الآيات 1-21

أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿1﴾ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ ﴿2﴾ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿3﴾ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴿4﴾ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿5﴾ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴿6﴾ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿7﴾ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿8﴾ وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿9﴾ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴿10﴾ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿11﴾ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿12﴾ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴿13﴾ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى كَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿14﴾ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿15﴾ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴿16﴾ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴿17﴾ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿18﴾ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴿19﴾ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴿20﴾ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴿21﴾

بيان:

الغالب على الظن - إذا تدبرنا السورة - أن صدر السورة مما نزلت في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبيل الهجرة، وهي أربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها أنواع نعمه السماوية والأرضية مما تقوم به حياة الإنسان وينتفع به في معاشه نظاما متقنا وتدبيرا متصلا يدل على وحدانيته تعالى في ربوبيته.

ويحتج في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين وخيبة مساعيهم وأنه سيجازيهم كما جازى أمثالهم من الأمم الماضية وسيفصل القضاء بينهم يوم القيامة.

وقد افتتح سبحانه هذه الآيات بقوله: ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ مفرعا آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه والتسبيح ومن ذلك يعلم أن عمدة الغرض في صدر السورة الإنباء بإشراف الأمر الإلهي ودنوه منهم وقرب نزوله عليهم، وفيه إبعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - استهزاء به - لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيرا نزول أمره تعالى وينذرهم به وفيه مثل قوله للمؤمنين: ﴿فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره﴾ وليس إلا أمره تعالى بظهور الحق على الباطل والتوحيد على الشرك والإيمان على الكفر، هذا ما يعطيه التدبر في صدر السورة.

وأما ذيلها وهي ثمان وثمانون آية من قوله: ﴿والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا﴾ إلى آخر السورة على ما بينها من الاتصال والارتباط فسياق الآيات فيه يشبه أن تكون مما نزلت في أوائل عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة بعيد الهجرة - فصدر السورة وذيلها متقاربا النزول - وذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها إلا على بعض الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى: ﴿والذين هاجروا في الله﴾ الآية، وقوله: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر﴾ الآية النازلة على قول في سلمان الفارسي وقد آمن بالمدينة، وقوله: ﴿من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره﴾ الآية النازلة في عمار - كما سيأتي - وكذا الآيات النازلة في اليهود والآيات النازلة في الأحكام كل ذلك يفيد الظن بكون الآيات مدنية.

ومع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله: ﴿والذين هاجروا﴾ الآية: 41، وقوله: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية﴾ الآية: 101 إلى تمام آيتين أو خمس آيات، وقوله: ﴿من كفر بالله من بعد إيمانه﴾ الآية: 106 وعدة آيات تتلوها.

والإنصاف - بعد ذلك كله - أن قوله تعالى: ﴿والذين هاجروا﴾ الآية: 41 إلى تمام آيتين، وقوله: ﴿من كفر بالله من بعد إيمانه﴾ الآية: 106 وبضع آيات بعدها، وقوله: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا﴾ الآية: 126 وآيتان بعدها مدنية لشهادة سياقها بذلك، والباقي أشبه بالمكية منها بالمدنية.

وهذا وإن لم يوافق شيئا من المأثور لكن السياق يشهد به وهو أولى بالإتباع.

وقد مر في تفسير آية 118 من سورة الأنعام احتمال أن تكون نازلة بعد سورة النحل وهي مكية.

والغرض الذي هو كالجامع لآيات ذيل السورة أن فيها أمرا بالصبر ووعدا حسنا على الصبر في ذات الله.

وغرض السورة الإخبار بإشراف أمر الله وهو ظهور الدين الحق عليهم ويوضح تعالى ذلك ببيان أن الله هو الإله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به، كما أن الخلقة قائمة به ولانتهاء جميع النعم إليه، وانتفاء ذلك عن غيره، فالواجب أن يعبد الله ولا يعبد غيره، وبيان أن الدين الحق لله فيجب أن يؤخذ به ولا يشرع دونه دين ورد ما أبداه المشركون من الشبهة على النبوة والتشريع وبيان أمور من الدين الإلهي.

هذا هو الذي يرومه معظم آيات السورة وتنعطف إلى بيانه مرة بعد مرة وفي ضمنها آيات تتعرض لأمر الهجرة وما يناسب ذلك مما يحوم حولها.

قوله تعالى: ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين لأن الآيات التالية مسوقة احتجاجا عليهم، إلى قوله في الآية الثانية والعشرين: ﴿إلهكم إله واحد﴾ ووجه الكلام فيها إلى المشركين، وهي جميعا كالمتفرعة على قوله في ذيل هذه الآية: ﴿سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ ومقتضاه أن يكون الأمر الذي أخبر بإتيانه أمرا يطهر ساحة الربوبية من شركهم بحسم مادته، ولم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في أمر، بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من أمر الساعة وأمر، الفتح وأمر نزول العذاب، كما يشير إليه قوله: ﴿قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ما ذا يستعجل منه المجرمون - إلى قوله - ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين﴾ يونس: 53 إلى غير ذلك من الآيات.

وعلى هذا فالمراد بالأمر ما وعد الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين آمنوا وأوعد المشركين مرة بعد مرة في كلامه أنه سينصر المؤمنين ويخزي الكافرين ويعذبهم ويظهر دينه بأمر من عنده كما قال: ﴿فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره﴾ البقرة: 109.

وإليه يعود أيضا ضمير ﴿فلا تستعجلوه﴾ على ما يفيده السياق أو يكون المراد بإتيان الأمر إشرافه على التحقق وقربه من الظهور، وهذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود الأمير: هذا الأمير جاء وقد دنا مجيئه ولم يجىء بعد.

وعلى هذا أيضا يكون قوله: ﴿سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى أنهم ينبغي أن يعرض عن مخاطبتهم ومشافهتهم لانحطاط أفهامهم لشركهم ولم يستعجلوا نزول الأمر إلا لشركهم استهزاء وسخرية.

وبما مر يندفع ما ذكره بعضهم أن الخطاب في الآية للمؤمنين أو للمؤمنين والمشركين جميعا فإن السياق لا يلائمه.

على أنه تعالى يخص في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين وينفيه عنهم قال: ﴿يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق﴾ الشورى: 18.

وكذا ما ذكروه أن المراد بالأمر هو يوم القيامة وذلك أن المشركين وإن كانوا يستعجلونه أيضا كما يدل عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى: ﴿متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ يس: 48 لكن سياق الآيات لا يساعد عليه كما عرفت.

