سوء الدار﴾ ومن هنا يظهر أن المراد بالدار هذه الدار الدنيا أي حياة الدار فالعاقبة عاقبتها.

قوله تعالى: ﴿جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم﴾ العدن الاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقر فيه ومنه المعدن لمستقر الجواهر الأرضية وجنات عدن أي جنات نوع من الاستقرار فيه خلود وسلام من كل جهة.

وجنات عدن بدل أو عطف بيان من قوله: ﴿عقبى الدار﴾ أي عاقبة هذه الدار المحمودة هي جنات العدن والخلود فليست هذه الحياة الدنيا بحسب ما طبعها الله عليه إلا حياة واحدة متصلة أولها عناء وبلاء وآخرها رخاء نعيم وسلام، وهذا الوعد هو الذي يحكي وفاءه تعالى به حكاية عن أهل الجنة بقوله: ﴿وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء﴾ الزمر: 74.

والآية - كما سمعت - تحاذي قوله: ﴿يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾ وبيان لعاقبة هذا الحق الذي أخذوه وعملوا به وبشرى لهم أنهم سيصاحبون الصالحين من أرحامهم وأهليهم من الآباء والأمهات والذراري والإخوان والأخوات وغيرهم ويشمل الجميع قوله: ﴿آبائهم وأزواجهم وذرياتهم﴾ لأن الأمهات أزواج الآباء والإخوان والأخوات والأعمام والأخوال وأولادهم ذريات الآباء والآباء، من الداخلين فمعهم أزواجهم وذرياتهم ففي الآية إيجاز لطيف.

قوله تعالى: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾ وهذا عقبى أعمالهم الصالحة التي داموا عليها في كل باب من أبواب الحياة بالصبر على الطاعة وعن المعصية وعند المصيبة مع الخشية والخوف.

وقوله: ﴿سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾ قول الملائكة وقد خاطبوهم بالأمن والسلام الخالد وعقبى محمودة لا يعتريها ذم وسوء أبدا.

قوله تعالى: ﴿والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه﴾ إلى آخر الآية، بيان حال غير المؤمنين بطريق المقابلة وقد قوبل بقوله: ﴿ويفسدون في الأرض﴾ بقية ما ذكر في الآيات السابقة بعد الوفاء بعهد الله والصلة، من الأعمال الصالحة وفيه إيماء إلى أن الأعمال الصالحة هي التي تضمن صلاح الأرض وعمارة الدار على نحو يؤدي إلى سعادة النوع الإنساني ورشد المجتمع البشري، وقد تقدم بيانه في دليل النبوة العامة.

وقد بين تعالى جزاء عملهم وعاقبة أمرهم بقوله: ﴿أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار﴾ واللعن الإبعاد من الرحمة والطرد من كل كرامة، وليس ذلك إلا لانكبابهم على الباطل ورفضهم الحق النازل من الله، وليس للباطل إلا البوار.

قوله تعالى: ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ إلى آخر الآية بيان أن ما أوتي الفريقان من العاقبة المحمودة والجنة الخالدة ومن اللعنة وسوء الدار هو من الرزق الذي يرزقه الله من يشاء وكيف يشاء من غير حجر عليه أو إلزام.

وقد بين أن فعله تعالى يستمر على وفق ما جعله من نظام الحق والباطل فالاعتقاد الحق والعمل به ينتهي إلى الارتزاق بالجنة والسلام والباطل من الاعتقاد والعمل به ينتهي إلى اللعنة وسوء الدار ونكد العيش.

وقوله: ﴿وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع﴾ يريد به - على ما يفيده السياق - أن الرزق هو رزق الأخرى لكنهم لميلهم إلى ظاهر الحياة الدنيا وزينتها ركنوا إليها وفرحوا بها، وقد أخطئوا فإنها حياة غير مقصودة بنفسها ولا خالدة في بقائها بل مقصودة لغيرها الذي هو الحياة الآخرة فهي بالنسبة إلى الآخرة متاع يتمتع به في غيره ولغيره غير مطلوب لنفسه فالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الآخرة إنما تكون من الحق إذا أخذت مقدمة لها يكتسب بها رزقها وأما إذا أخذت مطلوبة بالاستقلال فليست إلا من الباطل الذي يذهب جفاء ولا ينتفع به في شيء، قال تعالى: ﴿وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ العنكبوت: 64.

