الآيات 22-40

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴿22﴾ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴿23﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴿24﴾ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ﴿25﴾ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴿26﴾ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿27﴾ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿28﴾ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴿29﴾ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴿30﴾ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ ﴿31﴾ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿32﴾ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿33﴾ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ﴿34﴾ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ﴿35﴾ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿36﴾ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿37﴾ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿38﴾ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ ﴿39﴾ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿40﴾

بيان:

هذا هو الشطر الثاني من آيات صدر السورة، وقد كان الشطر الأول يتضمن توحيد الربوبية وإقامة الحجة على المشركين في ذلك بعد ما أنذرهم بإتيان الأمر ونزه الله سبحانه عن شركهم.

وهذا الشطر الثاني يتضمن ما يناسب المقام ذكره من مساوي صفات المشركين المتفرعة على إنكارهم التوحيد وأباطيل أقوالهم كاستكبارهم على الله واستهزائهم بآياته وإنكارهم الحشر، وبيان بطلانها وإظهار فسادها، وتهديدهم بإتيان الأمر وحلول العذاب الدنيوي، والإيعاد بعذاب يوم الموت ويوم القيامة وحقائق أخر ستنكشف بالبحث.

قوله تعالى: ﴿إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون﴾ قد تقدم الكلام في قوله: ﴿إلهكم إله واحد﴾ وأنه نتيجة الحجة التي أقيمت في الآيات السابقة.

وقوله: ﴿فالذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ إلخ تفريع عليه، وافتتاح لفصل جديد من الكلام حول أعمال الكفار من أقوالهم وأعمالهم الناشئة عن عدم إيمانهم بالله سبحانه وإنما ذكر عدم إيمانهم بالآخرة ولم يذكر عدم إيمانهم بالله وحده لأن الذي أقيمت عليه الحجة هو التوحيد الكامل وهو وجوب الاعتقاد بإله عليم قدير خلق كل شيء وأتم النعمة لا لغوا باطلا بل بالحق ليرجعوا إليه فيحاسبهم على ما عملوا ويجازيهم بما اكتسبوا مما عهده إليهم من الأمر والنهي بواسطة الرسل.

فالتوحيد المندوب إليه في الآيات الماضية هو القول بوحدانيته تعالى والإيمان بما أتى به رسل الله والإيمان بيوم الحساب والجزاء، ولذلك وصف الكفار بعدم الإيمان بالآخرة لأن الإيمان بها يستلزم الإيمان بالوحدانية والرسالة.

ولك أن تراجع في استيضاح ما ذكرناه قوله في أول الآيات: ﴿ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السماوات والأرض بالحق سبحانه عما يشركون﴾ فإنه كلام جامع للأصول الثلاثة.

وقوله: ﴿قلوبهم منكرة﴾ أي للحق وقوله: ﴿وهم مستكبرون﴾ أي عن الحق، والاستكبار - على ما ذكروه - طلب الترفع بترك الإذعان للحق.

والمعنى: إلهكم واحد على ما تدل عليه الآيات الواضحة في دلالتها، وإذا كان الأمر على هذا الوضوح والجلاء لا يستتر بستر ولا يرتاب فيه فهم فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة للحق جاحدة له عنادا وهم مستكبرون عن الانقياد للحق من غير حجة ولا برهان.

قوله تعالى: ﴿لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين﴾ ﴿لا جرم﴾ كلمة مركبة باقية على حالة واحدة يفيد معنى التحقيق على ما ذكره الخليل وسيبويه وإليه يرجع ما ذكره غيرهما وإن اختلفوا في أصل تركبه قال الخليل: وهو كلمة تحقيق ولا يكون إلا جوابا يقال فعلوا كذا فيقول السامع: لا جرم يندمون.

والمعنى من المحقق - أو حق - أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، وهو كناية وتهديد بالجزاء السيىء أي إنه يعلم ما يخفونه من أعمالهم وما يظهرونه فسيجزيهم بما عملوا ويؤاخذهم على ما أنكروا واستكبروا إنه لا يحب المستكبرين.

قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين﴾ قال الراغب في المفردات: السطر والسطر - بفتح فسكون أو بفتحتين - السطر من الكتابة ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف - إلى أن قال - وجمع السطر أسطر وسطور وأسطار.

قال: وأما قوله: ﴿أساطير الأولين﴾ فقد قال المبرد: هي جمع أسطورة نحو أرجوحة وأراجيح وأثفية وأثافي وأحدوثة وأحاديث، وقوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين﴾ أي شيء كتبوه كذبا ومينا فيما زعموا نحو قوله تعالى: ﴿أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا﴾ انتهى وقال غيره: أساطير جمع أسطار وأسطار جمع سطر فهو جمع الجمع.

وقوله: ﴿وإذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم﴾ يمكن أن يكون القائل بعض المؤمنين وإنما قاله اختبارا لحالهم واستفهاما لما يرونه في الدعوة النبوية، ويمكن أن يكون من المشركين وإنما قاله لهم ليقلدهم فيما يرونه، وعبر عن القرآن بمثل قوله: ﴿ما ذا أنزل ربكم﴾ لنوع من التهكم والاستهزاء، ويمكن أن يكون شاكا متحيرا باحثا، والآية التالية وكذا قوله فيما سيأتي: ﴿وقيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم﴾ يؤيد أحد الوجهين الأخيرين.

وقوله: ﴿قالوا أساطير الأولين﴾ أي الذي يسأل عنه أكاذيب خرافية كتبها الأولون وأثبتوها وتركوها لمن خلفهم، ولازم هذا القول دعوى أنه ليس نازلا من عند الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة﴾ إلى آخر الآية.

قال في المفردات: الوزر - بفتحتين - الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: ﴿كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر﴾ والوزر بالكسر فالسكون - الثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل، قال تعالى: ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة﴾ الآية كقوله: ﴿وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم﴾.

قال: وحمل وزر الغير بالحقيقة هو على نحو ما أشار إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها، وقوله: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه.

والذي ذكره من الحديث النبوي مروي من طرق الخاصة والعامة جميعا ويصدقه من الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: ﴿والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين﴾ الطور: 21، وقوله: ﴿ونكتب ما قدموا وآثارهم﴾ يس: 12 والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وأما قوله في تفسير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿كان له وزرها ووزر من عمل بها﴾ أي مثل وزر من عمل بها فكلام ظاهري لا بأس بأن يوجه به الآية والرواية لرفع التناقض بينهما وبين مثل قوله تعالى: ﴿لا تزر وازرة وزر أخرى﴾ الأنعام: 164، وقوله: ﴿ليوفينهم ربك أعمالهم﴾ هود: 111، إذ لو حمل الآمر وزر السيئة وعذب بعذابها دون الفاعل ناقض ذلك الآية الأولى، ولو قسم بينهما وحمل كل منهما بعض الوزر وعذب ببعض العذاب ناقض الآية الثانية، وأما لو حمل السان والآمر مثل ما للعامل الفاعل لم يناقض شيئا.

