الآيات 7-16

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴿7﴾ اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴿8﴾ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴿9﴾ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴿10﴾ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴿11﴾ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴿12﴾ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴿13﴾ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴿14﴾ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ﴿15﴾ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿16﴾

بيان:

تتعرض الآيات لقولهم: ﴿لو لا أنزل عليه آية من ربه﴾ وترده عليهم أن الرسول ليس له إلا أنه منذر أرسله الله على سنة الهداية إلى الحق ثم تسوق الكلام فيما يعقبه.

قوله تعالى: ﴿ويقول الذين كفروا لو لا أنزل عليه آية من ربه﴾ إلى آخر الآية ليس المراد بهذه الآية الآية القاضية بين الحق والباطل المهلكة للأمة وهي المذكورة في الآية السابقة بقوله: ﴿ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة﴾ بأن يكون تكرارا لها وذلك لعدم إعانة السياق على ذلك، ولو أريد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: ويقولون لو لا إلخ.

بل المراد أنهم يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آية أخرى غير القرآن تدل على صدقه في دعوى الرسالة وكانوا يحقرون أمر القرآن الكريم ولا يعبئون به ويسألون آية أخرى معجزة كما أوتي موسى وعيسى وغيرهما (عليهم السلام) فكان في قولهم: ﴿لو لا أنزل عليه آية﴾ تعريض منهم للقرآن.

وأما قوله: ﴿إنما أنت منذر ولكل قوم هاد﴾ فإعطاء جواب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي توجيه الخطاب إليه دونهم وعدم أمره أن يبلغ الجواب إياهم تعريض لهم أنهم لا يستحقون جوابا لعدم فقههم به وفقدهم القدر اللازم من العقل والفهم وذلك أن اقتراحهم الآية مبني على زعمهم - كما يدل عليه كثير مما حكى عنهم القرآن في هذا الباب على أن من الواجب أن يكون للرسول قدرة غيبية مطلقة على كل ما يريد فله أن يوجد ما أراد وعليه أن يوجد ما أريد منه.

والحال أن الرسول ليس إلا بشرا مثلهم أرسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله ويحذرهم أن يستكبروا عن عبادته ويفسدوا في الأرض بناء على السنة الإلهية الجارية في خلقه أنه يهدي كل شيء إلى كماله المطلوب ويدل عباده على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم.

فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وليس عليه إلا تبليغ رسالة ربه وأما الآيات فأمرها إلى الله ينزلها إن شاء وكيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض.

فالمعنى: أنهم يقترحون عليك آية - وعندهم القرآن أفضل آية - وليس إليك شيء من ذلك وإنما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار وقد جرت سنة الله في عباده أن يبعث في كل قوم هاديا يهديهم.

والآية تدل على أن الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحق إما نبي منذر وإما هاد غيره يهدي بأمر الله وقد مر بعض ما يتعلق بالمقام في أبحاث النبوة في الجزء الثاني وفي أبحاث الإمامة في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار﴾ قال في المفردات،: غاض الشيء وغاضه غيره نحو نقص ونقصه غيره قال تعالى: ﴿وغيض الماء﴾ ﴿وما تغيض الأرحام﴾ أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض والغيضة المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه وليلة غائضة أي مظلمة انتهى.

وعلى هذا فالأنسب أن تكون الأمور الثلاثة المذكورة في الآية أعني قوله: ﴿ما تحمل كل أنثى﴾ و﴿ما تغيض الأرحام﴾ و﴿ما تزداد﴾ إشارة إلى ثلاثة من أعمال الأرحام في أيام الحمل فما تحمله كل أنثى هو الجنين الذي تعيه وتحفظه وما تغيضه الأرحام هو دم الحيض تنصب فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين، وما تزداده هو الدم التي تدفعها إلى خارج كدم النفاس والدم أو الحمرة التي تراها أيام الحمل أحيانا وهو الذي يظهر من بعض ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وربما ينسب إلى ابن عباس.

وأكثر المفسرين على أن المراد بما تغيض الأرحام الوقت الذي تنقصه الأرحام من مدة الحمل وهي تسعة أشهر، والمراد بما تزداد ما تزيد على ذلك.

وفيه خلوة عن شاهد يشهد عليه فإن الغيض بهذا المعنى نوع من الاستعارة التي لا غنى لها عن القرينة.

ويروى عن بعضهم أن المراد بما تغيض الأرحام ما تنقص عن أقل مدة الحمل وهي ستة أشهر وهو السقط وبما تزداد ما يولد لأقصى مدة الحمل، وعن بعض آخر أن الغيض النقصان من الأجل والإزدياد الإزدياد فيه.

ويرد على الوجهين ما أوردناه على سابقهما، وقد عرفت أن الأنسب بسياق الآية النقص والزيادة فيما يقذف في الرحم من الدم.

وقوله: ﴿وكل شيء عنده بمقدار﴾ المقدار هو الحد الذي يحد به الشيء ويتعين ويمتاز به من غيره إذ لا ينفك الشيء الموجود عن تعين في نفسه وامتياز من غيره ولو لا ذلك لم يكن موجدا البتة.

وهذا المعنى أعني كون كل شيء مصاحبا لمقدار وقرينا لحد لا يتعداه حقيقة قرآنية تكرر ذكرها في كلامه تعالى كقوله: ﴿قد جعل الله لكل شيء قدرا﴾ الطلاق: 3، وقوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر: 21 وغير ذلك من الآيات.

فإذا كان الشيء محدودا بحد لا يتعداه وهو مضروب عليه ذلك الحد عند الله وبأمره ولن يخرج من عنده وإحاطته ولا يغيب عن علمه شيء كما قال: ﴿إن الله على كل شيء شهيد﴾ الحج: 17 وقال: ﴿ألا إنه بكل شيء محيط﴾ حم السجدة: 54، وقال: ﴿لا يعزب عنه مثقال ذرة﴾ سبأ: 3 فمن المحال أن لا يعلم تعالى ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد.

فذيل الآية أعني قوله: ﴿وكل شيء عنده بمقدار﴾ تعليل لصدرها أعني قوله: ﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى﴾ إلخ والآية وما يتلوها كالتذييل للآية السابقة أن الله يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ويجيب الدعوة ويخضع له كل شيء فهو أحق بالربوبية فإليه أمر الآيات لا إليك وإنما أنت منذر.

قوله تعالى: ﴿عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال﴾ الغيب والشهادة كما سمعت مرارا معنيان إضافيان فالشيء الواحد يمكن أن يكون غيبا بالنسبة إلى شيء وشهادة بالنسبة إلى آخر وذلك أن الأشياء - كما تقدم - لا تخلو من حدود تلزمها ولا تنفك عنها فما كان من الأشياء داخلا في حد الشيء غير خارج عنه فهو شهادة بالنسبة إليه مشهود لإدراكه وما كان خارجا عن حد الشيء غير داخل فيه فهو غيب بالنسبة إليه غير مشهود لإدراكه.

ومن هنا يظهر أن الغيب لا يعلم به إلا الله سبحانه أما أنه لا يصير معلوما لشيء فلأن العلم نوع إحاطة ولا معنى لإحاطة الشيء بما هو خارج عن حد وجوده أجنبي عن إحاطته، وأما أنه تعالى يعلم الغيب فلأنه تعالى غير محدود الوجود بحد وهو بكل شيء محيط فلا يمتنع شيء عنه بحده فلا يكون غيبا بالنسبة إليه وإن فرض أنه غيب بالنسبة إلى غيره.