بحث روائي:

في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في حديث يذكر فيه أحوال الكفار قوله: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ الزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحل ويبطل ويتلاشى عند التحصيل، والذي ينفع الناس منه، فالتنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والقلوب تقبله. والأرض في هذا الموضع هي محل العلم وقراره.

أقول: المراد بالتنزيل المراد الحقيقي من كلامه تعالى، وبكلام الملحدين المثبت في القرآن هو ما فسروه برأيهم، وما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق والآية أعم مدلولا كما مر.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة: في قوله: ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾ عليكم بالوفاء بالعهد ولا تنقضوا الميثاق فإن الله قد نهى عنه وقدم فيه أشد التقدمة، وذكره في بضع وعشرين آية نصيحة لكم وتقدمة إليكم وحجة عليكم، وإنما يعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل وأهل العلم بالله، وذكر لنا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول في خطبته: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له.

أقول: ظاهر كلامه حمل العهد والميثاق في الآية الكريمة على ما يدور بين الناس أنفسهم وقد عرفت أن ظاهر السياق خلافه.

وفي الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾ قال: قرابتك.

وفيه، أيضا بإسناد آخر عنه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ﴿الذين يصلون ما أمر الله به - أن يوصل﴾ قال: نزلت في رحم آل محمد وقد يكون في قرابتك. ثم قال: ولا تكونن ممن يقول في الشيء أنه في شيء واحد.

أقول: يعني لا تقصر القرآن على معنى واحد إذا احتمل معنى آخر فإن للقرآن ظهرا وبطنا وقد جعل الله مودة ذي القربى - وهي من الصلة - أجر الرسالة في قوله: ﴿قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى﴾ الشورى: 23 ويدل على ما ذكرنا الرواية الآتية.

وفي تفسير العياشي، عن عمر بن مريم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿الذين يصلون ما أمر الله به - أن يوصل﴾ قال: من ذلك صلة الرحم وغاية تأويلها صلتك إيانا.

وفيه، عن محمد بن الفضيل قال: سمعت العبد الصالح يقول: ﴿الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾ قال هي رحم آل محمد معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني، وهي تجري في كل رحم.

أقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وقد تقدم معنى تعلق الرحم بالعرش في تفسير أوائل سورة النساء في الجزء الرابع من الكتاب.

وفي الكافي، بإسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ومما فرض الله عز وجل أيضا في المال من غير الزكاة قوله عز وجل: ﴿الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾.

أقول: ورواه العياشي في تفسيره.

وفي تفسير العياشي، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال لرجل: فلان ما لك ولأخيك؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حق فاستقصيت منه حقي. قال أبو عبد الله (عليه السلام) أخبرني عن قول الله: ﴿ويخافون سوء الحساب﴾ أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم: لا والله خافوا الاستقصاء والمداقة.

أقول: ورواه في المعاني، وتفسير القمي.

وفيه، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿ويخافون سوء الحساب﴾ قال: الاستقصاء والمداقة، وقال: يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم الحسنات.

أقول: وذيل الحديث مروي بطرق مختلفة عنه (عليه السلام)، وعدم حساب الحسنات إنما هو لمكان المداقة والحصول على وجوه الخلل الخفية كما تدل عليه الرواية التالية.

وفيه، عن هشام عنه (عليه السلام): في الآية قال: يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم الحسنات وهو الاستقصاء.

وفيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بر الوالدين وصلة الرحم يهون الحساب ثم تلا هذه الآية: ﴿الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل - ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب﴾.

وفي الدر المنثور، في قوله: ﴿جنات عدن﴾ أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ثم قال له: كن فكان.

وفي الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.