وأما بحسب الحقيقة فكما أن العمل عمل واحد حسنة أو سيئة كذلك وزره وعذابه مثلا واحد لا تعدد فيه، غير أن نفس العمل لما كان قائما بأكثر من واحد - قيامه بالآمر والفاعل قياما طوليا لا عرضيا يوجب المحذور - كانت تبعته من الوزر والعذاب قائمة بأكثر من واحد، فهناك وزر واحد يزرها اثنان، وعذاب واحد يعذب به الآمر والفاعل جميعا.

ويسهل تصور ذلك بالتأمل في مضمون الآيات المبنية على تجسم الأعمال فإن العمل كالسيئة مثلا على تقدير التجسم واحد شخصي يتمثل لاثنين ويعذب بتمثله إنسانين الآمر والفاعل أو السان والمستن فهو بوجه بعيد كالشخص الواحد يتصوره اثنان فيلتذان أو يتألمان معا به وليس إلا واحدا.

وقد تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: ﴿ليميز الله الخبيث من الطيب﴾ الآية في الجزء التاسع من الكتاب، وسيأتي إن شاء الله تفصيل القول فيه فيما يناسبه من المورد.

وكيف كان فقوله: ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم﴾ اللام للغاية وهي متعلقة بقوله: ﴿قالوا أساطير الأولين﴾ وفي قوله: ﴿يضلونهم﴾ دلالة على أن حملهم لأوزار غيرهم إنما هو من جهة إضلالهم فيعود الإضلال غاية والحمل غاية الغاية، والتقدير قالوا أساطير الأولين ليضلوهم وهم أنفسهم ضالون فيحملوا أوزار أنفسهم كاملة ومن أوزار أولئك الذين يضلونهم بغير علم.

وفي تقييد قوله: ﴿ليحملوا أوزارهم﴾ بقوله ﴿كاملة﴾ دفع لتوهم التقسيم والتبعيض بأن يحملوا بعضا من أوزار أنفسهم وبعضا من أوزار الذين يضلونهم فيعود الجميع أوزارا كاملة بل يحملون أوزار أنفسهم كاملة ثم من أوزار الذين يضلونهم.

وقوله: ﴿ومن أوزار الذين يضلونهم﴾ من تبعيضية لأنهم لا يحملون جميع أوزارهم بل أوزارهم التي ترتبت على إضلالهم خاصة بشهادة السياق فالتبعيض إنما هو لتمييز الأوزار المترتبة على الإضلال من غيرها لا للدلالة على تبعيض كل وزر من أوزار الإضلال وحمل بعضه على هذا وبعضه على ذاك ولا تقسيم مجموع أوزار الإضلال وحمل قسم منه على هذا وقسم منه على ذاك مع تعريته عن القسم الآخر فإن أمثال قوله تعالى: ﴿ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ الزلزال: 8 تنافي ذلك فافهم.

ومما تقدم يظهر وهن ما استفاده بعضهم من قوله: ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة﴾ أن مقتضاه أنه لم ينقص منها شيء ولم تكفر بنحو بلية تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين.

وكذا ما استفاده بعض آخر أن في الآية دلالة على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة.

وجه الوهن أن ما ذكراه من خزي الكافرين وإكرام المؤمنين وإن كان حقا في نفسه كما تدل عليه الآيات الدالة على خزي الكفار بما يصيبهم في الدنيا وحبط أعمالهم وشمول المغفرة والشفاعة لطائفة من المؤمنين، لكن هذه الآية ليست ناظرة إلى شيء من ذلك بل العناية فيها إنما هي بالفرق بين أوزار أنفسهم وأوزار غيرهم الذين أضلوهم وأن الطائفة الثانية يلحقهم بعضها وهي التي ترتبت من الأوزار على الإضلال بخلاف الطائفة الأولى فهي لهم أنفسهم.

وأوهن منهما ما ذكره بعضهم أن ﴿من﴾ في قوله ﴿ومن أوزار الذين﴾ إلخ زائدة أو بيانية، وهو كما ترى.

وتقييده سبحانه قوله: ﴿يضلونهم﴾ بقوله: ﴿بغير علم﴾ للدلالة على أن الذين أضلهم هؤلاء المشركون الذين قالوا: أساطير الأولين إنما ضلوا باتباعهم لهم تقليدا وبغير علم فالقائلون أئمة الضلال وهؤلاء الضلال أتباعهم ومقلدوهم ثم ختم سبحانه الآية بذمهم وتقبيح أمرهم جميعا فقال: ﴿ألا ساء ما يزرون﴾.

قوله تعالى: ﴿قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد﴾ إلخ، إتيانه تعالى بنيانهم من القواعد هو حضور أمره تعالى عنده بعد ما لم يكن حاضرا، وهذا شائع في الكلام وخرور السقف سقوطه على الأرض وانهدامه.

والظاهر - كما يشعر به السياق - أن قوله: ﴿فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم﴾ كناية عن إبطال كيدهم وإفساد مكرهم من حيث لا يتوقعون كمن يتقي أمامه ويراقبه فيأتيه العدو من خلفه فالله سبحانه يأتي بنيان مكرهم من ناحية قواعده وهم مراقبون سقفه مما يأتيه من فوق فينهدم عليهم السقف لا بهادم يهدمه من فوقه بل بانهدام القواعد.

وعلى هذا فقوله: ﴿وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون﴾ عطف تفسيري يفسر قوله: ﴿فأتى الله بنيانهم﴾ إلخ والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي.

وفي الآية تهديد للمشركين الذين كانوا يمكرون بالله ورسوله بتذكيرهم ما فعل الله بالماكرين من قبلهم من مستكبري الأمم الماضية حيث رد مكرهم إلى أنفسهم فكانوا هم الممكورين.

قوله تعالى: ﴿ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم﴾ الإخزاء من الخزي وهو على ما ذكره الراغب الذل الذي يستحيى منه، والمشاقة من الشق وهو قطع بعض الشيء وفصله منه فهي المخاصمة والمعاداة والاختلاف ممن من شأنه أن يأتلف ويتفق فمشاقة المشركين في شركائهم هو اختلافهم مع أهل التوحيد وهم أمة واحدة فطرهم الله جميعا على التوحيد ودين الحق ومخاصمتهم لهم وانفصالهم عنهم.

والمعنى: أن الله سبحانه سيخزيهم يوم القيامة ويضرب عليهم الذلة والهوان بقوله: أين شركائي الذين كنتم تشاقون أهل الحق فيهم وتخاصمونهم وتوجدون الاختلاف في دين الله.

قوله تعالى: ﴿قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين﴾ الخزي ذلة الموقف والسوء العذاب على ما يفيده السياق.

وهؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم أوتوا العلم وأخبر أنهم يتكلمون بكذا هم الذين رزقوا العلم بالله وانكشفت لهم حقيقة التوحيد فإن ذلك هو الذي يعطيه السياق من جهة المقابلة بينهم مع وصفهم بالعلم وبين المشركين الذين ينكشف لهم يومئذ أنهم ما كانوا يعبدون إلا أسماء سموها وسرابا توهموه.

على أن الله سبحانه يخبر عنهم أنهم يتكلمون يومئذ ويقولون كذا وقد قال في وصف اليوم: ﴿لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا﴾ النبأ: 38 والقول لا يكون صوابا بحق المعنى إلا مع كون قائله مصونا من خطأه ولغوه وباطله، ولا يكون مصونا في قوله إلا إذا كان مصونا في فعله وفي علمه فهؤلاء قوم لا يرون إلا الحق ولا يفعلون إلا الحق ولا ينطقون إلا بالحق.

فإن قلت: فالذين أوتوا العلم بناء على ما فسر، هم أهل العصمة لكن تدفعه كثرة ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى وإرادة غيرهم كقوله: ﴿وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير﴾ القصص: 80، وقوله: ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به﴾ الحج: 54 إلى غير ذلك من الموارد الظاهر فيها عدم إرادة العصمة من إيتاء العلم.

قلت: ما ذكرناه إنما هو استفادة بمئونة المقام لا أنه مدلول اللفظ كلما أطلق في كلامه تعالى.

وأما قولهم: إن المراد بالذين أوتوا العلم هم الأنبياء فقط أو الأنبياء والمؤمنون الذين علموا في الدنيا بدلائل التوحيد أو المؤمنون فحسب أو الملائكة فلا دليل في كلامه تعالى على واحد منها بخصوصه.

قوله تعالى: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم﴾ إلى آخر الآية الظاهر أنه تفسير للكافرين الواقع في آخر الآية السابقة كما أن قوله الآتي: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين﴾ إلخ، تفسير للمتقين الواقع في آخر الآية التي قبله، ولا يستلزم كونه بيانا للكافرين كونه من تمام قول الذين أوتوا العلم حتى يختل نظم الكلام بقولهم: ﴿إن الخزي اليوم﴾ إلخ، ثم بيانهم بقولهم: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة﴾ إلخ دون أن يقولوا: الذين توفاهم الملائكة كما لا يخفى.

وقوله: ﴿فألقوا السلم﴾ أي الاستسلام وهو الخضوع والانقياد، وضمير الجمع للكافرين والمعنى الكافرون هم الذين تتوفاهم الملائكة ويقبضون أرواحهم والحال أنهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم بالله فألقوا السلم وقدموا الخضوع والانقياد مظهرين بذلك أنهم ما كانوا يعملون من سوء، فيرد عليهم قولهم ويكذبون ويقال لهم: بلى قد فعلتم وعملتم إن الله عليم بما كنتم تعملون قبل ورودكم هذا المورد وهو الموت.

قوله تعالى: ﴿فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين﴾ الخطاب للمجموع كما كان قوله: ﴿إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين﴾ وكذا قوله: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة﴾ إلخ، ناظرا إلى جماعة الكافرين دون كل واحد واحد منهم.

وعلى هذا يعود معناه إلى مثل قولنا ليدخل كل واحد منكم بابا من جهنم يناسب عمله وموقفه من الكفر لا أن يدخل كل واحد منهم جميع الأبواب أو أكثر من واحد منها، وقد تقدم الكلام في معنى أبواب جهنم في تفسير قوله تعالى: ﴿لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم﴾ الحجر: 44.

والمتكبرون هم المستكبرون بحسب المصداق وإن كانت العناية اللفظية مختلفة فيهما كالمسلم والمستسلم فالمستكبر هو الذي يطلب الكبر لنفسه بإخراجه من القوة إلى الفعل وإظهاره لغيره والمتكبر هو الذي يقبله لنفسه ويأخذه صفة.

قوله تعالى: ﴿وقيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا﴾ إلى آخر الآية.

أخذ المسئول عنهم هم الذين اتقوا أي الذين شأنهم في الدنيا أنهم تلبسوا بالتقوى وهم المتصفون به المستمرون بدليل إعادة ذكرهم بعد بلفظ المتقين مرتين فيكون المسئول عنهم من هذه الطائفة خيارهم الكاملين في الإيمان كما كان المسئول عنهم في الطائفة الأخرى شرارهم الكاملين في الكفر وهم المستكبرون.

فقول بعضهم: إن المراد بالذين اتقوا مطلق المؤمنين الذين اتقوا الشرك أو الشرك والمعاصي في الجملة.

ليس في محله.

وقوله: ﴿قالوا خيرا﴾ أي أنزل خيرا لأنه أنزل قرآنا يتضمن معارف وشرائع في أخذها والعمل بها خير الدنيا والآخرة وفي قولهم: ﴿خيرا﴾ اعتراف بكون القرآن نازلا من عنده تعالى مضافا إلى وصفهم له بالخيرية وفي ذلك إظهار منهم المخالفة للمستكبرين حيث أجابوا بقولهم: أساطير الأولين أي هو أساطير ولو قال المتقون: خير بالرفع لم يكن فيه اعتراف بالنزول كما أنه لو قال المستكبرون: أساطير الأولين بالنصب كان فيه اعتراف بالنزول.

كذا قيل.

وقوله: ﴿للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير﴾ ظاهر السياق أنه بيان لقولهم: ﴿خيرا﴾ وهل هو تتمة قولهم أو بيان منه تعالى؟ ظاهر قوله: ﴿ولنعم دار المتقين جنات عدن﴾ إلى آخر الآية أنه كلام منه تعالى يبين به وجه الخيرية فيما أنزله إليهم فإنه أشبه بكلام الرب تعالى منه بكلام المربوب وخاصة المتقين الذين لا يجترءون على أمثال هذه الاقتراحات.

والمراد بالحسنة المثوبة الحسنة وذلك لأنهم بالإحسان الذي هو العمل بما يتضمنه الكتاب يرزقون مجتمعا صالحا يحكم فيه العدل والإحسان وعيشة طيبة مبنية على الرشد والسعادة ينالون ذلك جزاء دنيويا لإحسانهم لقوله: ﴿لهم في الدنيا ولدار الحياة الآخرة خير جزاء﴾ لأن فيها بقاء بلا فناء ونعمة من غير نقمة وسعادة ليس معها شقاء.

ومعنى الآية: وقيل للمتقين من المؤمنين ما ذا أنزل ربكم من الكتاب وما شأنه؟ قالوا أنزل خيرا، وكونه خيرا هو أن للذين أحسنوا - أي عملوا بما فيه فوضع الإحسان موضع الأخذ والعمل بما في الكتاب إيماء إلى أن الذي يأمر به الكتاب أعمال حسنة - في هذه الدنيا مثوبة حسنة ولدار الآخرة خير لهم جزاء.