ومن العجيب ما استدل به جمع منهم على أن المراد بالأمر يوم القيامة أنه تعالى لما قال في آخر سورة الحجر: ﴿فوربك لنسألنهم أجمعين﴾ وكان فيه تنبيه على حشر هؤلاء وسؤالهم قال في مفتتح هذه السورة: ﴿أتى أمر الله﴾ فأخبر بقرب يوم القيامة وكذا قوله في آخر الحجر: ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾ وهو مفسر بالموت شديد المناسبة بأن يكون المراد بالأمر في هذه السورة يوم القيامة ومما يؤكد المناسبة قوله هناك: ﴿يأتيك﴾ وهاهنا: ﴿أتى﴾.

وأمثال هذه الأقاويل الملفقة مما ينبغي أن يلتفت إليه.

ونظيره قول بعضهم: إن المراد بالأمر واحدة الأوامر ومعناه الحكم كأنه يشير به إلى ما في السورة من أحكام العهد واليمين ومحرمات الأكل وغيرها والخطاب على هذا للمؤمنين خاصة وهو كما ترى.

قوله تعالى: ﴿ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده﴾ إلى آخر الآية.

الناس على اختلافهم الشديد قديما وحديثا في حقيقة الروح لا يختلفون في أنهم يفهمون منه معنى واحدا وهو ما به الحياة التي هي ملاك الشعور والإرادة فهذا المعنى هو المراد في الآية الكريمة.

وأما حقيقته إجمالا فالذي يفيده مثل قوله تعالى: ﴿يوم يقوم الروح والملائكة صفا﴾ النبأ: 38، وقوله: ﴿تعرج الملائكة والروح إليه﴾ المعارج: 4 وغيرهما أنه موجود مستقل ذو حياة وعلم وقدرة وليس من قبيل الصفات والأحوال القائمة بالأشياء كما ربما يتوهم، وقد أفاد بقوله: ﴿قل الروح من أمر ربي﴾ أنه من سنخ أمره، وعرف أيضا أمره بمثل قوله: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء﴾ يس: 83، فدل على أنه كلمة الإيجاد التي يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الذي يفيضه عليها لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادة ولا زمان ولا مكان كما يفيده قوله: ﴿وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر﴾ القمر: 50 فإن هذا التعبير إنما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادة ولا حركة له، وليكن هذا الإجمال عندك حتى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي إن شاء الله في تفسير سورة الإسراء.

فتحصل أن الروح كلمة الحياة التي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيئته، ولذلك سماه وحيا وعد إلقاءه وإنزاله على نبيه إيحاء في قوله: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا﴾ الشورى: 52، فإن الوحي هو الكلام الخفي والتفهيم بطريق الإشارة والإيماء فيكون إلقاء كلمته تعالى - كلمة الحياة - إلى قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحيا للروح إليه، فافهم ذلك.

فقوله تعالى: ﴿ينزل الملائكة بالروح من أمره﴾ الباء للمصاحبة أو للسببية ولا كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمل فإن تنزيل الملائكة بمصاحبة الروح إنما هو لإلقائه في روح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليفيض عليه المعارف الإلهية وكذا تنزيلهم بسبب الروح لأن كلمته تعالى أعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة وتحييهم كما تحكم في الإنسان وتحييه، وضمير ﴿ينزل﴾ له تعالى والجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الآية السابقة: ﴿سبحانه وتعالى عما يشركون﴾.

والمعنى: أن الله منزه ومتعال عن شركهم أو عن الشريك الذي يدعونه له ولتنزهه وتعاليه عن الشريك ينزل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الذي هو من سنخ أمره وكلمته في الإيجاد - أو بسببه - على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون.

وذكر بعضهم أن المراد بالروح الوحي أو القرآن وسمي روحا لأن به حياة القلوب، كما أن الروح الحقيقي به حياة الأبدان.

قال: وقوله: ﴿من أمره﴾ أي بأمره، ونظيره قوله: ﴿يحفظونه من أمر الله﴾ أي بأمر الله لأن أحدا لا يحفظه عن أمره، انتهى.

أما قوله: إن ﴿من﴾ في قوله ﴿من أمره﴾ بمعنى الباء استنادا إلى قوله: ﴿يحفظونه من أمر الله﴾ أي بأمر الله إلخ فقد مر في تفسير سورة الرعد أن ﴿من﴾ على ظاهر معناه وأن بعض أمره تعالى يحفظ الأشياء من بعض أمره فلا وجه لأخذ ﴿من أمره﴾ بمعنى ﴿بأمره﴾ بل قوله ﴿بالروح من أمره﴾ معناه بالروح الكائن من أمره - على أن الظرف مستقر لا لغو - كما في قوله: ﴿قل الروح من أمر ربي﴾ ومعناه ما تقدم.

وأما قوله: ﴿إن الروح﴾ بمعنى الوحي أو القرآن وكذا قول بعضهم: إنه بمعنى النبوة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى أن نتيجة نزول الملائكة بالروح من أمره هو الوحي أو النبوة، وأما في نفسه وهو أن يسمى الوحي أو النبوة روحا باشتراك لفظي أو مجازا من حيث إنه يحيي القلوب ويعمرها، كما أن الروح به حياة الأبدان وعمارتها فهو فاسد لما بيناه مرارا أن الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف وما يراه في مصاديق الألفاظ.

والمتحصل من كلامه سبحانه أن الروح خلق من خلق الله وهو حقيقة واحدة ذات مراتب ودرجات مختلفة منها ما في الحيوان وغير المؤمنين من الإنسان ومنها ما في المؤمنين من الإنسان، قال تعالى: ﴿وأيدهم بروح منه﴾ المجادلة: 22، ومنها ما يتأيد به الأنبياء والرسل كما قال ﴿وأيدناه بروح القدس﴾ البقرة: 87، وقال: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا﴾ الشورى: 52 على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

هذا ما تفيده الآيات الكريمة وأما أن إطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي حقيقة أو مجاز وما أمعنوا في البحث أنه من الاستعارة المصرحة أو استعارة بالكناية أو أن قوله: ﴿بالروح من أمره﴾ من قبيل التشبيه لذكر المشبه صريحا بناء على كون ﴿من﴾ في قوله: ﴿من أمره﴾ بيانية كما صرحوا في قوله: ﴿حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ البقرة: 187 أنه من التشبيه للتصريح بالمشبه في متن الكلام فكل ذلك من الأبحاث الأدبية الفنية التي ليس لها كثير تأثير في الحصول على الحقائق.

وذكر بعضهم أن ﴿من أمره﴾ بيان للروح، و﴿من﴾ للتبيين، والمراد بالروح الوحي، كما تقدم.

وفيه أنه مدفوع بقوله تعالى: ﴿قل الروح من أمر ربي﴾ فإن من الواضح أن الآيتين تسلكان مسلكا واحدا، وظاهر آية الإسراء أن ﴿من﴾ فيها للابتداء أو للنشوء، والمراد بيان أن الروح من سنخ الأمر وشأن من شئونه ويقرب منها قوله تعالى: ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ القدر: 4.