فيرجع معنى علمه بالغيب والشهادة بالحقيقة إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه بل الغيب والشهادة اللذان يتحققان فيما بين الأشياء بقياس بعضها إلى بعض هما معا شهادتان بالنسبة إليه تعالى، ويصير معنى قوله: ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ أن الذي يمكن أن يعلم به أرباب العلم وهو الذي لا يخرج عن حد وجودهم والذي لا يمكن أن يعلموا به لكونه غيبا خارجا عن حد وجودهم هما معا معلومان مشهودان له تعالى لإحاطته بكل شيء.

وقوله ﴿الكبير المتعال﴾ اسمان من أسمائه تعالى الحسنى، والكبر ويقابله الصغر من المعاني المتضائفة فإن الأجسام إذا قيس بعضها إلى بعض من حيث حجمها المتفاوت فما احتوى على مثل حجم الآخر وزيادة كان كبيرا وما لم يكن كذلك كان صغيرا ثم توسعوا فاعتبروا ذلك في غير الأجسام، والذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنه تعالى يملك كل كمال لشيء ويحيط به فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذي كمال وزيادة.

والمتعال صفة من التعالي وهو المبالغة في العلو كما يدل عليه قوله: ﴿تعالى عما يقولون علوا كبيرا﴾ الإسراء: 43 فإن قوله: ﴿علوا كبيرا﴾ مفعول مطلق لقوله: ﴿تعالى﴾ وموضوع في محل قولنا: ﴿تعاليا﴾ فهو سبحانه علي ومتعال أما أنه علي فلأنه علا كل شيء وتسلط عليه والعلو هو التسلط، وأما أنه متعال فلأن له غاية العلو لأن علوه كبير بالنسبة إلى كل علو فهو العالي المتسلط على كان عال من كل جهة.

ومن هنا تظهر النكتة في تعقيب قوله: ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ بقوله: ﴿الكبير المتعال﴾ لأن مفاد مجموع الاسمين أنه سبحانه محيط بكل شيء متسلط عليه ولا يتسلط عليه ولا يغلبه شيء من جهة البتة فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة ولا يتسلط عليه ولا يغلبه غيب حتى يعزب عن علمه بغيبته كما لا يتسلط عليه شهادة فهو عالم الغيب والشهادة لأنه كبير متعال.

قوله تعالى: ﴿سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار﴾ السرب بفتحتين والسروب الذهاب في حدور وسيلان الدمع والذهاب في مطلق الطريق يقال سرب سربا وسروبا نحو مر مرا ومرورا.

كذا في المفردات، فالسارب هو الذاهب في الطريق المعلن بنفسه.

والآية كالتفريع على الآية السابقة أي إذا كان الله سبحانه عالما بالغيب والشهادة على سواء فسواء منكم من أسر القول ومن جهر به أي بالقول والله سبحانه يعلم بقولهما ويسمع حديثهما من غير أن يخفى عليه إسرار من أسر بقوله، وسواء منكم من هو مستخف بالليل يستمد بظلمة الليل وإرخاء سدولها لأن يخفى من أعين الناظرين ومن هو سارب بالنهار ذاهب في طريقه متبرز غير مخف لنفسه فالله يعلم بهما من غير أن يخفى المستخفي بالليل بمكيدته.

قوله تعالى: ﴿له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله﴾ إلخ ظاهر السياق أن الضمائر الأربع ﴿له﴾ ﴿يديه﴾ ﴿خلفه﴾ ﴿يحفظونه﴾ مرجعها واحد ولا مرجع يصلح لها جميعا إلا ما في الآية السابقة أعني الموصول في قوله: ﴿من أسر القول﴾ إلخ، فهذا الإنسان الذي يعلم به الله سبحانه في جميع أحواله هو الذي له معقبات من بين يديه ومن خلفه.

وتعقيب الشيء إنما يكون بالمجيء بعده والإتيان من عقبه فتوصيف المعقبات بقوله: ﴿من بين يديه ومن خلفه﴾ إنما يتصور إذا كان سائرا في طريق، ثم طاف عليه المعقبات حوله وقد أخبر سبحانه عن كون الإنسان سائرا هذا السير بقوله: ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه﴾ الانشقاق: 6 وفي معناه سائر الآيات الدالة على رجوعه إلى ربه كقوله: ﴿وإليه ترجعون﴾ يس: 83 ﴿وإليه تقلبون﴾ العنكبوت: 21 فللإنسان وهو سائر إلى ربه معقبات تراقبه من بين يديه ومن خلفه.

ثم من المعلوم من مشرب القرآن أن الإنسان ليس هو هذا الهيكل الجسماني والبدن المادي فحسب بل هو موجود تركب من نفس وبدن والعمدة فيما يرجع إليه من الشئون هي نفسه فلها الشعور والإرادة وإليها يتوجه الأمر والنهي وبها يقوم الثواب والعقاب والراحة والألم والسعادة والشقاء، وعنها يصدر صالح الأعمال وطالحها، وإليها ينسب الإيمان والكفر وإن كان البدن كالآلة التي يتوسل بها في مقاصدها ومآربها.

وعلى هذا يتسع معنى ما بين يدي الإنسان وما خلفه فيعم الأمور الجسمانية والروحية جميعا فجميع الأجسام والجسمانيات التي تحيط بجسم الإنسان مدى حياته بعضها واقعة أمامه وبين يديه وبعضها واقعة خلفه، وكذلك جميع المراحل النفسانية التي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربه والحالات الروحية التي يعتورها ويتقلب فيها من قرب وبعد وغير ذلك والسعادة والشقاء والأعمال الصالحة والطالحة وما ادخر لها من الثواب والعقاب كل ذلك واقعة خلف الإنسان أو بين يديه ولهذه المعقبات التي ذكرها الله سبحانه شأن فيها بما أن لها تعلقا بالإنسان.

والإنسان الذي وصفه الله بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لا يقدر على حفظ شيء من نفسه ولا آثار نفسه الحاضرة عنده والغائبة عنه، وإنما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى: ﴿الله حفيظ عليهم﴾ الشورى: 6 وقال: ﴿وربك على كل شيء حفيظ﴾ سبأ: 21 وقال يذكر الوسائط في هذا الأمر ﴿وإن عليكم لحافظين﴾ الانفطار: 10.

فلو لا حفظه تعالى إياها بهذه الوسائط التي سماها حافظين تارة ومعقبات أخرى لشمله الفناء من جهاتها وأسرع إليها الهلاك من بين أيديها ومن خلفها غير أنه كما أن حفظها بأمر من الله عز شأنه كذلك فناؤها وهلاكها وفسادها بأمر من الله لأن الملك لله لا يدبر أمره ولا يتصرف فيه إلا هو سبحانه فهو الذي يهدي إليه التعليم القرآني، والآيات في هذه المعاني متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.

والملائكة أيضا إنما يعملون ما يعملون بأمره قال تعالى: ﴿ينزل الملائكة بالروح من أمره﴾ النحل: 2، وقال: ﴿لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ الأنبياء: 27.

ومن هنا يظهر أن هذه المعقبات الحفاظ كما يحفظون ما يحفظون بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله فإن جانب الفناء والهلاك والضيعة والفساد بأمر الله كما أن جانب البقاء والاستقامة والصحة بأمر الله فلا يدوم مركب جسماني إلا بأمر الله كما لا ينحل تركيبه إلا بأمر الله، ولا تثبت حالة روحية أو عمل أو أثر عمل إلا بأمر من الله كما لا يطرقه الحبط ولا يطرأ عليه الزوال إلا بأمر من الله فالأمر كله لله وإليه يرجع الأمر كله.