ثم مدح دارهم ليكون تأكيدا للقول فقال: ﴿ولنعم دار المتقين﴾ ثم بين دار المتقين بقوله: ﴿جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين﴾ والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾ بيان للمتقين كما كان قوله: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم﴾ إلخ بيانا للمستكبرين.

والطيب تعري الشيء مما يختلط به فيكدره ويذهب بخلوصه ومحوضته يقال: طاب لي العيش أي خلص وتعرى مما يكدره وينقصه والقول الطيب ما كان عاريا من اللغو والشتم والخشونة وسائر ما يوجب فيه غضاضة والفرق بين الطيب والطهارة أن الطهارة كون الشيء على طبعه الأصلي بحيث يخلو عما يوجب التنفر عنه والطيب كونه على أصله من غير أن يختلط به ما يكدره ويفسد أمره سواء تنفر عنه أم لا ولذلك قوبل الطيب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد، قال تعالى: ﴿الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات﴾ النور: 26، وقال: ﴿والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا﴾ الأعراف: 58.

وعلى هذا فالمراد بكون المتقين طيبين في حال توفيهم خلوصهم من خبث الظلم في مقابل المستكبرين الذين وصفهم بالظلم حال التوفي في قوله السابق: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم﴾ ويكون معنى الآية أن المتقين هم الذين تتوفاهم الملائكة متعرين عن خبث الظلم - الشرك والمعاصي - يقولون لهم سلام عليكم - وهو تأمين قولي لهم - ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون - وهو هداية لهم إليها -.

فالآية - كما ترى - تصف المتقين بالتخلص عن التلبس بالظلم وتعدهم الأمن والاهتداء إلى الجنة فيعود مضمونها إلى معنى قوله: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ الأنعام: 82.

وذكر بعض المفسرين أن المراد بالطيب في الآية الطهارة عن دنس الشرك وفسره بعضهم بكون أقوالهم وأفعالهم زاكية، والأكثر على تفسيره بالطهارة عن قذارة الذنوب وأنت بالتأمل فيما تقدم تعرف أن شيئا مما ذكروه لا يخلو عن تسامح.

قوله تعالى: ﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ إلخ، رجوع إلى حديث المستكبرين من المشركين وذكر بعض أحوالهم وأقوالهم وقياسهم ممن سبقهم من طغاة الأمم الماضين وما آل إليه أمرهم.

وقوله: ﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك﴾ سياق الآية وخاصة ما في الآية التالية من حديث العذاب ظاهر في أنها مسوقة للتهديد فالمراد بإتيان الملائكة نزولهم لعذاب الاستئصال وينطبق على مثل قوله: ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين﴾ الحجر: 8، والمراد بإتيان أمر الرب تعالى قيام الساعة وفصل القضاء والانتقام الإلهي منهم.

وأما كون المراد بإتيان الأمر ما تقدم في أول السورة من قوله: ﴿أتى أمر الله﴾ وقد قربنا هناك أن المراد به مجيء النصر وظهور الإسلام على الشرك فلا يلائم اللحن الشديد الذي في الآية تلك الملاءمة، وأيضا سيأتي في ذيل الآيات ذكر إنكارهم للبعث وإصرارهم على نفيه والرد عليهم، وهو يؤيد كون المراد بإتيان الأمر قيام الساعة.

وقد أضاف الرب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ﴿أمر ربك﴾ ولم يقل: أمر الله أو أمر ربهم ليدل به على أن فيه انتصارا له (صلى الله عليه وآله وسلم) وقضاء له عليهم.

وقوله: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ تأكيد للتهديد وتأييد بالنظير أي فعل الذين من قبلهم مثل فعلهم من الجحود والاستهزاء مما فيه بحسب الطبع انتظار عذاب الله ﴿فأصابهم سيئات ما عملوا﴾ إلخ.

وقوله: ﴿وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ معترضة يبين بها أن الذي نزل بهم من العذاب لم يستوجبه إلا الظلم، غير أن هذا الظلم كان هو ظلمهم أنفسهم لا ظلما منه تعالى وتقدس، ولم يعذبهم الله سبحانه عن ظلم وقع منهم مرة أو مرتين بل أمهلهم إذ ظلموا حتى استمروا في ظلمهم وأصروا عليه - كما يدل عليه قوله: كانوا أنفسهم يظلمون - فعند ذلك أنزل عليهم العذاب، ففي قوله: ﴿وما ظلمهم الله﴾ إلخ، إثبات الاستمرار على الظلم عليهم ونفي أصل الظلم عن الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون﴾ حاق بهم أي حل بهم، وقيل: معناه نزل بهم وأصابهم، والذي كانوا به يستهزءون هو العذاب الذي كانت رسلهم ينذرونهم به ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء﴾ إلخ، الذي تورده الآية شبهة على النبوة من الوثنيين المنكرين لها، ولذلك عرفهم بنعتهم الصريح حيث قال: ﴿وقال الذين أشركوا﴾ ولم يكتف بالضمير ولم يقل: وقالوا كما في الآيات السابقة ليعلم أن الشبهة لهم بعينهم.

وقوله: ﴿لو شاء الله ما عبدنا﴾ جملة شرطية حذف فيها مفعول ﴿شاء﴾ لدلالة الجزاء عليه، والتقدير لو شاء الله أن لا نعبد من دونه شيئا ما عبدنا إلخ.

وقول بعضهم: إن الإرادة والمشية لا تتعلق بالعدم وإنما تتعلق بالوجود، فلا معنى لمشية عدم العبادة فالأولى أن يقدر متعلق المشية أمرا وجوديا ملازما لعدم العبادة كالتوحيد مثلا ويكون التقديم لو شاء الله أن نوحده أو أن نعبده وحده ما عبدنا من دونه من شيء، واستدل بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن﴾ حيث علق عدم الكون على عدم المشية لا على مشية العدم.

وفيه أن ما ذكره حق بالنظر إلى حقيقة الأمر، إلا أن العنايات اللفظية والتوسعات الكلامية لا تدور دائما مدار الحقائق الكونية والأنظار الفلسفية وأن الأفهام البسيطة - ولم تكن أفهام أولئك الوثنيين بأرقى منها - كما تجيز ترتب الفعل الوجودي على المشية تجيز تعلق عدمه بها، وفي كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) جريا على هذه العناية الظاهرية: ﴿اللهم إن شئت أن لا تعبد لم تعبد﴾.

على أنهم يشيرون بقولهم: ﴿لو شاء الله ما عبدنا﴾ إلخ، إلى قول الرسل لهم: لا تشركوا بالله ولا تعبدوا غير الله ولا تحرموا ما أحل الله وهي نواه ومدلول النهي طلب الترك.