وذكر بعضهم أن المراد بالروح هو جبريل وأيده بقوله: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك﴾ الشعراء: 194، فإن من المسلم أن المراد به في الآية، هو جبريل والباء للمصاحبة والمراد بالملائكة ملائكة الوحي وهم أعوان جبريل، والمراد بالأمر واحد الأوامر، والمعنى ينزل تعالى ملائكة الوحي بمصاحبة جبريل بأمره وإرادته.

وفيه أن هذه الآية نظيرة قوله تعالى: ﴿يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق﴾ المؤمنون: 15، وظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل.

وأردأ الوجوه ما ذكره بعضهم أن المراد بالروح أرواح الناس لا ينزل ملك إلا ومعه واحد من الأرواح، وهو منقول عن مجاهد، وفساده ظاهر.

وقوله: ﴿على من يشاء من عباده﴾ أي إن بعث الرسل وتنزيل الملائكة بالروح من أمره عليهم متوقف على مجرد المشية الإلهية من غير أن يقهره تعالى في ذلك قاهر غيره فيجبره على الفعل أو يمنعه من الفعل كما في سائر أفعاله تعالى فإنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

فلا ينافي ذلك كون فعله ملازما لحكم ومصالح ومختلفا باختلاف الاستعدادات لا يقع إلا عن استعداد في المحل وصلاحية للقبول فإن استعداد المستعد ليس إلا كسؤال السائل، فكما أن سؤال السائل إنما يقربه من جود المسئول وعطائه من غير أن يجبره على الإعطاء ويقهره كذلك الاستعداد في تقريبه المستعد لإفاضته تعالى وحرمان غير المستعد من ذلك فهو تعالى يفعل ما يشاء من غير أن يوجبه عليه شيء أو يمنعه عنه شيء لكنه لا يفعل شيئا ولا يفيض رحمة إلا عن استعداد فيما يفيض عليه وصلاحية منه.

وقد أفاد ذلك في خصوص الرسالة حيث قال: ﴿وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون﴾ الأنعام: 124، فإن الآية ظاهرة في أن الموارد مختلفة في قبول كرامة الرسالة وأن الله سبحانه أعلم بالمورد الذي يصلح لها ويستأهل لتلك الكرامة وهو غير هؤلاء المجرمين الماكرين وأما هم فليس لهم عند الله إلا الصغار والعذاب لإجرامهم ومكرهم.

ومن هنا يظهر فساد استدلال بعضهم بالآية على نفي المرجح في مورد الرسالة ومحصل ما ذكره أن الآية تعلق الرسالة على مجرد المشية الإلهية من غير أن تقيدها بشيء، فالرسول إنما ينال الرسالة بمشية من الله لا لاختصاصه بصفات تؤهله لذلك ويرجحه على غيره ووجه الفساد ظاهر مما تقدم.

ونظيره في الفساد الاستدلال بالآية على كون الرسالة عطائية غير كسبية، وذلك أنه تعالى غير محكوم عليه في ما ينسب إليه من الفعل لا يفعل إلا ما يشاء، والأمور العطائية والكسبية في ذلك سواء، ولا شيء يقع في الوجود إلا بإذنه.

وقوله: ﴿أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون﴾ بيان لقوله: ﴿ينزل الملائكة بالروح﴾ لكونه في معنى الوحي أو بيان للروح بناء على كونه بمعنى الوحي، والإنذار هو إخبار فيه تخويف، كما أن التبشير هو إخبار فيه سرور على ما ذكره الراغب أو إعلام بالمحذور كما ذكره غيره، والتقدير على الأول أخبروهم مخوفين بوحدانيتي في الألوهية ووجوب تقواي، وعلى الثاني أعلموهم ذلك، على أن يكون ﴿أنه﴾ مفعولا ثانيا لا منصوبا بنزع الخافض.

وقد علم بذلك أن قوله: ﴿فاتقون﴾ متفرع على قوله: ﴿لا إله إلا أنا﴾ والجملتان جميعا مفعول ثان أو في موضعه لقوله: ﴿أنذروا﴾ ويوضح ذلك أن لا إله وهو الذي يبتدىء منه وينتهي إليه كل شيء أو المعبود بالحق من لوازم صفة ألوهيته أن يتقيه الإنسان لتوقف كل خير وسعادة إليه، فلو فرض أنه واحد لا شريك له في ألوهيته كان لازمه أن يتقى وحده لأن التقوى وهو إصلاح مقام العمل فرع لما في مقام الاعتقاد والنظر، فعبادة الآلهة الكثيرين والخضوع لهم لا يجامع الاعتقاد بإله واحد لا شريك له الذي هو القيوم على كل شيء وبيده زمام كل أمر ولذا لم يؤمر نبي أن يدعو إلى توحيد من غير عمل أو إلى عمل من غير توحيد، قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون﴾ الأنبياء: 25.

فالذي أمر الرسل بالإنذار به في الآية هو مجموع قوله: ﴿أنه لا إله إلا أنا فاتقون﴾ وهو تمام الدين لاندراج الاعتقادات الحقة في التوحيد والأحكام العملية جميعا في التقوى، ولا يعبأ بما ذكره بعضهم أن قوله: ﴿فاتقون﴾ للمستعجلين من الكفار المذكورين في الآية الأولى أو لخصوص كفار قريش من غير أن يكون داخلا فيما أمر به الرسل من الإنذار.

قوله تعالى: ﴿خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون﴾ تقدم معنى خلق السماوات والأرض بالحق، ولازم خلقها بالحق أن لا يكون للباطل فيها أثر، ولذلك عقبه بتنزيهه عن الشركاء الذين يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله ويهدوهم إلى الخير ويقوهم الشر فإنهم من الباطل الذي لا أثر له.

وفي الآية والآيات التالية لها احتجاج على وحدانيته تعالى في الألوهية والربوبية من جهتي الخلق والتدبير جميعا فإن الخلق والإيجاد آية الألوهية وكون الخلق بعضها نعمة بالنسبة إلى بعض آية الربوبية لأن الشيء لا يكون نعمة بالنسبة إلى آخر إلا عن ارتباط بينهما واتصال من أحدهما بالآخر يؤدي إلى نظام جامع بينهما وتدبير واحد يجمعهما، ووحدة التدبير آية وحدة المدبر فكون ما في السماوات والأرض من مخلوق نعما للإنسان يدل على أن الله سبحانه وحده ربه ورب كل شيء.

قوله تعالى: ﴿خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين﴾ المراد به الخلق الجاري في النوع الإنساني وهو جعل نسله من النطفة فلا يشمل آدم وعيسى (عليه السلام).

