الآيات 90-105

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿90﴾ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴿91﴾ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿92﴾ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿93﴾ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿94﴾ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿95﴾ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿96﴾ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿97﴾ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿98﴾ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿99﴾ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴿100﴾ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿101﴾ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴿102﴾ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴿103﴾ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿104﴾ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴿105﴾

بيان:

تذكر الآيات عدة من الأحكام مما يلائم حال الإسلام قبل الهجرة مما يصلح به حال المجتمع العام كالأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وما يلحق بذلك كالأمر بإيتاء ذي القربى والنهي عن نقض العهد واليمين، وتذكر أمورا أخرى تناسب ذلك وتثبتها.

قوله تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى﴾ ابتدأ سبحانه بهذه الأحكام الثلاثة التي هي بالترتيب أهم ما يقوم به صلب المجتمع الإنساني لما أن صلاح المجتمع العام أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه المصلحة فإن أهم الأشياء عند الإنسان في نظر الطبيعة وإن كان هو نفسه الفردية، لكن سعادة الشخص مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش هو فيه، وما أصعب أن يفلح فرد في مجتمع فاسد أحاط به الشقاء من كل جانب.

ولذلك اهتم في إصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره وبذل الجهد البالغ في جعل الدساتير والتعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والحج والصوم اجتماعية ما أمكن فيها ذلك، كل ذلك ليستصلح الإنسان في نفسه ومن جهة ظرف حياته.

فقوله: ﴿إن الله يأمر بالعدل﴾ أمر بالعدل ويقابله الظلم قال في المفردات، العدالة والمعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة، ويستعمل باعتبار المضايفة، والعدل - بفتح - العين والعدل - بكسرها يتقاربان لكن العدل - بفتح العين - يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿أو عدل ذلك صياما﴾ والعدل - بكسر العين - والعديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات، فالعدل هو التقسيط على سواء.

قال: والعدل ضربان: مطلق يقتضي العقل حسنه، ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه نحو الإحسان إلى من أحسن إليك وكف الأذى عمن كف أذاه عنك، وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع ويمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة كالقصاص وأروش الجنايات وأصل مال المرتد، ولذلك قال: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه﴾ وقال: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ فسمي اعتداء وسيئة.

وهذا النحو هو المعني بقوله: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ فإن العدل هو المساواة في المكافاة إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه والشر بأقل منه، انتهى موضع الحاجة.

وما ذكره على ما فيه من التفصيل يرجع إلى قولهم إن العدل هو لزوم الوسط والاجتناب عن جانبي الإفراط والتفريط في الأمور وهو من قبيل التفسير بلازم المعنى فإن حقيقة العدل هي إقامة المساواة والموازنة بين الأمور بأن يعطى كل من السهم ما ينبغي أن يعطاه فيتساوى في أن كلا منها واقع موضعه الذي يستحقه، فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق، والعدل في فعل الإنسان في نفسه أن يفعل ما فيه سعادته ويتحرز مما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس، والعدل في الناس وبينهم أن يوضع كل موضعه الذي يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف فيثاب المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وينتصف للمظلوم من الظالم ولا يبعض في إقامة القانون ولا يستثنى.

ومن هنا يظهر أن العدل يساوق الحسن ويلازمه إذ لا نعني بالحسن إلا ما من طبعه أن تميل إليه النفس وتنجذب نحوه وإقرار الشيء في موضعه الذي ينبغي أن يقر عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الإنسان ويعترف بحسنه ويقدم العذر لو خالفه إلى من يقرعه باللوم لا يختلف في ذلك اثنان، وإن اختلف الناس في مصاديقه كثيرا باختلاف مسالكهم في الحياة.

ويظهر أيضا أن ما عد الراغب في كلامه من الاعتداء والسيئة عدلا لا يخلو عن مسامحة، فإن الاعتداء والسيئة الذين يجازى بهما المعتدي والمسيء إنما هما اعتداء وسيئة بالنسبة إليهما وأما بالنسبة إلى من يجازيهما بهما فهما من لزوم وسط الاعتدال وخصلة الحسن لكونهما من وضع الشيء موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه.

وكيف كان فالعدل وإن كان منقسما إلى عدل الإنسان في نفسه وإلى عدله بالنسبة إلى غيره، وهما العدل الفردي والعدل الاجتماعي، واللفظ مطلق لكن ظاهر السياق أن المراد به في الآية العدل الاجتماعي وهو أن يعامل كل من أفراد المجتمع بما يستحقه ويوضع في موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه، وهذا أمر بخصلة اجتماعية متوجه إلى أفراد المكلفين بمعنى أن الله سبحانه يأمر كل واحد من أفراد المجتمع أن يأتي بالعدل، ولازمه أن يتعلق الأمر بالمجموع أيضا فيكلف المجتمع إقامة هذا الحكم وتتقلده الحكومة بما أنها تتولى أمر المجتمع وتدبره.

وقوله: ﴿والإحسان﴾ الكلام فيه من حيث اقتضاء السياق كسابقه فالمراد به الإحسان إلى الغير دون الإحسان بمعنى إتيان الفعل حسنا، وهو إيصال خير أو نفع إلى غير لا على سبيل المجازاة والمقابلة كأن يقابل الخير بأكثر منه ويقابل الشر بأقل منه - كما تقدم - ويوصل الخير إلى غير متبرعا به ابتداء.

والإحسان على ما فيه من إصلاح حال من أذلته المسكنة والفاقة أو اضطرته النوازل، وما فيه من نشر الرحمة وإيجاد المحبة يعود محمود أثره إلى نفس المحسن بدوران الثروة في المجتمع وجلب الأمن والسلامة بالتحبيب.

وقوله: ﴿وإيتاء ذي القربى﴾ أي إعطاء المال لذوي القرابة وهو من أفراد الإحسان خص بالذكر ليدل على مزيد العناية بإصلاح هذا المجتمع الصغير الذي هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدني الكبير كما أن مجتمع الازدواج الذي هو أصغر بالنسبة إلى مجتمع القرابة سبب مقدم مكون له فالمجتمعات المدنية العظيمة إنما ابتدأت من مجتمع بيتي عقده الازدواج ثم بسطه التوالد والتناسل ووسعه حتى صار قبيلة وعشيرة ولم يزل يتزايد ويتكاثر حتى عادت أمة عظيمة فالمراد بذي القربى الجنس دون الفرد وهو عام لكل قرابة كما ذكروه.