على أن الوثنيين لا ينكرون توحيده تعالى في الألوهية بمعنى الصنع والإيجاد، وإنما يشركون في العبادة بمعنى أنهم يخصونه تعالى بالصنع والإيجاد ويخصون آلهتهم بالعبادة فلهم آلهة كثيرون أحدهم إله موجد غير معبود وهو الله سبحانه، والباقون شفعاء معبودون غير موجدين فهم لا يعبدون الله أصلا لا أنهم يعبدونه تعالى وآلهتهم جميعا، وحينئذ لو كان التقدير ﴿لو شاء الله أن نوحده في العبادة أو أن نعبده وحده﴾ لكان الأهم أن يقع في الجزاء توحيدهم له في العبادة أو عبادتهم له وحده لا نفي عبادتهم لغيره أو كان نفي عبادة الغير كناية عن توحيد عبادته أو عبادته وحده، فافهم ذلك.

وإن كان ولا بد من تقدير متعلق المشية أمرا وجوديا فليكن التقدير: لو شاء الله أن نكف عن عبادة غيره ما عبدنا حتى يتحد الشرط والجزاء بحسب الحقيقة في عين أنهما يختلفان في النفي والإثبات.

وقوله: ﴿ما عبدنا من دونه من شيء﴾ لفظة من الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق في النفي، والمعنى ما عبدنا شيئا دونه، ونظير ذلك قوله: ﴿ولا حرمنا من دونه من شيء﴾.

وقوله: ﴿نحن ولا آباؤنا﴾ بيان لضمير التكلم في ﴿عبدنا﴾ للدلالة على أنهم يتكلمون عنهم وعن آبائهم جميعا لأنهم كانوا يقتدون في عبادة الأصنام بآبائهم، وقد تكرر في القرآن حكاية مثل قولهم: ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون﴾ الزخرف: 23.

وقوله: ﴿ولا حرمنا من دونه من شيء﴾ عطف على قوله: ﴿عبدنا﴾ إلخ أي ولو شاء الله أن لا نحرم من دونه من شيء أو نحل ما حرمناه ما حرمنا إلخ، والمراد البحيرة والسائبة وغيرهما مما حرموه.

ثم إن قولهم: ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء﴾ إلخ، ظاهر من جهة تعليق نفي العبادة على نفس مشيته تعالى في أنهم أرادوا بالمشية إرادته التكوينية التي لا تتخلف عن المراد البتة ولو أرادوا غيرها لقالوا: لو شاء الله كذا لأطعناه واستجبنا دعوته أو ما يفيد هذا المعنى.

فكأنهم يقولون: لو كانت الرسالة حقة وكان ما جاء به الرسل من النهي عن عبادة الأصنام والأوثان والنهي عن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها نواهي لله سبحانه كان الله سبحانه شاء أن لا نعبد شيئا غيره وأن لا نحرم من دونه شيئا، ولو شاء الله سبحانه أن لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا لم نعبد ولم نحرم لاستحالة تخلف مراده عن إرادته لكنا نعبد غيره ونحرم أشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهي ولا أمر منه تعالى ولا شريعة ولا رسالة من قبله.

هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق، ومغزى مرادهم أن عبادتهم لغير الله وتحريمهم لما حرموه وبالجملة عامة أعمالهم لم تتعلق بها مشية من الله بنهي ولو تعلقت لم يعملوها ضرورة.

وليسوا يعنون بها أن مشية الله تعلقت بعبادتهم وتحريمهم فصارت ضرورية الوجود وهم ملجئون في فعلها مجبرون في الإتيان بها فلا معنى لنهي الرسل عنها بعد الإلجاء وذلك أن ﴿لو﴾ تفيد امتناع الجزاء لامتناع الشرط فيكون مفهوم الشرطية ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء﴾ أنه لم يشأ ذلك فعبدنا غيره، وإن شئت قلت: لكنا عبدنا غيره فانكشف أنه لم يشأ ذلك، وأما مثل قولنا: لكنه شاء أن نعبد غيره فعبدنا غيره أو قولنا: لكنه شاء أن لا نوحده فعبدنا غيره فهو أجنبي عن مفهوم الشرطية ومنطوقها جميعا.

على أنهم لو عنوا ذلك وكان غرضهم رد النبوة بإثبات الإلجاء في أفعالهم بما أقاموه من الحجة كانوا بذلك معترفين على الضلال مسلمين له غير أنهم معتذرون عن اتباع الهدى الذي أتاهم به الرسل بالإلجاء والإجبار وأن الله شاء منهم ما هم عليه من الضلال والشقاء بعبادة غير الله وتحريم ما أحل الله وأجبرهم على ذلك فليسوا يقدرون على تركه ولا يستطيعون التخلف عنه.

لكنهم مدعون للاهتداء مصرون على هذه المزعمة مصرحون بها كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم بعد ذكر عبادتهم للملائكة إذ قال: ﴿وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون - إلى أن قال - بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون﴾ الزخرف: 22، وقد تكرر في كلامه حكاية تعليلهم عبادة الأصنام بأنها سنة قومية قدسها سلفهم قبل خلفهم فمن الواجب أن يقدسها ويجري عليها خلفهم بعد سلفهم وأين هذا من الاعتراف بالضلال والشقاء؟.

وكذا ليسوا يعنون بهذه الحجة أن أعمالهم مخلوقة لأنفسهم غير مرتبطة بالمشية الإلهية ولا أنه خالقها إذ الأعمال والأفعال على هذا التقدير بمعزل من أن تتعلق بها الإرادة الإلهية، وإنما يتسبب تعالى لعدم فعل من الأفعال بإيجاد المانع عنه فكان الأنسب حينئذ أن يقولوا: لو شاء الله لصرفنا عن عبادة غيره وتحريم ما حرمناه وهو مدفوع بظاهر الكلام أو يقولوا: لو شاء الله شيئا من أعمالنا لبطل وخرج عن كونه عملا لنا ونحن مستقلون به.

على أنه لو كان معنى قولهم: ﴿لو شاء الله ما عبدنا هو أنه لو شاء لصرفنا كان حقا فلم يكن معنى لقوله تعالى في آية الزخرف السابقة: ﴿وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون﴾ الزخرف: 20.

فالحق أنهم أرادوا بقولهم: ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء﴾ أن يستدلوا بعبادتهم لها على أن المشية الإلهية لم تتعلق بتركها من غير تعرض لتعلق المشية بفعل العبادة أو لكون المشية مستحيلة التعلق بعبادتهم إلا بالصرف.

قوله تعالى: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين﴾ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يبلغ رسالته بلاغا مبينا ولا يعتني بما لفقوه من الحجة فإنها داحضة والحجة تامة عليهم بالبلاغ وفيه إشارة إجمالية إلى دحض حجتهم.

فقوله: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ أي على هذا الطريق الذي سلكه هؤلاء سلك الذين من قبلهم فعبدوا غير الله وحرموا ما لم يحرمه الله ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء فالجملة كقوله تعالى: ﴿كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم﴾ الأنفال: 52.