والخصيم صفة مشبهة من الخصومة وهي الجدال، والآية وإن أمكن أن تحمل على الامتنان حيث إن من عظيم المن أن يبدل الله سبحانه بقدرته التامة قطرة من ماء مهين إنسانا كامل الخلقة منطيقا متكلما ينبىء عن كل ما جل ودق ببيانه البليغ لكن كثرة الآيات التي توبخ الإنسان وتقرعه على وقاحته في خصامه في ربه كقوله تعالى: ﴿أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم﴾ يس: 78 ترجح أن يكون المراد بذيل الآية بيان وقاحة الإنسان.

ويؤيد ذلك أيضا بعض التأييد ما في ذيل الآية السابقة من تنزيهه تعالى من شركهم.

قوله تعالى: ﴿والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون﴾ الأنعام جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم سميت بذلك لنعمة مسها بخلاف الحافر الذي يصلب كذا في المجمع، وفي المفردات: الدفء خلاف البرد.

وكأن المراد بالدفء ما يحصل من جلودها وأصوافها وأوبارها من الحرارة للاتقاء من البرد، أو المراد بالدفء ما يدفأ به.

والمراد بالمنافع سائر ما يستفاد منها لغير الدفء من أصوافها وأوبارها وجلودها وألبانها وشحومها وغير ذلك، وقوله: ﴿لكم﴾ يمكن أن يكون متعلقا بقوله: ﴿خلقها﴾ ويكون قوله: ﴿فيها دفء ومنافع﴾ حالا من ضمير ﴿خلقها﴾ ويمكن أن يكون ﴿لكم﴾ ظرفا مستقرا متعلقا بالجملة الثانية أي في الأنعام دفء كائنا لكم.

قوله تعالى: ﴿ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون﴾ الجمال الزينة وحسن المنظر، قال في المجمع: الإراحة رد الماشية بالعشي من مراعيها إلى منازلها والمكان الذي تراح فيه مراح، والسروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة، يقال: سرحت الماشية سرحا وسروحا وسرحها أهلها.

يقول تعالى: ﴿ولكم في الأنعام منظر حسن حين تردونها بالعشي إلى منازلها وحين تخرجونها بالغداة إلى مراعيها﴾.

قوله تعالى: ﴿وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم﴾ الأثقال جمع ثقل وهو المتاع الذي يثقل حمله والمراد بقوله: ﴿بشق الأنفس﴾ مشقة تتحملها الأنفس في قطع المسافات البعيدة والمسالك الصعبة.

والمراد أن الأنعام كالإبل وبعض البقر تحمل أمتعتكم الثقيلة إلى بلد ليس يتيسر لكم بلوغها إلا بمشقة تتحملها أنفسكم فرفع عنكم المشاق بخلقها وتسخيرها لكم إن ربكم رءوف رحيم.

قوله تعالى: ﴿والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون﴾ معطوف على الأنعام فيما مر أي والخيل والبغال والحمير خلقها لكم لتركبوها، وزينة أي إن في خلقها ارتباطا بمنافعكم وذلك أنكم تركبونها وتتخذونها زينة وجمالا، وقوله: ﴿ويخلق ما لا تعلمون﴾ أي يخلق ما لا علم لكم به من الحيوان وغيره، وسخرها لكم لتنتفعوا بها، والدليل على ما قدرناه هو السياق.

قوله تعالى: ﴿وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين﴾ القصد - على ما ذكره الراغب وغيره - استقامة الطريق وهو كونه قيما على سالكيه أوصلهم إلى الغاية، والظاهر أن المصدر بمعنى الفاعل والإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها والمراد السبيل القاصد بدليل مقابلته بقوله: ﴿ومنها جائر﴾ أي ومن السبيل ما هو جائر أي مائل عن الغاية يورد سالكيه غيرها ويضلهم عنها.

والمراد بكون قصد السبيل على الله وجوب جعل سبيل قاصد عليه تعالى يسلكه عباده فيوردهم مورد السعادة والفلاح وإذ لا حاكم غيره يحكم عليه فهو الذي أوجب على نفسه أن يجعل لهم طريقا هذا نعته ثم يهديهم إليه أما الجعل فهو ما جهز الله كل موجود ومنها الإنسان من القوى والأدوات بما لو استعملها كما نظمت أدته إلى سعادته وكماله المطلوب قال تعالى: ﴿الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ طه: 50، وقال في الإنسان خاصة: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله﴾ الروم: 30.

وأما الهداية فهي التي فعلها من ناحية الفطرة وتناهى بما من طريق بعث الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع قال تعالى: ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها﴾ الشمس: 8، وقال: ﴿إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا﴾ الدهر: 3.

وإنما أدرج سبحانه هذه الآية بين هذه الآيات التي سياقها عد النعم العلوية والسفلية من السماء والأرض والأنعام والخيل والبغال والحمير والماء النازل من السماء والزرع ونظائرها لما أن الكلام انجر في آيتي الأنعام والخيل إلى معنى قطع الطرق وركوب المراكب فناسب أن يذكر ما أنعم به من الطريق المعنوي الموصل للإنسان إلى غايته الحقيقية يبتغيها في مسير الحياة كما أنعم بمثله في عالم المادة ونشأة الصورة.

فذكر سبحانه أن من نعمه التي من بها على عباده أن أوجب على نفسه لهم سبيلا قاصدا يوصلهم إلى سعادة حياتهم فجعله لهم وهداهم إليه.

وقد نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل الجائر لأن سبيل الضلال ليس سبيلا مجعولا له وفي عرض سبيل الهدى وإنما هو الخروج عن السبيل وعدم التلبس بسلوكه فليس بسبيل حقيقة وإنما هو عدم السبيل.

وكيف كان فالآية ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى وترك نسبة السبيل الجائر المؤدي بسبب المقابلة إلى نفي نسبته إليه تعالى.

وإذ كان من الممكن أن يتوهم أن لازم جعله قصد السبيل أن يكون مكفورا في نعمته مغلوبا في تدبيره وربوبيته حيث جعل السبيل ولم يسلكه الأكثرون وهدى إليه ولم يهتد به المدعوون دفعه بقوله تعالى: ﴿ولو شاء لهداكم أجمعين﴾ أي إن عدم اهتداء الجميع ليس لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلاء المتخلفين وظهورهم عليه بل لأنه تعالى لم يشأ ذلك ولو شاء لم يسعهم إلا أن يهتدوا جميعا فهو القاهر الغالب على كل حال.

وبعبارة أخرى السبيل القاصد الذي جعله الله تعالى هو السبيل المبني على اختيار الإنسان يقطعه بإتيان الأعمال الصالحة واجتناب المعاصي عن اختيار منه، وما هذا شأنه لم يكن مما يجبر عليه ولا عاما للجميع فإن الطبائع متنوعة والتراكيب مختلفة ولا محالة تتنوع آثارها، ويختلف الأفراد بالإيمان والكفر والتقوى والفجور والطاعة والمعصية.