وفي التفسير المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بذي القربى الإمام من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد بالإيتاء إعطاء الخمس الذي فرضه الله سبحانه في قوله: ﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين﴾ الأنفال: 41 وقد تقدم تفسيرها.

ولعل التعبير بالإفراد حيث قيل: ﴿ذي القربى﴾ ولم يقل: ذوي القربى أو أولي القربى كما في قوله: ﴿وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين﴾ النساء: 8، وقوله: ﴿وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين﴾ البقرة: 177 يؤيد ذلك.

واحتمال إرادة الجنس من ذي القربى يبعده ما وقع في سياق آية الخمس من ذكر اليتامى والمساكين معه بصيغة الجمع مع عدم ظهور نكتة يختص بها ذوي القربى أو اليتامى والمساكين تقضي بالفرق.

على أن الآية لا قرينة واضحة فيها على كون المراد بالإيتاء هو الإحسان ثم بالإحسان مطلق الإحسان، والله أعلم.

قوله تعالى: ﴿وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ قال في المفردات: الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال.

انتهى ولعل الأصل في معناه الخروج عن الحد فيما لا ينبغي يقال: غبن فاحش أي خارج عن حد التحمل والصبر والسكوت.

والمنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال التي تكون متروكة عندهم لقبحها أو إثمها كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الإسلامية.

والبغي الأصل في معناه الطلب وكثر استعماله في طلب حق الغير بالتعدي عليه فيفيد معنى الاستعلاء والاستكبار على الغير ظلما وعتوا، وربما كان بمعنى الزنا والمراد به في الآية هو التعدي على الغير ظلما.

وهذه الثلاثة أعني الفحشاء والمنكر والبغي وإن كانت متحدة المصاديق غالبا فكل فحشاء منكر، وغالب البغي فحشاء ومنكر لكن النهي إنما تعلق بها بما لها من العناوين لما أن وقوع الأعمال بهذه العناوين في مجتمع من المجتمعات يوجب ظهور الفصل الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله فينقطع بعضها من بعض ويبطل الالتيام بينها ويفسد بذلك النظم وينحل المجتمع في الحقيقة وإن كان على ساقه صورة وفي ذلك هلاك سعادة الأفراد.

فالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي أمر بحسب المعنى باتحاد مجتمع تتعارف أجزاؤه وتتلاءم أعماله لا يستعلي بعضهم على بعض بغيا، ولا يشاهد بعضهم من بعض إلا الجميل الذي يعرفونه لا فحشاء ولا منكرا وعند ذلك تستقر عليهم الرحمة والمحبة والألفة وترتكز فيهم القوة والشدة، وتهجرهم السخطة والعداوة والنفرة وكل خصلة سيئة تؤدي إلى التفرق والتهلكة.

ثم ختم سبحانه الآية بقوله: ﴿يعظكم لعلكم تذكرون﴾ أي تتذكرون فتعلمون أن الذي يدعوكم إليه فيه حياتكم وسعادتكم.

قوله تعالى: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها﴾ إلخ، قال في المفردات: العهد حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا.

قال: وعهد فلان إلى فلان يعهد أي ألقى إليه العهد وأوصاه بحفظه، انتهى.

وظاهر إضافة العهد إلى الله تعالى في قوله: ﴿وأوفوا بعهد الله﴾ أن المراد به هو العهد الذي يعاهد فيه الله على كذا دون مطلق العهد ويأتي نظير الكلام في نقض اليمين.

وقوله: ﴿ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها﴾ نقض اليمين نكثه ومخالفة مقتضاه والمراد باليمين هو اليمين بالحلف بالله سبحانه كأن ما عدا ذلك ليس بيمين والدليل عليه قوله بعد: ﴿وقد جعلتم الله عليكم كفيلا﴾.

والمراد بتوكيدها إحكامها بالقصد والعزم وكونها لأمر راجح بخلاف قولهم: لا والله وبلى والله وغيره من لغو الأيمان، فالتوكيد في هذه الآية يفيد ما يفيده التعقيد في قوله تعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ المائدة: 89.

ونقض اليمين بحسب الاعتبار أشنع من نقض العهد وإن كان منهيا عنهما جميعا، على أن العناية بالحلف في الشرع الإسلامي أكثر كما في باب القضاء.

وتوضيح شناعة نقضه: أن حقيقة معنى اليمين إيجاد ربط خاص بين النسبة الكلامية من خبر أو إنشاء وبين أمر ذي بال شريف بحيث يستوجب بطلان النسبة من جهة ظهور كذبه إن كان خبرا ومخالفة مقتضاه إن كان عزما أو أمرا أو نهيا كقولنا: والله لأفعلن كذا وبالله عليك افعل أو لا تفعل كذا أن يذهب بذلك ما يعتقده المقسم من الكرامة والعزة للمقسم به فيئول الأمر إلى أن المقسم به بما له من الكرامة والعزة هو المسئول عن صحة النسبة الكلامية والمقسم هو المسئول عند المقسم به بما علق صحة النسبة على كرامته وعزته كمن يعقد عقدا أو يتعهد عملا ثم يعطي لمن عاقده أو تعهد له موثقا يثق به من مال أو ولد أو غير ذلك أو يضمن له ذلك شريف بشرافته.

وبهذا يظهر معنى قوله تعالى: ﴿وقد جعلتم الله عليكم كفيلا﴾ فإن الحالف إذا قال: والله لأفعلن كذا أو لأتركن كذا فقد علق ما حلف عليه نوعا من التعليق على الله سبحانه وجعله كفيلا عنه في الوفاء بما عقد عليه اليمين فإن نكث ولم يف كان لكفيله أن يؤديه إلى الجزاء والعقوبة، ففي نكث اليمين إهانة وإرزاء بساحة العزة والكرامة مضافا إلى ما في نقض اليمين والعهد معا من الانقطاع والانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتصال.

فقوله: ﴿وقد جعلتم الله﴾ إلخ، حال من ضمير الجمع في قوله: ﴿ولا تنقضوا﴾ وقوله: ﴿إن الله يعلم ما تفعلون﴾ في معنى تأكيد النهي بأن العمل مبغوض وهو به عليم.

قوله تعالى: ﴿ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا﴾ إلى آخر الآية، النقض ويقابله الإبرام إفساد ما أحكم من حبل أو غزل بالفتل فنقض الشيء المبرم كحل الشيء المعقود، والنكث النقض، قال في المجمع،: وكل شيء نقض بعد الفتل فهو أنكاث حبلا كان أو غزلا، والدخل بفتحتين في الأصل كل ما دخل الشيء وليس منه، ويكنى به عن الدغل والخدعة والخيانة، كما قيل: وأربى أفعل من الربا وهو الزيادة.