وقوله: ﴿فهل على الرسل إلا البلاغ المبين﴾ أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم فإنما وظيفة الرسل البلاغ المبين وليس من وظيفتهم أن يلجئوا الناس إلى ما يدعونهم إليه وينهونهم عنه ولا أن يحملوا معهم إرادة الله الموجبة التي لا تتخلف عن المراد ولا أمره الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الإيمان ويضطروا العاصي على الإطاعة.

فإنما الرسول بشر مثلهم والرسالة التي بعث بها إنذار وتبشير وهي مجموعة قوانين اجتماعية أوحاها إليه الله فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم صورتها صورة الأوامر والنواهي المولوية وحقيقتها الإنذار والتبشير، قال تعالى: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك﴾ الأنعام: 50، فهذا ما أمر به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم وقد أمر به نوحا ومن بعده من الرسل (عليهم السلام) أن يبلغوه أممهم كما في سورة هود وغيرها.

وقال أيضا مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا﴾ الكهف: 110.

فهذا هو الذي يشير إليه على سبيل الإجمال بقوله: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين﴾ فإن ظاهره كما أشرنا إليه سابقا أن هذه حجة دائرة بينهم قديما وحديثا، وعلى هذا ليس من شأن الرسول إجبار الناس وإلجائهم على الإيمان والطاعة بل البلاغ المبين بالإنذار والتبشير وحجتهم لا تدفع ذلك فبلغ ما أرسلت به بلاغا مبينا ولا تطمع في هداية من ضل منهم، وستفصل الآيتان التاليتان ما أجملته هذه الآية وتوضحانها.

قوله تعالى: ﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة﴾ إلخ، الطاغوت في الأصل مصدر كالطغيان وهو تجاوز الحد بغير حق، واسم المصدر منه الطغوى، قال الراغب: الطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله، ويستعمل في الواحد والجمع، قال تعالى: ﴿فمن يكفر بالطاغوت﴾ ﴿واجتنبوا الطاغوت﴾ ﴿أولياؤهم الطاغوت﴾.

وقوله: ﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولا﴾ إشارة إلى أن بعث الرسول أمر لا يختص به أمة دون أمة بل هو سنة إلهية جارية في جميع الناس بما أنهم في حاجة إليه وهو يدركهم أينما كانوا كما أشار إلى عمومه في الآية السابقة إجمالا بقوله: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾.

وقوله: ﴿أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾ بيان لبعث الرسول على ما يعطيه السياق أي ما كانت حقيقة بعث الرسول إلا أن يدعوهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت لأن الأمر وكذا النهي من البشر وخاصة إذا كان رسولا ليس إلا دعوة عادية لا إلجاء واضطرارا تكوينيا، ولا أن للرسول أن يدعي ذلك حتى يرد عليه أنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء وإذ لم يشأ فلا معنى للرسالة.

ومن هنا يظهر أن قول بعضهم إن التقدير ليقول لهم: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.

ليس في محله.

وقوله: ﴿فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة﴾ أي كانت كل من هذه الأمم مثل هذه الأمة منقسمة إلى طائفتين فبعضهم هو من هداه الله إلى ما دعاهم إليه الرسول من عبادة الله واجتناب الطاغوت.

وذلك أن الهداية من الله سبحانه لا يشاركه فيها غيره ولا تنسب إلى أحد دونه إلا بالتبع كما قال: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ القصص: 56 وسنشير إليه في الآية التالية: ﴿إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل﴾ والآيات في حصر الهداية فيه تعالى كثيرة، ولا يستلزم ذلك كونها أمرا اضطراريا لا صنع فيه للعبد أصلا فإنها اختيارية بالمقدمة كما يشير إليه قوله: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾ العنكبوت: 69 يفيد أن للهداية الإلهية طريقا ميسرا للإنسان وهو الإحسان في العمل وإن الله لمع المحسنين لا يدعهم يضلون.

وبعض هذه الأمم - الطائفة الثانية منهم - هو من حقت عليه الضلالة أي ثبتت ولزمت، وهذه الضلالة هي التي من قبل العبد بسوء اختياره وليس بالتي تتبعها مجازاة من الله فإن الله يصفها بقوله: حقت ثم يضيفها في الآية التالية إلى نفسه إذ يقول: ﴿فإن الله لا يهدي من يضل﴾ فقد كانت هناك ضلالة ثم حقت وثبتت بإثبات الله مجازاة فصارت هي التي من قبل الله سبحانه مجازاة، فتبصر.

ولم ينسب الله سبحانه في كلامه إلى نفسه إضلالا إلا ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر وتكذيب أو نظائرها كقوله: ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ الجمعة: 5 وعدم الهداية هو الإضلال، وقوله: ﴿ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء﴿: إبراهيم: 27، وقوله: ﴿و ما يضل به إلا الفاسقين﴾ البقرة: 26، وقوله: ﴿إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم﴾ النساء: 168، وقوله: ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم﴾ الصف: 5، إلى غير ذلك من الآيات.

ولم يقل سبحانه: فمنهم من هدى الله ومنهم من أضله مع كون ضلالهم ضلال مجازاة لا مانع من إضافته إليه تعالى دفعا لإيهام نسبة أصل الضلال إليه بل ذكر أولا من هداه ثم قابله بمن كان من حقه أن يضل - وهو الذي اختار الضلالة على الهدى أي اختار أن لا يهتدي - فلم يهده الله وحق له ذلك.

وتوضيحه ببيان آخر: أن خلاصة الفرق بين الضلال الابتدائي ونسبته إلى العبد والضلال مجازاة ونسبته إليه تعالى ونسبة الهداية ابتداء ومجازاة إلى الله سبحانه هي أن الله أودع في الإنسان إمكان الرشد واستعداد الاهتداء فإن جرى على سلامة الفطرة ولم يبطل الاستعداد باتباع الهوى والمعصية أو أصلحه بالندامة والتوبة بعد المعصية هداه الله، وهذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد الهداية الأولى الفطرية.

وإن اتبع هواه وعصى ربه بطل استعداده للاهتداء فلم يفض عليه الهدى وهو ضلاله بسوء اختياره فإن لم يندم ولم يراجع أثبته الله على حاله وحقت عليه الضلالة وهو الضلال مجازاة.

وربما توهم متوهم أن الإمكان والاستعداد لا يكون إلا ذا طرفين فالذي يمكنه الهدى يمكنه الضلال والإنسان لا يزال مترددا بين آثار وجودية وأفعال مثبتة والجميع منه تعالى حتى الاستعداد والإمكان الأول.

وهو من أوهن التوهم فإن عد إمكان الضلال وما يترتب عليه الضلال أمرا وجوديا وعطاء ربانيا يفسد معنى الضلال ويبطله فإن الضلال إنما هو ضلال لكونه عدم الهداية فلو عاد أمرا ثبوتيا لم يكن ضلالا بل صار الهدى والضلال كلاهما أمرين وجوديين وعطاءين إلهيين نظير ما يترتب على الجماد مثلا من الآثار الوجودية الخارجة عن الهدى والضلال.