والآية مما تشاجرت فيها الأشاعرة والمعتزلة من فرق المسلمين فاستدلت المعتزلة بأن تغيير الأسلوب بجعل قصد السبيل على الله دون السبيل الجائر للدلالة على ما يجوز إضافته إليه تعالى وما لا يجوز كما ذكره في الكشاف.

وتكلفت الأشاعرة في الجواب عنه فمن مجيب بأن السبيلين جميعا منه تعالى وإنما لم ينسب السبيل الجائر إليه تأدبا، ومن مجيب بأن المراد بقوله: ﴿وعلى الله قصد السبيل﴾ أن عليه تعالى بيان السبيل الحق فضلا وكرما منه دون بيان السبيل الجائر وأما أصل الجعل فهما جميعا مجعولان له تعالى، ومن منكر أن يكون تغيير الأسلوب في الآية لأمر مطلوب.

والحق أن دلالة الآية على كون قصد السبيل مضافا إليه تعالى دون السبيل الجائر مما لا ريب فيه لكن ذلك لا يستلزم كون السبيل الجائر مخلوقا لغيره تعالى لما تقدم أن سبيل الضلال ليس بسبيل حقيقة بل حقيقته عدم سلوك سبيل الهدى كما أن الضلال عدم الهدى فليس بأمر موجود حتى ينسب خلقه وإيجاده إليه تعالى وإنما ينسب الضلال إليه تعالى فيما ينسب بمعنى عدم هدايته للضال أي عدم إيجاده الهدى في نفسه.

ومع ذلك فالذي ينسب إليه من الضلال كما في قوله: ﴿يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ فاطر: 8، وقوله: ﴿يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا﴾ البقرة: 26، هو الضلال بطريق المجازاة دون الضلال الابتدائي، كما يفسره قوله: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ البقرة: 26، فإذا فسق الإنسان وخرج بسوء اختياره عن زي العبودية بأن عصى ولم يرجع وهو ضلاله الابتدائي من قبل نفسه جازاه الله بالضلال بأن أثبته على حاله ولم يقض عليه الهدى.

وأما الضلال الابتدائي من الإنسان فإنما هو انكفاف وقصور عن الطاعة وقد هداه الله من طريق الفطرة ودعوة النبوة.

قوله تعالى: ﴿هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون﴾ شروع في نوع آخر من النعم وهي النعم النباتية التي يقتات بها الإنسان وغيره وما سخر له لتدبير أمرها كالليل والنهار والشمس والقمر وما يحذو حذوها، ولذلك غير السياق فقال: ﴿هو الذي﴾ إلخ، ولم يقل: وأنزل من السماء.

وقوله: ﴿تسيمون﴾ من الإسامة وهي رعي المواشي ومنه السائمة للماشية الراعية و﴿من﴾ الأولى تبعيضية والثانية نشوئية والشجر من النبات ما له ساق وورق وربما توسع فأطلق على ذي الساق وغيره جميعا، ومنه الشجر المذكور في الآية لمكان قوله: ﴿فيه تسيمون﴾ والباقي واضح.

قوله تعالى: ﴿ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات﴾ إلخ، الزيتون شجر معروف ويطلق على ثمره أيضا يقال: إنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة، وكذا النخيل، ويطلق على الواحد والجمع، والأعناب جمع عنبة وهي ثمرة شجرة الكرم ويطلق على نفس الشجرة كما في الآية، والسياق يفيد أن قوله: ﴿ومن كل الثمرات﴾ تقديره ومن كل الثمرات أنبت أشجارها.

ولعل التصريح بأسماء هذه الثمرات الثلاث بخصوصها وعطف الباقي عليها لكونها مما يقتات بها غالبا.

ولما كان في هذا التدبير العام الوسيع الذي يجمع شمل الإنسان والحيوان في الارتزاق به حجة على وحدانيته تعالى في الربوبية ختم الآية بقوله: ﴿إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون﴾.

قوله تعالى: ﴿وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر﴾ إلى آخر الآية قد تكرر الكلام في معنى تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، ولكون كل من المذكورات وكذا مجموع الليل والنهار ومجموع الشمس والقمر والنجوم ذا خواص وآثار في نفسه من شأنه أن يستقل بإثبات وحدانيته في ربوبيته تعالى ختم الآية بقوله: ﴿إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾ فجمع الآيات في هذه الآية بخلاف الآيتين السابقة واللاحقة.

قوله تعالى: ﴿وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون﴾ الذرء الخلق، واختلاف ألوان ما ذرأه في الأرض غير ما مر كما يختلف ألوان المعادن وسائر المركبات العنصرية التي ينتفع بها الإنسان في معاشه ولا يبعد أن يكون اختلاف الألوان كناية عن الاختلاف النوعي بينها فتقرب الآية مضمونا من قوله تعالى: ﴿وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل﴾ الرعد: 4، وقد تقدم تقريب الاستدلال به.

واختلاف الألوان فيما ذرأ في الأرض كإنبات الشجر والثمر أمر واحد يستدل به على وحدانيته في الربوبية ولذا قال: ﴿إن في ذلك لآية﴾ ولم يقل: لآيات.

وهذه حجج ثلاث نسب الأولى إلى الذين يتفكرون، والثانية إلى الذين يعقلون، والثالثة إلى الذين يتذكرون، وذلك أن الحجة الأولى مؤلفة من مقدمات ساذجة يكفي في إنتاجها مطلق التفكر، والثانية مؤلفة من مقدمات علمية لا يتيسر فهمها إلا لمن غار في أوضاع الأجرام العلوية والسفلية وعقل آثار حركاتها وانتقالاتها، والثالثة مؤلفة من مقدمات كلية فلسفية إنما ينالها الإنسان بتذكر ما للوجود من الأحكام العامة الكلية كاحتياج هذه النشأة المتغيرة إلى المادة وكون المادة العامة واحدة متشابهة الأمر، ووجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقية إلى أمر آخر وراء المادة الواحدة المتشابهة.

قوله تعالى: ﴿وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها﴾ إلخ وهذا فصل آخر من النعم الإلهية وهو نعم البحر والجبال والأنهار والسبل والعلامات وكان ما تقدمه من الفصل مشتملا على نعم البر والسهل من الأشجار والأثمار ونحوها، ولذلك قال: ﴿وهو الذي سخر﴾ ولم يقل: وسخر إلخ.

والطري فعيل من الطراوة وهو الغض الجديد من الشيء على ما ذكره في المفردات، والمخر شق الماء عن يمين وشمال، يقال: مخرت السفينة تمخر مخرا فهي ماخرة ومخر الأرض أيضا شقها للزراعة.

على ما في المجمع والمراد بأكل اللحم الطري من البحر هو أكل لحوم الحيتان المصطادة منه، وباستخراج حلية تلبسونها ما يستخرج منه بالغوص من أمثال اللؤلؤ والمرجان التي تتحلى وتتزين بها النساء.