وقوله: ﴿ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا﴾ في معنى التفسير لقوله في الآية السابقة: ﴿ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها﴾ وهو تمثيل بمرأة تغزل الغزل بقوة ثم تعود فتنقض ما أتعبت نفسها فيه وغزلته من بعد قوة وتجعله أنكاثا لا فتل فيه ولا إبرام.

ونقل عن الكلبي أنها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها واسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، وكانت تسمى خرقاء مكة.

وقوله: ﴿تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة﴾ أي تتخذون أيمانكم وسيلة للغدر والخدعة والخيانة تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتخدعونهم بنقضها، وإنما يفعلون ذلك لتكون أمة - وهم الحالفون - أربى وأزيد سهما من زخارف الدنيا من أمة - وهم المحلوف لهم -.

فالمراد بالدخل وسيلته من تسمية السبب باسم المسبب و﴿أن تكون أمة﴾ مفعول له بتقدير اللام، والكلام نوع بيان لنقض اليمين أو لكونهم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ومحصل المعنى أنكم كمثلها إذ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم فتؤكدونها وتعقدونها ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثها والله ينهاكم عنه.

وذكر بعضهم أن قوله: ﴿تتخذون أيمانكم﴾ إلخ، جملة استفهامية محذوفة الأداة والاستفهام للإنكار.

وقوله: ﴿إنما يبلوكم الله به﴾ إلخ، أي إن ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به وأقسم ليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك ما حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هو المهتدي.

قوله تعالى: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ إلخ، لما انجر الكلام إلى ذكر اختلافهم عقب ذلك ببيان أن اختلافهم ليس بناقض للغرض الإلهي في خلقهم ولا أنهم معجزون له سبحانه ولو شاء لجعلهم أمة واحدة لا اختلاف بينهم ولكن الله سبحانه جعلهم مختلفين بالهداية والإضلال فهدى قوما وأضل آخرين.

وذلك أنه تعالى وضع سعادة الإنسان وشقاءه على أساس الاختيار وعرفهم الطاعة المفضية إلى غاية السعادة والمعصية المؤدية إلى غاية الشقاء فمن سلك مسلك المعصية واجتاز للضلال جازاه الله ذلك، ومن ركب سبيل الطاعة واختار الهدى جازاه الله ذلك وسيسألهم جميعا عما عملوا واختاروا.

وبما تقدم يظهر أن المراد بجعلهم أمة واحدة رفع الاختلاف من بينهم وحملهم على الهدى والسعادة، وبالإضلال والهداية ما هو على سبيل المجازاة لا الضلال والهدى الابتدائيان فإن الجميع على هدى فطري فالذي يشاء الله ضلاله فيضله هو من اختار المعصية على الطاعة من غير رجوع ولا ندم، والذي شاء الله هداه فهداه هو من بقي على هداه الفطري وجرى على الطاعة أو تاب ورجع عن المعصية صراطا مستقيما وسنة إلهية ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.

وأن قوله: ﴿ولتسألن عما كنتم تعملون﴾ لدفع ما يسبق إلى الوهم أن استناد الضلال والهدى إليه سبحانه يبطل تأثير اختيارهم في ذلك وتبطل بذلك الرسالة وتلغو الدعوة فأجيب بأن السؤال باق على حاله لما أن اختياركم لا يبطل بذلك بل الله سبحانه يمد لكم من الضلال والهدى ما أنتم تختارونه بالركون إلى معصيته أو بالإقبال إلى طاعته.

قوله تعالى: ﴿ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها﴾ إلى آخر الآية، قال في المفردات: الصدود والصد قد يكون انصرافا عن الشيء وامتناعا نحو ﴿يصدون عنك صدودا﴾ وقد يكون صرفا ومنعا نحو ﴿وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل﴾.

والآية نهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد النهي عن أصل نقض الأيمان لأن لخصوص اتخاذها دخلا مفسدة مستقلة هي ملاك النهي غير المفسدة التي لأصل نقض الأيمان وقد أشار إلى مفسدة أصل النقض بقوله: ﴿وقد جعلتم الله عليكم كفيلا﴾ إلخ، ويشير في هذه الآية إلى مفسدة اتخاذها دخلا بقوله: ﴿فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم﴾.

والملاكان - كما هو ظاهر - متغايران نعم أحدهما كالمقدمة للآخر كما أن نقض الأيمان كالمقدمة لاتخاذها دخلا فإن الإنسان إذا نقض اليمين لسبب من الأسباب لأول مرة هان عليه أمر النقض ومهد ذلك السبيل إلى النقض ثانيا وثالثا وجعل الحلف ثم النقض وسيلة خدعة وخيانة فلا يلبث دون أن تكون حليف دغل وخدعة وخيانة وغرور ومكر وكيد وكذب وزور لا يبالي ما قال وما فعل ويعود جرثومة فساد يفسد المجتمع الإنساني أينما توجه، ويقع في سبيل غير سبيل الله الذي خطته الفطرة السليمة.

وكيف كان فظاهر قوله: ﴿ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم﴾ نهي استقلالي عن الخدعة باليمين بعد النهي الضمني عنه في الآية السابقة، وقوله: ﴿فتزل قدم بعد ثبوتها﴾ تفريع على المنهي عنه دون النهي أي يتفرع على اتخاذها دخلا أن تزل قدم بعد ثبوتها إلخ، وزلة القدم بعد ثبوتها مثل لنقض اليمين بعد العقد والتوكيد والزوال عن الموقف الذي ارتكز فيه فإن ثبات الإنسان واستقامته على ما عزم عليه واهتم به من كرائم الإنسانية وأصول فضائلها وعليه بناء الدين الإلهي، وحفظ اليمين على توكيده قدم من الأقدام التي يتم بها هذا الأصل الوسيع، وكأنه لذلك جيء بالقدم نكرة في قوله: ﴿فتزل قدم﴾ إلخ.

وقوله: ﴿وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم﴾ معطوف على قوله: ﴿تزل قدم﴾ إلخ، وبيان نتيجته كما أنه بيان نتيجة وعاقبة لقوله: ﴿لا تتخذوا أيمانكم دخلا﴾ وبذلك يظهر أن قوله: ﴿بما صددتم عن سبيل الله﴾ بمنزلة التفسير لقوله: ﴿فتزل قدم بعد ثبوتها﴾.