وبعبارة أخرى: الضلال إنما يكون ضلالا إذا كان مقيسا إلى الهدى ومن الواجب حينئذ أن يكون عدم الهدى وإذا أخذ أمرا وجوديا لم يكن ضلالا فلم ينقسم الموضوع إلى مهتد وضال ولا حاله إلى هدى وضلال فلا مفر من أخذ الضلال أمرا عدميا، ونسبة الضلال الأول إلى نفس العبد.

فأحسن التأمل فيه فلا تزل قدم بعد ثبوتها.

وقوله: ﴿فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين﴾ ظاهر السياق أن الخطاب للذين أشركوا القائلين: ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء﴾ والالتفات إلى خطابهم لكونه أشد تأثيرا في تثبيت القول وإتمام الحجة.

والكلام متفرع على ما بين جوابا لحجتهم إجمالا وتفصيلا ومحصل المعنى أن الرسالة والدعوة النبوية ليست من الإرادة التكوينية الملجئة إلى ترك عبادة الأصنام وتحريم ما لم يحرمه الله حتى يستدلوا بعدم وجود الإلجاء على عدم وجود الرسالة وكذب مدعيها بل هي دعوة عادية بعث الله سبحانه بها رسلا يدعونكم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت وحقيقته الإنذار والتبشير، ومن الدليل على ذلك آثار الأمم الماضية الظالمة التي تحكي عن نزول العذاب عليهم فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم أن الدعوة النبوية التي هي إنذار حق وأن الرسالة ليست كما تزعمون.

قوله تعالى: ﴿إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين﴾ لما بين أن الأمم الماضين انقسموا طائفتين وكانت إحدى الطائفتين هم الذين حقت عليهم الضلالة وكانت هؤلاء الذين أشركوا وقالوا ما قالوا كالذين من قبلهم منهم بين في هذه الآية أن ثبوت الضلالة في حقهم إنما هو ثبوت لا زوال معه وتحتم لا يقبل التغيير فإنه لا هادي بالحقيقة إلا الله فإن جاز هداهم كان الله هو هاديهم لكنه لا يهديهم فإنه يضلهم ولا يجتمع الهدى والضلال معا، وليس هناك ناصر ينصرهم على الله فيقهره على هداهم فليؤيس منهم.

ففي الآية تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإرشاد له أن لا يحرص في هداهم وإعلام له أن القضاء قد مضى في حقهم وما يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد.

فقوله: ﴿إن تحرص على هداهم﴾ إلخ، في تقدير إن تحرص على هداهم لم ينفعهم حرصك شيئا فليسوا ممن يمكن له الاهتداء فإن الله هو الذي يهدي من اهتدى، وهو لا يهديهم فإنه يضلهم ولا يناقض تعالى فعل نفسه، وليس لهم ناصرون ينصرونهم عليه.

وفي هذه الآيات الثلاث مشاجرات طويلة بين المجبرة والمفوضة وكل يفسرها بما يقتضيه مذهبه حتى قال الإمام الرازي: إن المشركين أرادوا بقولهم: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء إلخ، أنه لما كان الكل من التوحيد والشرك والهدى والضلال من الله كانت بعثة الأنبياء عبثا فنقول: هذا اعتراض على الله وجار مجرى طلب العلة في أحكامه وأفعاله تعالى وذلك باطل فلا يقال له: لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك؟.

قال: فثبت أن الله تعالى إنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع عن جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك.

وقال الزمخشري إن المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثم نسبوه إلى ربهم وقالوا لو شاء الله إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه، وبراءة الله من أفعال العباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، وأن الله باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه، انتهى موضع الحاجة وقد أطالوا البحث عن ذلك من الجانبين.

وقد عرفت أن الآيات تروم غرضا وراء ذلك، وأن مرادهم بقولهم: ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء﴾ إلخ، إبطال الرسالة بأن ما أتى به الرسل من النهي عن عبادة غير الله وتحريم ما لم يحرمه الله لو كان حقا لكان الله مريدا لتركهم عبادة غيره وتحريم ما لم يحرمه ولو كان مريدا ذلك لم يتحقق منهم وليس كذلك، وأما أن الإرادة الإلهية تعلقت بفعلهم فوجب أو أنها لم تتعلق ومن المحال أن تتعلق وليست أفعالهم إلا مخلوقة لأنفسهم من غير أن يكون لله سبحانه فيها صنع فإنما ذلك أمر خارج عن مدلول كلامهم أجنبي عن الحجة التي أقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدم.

وفي قوله: ﴿وما لهم من ناصرين﴾ دلالة على أن لغيرهم ناصرين كثيرين وذلك أن السياق يدل على أنه ليس لهم ناصر أصلا لا واحد ولا كثير فنفي الناصرين بصيغة الجمع يكشف عن عناية زائدة بذلك أي أن هناك ناصرين لكنهم ليسوا لهم بل لغيرهم وليس إلا من يهتدي بهدى الله، ونظير الآية ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم القيامة: ﴿فما لنا من شافعين﴾ الشعراء: 100.

وهؤلاء الناصرون هم الملائكة الكرام وسائر أسباب التوفيق والهداية والله سبحانه من ورائهم محيط، قال تعالى: ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد﴾ المؤمنون: 51.

قوله تعالى: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى﴾ إلى آخر الآية، قال في المفردات: الجهد - بفتح الجيم وضمها - الطاقة، والمشقة أبلغ من الجهد بالفتح، قال: وقال تعالى: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.

وقال في المجمع في معنى قوله: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ أي بلغوا في القسم كل مبلغ.

وقولهم: ﴿لا يبعث الله من يموت﴾ إنكار للحشر، والجملة كناية عن أن الموت فناء فلا يتعلق به بعده خلق جديد، وهذا لا ينافي قول كلهم أو جلهم بالتناسخ فإنه قول بتعلق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر إنساني أو غير إنساني وعيشها في الدنيا، وهو قولهم بالتولد بعد التولد.

وقوله: ﴿بلى وعدا عليه حقا﴾ أي ليس الأمر كما يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقا أي إن الله سبحانه أوجبه على نفسه بالوعد الذي وعد عباده، وأثبته إثباتا فلا يتخلف ولا يتغير.

وقوله: ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ أي لا يعلمون أنه من الوعد الذي لا يخلف والقضاء الذي لا يتغير لإعراضهم عن الآيات الدالة عليه الكاشفة عن وعده وهي خلق السماوات والأرض واختلاف الناس بالظلم والطغيان والعدل والإحسان والتكليف النازل في الشرائع الإلهية.