وقوله: ﴿وترى الفلك مواخر فيه﴾ أي تشاهد السفائن تشق ماءه عن اليمين والشمال، ولعل قوله: ﴿وترى﴾ من الخطابات العامة التي لا يقصد بها مخاطب خاص وكثيرا ما يستعمل كذلك ومعناه يراه كل راء ويشاهده كل من له أن يشاهد فليس من قبيل الالتفات من خطاب الجمع السابق إلى خطاب الواحد.

وقوله: ﴿ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون﴾ أي ولتطلبوا بعض رزقه في ركوب البحر وإرسال السفائن فيه والجملة معطوفة على محذوف والتقدير وترى الفلك مواخر فيه لتنالوا بذلك كذا وكذا ولتبتغوا من فضله، وهو كثير النظير في كلامه تعالى.

وقوله: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ أي ومن الغايات في تسخير البحر وإجراء الفلك فيه شكركم له المرجو منكم إذ هو من زيادته تعالى في النعمة فقد أغناكم بما أنعم عليكم في البر عن أن تتصرفوا في البحر بالغوص وإجراء السفن وغير ذلك لكنه تعالى زادكم بتسخير البحر لكم نعمة لعلكم تشكرونه على هذا الزائد فإن الإنسان قليلا ما يتنبه في الضروريات أنها نعمة موهوبة من لدنه سبحانه ولو شاء لقطعها وأما الزوائد النافعة فهي أقرب من هذا التنبه والانتقال.

قوله تعالى: ﴿وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون﴾ قال في المجمع: الميد الميل يمينا وشمالا وهو الاضطراب ماد يميد ميدا.

وقوله: ﴿أن تميد بكم﴾ أي كراهة أن تميد بكم أو أن لا تميد بكم والمراد أنه طرح على الأرض جبالا ثوابت لئلا تضطرب وتميل يمينا وشمالا فيختل بذلك نظام معاشكم.

وقوله: ﴿وأنهارا﴾ أي وجعل فيها أنهارا تجري بمائها وتسوقه إلى مزارعكم وبساتينكم وتسقيكم وما عندكم من الحيوان الأهلي.

وقوله: ﴿وسبلا لعلكم تهتدون﴾ معطوف على قوله: ﴿وأنهارا﴾ أي وجعل سبلا لغاية الاهتداء المرجو منكم، والسبل منها ما هي طبيعية وهي المسافات الواقعة بين بقعتين من الأرض الواصلة إحداهما بالأخرى من غير أن يقطع ما بينهما بحاجب أو مانع كالسهل بين الجبلين، ومنها ما هي صناعية وهي التي تتكون بعبور المارة وآثار الأقدام أو يعملها الإنسان.

والظاهر من السياق عموم السبل لكلا القسمين، ولا ضير في نسبة ما جعله الإنسان إلى جعله تعالى كما نسب الأنهار والعلامات إلى جعله تعالى وأكثرها من صنع الإنسان وكما نسب ما عمله الإنسان من الأصنام وغيرها إلى خلقه تعالى في قوله: ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ الصافات: 96.

وذلك أنها كائنة ما كانت من آثار مجعولاته تعالى وجعل الشيء ذي الأثر جعل لأثره بوجه وإن لم يكن جعلا مستقيما من غير واسطة.

قوله تعالى: ﴿وعلامات وبالنجم هم يهتدون﴾ العلامات جمع علامة وهي ما يعلم به الشيء، وهو معطوف على قوله: ﴿أنهارا﴾ أي وجعل علامات تستدلون بها على الأشياء الغائبة عن الحس وهي كل آية وأمارة طبيعية أو وضعية تدل على مدلولها ومنها الشواخص والنصب واللغات والإشارات والخطوط وغيرها.

ثم ذكر سبحانه الاهتداء بالنجوم فقال: ﴿وبالنجم هم يهتدون﴾ ولعل الالتفات فيه من الخطاب إلى الغيبة للتحرز عن تكرار ﴿تهتدون﴾ بصيغة الخطاب في آخر الآيتين.

والآية السابقة: ﴿وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين﴾ المتضمنة لمسألة الهداية المعنوية التي هي كالمعترضة بين الآيات العادة للنعم الصورية وإن كان الأنسب ظاهرا أن يوضع بعد هذه الآية أعني قوله: ﴿وبالنجم هم يهتدون﴾ المتعرضة هي وما قبلها للهداية الصورية غير أن ذلك لم يكن خاليا من اللبس وإيهام التناقض بخلاف موقعها الذي هي واقعة فيه وإن كانت كالمعترضة كما هو ظاهر.

قوله تعالى: ﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق - إلى قوله - إلهكم إله واحد﴾ الآيات تقرير إجمالي للحجة المذكورة تفصيلا في ضمن الآيات الست عشرة الماضية واستنتاج للتوحيد وهي حجة واحدة أقيمت لتوحيد الربوبية، وملخصها أن الله سبحانه خالق كل شيء فهو الذي أنعم بهذه النعم التي لا يحيط بها الإحصاء التي ينتظم بها نظام الكون، وهو تعالى عالم بسرها وعلنها فهو الذي يملك الكل ويدبر الأمر فهو ربها، وليس شيء مما يدعونه على شيء من هذه الصفات فليست أربابا فالإله واحد لا غير وهو الله عز اسمه.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن الآيات تثبت التوحيد من طريقين طريق الخلقة وطريق النعمة، بيان الفساد أن طريق الخلقة وحدها إنما تثبت الصانع ووحدانيته في الخلق والإيجاد، والوثنيون - وإليهم وجه الكلام في الآيات - لا ينكرون وجود الصانع ولا أن الله سبحانه خالق الكل حتى أوثانهم وأن أوثانهم ليسوا بخالقين لشيء وإنما يدعون لأوثانهم تدبير أمر العالم بتفويض من الله لذلك إليهم والشفاعة عند الله فلا يفيد إثبات الصانع تجاه هؤلاء شيئا.

وإنما سيقت آيات الخلقة لتثبيت أمر النعمة إذ من البين أنه إذا كان الله سبحانه خالقا لكل شيء موجودا له كانت آثار وجودات الأشياء وهي النعم التي يتنعم بها له سبحانه كما أن وجوداتها له ملكا طلقا لا يقبل بطلانا ولا نقلا ولا تبديلا فهو سبحانه المنعم بها حقيقة لا غيره من شيء حتى الذي نفس النعمة من آثار وجوده فإنه وما له من أثر هو لله وحده.

ولذلك ضم إلى حديث الخلق والإنعام قوله تعالى: ﴿والله يعلم ما تسرون وما تعلنون﴾ لأن مجرد استناد الخلق والإنعام إلى شيء لا يستلزم ربوبيته ولا يستوجب عبادته لو لا انضمام العلم إليهما ليتم بذلك أنه مدبر يهدي كل شيء إلى كماله المطلوب له وسعادته المكتوبة في صحيفة عمله، ومن المعلوم أن العبادة إنما تستقيم عبادة إذا كان المعبود موسوما بسمة العلم عالما بعبادة من يعبده شاهدا لخضوعه.