والمراد بالصدود عن سبيل الله الإعراض والامتناع عن السنة الفطرية التي فطر الله الناس عليها ودعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق والاستقامة ورعاية العهود والمواثيق والأيمان والتجنب عن الدغل والخدعة والخيانة والكذب والزور والغرور.

والمراد بذوق السوء العذاب، وقوله: ﴿ولكم عذاب عظيم﴾ حال عن فاعل ﴿تذوقوا﴾ ويمكن أن يكون المراد بذوق السوء ما ينالهم من آثار الضلال السيئة في الدنيا، وقوله: ﴿ولكم عذاب عظيم﴾ إخبارا عما يحل بهم في الآخرة هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة.

فالمعنى: ولا تتخذوا أيمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك إلى الزوال عما ثبتم عليه ونقض ما أبرمتموه، وفيه إعراض عن سبيل الله الذي هو التزام الفطرة والتحرز عن الغدر والخدعة والخيانة والدغل وبالجملة الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، ويؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء والشقاء في حياتكم الدنيا ولكم عذاب عظيم في الأخرى.

وذكر بعضهم: أن الآية مختصة بالنهي عن نقض بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما استقرت عليه السنة في صدر الإسلام، وأن الآية نزلت في الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على نصرة الإسلام وأهله فنهاهم الله عن نقض تلك البيعة، وعلى هذا فالمراد بالصد عن سبيل الله صرف الناس ومنعهم عن اتباع دين الله كما أن المراد بزلة قدم بعد ثبوتها الردة بعد الإسلام والضلال بعد الرشد.

وفيه أن السياق لا يساعد على ذلك، وعلى تقدير التسليم خصوص المورد لا ينافي عموم الآية.

قوله تعالى: ﴿ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ قال في المفردات، كل ما يحصل عوضا عن شيء فهو ثمنه، انتهى.

والظاهر أن الآية نهي عن نقض العهد بعد ما تقدم الأمر بالوفاء به اعتناء بشأنه كما جرى مثل ذلك في نقض الأيمان، والآية مطلقة، والمراد بعهد الله العهد الذي عوهد به الله مطلقا، والمراد بالاشتراء به ثمنا قليلا بقرينة ذيل الآية أن يبدل العهد من شيء من حطام الدنيا فينقض لنيله فسمى المبدل منه ثمنا لأنه عوض كما تقدم، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق﴾ في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: ﴿ما عند الله هو خير لكم﴾ وقد وجهه بأن الذي عندكم أي في الحياة الدنيا التي هي حياة مادية قائمة على أساس التبدل والتحول منعوتة بنعت الحركة والتغير زائل نافد، وما عند الله سبحانه مما يعد المتقين منكم باق لا يزول ولا يفنى والباقي خير من النافد بصريح حكم العقل.

واعلم أن قوله: ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق﴾ على ما في لفظه من الإطلاق قاعدة كلية غير منقوضة باستثناء، تحتها جزئيات كثيرة من المعارف الحقيقية.

قوله تعالى: ﴿ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ لما كان الوفاء بالعهد مستلزما للصبر على مر مخالفة هوى النفس في نقضه والاسترسال فيما تشتهيه، صرف الكلام عن ذكر أجر خصوص الموفين بالعهد إلى ذكر أجر مطلق الصابرين في جنب الله.

فقوله: ﴿ولنجزين الذين صبروا أجرهم﴾ وعد مؤكد على مطلق الصبر سواء كان صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة غير أنه يجب أن يكون صبرا في جنب الله ولوجه الله فإن السياق لا يساعد على غيره.

وقوله: ﴿بأحسن ما كانوا يعملون﴾ الباء للمقابلة كما في قولنا: بعت هذا بهذا، وليس المراد بأحسن ما كانوا يعملون الأحسن من أعمالهم في مقابل الحسن منها بأن يميز الله سبحانه بين أعمالهم الحسنة فيقسمها إلى حسن وأحسن ثم يجزيهم بأحسنها ويلغي الحسن كما ذكره بعضهم فإن المقام لا يؤيده، وآيات الجزاء تنفيه والرحمة الواسعة الإلهية تأباه.

وليس المراد به الواجبات والمستحبات من أعمالهم قبال المباحات التي أتوا بها فإنها لا تخلو من حسن كما ذكره آخرون.

فإن الكلام ظاهر في أن المراد بيان الأجر على الأعمال المأتي بها في ظرف الصبر مما يرتبط به ارتباطا، وواضح أن المباحات التي يأتي بها الصابر في الله لا ارتباط لها بصبره فلا وجه لاعتبارها بين الأعمال ثم اختيار الأحسن من بينها.

على أنه لا مطمع لعبد في أن يثيبه الله على ما أتى به من المباحات حتى يبين له أن الثواب في مقابل ما أتى به من الواجبات والمستحبات التي هي أحسن مما أتى به من المباحات فيكون ذكر الحسن مستدركا زائدا.

ومن هنا يظهر أن ليس المراد به النوافل بناء على عدم الإلزام فيها فتكون أحسن ما عمل فإن كون الواجب مشتملا من المصلحة الموجبة للحسن على أزيد من النقل معلوم من الخطابات التشريعية بحيث لا يرتاب فيه.

بل المراد بذلك أن العمل الذي يأتون به وله في نوعه ما هو حسن وما هو أحسن فالله سبحانه يجزيه من الأجر على ما أتى به ما هو أجر الفرد الأحسن من نوعه فالصلاة التي يصليها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها أجر الفرد الأحسن من الصلاة وإن كانت ما صلاها غير أحسن وبالحقيقة يستدعي الصبر أن لا يناقش في العمل ولا يحاسب ما هو عليه من الخصوصيات المقتضية لخسته ورداءته كما يفيده قوله تعالى: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾.

ويستفاد من الآية أن الصبر في الله يوجب كمال العمل وفي قوله: ﴿ولنجزينهم﴾ إلخ، التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير كما قيل، والذي أظنه أنه رجوع إلى السياق السابق في الآيات وكان سياق التكلم مع الغير، وإنما الالتفات في قوله تعالى قبل بضع آيات: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ والوجه فيه أن هذه الآية وما بعدها من الآيات المسرودة إلى هذه الغاية مشتملة على عدة من الأوامر والنواهي الإلهية، والأنسب بالأمر والنهي أن يستندا إلى أعظم مقامات مصدرهما وأقواها ليتأيدا بذلك، وهذه صناعة معمولة في المحاورات فيقال: إن الملك يأمر بكذا وإن مولاك يقول لك كذا، ولا يقال: فلان بن فلان يأمر أو يقول.