وعلى هذا فهذه المعقبات كما يحفظونه بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله، وعلى هذا ينبغي أن ينزل قوله في الآية المبحوث عنها: ﴿يحفظونه من أمر الله﴾.

وبما تقدم يظهر وجه اتصال قوله تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ وأنه في موضع التعليل لقوله: ﴿يحفظونه من أمر الله﴾ والمعنى أنه تعالى إنما جعل هذه المعقبات ووكلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره ويمنعونه من أن يهلك أو يتغير في شيء مما هو عليه لأن سنته جرت أن لا يغير ما بقوم من الأحوال حتى يغيروا ما بأنفسهم من الحالات الروحية كأن يغيروا الشكر إلى الكفر والطاعة إلى المعصية والإيمان إلى الشرك فيغير الله النعمة إلى النقمة والهداية إلى الإضلال والسعادة إلى الشقاء وهكذا.

والآية أعني قوله: ﴿إن الله لا يغير﴾ إلخ، يدل بالجملة على أن الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان وبين الحالات النفسية الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة وآمنوا بالله وعملوا صالحا أعقبهم نعم الدنيا والآخرة كما قال.

﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا﴾ الأعراف: 96 والحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيروا حالهم في أنفسهم غير الله سبحانه حالهم الخارجية بتغيير النعم نقما.

ومن الممكن أن يستفاد من الآية العموم وهو أن بين حالات الإنسان النفسية وبين الأوضاع الخارجية نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشر فلو كان القوم على الإيمان والطاعة وشكر النعمة عمهم الله بنعمه الظاهرة والباطنة ودام ذلك عليهم حتى يغيروا فيكفروا ويفسقوا فيغير الله نعمه نقما ودام ذلك عليهم حتى يغيروا فيؤمنوا ويطيعوا ويشكروا فيغير الله نقمه نعما وهكذا.

ولكن ظاهر السياق لا يساعد عليه وخاصة ما تعقبه من قوله ﴿وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له﴾ فإنه أصدق شاهد على أنه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتى يغيروا فالتغيير لما كان إلى السيئة كان الأصل أعني ﴿ما بقوم﴾ لا يراد به إلا الحسنة فافهم ذلك.

على أن الله سبحانه يقول: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير﴾ الشورى: 30 فيذكر أنه يعفو عن كثير من السيئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين أعمال الإنسان وأحواله وبين الآثار الخارجية في جانب الشر بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الآية: ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ الأنفال: 53.

وأما قوله تعالى: ﴿وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له﴾ فإنما دخل في الحديث لا بالقصد الأولي لكنه تعالى لما ذكر أن كل شيء عنده بمقدار وإن لكل إنسان معقبات يحفظونه بأمره من أمره ولا يدعونه يهلك أو يتغير أو يضطرب في وجوده والنعم التي أوتيها، وهم على حالهم من الله لا يغيرها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم وجب أن يذكر أن هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء ومن النعمة إلى النقمة أيضا من الأمور المحكمة المحتومة التي ليس لمانع أن يمنع من تحققها، وإنما أمره إلى الله لا حظ فيه لغيره، وبذلك يتم أن الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبي الخير والشر وهم مأخوذ عليهم وفي قبضته.

فالمعنى: وإذا أراد الله بقوم سوء ولا يريد ذلك إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من سمات معبودية ومقتضيات الفطرة فلا مرد لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال.

ثم قوله: ﴿وما لهم من دونه من وال﴾ عطف تفسيري على قوله: ﴿إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له﴾ ويفيد معنى التعليل له فإنه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يرد ما أراد الله بهم من السوء.

فقد بان من جميع ما تقدم أن معنى الآية - على ما يعطيه السياق - والله أعلم - أن لكل من الناس على أي حال كان معقبات يعقبونه في مسيره إلى الله من بين يديه ومن خلفه أي في حاضر حاله وماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغير حاله بهلاك أو فساد أو شقاء بأمر آخر من الله، وهذا الأمر الآخر الذي يغير الحال إنما يؤثر أثره إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما عندهم من نعمة ويريد بهم السوء وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له لأنهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتى يرد ما أراد الله بهم من سوء.

وقد تبين بذلك أمور: أحدها: أن الآية كالبيان التفصيلي لما تقدم في الآيات السابقة من قوله: ﴿وكل شيء عنده بمقدار﴾ فإن الجملة تفيد أن للأشياء حدودا ثابتة لا تتعداها ولا تتخلف عنها عند الله حتى تعزب عن علمه، وهذه الآية تفصل القول في الإنسان أن له معقبات من بين يديه ومن خلفه موكلة عليه يحفظونه وجميع ما يتعلق به من أن يهلك أو يتغير عما هو عليه، ولا يهلك ولا يتغير إلا بأمر آخر من الله.

الثاني: أنه ما من شيء من الإنسان من نفسه وجسمه وأوصافه وأحواله وأعماله وآثاره إلا وعليه ملك موكل يحفظه، ولا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتى يغير فالله سبحانه هو الحافظ وله ملائكة حفظة عليها، وهذه حقيقة قرآنية.

الثالث: أن هناك أمرا آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم وقد ذكر الله سبحانه من شأن هذا الأمر أنه يؤثر فيما إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما بهم من نعمة بهذا الأمر الذي يرصدهم، ومن موارد تأثيره مجيء الأجل المسمى الذي لا يختلف ولا يتخلف، قال تعالى: ﴿ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى﴾ الأحقاف: 3 وقال: ﴿إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر﴾ نوح: 4.

الرابع: أن أمره تعالى هو المهيمن المتسلط على متون الأشياء وحواشيها على أي حال وأن كل شيء حين ثباته وحين تغيره مطيع لأمره خاضع لعظمته، وأن الأمر الإلهي وإن كان مختلفا بقياس بعضه إلى بعض منقسما إلى أمر حافظ وأمر مغير ذو نظام واحد لا يتغير وقد قال تعالى: ﴿إن ربي على صراط مستقيم﴾ هود 56، وقال: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء﴾ يس: 83.

الخامس: أن من القضاء المحتوم والسنة الجارية الإلهية التلازم بين الإحسان والتقوى والشكر في كل قوم وبين توارد النعم والبركات الظاهرية والباطنية ونزولها من عند الله إليهم وبقاؤها ومكثها بينهم ما لم يغيروا كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون﴾ الأعراف: 96 وقوله: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد﴾ إبراهيم: 7 وقال: ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾ الرحمن: 60.

هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم ودوام النعمة عليهم، وأما شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم ونزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن التلازم بينهما وغاية ما يفيده قوله: ﴿لا يغير ما بقوم حتى يغيروا﴾ جواز تغيره تعالى عند تغييرهم وإمكانه لا وجوبه وفعليته، ولذلك غير السياق فقال: ﴿وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له﴾ ولم يقل: فيريد الله بهم من السوء ما لا مرد له.

ويؤيد هذا المعنى قوله: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير﴾ الشورى: 30 حيث يدل صريحا على أن بعض التغيير عند التغيير معفو عنه.

وأما الفرد من النوع فالكلام الإلهي يدل على التلازم بين صلاح عمله وبين النعم المعنوية وعلى التغير عند التغير دون التلازم بين صلاحه والنعم الجسمانية.

والحكمة في ذلك كله ظاهرة فإن التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم والتوافق بين أجزاء النظام وسوق الأنواع إلى غاياتها فإن الله جعل للأنواع غايات وجهزها بما يسوقها إلى غاياتها ثم بسط تعالى التلاؤم والتوافق بين أجزاء هذا النظام كان المجموع شيئا واحدا لا معاندة ولا مضادة بين أجزائه فمقتضى طباعها أن يعيش كل نوع في عافية ونعمة وكرامة حتى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الإنساني عن مقتضى فطرته الأصلية ولا منحرف من الأنواع ظاهرا غيره جرى الكون على سعادته ونعمته ولم يعدم رشدا، وأما إذا انحرف عن ذلك وشاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون وأوجب ذلك هجرة النعمة واختلال المعيشة وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما عملوا لعلهم يرجعون.

وهذا المعنى كما لا يخفى إنما يتم في النوع دون الشخص ولذلك كان التلازم بين صلاح النوع والنعم العامة المفاضة عليهم ولا يجري في الأشخاص لأن الأشخاص ربما بطلت فيها الغايات بخلاف الأنواع فإن بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى: ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين﴾ الدخان: 38 وقد تقدم بعض الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.

وبما تقدم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنها تفيد بظاهرها أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك خلاف ما قررته الشريعة من عدم جواز أخذ العامة بذنوب الخاصة هذا فإنه أجنبي عن مفاد الآية بالكلية.

هذا بعض ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة وللمفسرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتى: من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله: ﴿له معقبات﴾ فمن قائل: إن الضمير راجع إلى ﴿من﴾ في قوله: ﴿من أسر القول﴾ إلخ، كما قدمناه، ومن قائل: إنه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقبات من بين يدي الإنسان ومن خلفه يحفظونه.

وفيه أنه يستلزم اختلاف الضمائر.

على أنه يوجب وقوع الالتفات في قوله: ﴿من أمر الله﴾ من غير نكتة ظاهرة، ومن قائل: إن الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والآية تذكر أن الملائكة يحفظونه.

وفيه أنه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر والظاهر خلافه.

على أنه يوجب عدم اتصال الآية بسوابقها ولم يتقدم للنبي - (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر.

ومن قائل: إن الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار.

وهذا أسخف الوجوه وسنعود إليه.

ومن ذلك اختلافهم في معنى المعقبات فقيل: إن أصله المعتقبات صار معقبات بالنقل والإدغام يقال: اعتقبه إذا حبسه واعتقب القوم عليه أي تعاونوا ورد بأنه خطأ، وقيل: هو من باب التفعيل والتعقيب هو أن يتبع آخر في مشيته كأنه يطأ عقبه أي مؤخر قدمه فقيل: إن المعقبات ملائكة يعقبون الإنسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه ويحفظونه كما تقدم، وقيل: المعقبات كتاب الأعمال من ملائكة الليل والنهار يعقب بعضهم بعضا فملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وهم يعقبون ملائكة الليل يحفظون على الإنسان عمله.

وفيه: أنه خلاف ظاهر قوله: ﴿له معقبات﴾ على أن فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه.

وقيل: المراد بالمعقبات الأحراس والشرط والمواكب الذين يعقبون الملوك والأمراء والمعنى: أن لمن هو سارب بالنهار وهم الملوك والأمراء معقبات من الأحراس والشرط يحيطون بهم ويحفظونهم من أمر الله أي قضائه وقدره توهما منهم أنهم يقدرون على ذلك، وهذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى.

ومن ذلك اختلافهم في قوله: ﴿من بين يديه ومن خلفه﴾ فقيل: إنه متعلق بمعقبات أي يعقبونه من بين يديه ومن خلفه.

وفيه أن التعقيب لا يتحقق إلا من خلف، وقيل: متعلق بقوله: ﴿يحفظونه﴾ وفي الكلام تقديم وتأخير والترتيب: يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله.

وفيه عدم الدليل على ذلك، وقيل: متعلق بمقدر كالوقوع والإحاطة ونحوهما أو بنحو التضمين والمعنى له معقبات يحيطون به من بين يديه ومن خلفه وقد تقدم.

ومن جهة أخرى قيل: إن المراد بما بين يديه وما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدامه وخلفه يحفظونه من المهالك والمخاطر، وقيل: المراد بهما ما تقدم من أعماله وما تأخر يحفظها عليه الملائكة الحفظ ويكتبونها ولا دليل على ما في الوجهين من التخصيص، وقيل: المراد بما بين يديه ومن خلفه ما للإنسان من الشئون الجسمية والروحية مما له في حاضر حاله وما خلفه وراءه وهو الذي قدمناه.

ومن ذلك اختلافهم في معنى قوله: ﴿يحفظونه﴾ فقيل هو بمعنى يحفظون عليه، وقيل: هو مطلق الحفظ، وقيل: هو الحفظ من المضار.

ومن ذلك اختلافهم في قوله: ﴿من أمر الله﴾ فقيل: هو متعلق بقوله: ﴿معقبات﴾ وإن قوله: ﴿من بين يديه ومن خلفه﴾ وقوله: ﴿يحفظونه﴾ وقوله: ﴿من أمر الله﴾ ثلاث صفات لمعقبات.

وفيه أنه خلاف الظاهر، وقيل: هو متعلق بقوله: ﴿يحفظونه﴾ و﴿من﴾ بمعنى الباء للسببية أو المصاحبة والمعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله، وقيل: متعلق بيحفظونه و﴿من﴾ للابتداء أو للنشو أي يحفظونه مبتدأ ذلك أو ناشئا ذلك من أمر الله، وقيل: هو كذلك لكن ﴿من﴾ بمعنى ﴿عن﴾ أي يحفظونه عن أمر الله أن يحل به ويغشاه وفسروا الحفظ من أمر الله بأن الأمر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بأن يستمهلوا كلما أذنب ويسألوا الله سبحانه أن يؤخر عنه المؤاخذة والعقوبة أو إمضاء شقائه لعله يتوب ويرجع، وفساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غني عن البيان.

ومن ذلك اختلافهم في اتصال قوله: ﴿له معقبات من بين يديه ومن خلفه﴾ إلخ فقيل: متصل بقوله: ﴿سارب بالنهار﴾ وقد تقدم معناه، وقيل: متصل بقوله: ﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى﴾ أو قوله: ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم.

وقيل متصل بقوله: ﴿إنما أنت منذر﴾ الآية يعني أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) محفوظ بالملائكة.

والحق أنه متصل بقوله: ﴿وكل شيء عنده بمقدار﴾ ونوع بيان له، وقد تقدم ذكره.

ومن ذلك اختلافهم في اتصال قوله: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم﴾ إلخ فقيل: إنه متصل بقوله: ﴿ويستعجلونك بالعذاب﴾ الآية أي أنه لا ينزل العذاب إلا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتى لو علم أن فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه ممن سيولد ويعيش بالإيمان لم ينزل عليهم العذاب، وقيل: متصل بقوله: ﴿سارب بالنهار﴾ يعني أنه إذا اقترف المعاصي فقد غير ما به من سمة العبودية وبطل حفظه ونزل عليه العذاب.

والقولان - كما ترى - بعيدان من السياق والحق أن قوله: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم﴾ إلخ، تعليل لما تقدمه من قوله: ﴿يحفظونه من أمر الله﴾ وقد مر بيانه.

قوله تعالى: ﴿هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال﴾ السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها ولذلك وصف بالثقال.

والإراء إظهار ما من شأنه أن يحس بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية والإبصار، والتقابل بين قوله: ﴿يريكم﴾ وقوله: ﴿ينشىء﴾ يؤيد المعنى الأول.

وقوله: ﴿خوفا وطمعا﴾ مفعول له أي لتخافوا وتطمعوا، ويمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير ﴿كم﴾ أي خائفين وطامعين.

والمعنى: هو الذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف والطمع كما أن المسافر يخافه والحاضر يطمع فيه، وأهل البحر يخافونه وأهل البر يطعمون فيه ويخاف صاعقته ويطمع في غيثه، ويخلق بإنشائه السحابات التي تثقل بالمياه التي تحملها، وفي ذكر آية البرق بالإراءة وآية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء﴾ إلخ، الصواعق جمع صاعقة وهو القطعة النارية النازلة من السماء عن برق ورعد، والجدل المفاوضة والمنازعة في القول على سبيل المغالبة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، والمحال بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره وقاواه ليتبين أيهما أشد وجادله لإظهار مساويه ومعائبه فقوله: ﴿وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال﴾ معناه - والله أعلم - أن الوثنيين - وإليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج - يجادلون في ربوبيته تعالى بتلفيق الحجة على ربوبية أربابهم كالتمسك بدأب آبائهم والله سبحانه شديد المماحلة لأنه عليم بمساويهم ومعائبهم قدير على إظهارها وفضاحتهم.

قوله تعالى: ﴿له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء﴾ إلى آخر الآية الدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو إلى الداعي ويتأتى غالبا بلفظ أو إشارة، والاستجابة والإجابة إقبال المدعو على الداعي عن دعائه، وأما اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة واشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متممة لمعنى الدعاء والاستجابة غير داخلة في مفهوميهما.

نعم: الدعاء إنما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعو ذا نظر يمكن أن يوجه إلى الداعي وذا جدة وقدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء وأما دعاء من لا يفقه أو يفقه ولا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحق الدعاء وإن كان في صورته.

ولما كانت الآية الكريمة قرر فيها التقابل بين قوله ﴿له دعوة الحق﴾ وبين قوله: ﴿والذين يدعون من دونه﴾ إلخ، الذي يذكر أن دعاء غيره خال عن الاستجابة ثم يصف دعاء الكافرين بأنه في ضلال علمنا بذلك أن المراد بقوله: ﴿دعوة الحق﴾ الدعوة الحقة غير الباطلة وهي الدعوة التي يسمعها المدعو ثم يستجيبها البتة، وهذا من صفاته تعالى وتقدس فإنه سميع الدعاء قريب مجيب وهو الغني ذو الرحمة وقد قال: ﴿أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ البقرة: 186 وقال: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾ المؤمنون: 60 فأطلق ولم يشترط في الاستجابة إلا أن تتحقق هناك حقيقة الدعاء وأن يتعلق ذلك الدعاء به تعالى لا غير.

فلفظة دعوة الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقة بعناية أن الحق والباطل كأنهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحق وهو الذي لا يتخلف عن الاستجابة، وقسم منه للباطل وهو الذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.

فهو تعالى لما ذكر في الآيات السابقة أنه عليم بكل شيء وأن له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أن له حقيقة الدعاء والاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنه عليم قدير، وقد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات والنفي أعني إثبات حق الدعاء لنفسه ونفيه عن غيره.

أما الأول فقوله: ﴿له دعوة الحق﴾ وتقديم الظرف يفيد الحصر ويؤيده ما بعده من نفيه عن غيره، وأما الثاني فقوله: ﴿والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه﴾ وقد أخبر فيه أن الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء وقد بين ذلك في مواضع من كلامه فإن هؤلاء المدعوين إما أصنام يدعوهم عامتهم وهي أجسام ميتة لا شعور فيها ولا إرادة، وإما أرباب الأصنام من الملائكة أو الجن وروحانيات الكواكب والبشر كما ربما يتنبه له خاصتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكيف بغيرهم ولله الملك كله وله القوة كلها فلا مطمع عند غيره تعالى.

ثم استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط وهي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله: ﴿كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه﴾.

فإن الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثم يبسط كفيه فيغترفه ويتناوله ويبلغ فاه ويرويه وهذا هو حق الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى ورشاد، وأما الظمآن البعيد من الماء يريد الري لكن لا يأتي من أسبابه بشيء غير أنه يبسط إليه كفيه يبلغ فاه فليس يبلغ البتة فاه وليس له من طلبه إلا صورته فقط.

ومثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وليس له من الدعاء إلا صورته الخالية من المعنى واسمه من غير مسمى فهؤلاء المدعوون من دون الله لا يستجيبون للذين يدعونهم بشيء ولا يقضون حاجتهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ويقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلا صورة الطلب ببسط الكفين.

ومن هنا يعلم أن هذا الاستثناء ﴿إلا كباسط كفيه﴾ إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه ولا يتضمن إلا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإن مفاده أن الذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ولن يستجاب له، وبعبارة أخرى لن ينالوا بدعائهم إلا أن لا ينالوا شيئا أي لن ينالوا شيئا البتة.

وهذا من لطيف كلامه تعالى ويناظر من وجه قوله تعالى الآتي: ﴿قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا﴾ وآكد منه كما سيجيء إن شاء الله.

وقد تبين بما تقدم: أولا: أن قوله: ﴿دعوة الحق﴾ المراد به حق الدعاء وهو الذي يستجاب ولا يرد البتة، وأما قول بعضهم: إن المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق.

وثانيا: أن تقدير قوله ﴿والذين يدعون﴾ إلخ بإظهار الضمائر: الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب أولئك المدعوون للمشركين بشيء.

وثالثا: أن الاستثناء من قوله: ﴿لا يستجيبون لهم بشيء﴾ وفي الكلام حذف وإيجاز والمعنى: لا يستجيبون لهم بشيء ولا ينيلونهم شيئا إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وينال من بسطه، ولعل الاستجابة مضمن معنى النيل ونحوه.

ثم أكد سبحانه الكلام بقوله: ﴿وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة أخرى وهي أنه لا غرض لدعاء إلا الله سبحانه فإنه العليم القدير والغني ذو الرحمة فلا طريق له إلا طريق التوجه إليه تعالى فمن دعا غيره وجعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض والغاية وخرج بذلك عن الطريق فضل دعاؤه فإن الضلال هو الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.

قوله تعالى: ﴿ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال﴾ السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى: ﴿وخروا له سجدا﴾ يوسف: 100، وقال: ﴿يخرون للأذقان سجدا﴾ الإسراء: 107.

والواحدة منه سجدة.

والكره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشقة فإن حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف وما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمها والطوع يقابل الكره مطلقا.

وقال الراغب: الغدوة والغداة من أول النهار، وقوبل في القرآن الغدو بالآصال نحو قوله: ﴿وبالغدو والآصال﴾ وقوبل الغداة بالعشي قال: ﴿بالغداة والعشي﴾ انتهى والغدو جمع غداة كقنى وقناة وقال في المجمع،: الآصال جمع أصل - بضمتين - وأصل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنه أصل الليل الذي ينشأ منه وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس.