فمجموع ما تتضمنه الآيات من حديث الخلق والنعمة والعلم مقدمات لحجة واحدة أقيمت على توحيد الربوبية الذي ينكره الوثنية كما عرفت.

فقوله: ﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون﴾ قياس ما له سبحانه من النعت إلى ما لغيره منه ونفي للمساواة، والاستفهام للإنكار، والمراد بمن لا يخلق آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله.

وبيانه - كما ظهر مما تقدم - أن الله سبحانه يخلق الأشياء ويستمر في خلقها فلا يستوي هو ومن لا يخلق شيئا فإنه تعالى لخلقه الأشياء يملك وجوداتها وآثار وجوداتها التي هي الأنظمة الخاصة بها والنظام العام الجاري عليها.

وقوله: ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ إلخ، إشارة إلى كثرة النعم الإلهية كثرة خارجة عن حيطة الإحصاء، وبالحقيقة ما من شيء إلا وهو نعمة إذا قيس إلى النظام الكلي وإن كان ربما وجد بينها ما ليس بنعمة إذا قيس إلى بعض آخر.

وقد علل سبحانه ذلك بقوله: ﴿إن الله لغفور رحيم﴾ وهو من ألطف التعليل وأدقه فأفاد سبحانه أن خروج النعمة عن حد الإحصاء إنما هو من بركات اتصافه تعالى بصفتي المغفرة والرحمة فإنه بمغفرته - والمغفرة هي الستر - يستر ما في الأشياء من وبال النقص وشوهة القصور، وبرحمته والرحمة إتمام النقص ورفع الحاجة - يظهر فيها الخير والكمال ويحليها بالجمال فببسط المغفرة والرحمة على الأشياء يكون كل شيء نافعا في غيره خيرا مطلوبا عنده فيصير نعمة بالنسبة إليه فالأشياء بعضها نعمة لبعض فللنعمة الإلهية من السعة والعرض ما لمغفرته ورحمته من ذلك: فإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، فافهم ذلك.

والآية من الموارد التي استعملت فيها المغفرة في غير الذنب والمعصية للأمر المولوي هو المعروف عند المتشرعة.

وقوله: ﴿والله يعلم ما تسرون وما تعلنون﴾ إشارة إلى الركن الثالث من أركان الربوبية وهو العلم فإن الإله لو كان غير متصف بالعلم استوت العبادة واللاعبادة بالنسبة إليه فكانت عبادته لغوا لا أثر لها.

فمن الواجب في الرب المعبود أن يكون له علم ولا كل علم، كيفما كان بل العلم بظاهر من يعبده وباطنه فإن العبادة متقومة بالنية فهي إنما تقع عبادة حقيقة إذا أتي بها عن نية صالحة وهو مما يرجع إلى الضمير فلا يتم العلم بكون صورة العبادة واجدة لحقيقة معناها إلا بعد إحاطة المعبود بظاهر من يعبده وباطنه لكن الله سبحانه عليم بما يسره الإنسان وما يعلنه كما أنه خالق منعم ويستحق بذلك أن يعبد.

ومن هنا يظهر وجه اختيار ما في الآية من التعبير لبيان علمه فلم يعبر بمثل قوله: ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ وقوله: ﴿والله بكل شيء عليم﴾ بل قال: ﴿والله يعلم ما تسرون وما تعلنون﴾ فذكر العلم بالإسرار والإعلان، وأضافه إلى الإنسان لأن الكلام في عبادة الإنسان لربه، والواجب في العلم بالعبادة المرتبطة بعمل الجوارح والقلب جميعا أن يكون عالما بما يسره الإنسان وما يعلنه من النية القلبية والأحوال والحركات البدنية.

وقوله: ﴿والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون﴾ إشارة إلى فقدان الركن الأول من أركان الربوبية في آلهتهم الذين يدعون من دون الله ويتفرع عليه الركن الثاني وهو إيتاء النعمة، فليس الذين يدعونهم آلهة وأربابا والله الرب.

وقوله: ﴿أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون﴾ إشارة إلى فقدان الركن الثالث من أركان الربوبية في أصنامهم وهو العلم بما يسرون وما يعلنون وقد بالغ في نفي ذلك فنفى أصل الحياة المستلزم لنفي مطلق العلم فضلا عن نوعه الكامل الذي هو العلم بما يسرون وما يعلنون فقال: ﴿أموات غير أحياء﴾ فأثبت الموت أولا وهو لا يجامع الشعور ثم أكده بنفي الحياة ثانيا.

وخص من وجوه جهلهم عدم شعورهم متى يبعث عبادهم من الناس فقال: ﴿وما يشعرون أيان يبعثون﴾ أي ما يدري الأصنام أيان يبعث عبادهم فإن العبادة هي التي يجزى بها الإنسان يوم البعث فمن الواجب في الإله المعبود أن يعلم متى يوم البعث حتى يجزي عباده فيه عن عبادتهم، وهؤلاء لا يدرون شيئا من ذلك.

ومن هنا يظهر أن أول ضميري الجمع - يشعرون - للأصنام والثاني - يبعثون - للمشركين، وأما إرجاعهما كليهما إلى الأصنام فغير مرضي لأن العلم بالبعث مختص به سبحانه محجوب عن غيره ولا يختص الجهل به بالأصنام، وأردأ منه قول بعضهم: إن ضميري الجمع معا في الآية عائدان إلى المشركين.

هذا.

والآيات وإن كانت مسوقة بظاهرها لنفي ربوبية الأصنام لكن البيان بعينه بأدنى دقة جار في أرباب الأصنام كالملائكة المقربين والجن والكملين من البشر والكواكب من كل ما يعبده الوثنيون فإن صفات الخلق والإنعام والعلم لا تقوم بالأصالة والاستقلال إلا بالله سبحانه، ولا ربوبية حقيقة إلا بالأصالة والاستقلال، فافهم.

وفي الآيتين أعني قوله: ﴿والذين يدعون من دون الله - إلى قوله - يبعثون﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة، ولعل النكتة فيه ذكر يوم البعث فيهما والمشركون لا يقولون به فحول الخطاب منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتوسل بذلك إليه من غير اعتراض.

وقوله: ﴿إلهكم إله واحد﴾ بيان لنتيجة الحجة التي أقيمت في الآيات السابقة أي إذا كان الله سبحانه هو الواجد لما تتوقف عليه الألوهية وهي المعبودية بالحق، وغيره تعالى ممن يدعون من دونه غير واجد لشيء مما تتوقف عليه وهو الخلق والإنعام والعلم فإلهكم الذي يحق له أن يعبد واحد ولازم معناه أنه الله عز اسمه.