فكان من الأنسب أن يسند هذه التكاليف إلى مقام الجلالة، ويقال بالالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ إلخ.

ولذلك استمر السياق على هذا النسق في التكاليف التالية أيضا فقيل: ﴿وأوفوا بعهد الله﴾ إلخ، ﴿إنما يبلوكم الله﴾ إلخ، ﴿ولو شاء الله﴾ إلخ، ﴿ولا تشتروا بعهد الله﴾ إلخ، ﴿وما عند الله باق﴾.

ثم رجع إلى السياق السابق وهو التكلم مع الغير فقال: ﴿ولنجزين الذين صبروا﴾ وجرى على ذلك حتى إذا بلغ قوله: ﴿فإذا قرأت القرآن﴾ وهو حكم التفت ثانيا فقال: ﴿فاستعذ بالله﴾ وأحسن ما يجلي المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى بعده: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل﴾ حيث جمع بين الأمرين فأسند تبديل آية مكان آية إلى ضمير التكلم والأعلمية إلى الله عز اسمه.

قوله تعالى: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾ إلى آخر الآية.

وعد جميل للمؤمنين إن عملوا عملا صالحا وبشرى للإناث أن الله لا يفرق بينهن وبين الذكور في قبول إيمانهن ولا أثر عملهن الصالح الذي هو الإحياء بحياة طيبة والأجر بأحسن العمل على الرغم مما بنى عليه أكثر الوثنية وأهل الكتاب من اليهود والنصارى من حرمان المرأة من كل مزية دينية أو جلها وحط مرتبتها من مرتبة الرجل ووضعها وضعا لا يقبل الرفع البتة.

فقوله: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن﴾ حكم كلي من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحا أي من كان وقد قيده بكونه مؤمنا وهو في معنى الاشتراط فإن العمل ممن ليس مؤمنا حابط لا يترتب عليه أثر، كما قال تعالى: ﴿ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله﴾ المائدة: 5، وقال: ﴿وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون﴾ هود: 16.

وقوله: ﴿فلنحيينه حياة طيبة﴾ الإحياء إلقاء الحياة في الشيء وإفاضتها عليه فالجملة بلفظها دالة على أن الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحا بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة، وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه وتبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، ولو كان كذلك لقيل: فلنطيبن حياته.

فالآية نظيرة قوله: ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾ الأنعام: 122، وتفيد ما يفيده من تكوين حياة ابتدائية جديدة.

وليس من التسمية المجازية لأن الآيات المتعرضة لهذا الشأن ترتب عليه آثار الحياة الحقيقية كقوله تعالى: ﴿أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه﴾ المجادلة: 22، وكقوله في آية الأنعام المنقولة آنفا: ﴿وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾ فإن المراد بهذا النور العلم الذي يهتدي به الإنسان إلى الحق في الاعتقاد والعمل قطعا.

وكما أن له من العلم والإدراك ما ليس لغيره كذلك له من موهبة القدرة على إحياء الحق وإماطة الباطل ما ليس لغيره، وقد قال سبحانه: ﴿وكان حقا علينا نصر المؤمنين﴾ الروم: 47، وقال: ﴿من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ المائدة: 69.

وهذا العلم والقدرة الحديثان يمهدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليها فيقسمها قسمين حق باق وباطل فان، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارة الفتانة ويعتز بعزة الله فلا يستذله الشيطان بوساوسه ولا النفس بأهوائها وهوساتها ولا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها وفناء نعمتها.

ويتعلق قلبه بربه الحق الذي هو يحق كل حق بكلماته فلا يريد إلا وجهه ولا يحب إلا قربه ولا يخاف إلا سخطه وبعده، يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلدة لا يدبر أمرها إلا ربه الغفور الودود، ولا يواجهها في طول مسيرها إلا الحسن الجميل فقد أحسن كل شيء خلقه، ولا قبيح إلا ما قبحه الله من معصيته.

فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة واللذة والسرور ما لا يقدر بقدر، وكيف لا؟ وهو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها ونعمة باقية لا نفاد لها ولا ألم فيها ولا كدورة تكدرها، وخير وسعادة لا شقاء معها، هذا ما يؤيده الاعتبار وينطق به آيات كثيرة من القرآن لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها.

فهذه آثار حيوية لا تترتب إلا على حياة حقيقية غير مجازية، وقد رتبها الله سبحانه على هذه الحياة التي يذكرها ويخصها بالذين آمنوا وعملوا الصالحات فهي حياة حقيقية جديدة يفيضها الله سبحانه عليهم.

وليست هذه الحياة الجديدة المختصة بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة وإن كانت غيرها فإنما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد فلا يتعدد بها الإنسان، كما أن الروح القدسية التي يذكرها الله سبحانه للأنبياء لا توجب لهم إلا ارتفاع الدرجة دون تعدد الشخصية.

هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة وهو حقيقة قرآنية وبه يظهر وجه توصيفها بالطيب في قوله: ﴿حياة طيبة﴾ كأنها - كما اتضح - حياة خالصة لا خبث فيها يفسدها في نفسها أو في أثرها.

وللمفسرين في الآية وجوه من التفسير: منها: أن الحياة الطيبة هي الحياة التي تكون في الجنة فلا موت فيها ولا فقر ولا سقم ولا أي شقاء آخر.

ومنها: أنها الحياة التي تكون في البرزخ ولعل التخصيص من حمل ذيل الآية على جنة الآخرة.

ومنها: أنها الحياة الدنيوية المقارنة للقناعة والرضا بما قسم الله سبحانه فإنها أطيب الحياة.

ومنها: أنها الرزق الحلال إذ لا عقاب عليه.

ومنها: أنها رزق يوم بيوم.

ووجوه المناقشة فيها لا تكاد تخفى على الباحث المتدبر فلا نطيل بإيرادها.

وقوله: ﴿ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ تقدم الكلام فيه في الآية السابقة، وفي معنى الآية قوله تعالى: ﴿ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب﴾ المؤمنون: 40.

قوله تعالى: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ الاستعاذة طلب المعاذ، والمعنى: إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه أن يعيذك من الشيطان الرجيم أن يغويك، فالاستعاذة المأمور بها حال نفس القارىء ما دام يقرأ وقد أمر أن يوجدها لنفسه ما دام يقرأ، وأما قول القارىء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أو ما يشابهه من اللفظ فهو سبب لإيجاد معنى الاستعاذة في النفس وليس بنفسها إلا بنوع من المجاز، وقد قال سبحانه: استعذ بالله، ولم يقل: قل أعوذ بالله.

وبذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالقراءة إرادتها فهي مجاز مرسل من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب لا يخلو عن تساهل.

قوله تعالى: ﴿إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون﴾ في مقام التعليل للأمر الوارد في الآية السابقة أي استعذ بالله حين القراءة ليعيذك منه لأنه ليس له سلطان على من آمن بالله وتوكل عليه.

ويظهر من الآية أولا: أن الاستعاذة بالله توكل عليه فإنه سبحانه بدل الاستعاذة في التعليل من التوكل ونفى سلطانه عن المتوكلين.

وثانيا: أن الإيمان والتوكل ملاك صدق العبودية كقوله تعالى لإبليس: ﴿إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين﴾ الحجر: 42، فنفى سلطانه عن عباده وقد بدل العباد في هذه الآية من الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والاعتبار يساعد عليه فإن التوكل وهو إلقاء زمام التصرف في أمور نفسه إلى غيره والتسليم لما يؤثره له منها أخص آثار العبودية.

قوله تعالى: ﴿إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون﴾ ضمائر الإفراد الثلاثة للشيطان أي ينحصر سلطان الشيطان في الذين يتخذونه وليا لهم يدبر أمورهم كما يريد، وهم يطيعونه، وفي الذين يشركون به إذ يتخذونه وليا من دون الله وربا مطاعا غيره فإن الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني﴾ يس: 61.

وبذلك يظهر أولا: أن ذيل الآية يفسر صدرها، وأن تولي من لم يأذن الله في توليه شرك بالله وعبادة لغيره.

وثانيا: أن لا واسطة بين التوكل على الله، وتولي الشيطان وعبادته، فمن لم يتوكل على الله فهو من أولياء الشيطان.

وربما قيل: إن ضمير الإفراد في قوله: ﴿والذين هم به مشركون﴾ راجع إليه تعالى، وتفيد الآية حينئذ أن سلطانه على طائفتين: المشركين والذين يتولونه من الموحدين هذا: ولزوم اختلاف الضمائر يدفعه.

قوله تعالى: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون﴾ إشارة إلى النسخ وحكمته، وجواب عما اتهموه (صلى الله عليه وآله وسلم) به من الافتراء على الله، والظاهر من سياق الآيات أن القائلين هم المشركون وإن كانت اليهود هم المتصلبين في نفي النسخ ومن المحتمل أن تكون الكلمة مما تلقفه المشركون من اليهود فكثيرا ما كانوا يراجعونهم في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقوله: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية﴾ قال في المفردات:، الإبدال والتبديل والتبدل والاستبدال جعل شيء مكان آخر، وهو أعم من العوض فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول، والتبديل قد يقال للتغيير مطلقا وإن لم يأت ببدله قال تعالى: ﴿فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم﴾ -إلى أن قال- ﴿فمن بدله بعد ما سمعه﴾ ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية﴾ و﴿بدلناهم بجنتيهم جنتين﴾ ﴿ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة﴾ انتهى موضع الحاجة.

فالتبديل بمعنى التغيير يخالف التبديل بمعناه المعروف في أن مفعوله الأول هو المأخوذ والمطلوب بخلافه بالمعنى المعروف فمعنى قوله: ﴿وإذا بدلنا آية﴾ مكان آية معناه وضعنا الآية الثانية مكان الأولى بالتغيير فكانت الثانية المبدلة هي الباقية المطلوبة.

وقوله: ﴿والله أعلم بما ينزل﴾ كناية عن أن الحق لم يتعد مورده وأن الذين أنزله هو الحقيق بأن ينزل فإن الله أعلم به منهم، والجملة حالية.

وقوله: ﴿قالوا إنما أنت مفتر﴾ القول للمشركين يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتهمونه بأنه يفتري على الله الكذب فإن تبديل قول مكان قول، والثبات على رأي ثم العدول عنه مما يتنزه عنه ساحة رب العزة.

وقد بالغوا في قولهم إذ لم يقولوا: افتريت في هذه التبديل والنسخ بل قالوا: ﴿إنما أنت مفتر﴾ فقصروه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الافتراء، وأتوا بالجملة الاسمية وسموه مفتريا، وقد بنوا ذلك على أن ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سنخ واحد وهو يسند الجميع إلى ربه ويقول: إنما أنا نذير فإذا كان مفتريا في واحد كان مفتريا في الجميع فليس إلا مفتريا.

وقوله: ﴿بل أكثرهم لا يعلمون﴾ أي أكثر هؤلاء المشركين الذين يتهمونك بقولهم: ﴿إنما أنت مفتر﴾ لا يعلمون حقيقة هذا التبديل والحكمة المؤدية إليه على ما سينكشف في الجواب أن الأحكام الإلهية تابعة لمصالح العباد ومن المصالح ما يتغير بتغير الأوضاع والأحوال والأزمنة فمن الواجب أن يتغير الحكم بتغير مصلحته فينسخ الحكم الذي ارتفعت مصلحته الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته.

فأكثر هؤلاء غافلون عن هذا الأمر وأما الأقل منهم فهم واقفون على حقيقة الأمر ولو إجمالا غير أنهم مستكبرون على الحق معاندون له وإنما يلقون القول إلقاء من غير رعاية جانب الحق.

قوله تعالى: ﴿قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين﴾ قد تقدمت في أول السورة إشارة إلى معنى الروح، والقدس الطهارة والنزاهة والظاهر أن الإضافة للاختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادة نزيهة عن الخطإ والغلط والضلال، وهو المسمى في موضع آخر من كلامه تعالى بالروح الأمين، وفي موضع آخر بجبريل من الملائكة قال تعالى: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك﴾ الشعراء: 194، وقال: ﴿من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك﴾ البقرة: 97.

فقوله: ﴿قل نزله روح القدس من ربك﴾ أمر بالجواب والأسبق إلى الذهن أن يكون الضمير راجعا إلى القرآن من جهة كونه ناسخا أي الآية الناسخة، ويمكن أن يكون راجعا إلى مطلق القرآن، وفي التعبير بالتنزيل دون الإنزال إشارة إلى التدريج.

وكان من طبع الكلام أن يقال: من ربي لكن عدل عنه إلى قوله: ﴿من ربك﴾ للدلالة على كمال العناية والرحمة في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه لا يرضى بانقطاع خطابه فيغتنم الفرصة لتكليمه أينما أمكن، وليدل على أن المراد بالقول المأمور به إخبارهم بذلك لا مجرد التلفظ بهذه الألفاظ فافهم.

وقوله: ﴿ليثبت الذين آمنوا﴾ التثبيت تحكيم الثبات وتأكيده بإلقاء الثبات بعد الثبات عليهم كأنهم بأصل إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر ثبتوا على الحق وبتجدد الحكم حسب تجدد المصلحة يؤتون ثباتا على ثبات من غير أن يضعف ثباتهم الأول بالمضي على أعمال لا تطابق مصلحة الوقت فإن من الواضح أن من أمر بسلوك سبيل لمصلحة غاية فأخذ بسلوكه عن إيمان بالأمر الهادي فقطع قطعة منه على حسب ما يأمره به رعاية لمصلحة الغاية بسرعة أو بطء أو في ليل أو نهار ثم تغير نحو المصلحة فلو لم يغير الأمر الهادي نحو السلوك واستمر على أمره السابق لضعف إيمان السالك وانسلب أركانه لكن لو أمر بنحو جديد من السلوك يوافق المصلحة ويضمن السعادة زاد إيمانه ثباتا على ثبات.

ففي تنزيل القرآن بالنسخ وتجديد الحكم حسب تجدد المصلحة تثبيت للذين آمنوا وإعطاء لهم ثباتا على ثبات.

وقوله: ﴿وهدى وبشرى للمسلمين﴾ وهم الذين يسلمون الحكم لله من غير اعتراض فالآية الناسخة بالنسبة إليهم إراءة طريق وبشارة بالسعادة والجنة.

وتفريق الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى بالمسلمين إنما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق فالإيمان للقلب ونصيبه التثبت في العلم والإذعان والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل، والبشرى بأن الغاية هي الجنة والسعادة.

وقد مر بعض الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾ البقرة: 106 في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر﴾ افتراء آخر منهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قولهم: ﴿إنما يعلمه بشر﴾ وهو كما يلوح إليه سياق اعتراضهم وما ورد في الجواب عنه أنه كان هناك رجل أعجمي غير فصيح في منطقه عنده شيء من معارف الأديان وأحاديث النبوة ربما لاقاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاتهموه بأنه يأخذ ما يدعيه وحيا منه والرجل هو الذي يعلمه وهو الذي حكاه الله تعالى من قولهم: ﴿إنما يعلمه بشر﴾ وفي القول إيجاز، وتقديره: إنما يعلمه بشر وينسب ما تعلمه منه إلى الله افتراء عليه، وهو ظاهر.

ومن المعلوم أن الجواب عنه بمجرد أن لسان الرجل أعجمي والقرآن عربي مبين لا يحسم مادة الشبهة من أصلها لجواز أن يلقي إليه المطالب بلسانه الأعجمي ثم يسبكها هو (صلى الله عليه وآله وسلم) ببلاغة منطقه في قالب العربية الفصيحة بل هذا هو الأسبق إلى الذهن من قولهم: ﴿إنما يعلمه بشر﴾ حيث عبروا عن ذلك بالتعليم دون التلقين والإملاء، والتعليم أقرب إلى المعاني منه إلى الألفاظ.

وبذلك يظهر أن قوله: ﴿لسان الذي يلحدون إليه - إلى قوله - مبين﴾ ليس وحده جوابا عن شبهتهم بل ما يتلوه من الكلام إلى تمام آيتين من تمام الجواب.

وملخص الجواب مأخوذ من جميع الآيات الثلاث أن ما اتهمتموه به أن بشرا يعلمه ثم هو ينسبه إلى الله افتراء إن أردتم أنه يعلمه القرآن بلفظه بالتلقين عليه وأن القرآن كلامه لا كلام الله فجوابه أن هذا الرجل لسانه أعجمي وهذا القرآن عربي مبين.

وإن أردتم أن الرجل يعلمه معاني القرآن - واللفظ لا محالة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وهو ينسبه إلى الله افتراء عليه فالجواب عنه أن الذي يتضمنه القرآن معارف حقة لا يرتاب ذو لب فيها وتضطر العقول إلى قبولها قد هدى الله النبي إليها فهو مؤمن بآيات الله إذ لو لم يكن مؤمنا لم يهده الله والله لا يهدي من لا يؤمن بآياته وإذ كان مؤمنا بآيات الله فهو لا يفتري على الله الكذب فإنه لا يفتري عليه إلا من لا يؤمن بآياته، فليس هذا القرآن بمفترى، ولا مأخوذا من بشر ومنسوبا إلى الله سبحانه كذبا.

فقوله: ﴿لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين﴾ جواب عن أول شقي الشبهة وهو أن يكون القرآن بلفظه مأخوذا من بشر على نحو التلقين، والمعنى: أن لسان الرجل الذي يلحدون أي يميلون إليه وينوونه بقولهم: ﴿إنما يعلمه بشر﴾ أعجمي أي غير فصيح بين وهذا القرآن المتلو عليكم لسان عربي مبين وكيف يتصور صدور بيان عربي بليغ من رجل أعجمي اللسان.

وقوله: ﴿إن الذين لا يؤمنون﴾ إلى آخر الآيتين جواب عن ثاني شقي الشبهة وهو أن يتعلم منه المعاني ثم ينسبها إلى الله افتراء.

والمعنى: إن الذين لا يؤمنون بآيات الله ويكفرون بها لا يهديهم الله إليه وإلى معارفه الحقة الظاهرة ولهم عذاب أليم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤمن بآيات الله لأنه مهدي بهداية الله، وإنما يفتري الكذب وينسبه إلى الله الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون المستمرون على الكذب، وأما مثل النبي المؤمن بآيات الله فإنه لا يفتري الكذب ولا يكذب فالآيتان كنايتان عن أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهدي بهداية الله مؤمن بآياته ومثله لا يفتري ولا يكذب.

والمفسرون قطعوا الآيتين عن الآية الأولى وجعلوا الآية الأولى هي الجواب الكامل عن الشبهة وقد عرفت أنها لا تفي بتمام الجواب.

ثم حملوا قوله: ﴿وهذا لسان عربي مبين﴾ على التحدي بإعجاز القرآن في بلاغته، وأنت تعلم أن لا خبر في لفظ الآية عن أن القرآن معجز في بلاغته ولا أثر عن التحدي، ونهاية ما فيه أنه عربي مبين لا وجه لأن يفصح عنه ويلفظه أعجمي.

ثم حملوا الآيتين التاليتين على تهديد أولئك الكفرة بآيات الله الرامين لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالافتراء، ووعيدهم بالعذاب الأليم، وقلب الافتراء والكذب إليهم بأنهم أولى بالافتراء والكذب بما أنهم لا يؤمنون بآيات الله فإن الله لم يهدهم.

ثم تكلموا بالبناء عليه في مفردات الآيتين بما يزيد في الابتعاد عن حق المعنى.

وقد عرفت أن ذلك يؤدي إلى عدم كفاية الجواب في حسم الإشكال من أصله.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاصي قال: كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا إذ شخص بصره فقال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان - إلى قوله- تذكرون﴾.

أقول: ورواه أيضا عن ابن عباس عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه. وفي المجمع، وجاءت الرواية أن عثمان بن مظعون قال: كنت أسلمت استحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكثرة ما كان يعرض علي الإسلام ولم يقر الإسلام في قلبي فكنت ذات يوم عنده حال تأمله فشخص بصره نحو السماء كأنه يستفهم شيئا فلما سري عنه سألته عن حاله فقال: نعم بينا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ فقرأها علي إلى آخرها فقر الإسلام في قلبي. وأتيت عمه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش اتبعوا محمدا ترشدوا فإنه لا يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال: إن كان محمد قاله فنعم ما قال، وإن قاله ربه فنعم ما قال. قال: فأنزل الله: ﴿أفرأيت الذي تولى - وأعطى قليلا وأكدى﴾.

وفيه، عن عكرمة قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال: يا بن أخي أعد فأعاد فقال: إن له لحلاوة وإن له لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمعذق وما هو قول البشر. وفي تفسير القمي، بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق (عليه السلام): في الآية: ليس لله في عباده أمر إلا العدل والإحسان. وفي تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن عمرو بن عثمان قال: خرج علي (عليه السلام) على أصحابه وهم يتذاكرون المروءة فقال: أين أنتم من كتاب الله؟ قالوا يا أمير المؤمنين في أي موضع؟ فقال: في قوله عز وجل: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ فالعدل الإنصاف والإحسان التفضل.

أقول: ورواه العياشي عن عمرو بن عثمان العاصي عنه (عليه السلام)، ورواه في الدر المنثور، عن ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه عنه (عليه السلام) ولفظه: مر علي بن أبي طالب بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أوما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول الله: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ فالعدل الإنصاف والإحسان التفضل.

أقول: وقد ورد في عدة روايات تفسير العدل بالتوحيد أو بالشهادتين وتفسير الإحسان بالولاية: وفي أخرى إرجاع تحريم نقض العهد بوجوب الثبات على الولاية.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾ الآية، قال: قال (عليه السلام): القنوع. وفي المعاني، بإسناده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له: إن أبا الخطاب يذكر عنك أنك قلت: إذا عرفت الحق فاعمل بما شئت، فقال: لعن الله أبا الخطاب والله ما قلت هكذا ولكني قلت له: إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت من خير يقبل منك إن الله عز وجل يقول: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب﴾ ويقول: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾.

أقول: وهو ما قدمناه في معنى الآية.

وفي الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله - إلى قوله يتوكلون﴾ فقال: يا محمد يسلط والله من المؤمن على بدنه ولا يسلط على دينه قد سلط على أيوب فشوه خلقه ولم يسلط على دينه، وقد يسلط من المؤمنين على أبدانهم ولا يسلط على دينهم. قلت له: قوله عز وجل: ﴿إنما سلطانه على الذين يتولونه - والذين هم به مشركون﴾ قال: الذين هم بالله مشركون يسلط على أبدانهم وعلى أديانهم.

أقول: ورواه العياشي عن أبي بصير عنه (عليه السلام) وإرجاع ضمير ﴿به﴾ إلى الله أحد المعنيين في الآية.

وفي الدر المنثور، أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس: في قوله: ﴿إنما يعلمه بشر﴾ قال: قالوا: إنما يعلم محمدا عبدة بن الحضرمي وهو صاحب الكتب، فقال الله: ﴿لسان الذي يلحدون إليه أعجمي - وهذا لسان عربي مبين﴾.

وفي تفسير العياشي، عن محمد بن عزامة الصيرفي عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خلق روح القدس فلم يخلق خلقا أقرب إلى الله منها وليست بأكرم خلقه عليه، فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به قوله تعالى ولقد نعلم أنهم يقولون - إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه وهو لسان أبي فكيهة مولى بني الحضرمي كان ﴿أعجمي﴾ اللسان وكان قد اتبع نبي الله وآمن به، وكان من أهل الكتاب فقالت قريش: هذا والله يعلم محمدا علمه بلسانه، يقول الله: ﴿وهذا لسان عربي مبين﴾.

أقول: والروايات في هذا الرجل مختلفة ففي هذه الرواية أنه أبو فكيهة مولى بني الحضرمي، وفي الرواية السابقة أنه عبدة بن الحضرمي، وعن قتادة أنه عبدة بن الحضرمي وكان يسمى مقيص، وعن السدي أنه كان عبدا لبني الحضرمي نصرانيا، كان قد قرأ التوراة والإنجيل يقال له أبو بشر، وعن مجاهد أنه ابن الحضرمي كان أعجميا يتكلم بالرومية، وعن ابن عباس أيضا في رواية أنه كان قينا بمكة اسمه بلعام وكان عجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا: إنما يعلمه بلعام.

والمتيقن من مضامينها أنه كان رجلا روميا مولى لبني الحضرمي يسكن مكة نصرانيا له خبرة بكتب أهل الكتاب رموه بأنه يعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: كانوا يقولون: إنما يعلمه سلمان الفارسي، فأنزل الله: ﴿لسان الذي يلحدون إليه أعجمي﴾.

أقول: وهو لا يلائم كون الآية مكية.

وفيه، أخرج ابن الخرائطي في مساوي الأخلاق وابن عساكر في تاريخه عن عبد الله بن جراد: أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثم أتبعها نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿إنما يفتري الكذب - الذين لا يؤمنون﴾.

وفي تفسير العياشي، عن العباس بن الهلال عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): أنه ذكر رجلا كذابا ثم قال: قال الله: ﴿إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون﴾.