والأعمال الاجتماعية التي يؤتى بها لأغراض معنوية كالتصدر الذي يمثل به الرئاسة والتقدم الذي يمثل به السيادة والركوع الذي يظهر به الصغر والصغار والسجود الذي يظهر به نهاية تذلل الساجد وضعته قبال تعزز المسجود له واعتلائه تسمى غاياتها بأساميها كما تسمى نفسها فكما يسمى التقدم تقدما كذلك تسمى السيادة تقدما وكما أن الانحناء الخاص ركوع كذلك الصغر والصغار الخاص ركوع وكما أن الخرور على الأرض سجود كذلك التذلل سجود كل ذلك بعناية أن الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل.

وهذه النظرة هي التي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود وما يناظره من القنوت والتسبيح والحمد والسؤال ونحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى: ﴿كل له قانتون﴾ البقرة: 116 وقوله: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾ الإسراء: 44 وقوله: ﴿يسأله من في السماوات والأرض﴾ الرحمن: 29 وقوله: ﴿ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض﴾ النحل: 49.

والفرق بين هذه الأمور المنسوبة إلى الأشياء الكونية وبينها وهي واقعة في ظرف الاجتماع الإنساني أن الغايات موجودة في القسم الأول بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني فإنها إنما توجد فيها بنوع من الوضع والاعتبار فذلة المكونات وضعتها تجاه ساحة العظمة والكبرياء ذلة وضعة حقيقية بخلاف الخرور على الأرض ووضع الجبهة عليها فإنه ذلة وضعة بحسب الوضع والاعتبار ولذلك ربما يتخلف.

فقوله تعالى: ﴿ولله يسجد من في السماوات والأرض﴾ أخذ بما تقدم من النظر ولعله إنما خص أولي العقل بالذكر حيث قال: ﴿من في السماوات والأرض﴾ مع شمول هذه الذلة والضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدمة وكما يشعر به ذيل الآية حيث قال: ﴿وظلالهم﴾ إلخ، لأن الكلام في السورة مع المشركين والاحتجاج عليهم فكان في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات والأرض طوعا حتى أن ظلالهم تسجد له.

ولذلك أيضا تعلقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه.

ثم إن هذا التذلل والتواضع، الذي هو من عامة الموجودات لساحة ربهم عز وعلا، خضوع ذاتي لا ينفك عنها ولا يتخلف فهو بالطوع البتة وكيف لا وليس لها من نفسها شيء حتى يتوهم لها كراهة أو امتناع وجموح وقد قال تعالى: ﴿فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين﴾ حم السجدة: 11.

فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى وتقطع دابر الكره عنهم البتة غير أن هناك عناية أخرى ربما صححت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة وهي أن بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهزة بطباع ربما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها ومبتغياتها أسباب أخر وهي الأشياء المستقرة في عالمنا هذا عالم المادة التي ربما زوحمت في مآربها ومنعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرقة ولا شك أن مخالف الطبع مكروه كما أن ما يلائمه مطلوب.

فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشئون الراجعة إليها غير أنها فيما يخالف طباعها كالموت والفساد وبطلان الآثار والآفات والعاهات ونحو ذلك ساجدة له كرها، وفيما يلائم طباعها كالحياة والبقاء والبلوغ إلى الغايات والظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الذين لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

ومما تقدم يظهر فساد قول بعضهم إن المراد بالسجدة هو الحقيقي منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلا فهم جميعا ساجدون غير أن المؤمن يسجد طوعا والكافر يسجد خوفا من السيف وقد نسب القول به إلى الحسن.

وكذا قول بعض: إن المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكل إلا أن ذلك من المؤمن خضوع طوع ومن الكافر خضوع كره لما يحل به من الآلام والأسقام ونسب إلى الجبائي.

وكذا قول آخرين: إن المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات والأرض من أولي العقل وغيرهم والتعبير بلفظ يخص أولي العقل للتغليب.

وأما قوله ﴿وظلالهم بالغدو والآصال﴾ ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإن الظل وإن كان عدميا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلا أن له آثارا خارجية وهو يزيد وينقص في طرفي النهار ويختلف اختلافا ظاهرا للحس فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده وآثاره لله ويسجد له.

وهي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، وإنما خص الغدو والآصال بالذكر لا لما قيل: إن المراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو أريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتى يعم جميع ما قبل الظهر وما بعده كما وقع في قوله: ﴿ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى﴾ طه: 130.

بل النكتة فيه - والله أعلم - أن الزيادة والنقيصة دائمتان للأظلال في الغداة والأصيل فيمثلان للحس السقوط على الأرض وذلة السجود، وأما وقت الظهيرة وأوساط النهار فربما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت وكانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور.

ولا شك في أن سقوط الأظلال على الأرض وتمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيؤها، وليس النظر مقصورا على مجرد طاعتها التكوينية في جميع أحوالها وآثارها والدليل على ذلك قوله: ﴿أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون﴾ النحل: 48 فإن العناية بذلك ظاهرة فيه.

وليس ذلك قولا شعريا وتصويرا تخييليا يتوسل به في الدعوة الحقة في كلامه تعالى - وحاشاه - وقد نص أنه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحس إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحس نوع ظهور ويتمثل لها بوجه كان من الحري أن يستمد به في تعليم الأفهام الساذجة والعقول البسيطة ونقلها من مرتبة الحس والخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنه من الحس والخيال الحق المستظهر بالحقائق المؤيد بالحق فلا بأس بالركون إليه.

ومن هذا الباب عده تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيئة من الأجسام المنتصبة بالغدو والآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من أولي العقل.

ومن هذا الباب أيضا ما تقدم من قوله: ﴿ويسبح الرعد بحمده﴾ حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الذي يمثل لسانا ناطقا بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين والثناء عليه لرحمته المبشر به بالريح والسحاب والبرق مع أن الأشياء قاطبة مسبحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، وهذا تسبيح ذاتي منهم ودلالته دلالة ذاتية عقلية غير مرتبطة بالدلالات اللفظية التي توجد في الأصوات بحسب الوضع والاعتبار لكن الرعد بصوته الشديد الهائل يمثل للسمع والخيال هذا التسبيح الذاتي فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتي الذي يقوم بذات كل شيء من غير صوت قارع ولا لفظ موضوع.

ويقرب من هذا الباب ما تقدم في مفتتح السورة في قوله تعالى: ﴿رفع السماوات بغير عمد ترونها﴾ وقوله: ﴿وفي الأرض قطع متجاورات﴾ الآية إن التمسك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالأمور المجهول أسبابها عند الحس ليس لأن سببيته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات والأمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإن القرآن الكريم ينص على عموم قانون السببية وأنه تعالى فوق الجميع بل لأن الأمور التي لا تظهر أسبابها على الحس لبادىء نظرة تنبه الأفهام البسيطة وتمثل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها وينتهي البحث لا محالة إلى سبب أول هو الله سبحانه، وفي القرآن الكريم من ذلك شيء كثير.

وبالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدو والآصال على الأرض سجودا منها لله سبحانه مبنية على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتية التي لها في ذواتها بمثال حسي ينبه الحس لمعنى السجدة الذاتية ويسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقلية.

هذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، وأما حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعرية أو جعلها مجازا مثلا يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنها توجد كما شاء أو القول بأن المراد بالظل هو الشخص فإن من يسجد يسجد ظله معه فإن هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

قوله تعالى: ﴿قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا﴾ الآية بما تشتمل على أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة.

وذلك أن الآيات السابقة تبين بأوضح البيان أن تدبير السماوات والأرض وما فيهما من شيء إلى الله سبحانه كما أن خلقها منه وأنه يملك ما يفتقر إليه الخلق والتدبير من العلم والقدرة والرحمة وأن كل من دونه مخلوق مدبر لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وينتج ذلك أنه الرب دون غيره.

فأمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسجل عليهم نتيجة بيانه السابق ويسألهم بعد تلاوة الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحق لهم بقوله: ﴿من رب السماوات والأرض﴾ أي من هو الذي يملك السماوات والأرض وما فيهما ويدبر أمرها؟ ثم أمره أن يجيب هو نفسه عن السؤال ويقول: ﴿الله﴾ لأنهم وهم مشركون معاندون يمتنعون عن الإقرار بتوحيد الربوبية وفي ذلك تلويح إلى أنهم لا يعقلون حجة ولا يفقهون حديثا.

ثم استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتضح بطلان شركهم أوضح البيان وهي أن مقتضى ربوبيته تعالى الثابتة بالحجج السابقة أنه هو المالك للنفع والضرر فكل من دونه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف لغيره؟ فاتخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء من دونه يلون أمر العباد ويملكون لهم نفعا وضرا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟.

وهذا هو المراد بقوله مفرعا على السؤال السابق: ﴿قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا﴾ أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك: أي إذا كان الله سبحانه هو رب السماوات والأرض فقد قلتم باتخاذكم أولياء آلهة من دونه قولا يكذبه نفسه وهو عدم ولايتهم في عين ولايتهم وهو التناقض الصريح بأنهم أولياء غير أولياء وأرباب لا ربوبية لهم.

وبالتأمل فيما قدمناه أن الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى مثل قولنا: إذا تبين ما تقدم فمن رب السماوات والأرض إلا الله؟ أ فاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون نفعا ولا ضرا؟ فالعدول عن التفريع إلى أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: قل كذا وقل كذا وتكراره مرة بعد مرة إنما هو للتنزه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل والعناد وهذا من لطيف نظم القرآن.

قوله تعالى: ﴿قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور﴾ مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجة وإتمامها عليهم وأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضربهما لهم يبين بأحدهما حال المؤمن والكافر فالكافر بالحجة الحقة والآيات البينات غير المسلم لها أعمى والمؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوي بينهما ببديهة عقله، ويبين بالثاني أن الكفر بالحق ظلمات كما أن الكافر الواقع فيها غير بصير والإيمان بالحق نور كما أن المؤمن الأخذ به بصير ولا يستويان البتة فمن الواجب على المشركين إن كان لهم عقول سليمة - كما يدعون - أن يسلموا للحق ويرفضوا الباطل ويؤمنوا بالله وحده.

قوله تعالى: ﴿أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه - إلى قوله - وهو الواحد القهار﴾ في التعبير بقوله: ﴿جعلوا﴾ و﴿عليهم﴾ دون أن يقال جعلتم وعليكم دليل على أن الكلام مصروف عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أن يؤمر بإلقائه إليهم.

ثم العود في جواب هذا الاحتمال الذي يتضمنه قوله: ﴿أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم﴾ إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله: ﴿قل الله خلق كل شيء وهو الواحد القهار﴾ دليل على أن السؤال إنما هو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائي لا الإلقاء بنحو الجواب، وليس إلا لأنهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى: ﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله﴾ لقمان: 25، الزمر: 38 وقد كرر تعالى نقل ذلك عنهم.

فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكا في الخلق والإيجاد وإنما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الربوبية لا في توحيد الألوهية بمعنى الخلق والإيجاد، وتسليمهم توحيد الخالق المبدع وقصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبية وتتم الحجة عليهم لأن اختصاص الخلق والإيجاد بالله سبحانه ينفي استقلال الوجود والعلم والقدرة عن غيره تعالى ولا ربوبية مع انتفاء هذه النعوت الكمالية.

ولذلك لم يبق لهم في القول بربوبية شركائهم مع الله سبحانه إلا أن ينكروا توحده تعالى في الخلق والإيجاد ويثبتوا بعد الخلق والإيجاد لآلهتهم وهم لا يفعلونه وهذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم.

فكأنه تعالى إذ يقول: ﴿أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم﴾ يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): هؤلاء تمت عليهم الحجة في توحيد الربوبية من جهة اختصاصه تعالى بالخلق والإيجاد فلم يبق لهم إلا أن يقولوا بشركة شركائهم في الخلق والإيجاد فهل هم قائلون بأن شركائهم خلقوا خلقا كخلقه ثم تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيتهم إجمالا مع الله.

ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلقي إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال: ﴿قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار﴾ والجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها أي أنه تعالى واحد في خالقيته لا شريك له فيها، وكيف يكون له فيها شريك وله وحدة يقهر كل عدد وكثرة وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿ء أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار﴾ يوسف: 39 بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهار، وتبين هناك أن مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحدية.

وقد بان مما ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله: ﴿أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم﴾ والإعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمل في ذلك واعلم أن أكثر المفسرين اشتبه عليهم الحال في الحجج التي تقيمها الآيات القرآنية لإثبات ربوبيته تعالى وتوحيده فيها ونفي الشريك عنه فخلطوا بينها وبين ما أقيمت لإثبات الصانع فتنبه لذلك.

بحث روائي:

في الكافي، بإسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله تبارك وتعالى ﴿إنما أنت منذر ولكل قوم هاد﴾ فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا المنذر وعلي الهادي الحديث.

أقول: وروى هذا المعنى الكليني في الكافي، والصدوق في المعاني، والصفار في البصائر، والعياشي والقمي في تفسيريهما وغيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة.

ومعنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿أنا المنذر وعلي الهادي﴾ أني مصداق المنذر والإنذار هداية مع دعوة وعلى مصداق للهادي من غير دعوة وهو الإمام لا أن المراد بالمنذر هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد بالهادي هو علي (عليه السلام) فإن ذلك مناف لظاهر الآية البتة.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي وابن عساكر وابن النجار قال: لما نزلت: ﴿إنما أنت منذر ولكل قوم هاد﴾ وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده على صدره فقال: أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي فقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي:. أقول: ورواه الثعلبي في الكشف، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي مستدرك الحاكم، بإسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير عن أبي بريدة الأسلمي قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطهور وعنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي بعد ما تطهر فألصقها بصدره ثم قال: ﴿إنما أنت منذر﴾ ويعني نفسه ثم ردها إلى صدر علي ثم قال: ﴿ولكل قوم هاد﴾ ثم قال له: أنت منار الأنام وغاية الهدى وأمير القراء أشهد على ذلك أنك كذلك.

أقول: ورواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل، والمرزباني في ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين.

وفي الدر المنثور، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب: في قوله تعالى: ﴿إنما أنت منذر ولكل قوم هاد﴾ قال: رسول الله المنذر وأنا الهادي.

وفي لفظ: والهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه.

أقول: ومن طرق أهل السنة في هذا المعنى روايات أخرى كثيرة.

وفي المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿إنما أنت منذر ولكل قوم هاد﴾ قال: كل إمام هاد لكل قوم في زمانهم.

وفي الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿ولكل قوم هاد﴾ فقال: كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم.

وفيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ﴿إنما أنت منذر ولكل قوم هاد﴾ فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا المنذر وعلي الهادي. يا با محمد هل من هاد اليوم؟ فقلت: جعلت فداك ما زال منكم هاد من بعد هاد حتى رفعت إليك فقال: رحمك الله يا با محمد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب ولكنه يجري فيمن بقي كما جرى فيما مضى.

أقول: والرواية تشهد على ما قدمناه أن شمول الآية لعلي (عليه السلام) من الجري وكذلك يجري في باقي الأئمة، وهذا الجري هو المراد مما ورد أنها نزلت في علي (عليه السلام).

وفي تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام﴾ قال: ما لم يكن حملا. ﴿وما تزداد﴾ قال: الذكر والأنثى جميعا.

أقول: وقوله: الذكر والأنثى جميعا، يريد ما يزيد على الواحد من الواحد بدليل الرواية التالية.

وفيه، عن محمد بن مسلم وغيره عنهما (عليهما السلام) قال: ﴿ما تحمل﴾ كل من أنثى أو ذكر ﴿وما تغيض الأرحام﴾ قال: ما لم يكن حملا ﴿وما تزداد﴾ عن أنثى أو ذكر.

وفي الكافي، بإسناده عن حريز عمن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام): في قول الله عز وجل: ﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى - وما تغيض الأرحام وما تزداد﴾ قال: الغيض كل حمل دون تسعة أشهر ﴿وما تزداد﴾ كل شيء تزداد على تسعة أشهر فكلما رأت المرأة الدم الخالص في حملها من الحيض فإنها تزداد بعدد الأيام التي رأت في حملها من الدم.

أقول: وهذا معنى آخر ونقل عن بعض قدماء المفسرين.

وفي المعاني، بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز وجل: ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ قال: الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان.

أقول: ليس المراد من ﴿ما لم يكن﴾ المعدوم الذي ليس بشيء بل الأمر الذي بالقوة ما لم يدخل في ظرف الفعلية، وما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق وهو ظاهر.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال: أتجعل لي إن أسلمت الأمر من بعدك؟ قال: ليس لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل.

قال: فاجعل لي الوبر ولك المدر فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا.

فلما قفى من عنده قال: لأملأنها عليك خيلا ورجالا، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يمنعك الله.

فلما خرج أربد وعامر قال عامر: يا أربد إني سألهي محمدا عنك بالحديث فأضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل، فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام منه فخليا إلى الجدار ووقف معه عامر يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف فلا يستطيع سل سيفه وأبطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما، وقال عامر لأربد: ما لك حشمت قال: وضعت يدي على قائم السيف فيبست. فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كانا بحرة رقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقال: أشخصا يا عدوي الله لعنكما الله ووقع بهما. فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال سعد: هذا أسيد بن حضير الكتائب.

فقال: أما والله إن كان حضير صديقا لي. حتى إذا كان بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالخريب أرسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها فأنزل الله: ﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى﴾ إلى قوله ﴿له معقبات من بين يديه﴾ قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم). ثم ذكر أربد وما قتله فقال: ﴿هو الذي يريكم البرق إلى قوله وهو شديد المحال﴾.

أقول: وروي ما في معناه عن الطبري وأبي الشيخ عن ابن زيد وفي آخره: وقال لبيد في أخيه أربد وهو يبكيه.

أخشى على أربد الحتوف ولا.

أرهب نوء السماء والأسد.

فجعني الرعد والصواعق بالفارس.

يوم الكريهة النجد.

وما تذكره الرواية من نزول هذه الآيات في القصة لا يلائم سياق آيات السورة الظاهر في كونها مكية بل لا يناسب سياق نفس الآيات أيضا على ما مر من معناها.

وفي الدر المنثور، أيضا أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن علي: ﴿له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله﴾ قال: ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو غرق أو حرق فإذا جاء القدر خلوا بينه وبين القدر.

أقول: وروي أيضا ما في معناه عن أبي داود في القدر وابن أبي الدنيا وابن عساكر عنه.

وروي ما في معناه عن الصادقين (عليهما السلام).

وفي تفسير العياشي، عن فضيل بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال حدثنا هذه الآية: ﴿له معقبات من بين يديه ومن خلفه﴾ الآية قال: من المقدمات المؤخرات المعقبات الباقيات الصالحات.

أقول: ظاهره أن الباقيات الصالحات من مصاديق المعقبات المذكورة في الآية تحفظ صاحبها من سوء القضاء ولا تحفظه إلا بالملائكة الموكلة عليها فيرجع معناه إلى ما قدمناه في بيان الآية، ويمكن أن تكون المقدمات المؤخرات نفس الباقيات الصالحات ورجوعه إلى ما قدمناه ظاهر.

وفيه، عن أبي عمرو المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أبي كان يقول: إن الله قضى قضاء حتما لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إياه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة وذلك قول الله: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم - حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.

وفيه، عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): في قول الله: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم - حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء - فلا مرد له﴾ فصار الأمر إلى الله تعالى.

أقول: إشارة إلى ما قدمناه من معنى الآية.

وفي المعاني، بإسناده عن عبد الله بن الفضل عن أبيه قال. سمعت أبا خالد الكابلي يقول: سمعت زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس والزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف وكفران النعم وترك الشكر، قال الله عز وجل: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم - حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.

وفيه، بإسناده عن الحسن بن فضال عن الرضا (عليه السلام): في قوله: ﴿هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا﴾ قال: خوفا للمسافر وطمعا للمقيم.

وفي تفسير النعماني، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وهو شديد المحال﴾ يريد المكر.

وفي أمالي الشيخ، بإسناده عن أنس بن مالك: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث رجلا إلى فرعون من فراعنة العرب يدعوه إلى الله عز وجل فقال للرسول: أخبرني عن هذا الذي تدعوني إليه أ من فضة هو أم من ذهب أم من حديد؟ فرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بقوله فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ارجع إليه فادعه قال: يا نبي الله إنه اعتاص من ذلك. قال: ارجع إليه فرجع فقال كقوله فبينا هو يكلمه إذ رعدت سحابة رعدة فألقت على رأسه صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله جل ثناؤه ﴿ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء - وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال﴾.

أقول: الكلام في آخره كالكلام في آخر ما مر من قصة عامر وأربد ويزيد هذا الخبر أن قوله: ﴿ويرسل الصواعق﴾ إلخ بعض من آية ولا وجه لتقطيع الآيات في النزول.

وفي التفسير القمي، قال: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿ولله يسجد من في السماوات والأرض﴾ الآية: أما من يسجد من أهل السماوات طوعا فالملائكة يسجدون لله طوعا، وأما من يسجد من أهل الأرض ممن ولد في الإسلام فهو يسجد له طوعا، وأما من يسجد له كرها فمن جبر على الإسلام وأما من لم يسجد فظله يسجد له بالغدو والآصال.

أقول: ظاهر الرواية يخالف سياق الآية الكريمة فإن الآية مسوقة لبيان عموم قهره تعالى بعظمته وعلوه من في السماوات والأرض أنفسهم وأظلالهم وهي تنبىء عن سجودها له تعالى بحقيقة السجدة، وظاهر الرواية أن السجدة بمعنى الخرور ووضع الجبهة أو ما يشبه السجدة عامة موجودة إما فيهم وإما في ظلالهم فإن سجدوا حقيقة طوعا أو كرها فهي وإلا فسقوط ظلالهم على الأرض يشبه السجدة وهذا معنى لا جلالة فيه لله الكبير المتعال.

على أنه لا يوافق العموم المتراءى من قوله: ﴿وظلالهم بالغدو والآصال﴾ وأوضح منه العموم الذي في قوله: ﴿أولم يروا إلى ما خلق الله شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون﴾ النحل: 49.