بحث روائي:

في المجمع، أربعون آية من أولها مكية والباقي من قوله: ﴿والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم﴾ إلى آخر السورة مدنية، عن الحسن وقتادة، وقيل: مكية كلها غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحد: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا﴾ إلى آخر السورة نزلت فيما بين مكة والمدينة عن ابن عباس وعطاء والشعبي، وفي إحدى الروايات عن ابن عباس: بعضها مكي وبعضها مدني فالمكي من أولها إلى قوله: ﴿ولكم عذاب عظيم﴾ ، والمدني قوله: ﴿ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا - إلى قوله - بأحسن ما كانوا يعملون﴾.

أقول: وقد قدمنا أن الذي يعطيه السياق خلاف ذلك كله فراجع.

وفي تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه﴾ قال: إذا أخبر الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشيء إلى وقت فهو قوله: ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه﴾ حتى يأتي ذلك الوقت وقال: إن الله إذا أخبر أن شيئا كائن فكأنه قد كان.

أقول: كأنه إشارة إلى أن التعبير في الآية بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿أتى أمر الله﴾ ذعر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزل ﴿فلا تستعجلوه﴾ فسكنوا.

وفيه، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه﴾ قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل. فنزلت: ﴿اقترب للناس حسابهم﴾ الآية فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضا فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء فنزل: ﴿ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة﴾ الآية.

أقول: والرواية تدل على أن المسلمين كان بينهم قبل الهجرة منافقون كما يشهد به بعض آخر من الروايات.

وفيه، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع في السماء حتى تملأ السماء ثم ينادي مناد: يا أيها الناس! فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم؟ فمنهم من يقول: نعم ومنهم من يشك ثم ينادي الثانية: يا أيها الناس فيقول الناس: هل سمعتم؟ فيقولون: نعم ثم ينادي: أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فو الذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه وإن الرجل ليملأ حوضه فما يسقي فيه شيئا، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه ويشغل الناس.

أقول: وقد رام بعضهم أن يستفيد من هذه الروايات الثلاث - وفي معناها بعض روايات أخر - أن المراد بالأمر هو يوم القيامة ولا دلالة فيها على ذلك.

أما الرواية الأولى فلا يدل ذعرهم أنهم فهموا منها ذلك فإن أمر الله أيا ما كان مما يهيب عباده على أنه لا حجة في فهمهم وليس الشبهة مفهومية حتى يرجع إليهم بما هم أهل اللسان.

على أن الرواية لا تخلو عن شيء فإن الله سبحانه يعد الاستعجال بالقيامة من صفات الكفار ويذمهم عليه ويبرىء المؤمنين منه قال: ﴿والذين آمنوا مشفقون منها﴾ الشورى: 18 وقد مرت الإشارة إليه في البيان المتقدم هذا إذا كان الخطاب في قوله: ﴿فلا تستعجلوه﴾ للمؤمنين، وأما إذا كان المخاطب به المشركين وهم كانوا يستعجلونه، فمعنى النهي عن استعجالهم هو حلول الأجل وقرب الوقوع لا الإمهال والإنظار، ولا معنى حينئذ لسكونهم لما سمعوا قوله: ﴿فلا تستعجلوه﴾.

وأما الرواية الثانية فظاهرها أنهم فهموا منها العذاب الدنيوي دون الساعة فهي تؤيد ما قدمناه في البيان لا ما ذكروه.

وأما الرواية الثالثة فأقصى ما تدل عليه أن قيام الساعة من مصاديق إتيان أمر الله ولا ريب في ذلك وهو غير كون المراد بالأمر في الآية هو الساعة.

وفي كتاب الغيبة، للنعماني بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عز وجل: ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه﴾ قال: هو أمرنا أمر الله عز وجل فلا يستعجل به يؤيده بثلاثة أجناد: الملائكة والمؤمنون والركب، وخروجه كخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك قوله: ﴿كما أخرجك ربك من بيتك بالحق﴾.

أقول: ورواه المفيد في كتاب الغيبة، عن عبد الرحمن عنه (عليه السلام)، ومراده ظهور المهدي (عليه السلام) كما صرح به في روايات أخر وهو من جري القرآن أو بطنه.

وفي الكافي، بإسناده عن سعد الإسكاف قال: أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) يسأله عن الروح أ ليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): جبرئيل من الملائكة والروح غير جبرئيل، فكبر ذلك على الرجل فقال له: لقد قلت عظيما من القول ما أحد يزعم أن الروح غير جبرئيل.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): إنك ضال تروي عن أهل الضلال، يقول الله لنبيه: ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه - سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح﴾ والروح غير الملائكة.

أقول: وهو يؤيد ما قدمناه، وفي روايات أخر: أنه خلق أعظم من جبرئيل.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿فإذا هو خصيم مبين﴾ قال (عليه السلام): خلقه من قطرة من ماء مهين فيكون خصيما متكلما بليغا.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿حين تريحون وحين تسرحون﴾ قال (عليه السلام): حين ترجع من المرعى وحين تخرج إلى المرعى.

وفي تفسير العياشي، عن زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن أبوال الخيل والبغال والحمير قال: نكرهها، قلت: أليس لحمها حلالا؟ قال: فقال: أليس قد بين الله لكم: ﴿والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون﴾ وقال في الخيل والبغال والحمير: ﴿لتركبوها وزينة﴾ فجعل الأكل من الأنعام التي قص الله في الكتاب، وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير وليس لحومها بحرام ولكن الناس عافوها.

أقول: والروايات في الخيل والبغال والحمير مختلفة ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) حلية أكل لحومها على كراهية.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ويخلق ما لا تعلمون﴾ قال: قال (عليه السلام): العجائب التي خلقها الله في البر والبحر.

وفي الدر المنثور، في قوله تعالى: ﴿وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر﴾ أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي أنه كان يقرأ هذه الآية: ﴿فمنكم جائر﴾.

وفي تفسير العياشي، عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وبالنجم هم يهتدون﴾ قال: هو الجدي لأنه نجم لا يدور عليه بناء القبلة، وبه يهتدي أهل البر والبحر.

أقول: وهو مروي عن الصادق (عليه السلام) أيضا.

وفي الكافي، بإسناده عن داود الجصاص قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ﴿وعلامات وبالنجم هم يهتدون﴾ قال: النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والعلامات الأئمة (عليهم السلام): أقول: ورواه أيضا بطريقين آخرين عنه وعن الرضا (عليه السلام) ورواه العياشي والقمي في تفسيريهما، والشيخ في أماليه، عن الصادق (عليه السلام).

وليس بتفسير وإنما هو من البطن ومن الدليل عليه ما رواه الطبرسي في المجمع، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن العلامات والنجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقد قال: إن الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء وجعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض.