الآيات 1-5

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ ﴿1﴾ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ﴿2﴾ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴿3﴾ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴿4﴾ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴿5﴾

بيان:

أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعوذ بالله من كل شر ومن بعضه خاصة والسورة مدنية على ما يظهر مما ورد في سبب نزولها.

قوله تعالى: ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾ العوذ هو الاعتصام والتحرز من الشر بالالتجاء إلى من يدفعه، والفلق بالفتح فالسكون الشق والفرق، والفلق بفتحتين صفة مشبهة بمعنى المفعول كالقصص بمعنى المقصوص، والغالب إطلاقه على الصبح لأنه المشقوق من الظلام، وعليه فالمعنى أعوذ برب الصبح الذي يفلقه ويشقه ومناسبة هذا التعبير للعوذ من الشر الذي يستر الخير ويحجب دونه ظاهر.

وقيل: المراد بالفلق كل ما يفطر ويفلق عنه بالخلق والإيجاد فإن في الخلق والإيجاد شقا للعدم وإخراجا للموجود إلى الوجود فيكون مساويا للمخلوق، وقيل هو جب في جهنم ويؤيده بعض الروايات.

قوله تعالى: ﴿من شر ما خلق﴾ أي من شر من يحمل شرا من الإنس والجن والحيوانات وسائر ما له شر من الخلق فإن اشتمال مطلق ما خلق على الشر لا يستلزم الاستغراق.

قوله تعالى: ﴿ومن شر غاسق إذا وقب﴾ في الصحاح، الغسق أول ظلمة الليل وقد غسق الليل يغسق إذا أظلم والغاسق الليل إذا غاب الشفق.

والوقوب الدخول فالمعنى ومن شر الليل إذا دخل بظلمته.

ونسبة الشر إلى الليل إنما هي لكونه بظلمته يعين الشرير في شره لستره عليه فيقع فيه الشر أكثر مما يقع منه بالنهار، والإنسان فيه أضعف منه في النهار تجاه هاجم الشر، وقيل: المراد بالغاسق كل هاجم يهجم بشره كائنا ما كان.

وذكر شر الليل إذا دخل بعد ذكر شر ما خلق من ذكر الخاص بعد العام لزيادة الاهتمام وقد اهتم في السورة بثلاثة من أنواع الشر خاصة هي شر الليل إذا دخل وشر سحر السحرة وشر الحاسد إذا حسد لغلبة الغفلة فيهن.

قوله تعالى: ﴿ومن شر النفاثات في العقد﴾ أي النساء الساحرات اللاتي يسحرن بالعقد على المسحور وينفثن في العقد.

وخصت النساء بالذكر لأن السحر كان فيهن ومنهم أكثر من الرجال، وفي الآية تصديق لتأثير السحر في الجملة، ونظيرها قوله تعالى: في قصة هاروت وماروت ﴿فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله﴾ البقرة: 102 ونظيره ما في قصة سحرة فرعون.

وقيل: المراد بالنفاثات في العقد النساء اللاتي يملن آراء أزواجهن إلى ما يرينه ويردنه فالعقد هو الرأي والنفث في العقد كناية عن حله، وهو بعيد.

قوله تعالى: ﴿ومن شر حاسد إذا حسد﴾ أي إذا تلبس بالحسد وعمل بما في نفسه من الحسد بترتيب الأثر عليه.

وقيل: الآية تشمل العائن فعين العائن نوع حسد نفساني يتحقق منه إذا عاين ما يستكثره ويتعجب منه.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال: سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وقال: إن رجلا من اليهود سحرك والسحر في بئر فلان فأرسل عليا فجاء به فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنما نشط من عقال.

أقول: وعن كتاب طب الأئمة، بإسناده إلى محمد بن سنان عن المفضل عن الصادق (عليه السلام): مثله وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق أهل السنة باختلاف يسيرة، وفي غير واحد منها أنه أرسل مع علي (عليه السلام) زبيرا وعمارا وفيه روايات أخرى أيضا من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

وما استشكل به بعضهم في مضمون الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مصونا من تأثير السحر كيف؟ وقد قال الله تعالى: ﴿وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا﴾ الفرقان: 9.

يدفعه أن مرادهم بالمسحور والمجنون بفساد العقل بالسحر وأما تأثره عن السحر بمرض يصيبه في بدنه ونحوه فلا دليل على مصونيته منه.

وفي المجمع، وروي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كثيرا ما يعوذ الحسن والحسين (عليهما السلام) بهاتين السورتين.

وفيه، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنزلت علي آيات لم ينزل مثلهن المعوذتان، أورده في الصحيح.

أقول: وأسندها في الدر المنثور، إلى الترمذي والنسائي وغيرهما أيضا، وروي ما في معناه أيضا عن الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود، ولعل المراد من عدم نزول مثلهن أنهما في العوذة فقط ولا يشاركهما في ذلك غيرهما من السور.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن عباس وابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله إنما أمر النبي أن يتعوذ بهما، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما.

أقول: ثم قال السيوطي قال البزار: ولم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قرأ بهما في الصلاة وقد أثبتنا في المصحف انتهى.

وفي تفسير القمي، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) إن ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف.

فقال: كان أبي يقول: إنما فعل ذلك ابن مسعود برأيه وهو هماظ من القرآن.

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين على أن هناك تواترا قطعيا من عامة المنتحلين بالإسلام على كونهما من القرآن، وقد استشكل بعض المنكرين لإعجاز القرآن أنه لو كان معجزا في بلاغته لم يختلف في كون السورتين من القرآن مثل ابن مسعود، وأجيب بأن التواتر القطعي كاف في ذلك على أنه لم ينقل عنه أحد أنه قال بعدم نزولهما على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو قال بعدم كونهما معجزتين في بلاغتهما بل قال بعدم كونهما جزء من القرآن وهو محجوج بالتواتر.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الفلق جب في جهنم مغطى.

أقول: وفي معناه غير واحد من الروايات في بعضها: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): باب في النار إذ فتح سعرت جهنم: رواه عقبة بن عامر، وفي بعضها: بئر في جهنم إذا سعرت جهنم فمنه تسعر، رواه عمرو بن عنبسة إلى غير ذلك.

وفي المجمع، وقيل: الفلق جب في جهنم يتعوذ أهل جهنم من شدة حره: عن السدي ورواه أبو حمزة الثمالي وعلي بن إبراهيم في تفسيرهما.

وفي تفسير القمي، عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد أن يغلب القدر.

أقول: الرواية مروية بلفظها عن أنس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي العيون، بإسناده عن السلطي عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كاد الحسد أن يسبق القدر.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الحسد ليأكل الحسنات كما يأكل النار الحطب.