قوله تعالى: ﴿ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين﴾ اللام للغاية والغرض أي يبعث الله من يموت ليبين لهم إلخ، والغايتان في الحقيقة غاية واحدة فإن الثانية من متفرعات الأولى ولوازمها فإن الكافرين إنما يعلمون أنهم كانوا كاذبين في نفي المعاد من جهة تبين الاختلاف الذي ظهر بينهم وبين الرسل بسبب إثبات المعاد ونفيه وظهور المعاد لهم عيانا.

وتبين ما اختلف فيه الناس من شئون يوم القيامة، وقد تكرر في كلامه هذا التعبير وما في معناه تكرارا صح معه جعل تبيين الاختلاف معرفا لهذا اليوم الذي ثقل في السماوات والأرض وعلى ذلك يتفرع ما قصه الله سبحانه في كلامه من تفاصيل ما يجري فيه من المرور على الصراط وتطاير الكتب ووزن الأعمال والسؤال والحساب وفصل القضاء.

ومن المعلوم - وخاصة من سياق آيات القيامة - أن المراد بالاختلاف ليس ما يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحو ذكورة وأنوثة وطول وقصر وبياض وسواد بل ما يوجد في دين الحق من الاختلاف في اعتقاد أو عمل.

وقد بين الله ذلك لهم في هذه النشأة الدنيوية في كتبه المنزلة وبلسان أنبيائه بكل طريق ممكن كما يقول بعد عدة آيات: ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه﴾ الآية: 64 من السورة.

ومن هنا يظهر للمتدبر أن البيان الذي يخبر تعالى عنه ويخصه بيوم القيامة نوع آخر من الظهور والوضوح غير ما يتمشى من الكتاب والنبوة في هذه الدنيا من البيان بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، وليس إلا العيان الذي لا يتطرق إليه شك وارتياب ولا يهجس معه خطور نفساني بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ ق: 22، وقوله: ﴿يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين﴾ النور: 25.

فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينية الحقة والأعمال الصالحة وما أخلدوا إليه من الباطل ويفصل بينهم بظهور الحق وانجلائه.

قوله تعالى: ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ هو نظير قوله في موضع آخر: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون﴾ يس: 82، ومنه يعلم أنه تعالى يسمي أمره قولا كما يسمي أمره وقوله من حيث قوته وإحكامه وخروجه عن الإبهام وكونه مرادا حكما وقضاء، قال تعالى: ﴿وما أغنى عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله﴾ يوسف: 67، وقال: ﴿وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين﴾ الحجر: 66، وقال: ﴿وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ البقرة: 117، وكما يسمي قوله الخاص كلمة، قال تعالى: ﴿ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون﴾ الصافات: 172، وقال: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ آل عمران: 59، ثم قال في عيسى (عليه السلام): ﴿وكلمة ألقاها إلى مريم وروح منه﴾ النساء: 171.

فتحصل من ذلك كله أن إيجاده تعالى أعني ما يفيضه على الأشياء من الوجود من عنده - وهو بوجه نفس وجود الشيء الكائن - هو أمره وقوله حسب ما يسميه القرآن وكلمته لكن الظاهر أن الكلمة هي القول باعتبار خصوصيته وتعينه.

ويتبين بذلك أن إرادته وقضاءه واحد، وأنه بحسب الاعتبار متقدم على القول والأمر فهو سبحانه يريد شيئا ويقضيه ثم يأمره ويقول له كن فيكون، وقد علل عدم تخلف الأشياء عن أمره بألطف التعليل إذ قال: ﴿وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق﴾ الأنعام: 73، فأفاد أن قوله هو الحق الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجية التي هي فعله فلا معنى لفرض التخلف فيه وعروض الكذب أو البطلان عليه فمن الضروري أن الواقع لا يتغير عما هو عليه فلا يخطىء ولا يغلط في فعله، ولا يرد أمره، ولا يكذب قوله ولا يخلف في وعده.

وقد تبين أيضا من هذه الآية ومن قوله: ﴿وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء﴾ إلخ، أن لله سبحانه إرادتين إرادة تكوين لا يتخلف عنها المراد، وإرادة تشريع يمكن أن تعصى وتطاع، وسنستوفي هذا البحث بعض الاستيفاء إن شاء الله.

بحث روائي:

في تفسير القمي، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد - فخر عليهم السقف من فوقهم - وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون﴾ قال: بيت مكرهم أي ماتوا وأبقاهم الله في النار وهو مثل لأعداء آل محمد.

أقول: وظاهره أن قوله: ﴿فأتى الله بنيانهم﴾ إلخ كناية عن بطلان مكرهم.

وفي تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ﴿فأتى الله بنيانهم من القواعد﴾ قال: كان بيت غدر يجتمعون فيه إذا أرادوا الشر.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿قال الذين أوتوا العلم﴾ الآية قال: قال (عليه السلام): الذين أوتوا العلم الأئمة يقولون لأعدائهم: أين شركاؤكم ومن أطعتموهم في الدنيا؟ ثم قال: قال: فهم أيضا الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴿فألقوا السلم﴾ سلموا لما أصابهم من البلاء ثم يقولون: ﴿ما كنا نعمل من سوء﴾ فرد الله عليهم فقال: ﴿بلى﴾ إلخ.

وفي أمالي الشيخ، بإسناده عن أبي إسحاق الهمداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام): فيما كتبه إلى أهل مصر قال: يا عباد الله إن أقرب ما يكون العبد من المغفرة والرحمة حين يعمل بطاعته وينصح في توبته. عليكم بتقوى الله فإنها يجمع الخير ولا خير غيرها ويدرك بها من خير الدنيا وخير الآخرة، قال عز وجل: ﴿وقيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم - قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة - ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين﴾.

وفي تفسير العياشي، عن ابن مسكان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿ولنعم دار المتقين﴾ قال الدنيا.

وفي تفسير القمي، في قوله: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين﴾ قال: قال (عليه السلام) هم المؤمنون الذين طابت مواليدهم في الدنيا.

أقول: وهو بالنظر إلى ما يقابله من قوله: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم﴾ الآية لا يخلو عن خفاء والرواية ضعيفة.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه. فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد؟ فينزل بهم قالوا له: أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا أخبرك بمحمد فلا يريد أن يعني إليه هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله: ﴿وإذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين﴾.

فإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمد قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى بلغت إلا مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم: ما ذا يقول محمد؟ فيقولون: خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة يقول مال ولدار الآخرة خير وهي الجنة.

أقول: والاعتبار يساعد على القصة وما في آخرها من تفسير الحسنة بالمال غير مرضي.

وفي الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق.

قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان واللفظ له عن أبي ذر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يقول الله: يا بن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم وكلكم فقراء إلا من أغنيت فسلوني أعطكم، وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم ومن استغفرني وهو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أتقى واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر.

وذلك أني جواد ماجد واحد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون.