الآيات 1-15

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿1﴾ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴿2﴾ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴿3﴾ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴿4﴾ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴿5﴾ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴿6﴾ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ﴿7﴾ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴿8﴾ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴿9﴾ يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴿10﴾ كَلَّا لَا وَزَرَ ﴿11﴾ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴿12﴾ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴿13﴾ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿14﴾ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴿15﴾

بيان:

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبىء بوقوع يوم القيامة أولا ثم تصفه ببعض أشراطه تارة، وبإجمال ما يجري على الإنسان أخرى، وينبىء أن المساق إليه يبدأ من يوم الموت، وتختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿لا أقسم بيوم القيامة﴾ إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون ﴿لا أقسم﴾ كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ﴿ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾ إقسام ثان على ما يقتضيه السياق ومشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: إنه نفي الأقسام وليس بقسم، والمراد أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة.

والمراد بالنفس اللوامة نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية والتثاقل في الطاعة وتنفعه يوم القيامة.

وقيل: المراد به النفس الإنسانية أعم من المؤمنة الصالحة والكافرة الفاجرة فإنها تلوم الإنسان يوم القيامة أما الكافرة فإنها تلومه على كفره وفجوره، وأما المؤمنة فإنها تلومه على قلة الطاعة وعدم الاستكثار من الخير.

وقيل، المراد نفس الكافر الذي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية قال تعالى: ﴿وأسروا الندامة لما رأوا العذاب﴾: يونس 54.

ولكل من الأقوال وجه.

وجواب القسم محذوف يدل عليه الآيات التالية، والتقدير ليبعثن، وإنما حذف للدلالة على تفخيم اليوم وعظمة أمره قال تعالى: ﴿ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة﴾ الأعراف: 187 وقال: ﴿إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى﴾ طه: 15 وقال: ﴿عم يتساءلون عن النبأ العظيم﴾ النبأ: 1.

قوله تعالى: ﴿أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه﴾ الحسبان الظن، وجمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿بلى قادرين على أن نسوي بنانه﴾ أي بلى نجمعها و﴿قادرين﴾ حال من فاعل مدخول بلى المقدر، والبنان أطراف الأصابع وقيل: الأصابع وتسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، والمعنى بلى نجمعها والحال أنا قادرون على أن نصور بنانه على صورها التي هي عليها بحسب خلقنا الأول.

وتخصيص البنان بالذكر - لعله - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور وخصوصيات التركيب والعدد تترتب عليها فوائد جمة لا تكاد تحصى من أنواع القبض والبسط والأخذ والرد وسائر الحركات اللطيفة والأعمال الدقيقة والصنائع الظريفة التي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافا إلى ما عليها من الهيئات والخطوط التي لا يزال ينكشف للإنسان منها سر بعد سر.

وقيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين والرجلين مستوية شيئا واحدا من غير تفريق كخف البعير وحافر الحمار، والمعنى قادرين على أن نجعلها شيئا واحدا فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدد الأصابع من فنون الأعمال، والوجه المتقدم أرجح.

قوله تعالى: ﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ قال الراغب: الفجر شق الشيء شقا واسعا.

قال: والفجور شق ستر الديانة يقال: فجر فجورا فهو فاجر وجمعه فجار وفجرة.

انتهى، وأمام ظرف مكان استعير لمستقبل الزمان، والمراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره وما دام حيا، وضمير ﴿أمامه﴾ للإنسان.

وقوله: ﴿ليفجر أمامه﴾ تعليل ساد مسد معلله وهو التكذيب بالبعث والإحياء بعد الموت، و﴿بل﴾ إضراب عن حسبانه عدم البعث والإحياء بعد الموت.

والمعنى: أنه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان والتقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب والجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، ولهم وجوه أخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

وذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير والنكتة فيه زيادة التوبيخ والمبالغة في التقريع، وقد كرر ذلك في الآية وما يتلوها من الآيات أربع مرات.

قوله تعالى: ﴿يسأل أيان يوم القيامة﴾ الظاهر أنه بيان لقوله: ﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ فيفيد التعليل وأن السائل في مقام التكذيب والسؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان والتقوى، وأنذر بهذا النبأ العظيم مع دلالة الآيات البينة وقيام الحجج القاطعة أن يتخذ حذره ويتجهز بالإيمان والتقوى ويتهيأ للقاء اليوم قريبا كان أو بعيدا فكل ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ وأيان يوم القيامة؟ فليس إلا سؤال مكذب مستهزىء.

قوله تعالى: ﴿فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر﴾ ذكر جملة من أشراط الساعة، وبريق البصر تحيره في إبصاره ودهشته، وخسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ﴿يقول الإنسان يومئذ أين المفر﴾ أي أين موضع الفرار، وقوله: ﴿أين المفر﴾ مع ظهور السلطنة الإلهية له وعلمه بأن لا مفر ولا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفر إذا وقع في شدة أو هددته مهلكة وذلك كإنكارهم الشرك يومئذ وحلفهم كذبا قال تعالى: ﴿ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين﴾ الأنعام: 23، وقال: ﴿يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم﴾ المجادلة: 18.

قوله تعالى: ﴿كلا لا وزر﴾ ردع عن طلبهم المفر، والوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، وهو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ﴿إلى ربك يومئذ المستقر﴾ الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقديم ﴿إلى ربك﴾ وهو متعلق بقوله: ﴿المستقر﴾ يفيد الحصر فلا مستقر إلى غيره فلا وزر ولا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

وذلك أن الإنسان سائر إليه تعالى كما قال: ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه﴾ الانشقاق: 6 وقال: ﴿إن إلى ربك الرجعى﴾ العلق: 8 وقال: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾ النجم: 42، فهو ملاقي ربه راجع ومنته إليه لا حاجب يحجبه عنه ولا مانع يمنعه منه وأما الحجاب الذي يشير إليه قوله: ﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون﴾ المطففين: 15 فسياق الآيتين يعطي أن المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

ويمكن أن يكون المراد بكون مستقره إليه رجوع أمر ما يستقر فيه من سعادة أو شقاوة وجنة أو نار إلى مشيته تعالى فمن شاء جعله في الجنة وهم المتقون ومن شاء جعله في النار وهم المجرمون قال تعالى: ﴿يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء﴾ المائدة: 40.

ويمكن أن يراد به أن استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون﴾ القصص: 88.

قوله تعالى: ﴿ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر﴾ المراد بما قدم وأخر ما عمله من حسنة أو سيئة في أول عمره وآخره أو ما قدمه على موته من حسنة أو سيئة وما أخر من سنة حسنة سنها أو سنة سيئة فيثاب بالحسنات ويعاقب على السيئات.

وقيل: المراد بما قدم ما عمله من حسنة أو سيئة فيثاب على الأول ويعاقب على الثاني، وبما أخر ما تركه من حسنة أو سيئة فيعاقب على الأول ويثاب على الثاني، وقيل، المراد ما قدم من المعاصي وما أخر من الطاعات، وقيل، ما قدم من طاعة الله وأخر من حقه فضيعه، وقيل: ما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته وهي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره﴾ إضراب عن قوله، ﴿ينبؤا الإنسان﴾ إلخ، والبصيرة رؤية القلب والإدراك الباطني وإطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

وقيل: المراد بالبصيرة الحجة كما في قوله تعالى، ﴿ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر﴾ الإسراء، 102 والإنسان نفسه حجة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده ويشهد عليه سمعه وبصره وجلده ويتكلم يداه ورجلاه، قال تعالى: ﴿إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا﴾ الإسراء 36، وقال ﴿شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم﴾ حم السجدة، 20.

وقال، ﴿وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم﴾ يس: 65.

وقوله: ﴿ولو ألقى معاذيره﴾ المعاذير جمع معذرة وهي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، والمعنى هو ذو بصيرة على نفسه ولو جادل عن نفسه واعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

وقيل: المعاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه ومآل الوجهين واحد.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾ قال: نفس آدم التي عصت فلامها الله عز وجل.

أقول: وفي انطباقها على الآية خفاء.

وفيه،: في قوله: ﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ قال: يقدم الذنب ويؤخر التوبة ويقول: سوف أتوب.

وفيه، في قوله: ﴿فإذا برق البصر﴾ قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة - ولو ألقى معاذيره﴾ قال: يعلم ما صنع وإن اعتذر.

وفي الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إني لأتعشى مع أبي عبد الله (عليه السلام) وتلا هذه الآية ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره﴾ ثم قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: من أسر سريرة ألبسه الله رداها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وفي المجمع، وروى العياشي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويستر سيئا؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك؟ والله سبحانه يقول: ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة﴾ إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية:.

أقول: ورواه في أصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العباس عنه (عليه السلام).

وفيه، عن العياشي عن زرارة قال، سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ قال، ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة﴾ هو أعلم بما يطيق.

أقول: ورواه في الفقيه، أيضا.