الآيات 1-7

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴿1﴾ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿2﴾ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴿3﴾ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿4﴾ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿5﴾ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ﴿6﴾ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿7﴾

بيان:

مضامين آيات السورة بفصولها المختلفة ظاهرة الانطباق على قصة صلح الحديبية الواقعة في السنة السادسة من الهجرة وما وقع حولها من الوقائع كقصة تخلف الأعراب وصد المشركين، وبيعة الشجرة على ما تفصله الآثار وسيجيء شطر منها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

فغرض السورة بيان ما امتن الله تعالى على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما رزقه من الفتح المبين في هذه السفرة، وعلى المؤمنين ممن معه، ومدحهم البالغ، والوعد الجميل للذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات، والسورة مدنية.

قوله تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا﴾ كلام واقع موقع الامتنان، وتأكيد الجملة بإن ونسبة الفتح إلى نون العظمة وتوصيفه بالمبين كل ذلك للاعتناء بشأن الفتح الذي يمتن به.

والمراد بهذا الفتح على ما تؤيده قرائن الكلام هو ما رزق الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفتح في صلح الحديبية.

وذلك أن ما سيأتي في آيات السورة من الامتنان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، ومدحهم والرضا عن بيعتهم ووعدهم الجميل في الدنيا بمغانم عاجلة وآجلة وفي الآخرة بالجنة وذم المخلفين من الأعراب إذ استنفرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يخرجوا معه، وذم المشركين في صدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه، وذم المنافقين، وتصديقه تعالى رؤيا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله: ﴿فعلم ما لم تعلموا وجعل من دون ذلك فتحا قريبا﴾ - وكاد يكون صريحا - كل ذلك معان مرتبطة بخروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة للحج وانتهاء ذلك إلى صلح الحديبية.

وأما كون هذا الصلح فتحا مبينا رزقه الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فظاهر بالتدبر في لحن آيات السورة في هذه القصة فقد كان خروج النبي والمؤمنين إلى هذه البغية خروجا على خطر عظيم لا يرجى معه رجوعهم إلى المدينة عادة كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا﴾ والمشركون من صناديد قريش ومن يتبعهم على ما لهم من الشوكة والقوة والعداوة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين لم يتوسط بينهم منذ سنين إلا السيف ولم يجمعهم جامع غير معركة القتال كغزوة بدر وأحد والأحزاب، ولم يخرج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا شرذمة قليلون - ألف وأربعمائة - لا قدر لهم عند جموع المشركين وهم في عقر دارهم.

لكن الله سبحانه قلب الأمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين على المشركين فرضوا بما لم يكن مطموعا فيه متوقعا منهم فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصالحهم على ترك القتال عشر سنين، وعلى تأمين كل من القبيلين أتباع الآخر ومن لحق به، وعلى أن يرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة عامة هذا ثم يقدم إلى مكة العام القابل فيخلوا له المسجد والكعبة ثلاثة أيام.

وهذا من أوضح الفتح رزقه الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان من أمس الأسباب بفتح مكة سنة ثمان من الهجرة فقد آمن جمع كثير من المشركين في السنتين بين الصلح وفتح مكة، وفتح في أوائل سنة سبع خيبر وما والاه وقوي به المسلمون واتسع الإسلام اتساعا بينا وكثر جمعهم وانتشر صيتهم وأشغلوا بلادا كثيرة، وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفتح مكة في عشرة آلاف أو في اثني عشر ألفا، وقد كان خرج إلى حديبية في ألف وأربعمائة على ما تفصله الآثار.

وقيل: المراد بالفتح فتح مكة فالمراد بقوله: ﴿إنا فتحنا لك﴾ إنا قضينا لك فتح مكة، وفيه أن القرائن لا تساعده.

وقيل: المراد به فتح خيبر، ومعناه - على تقدير نزول السورة عند مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية إلى المدينة - أنا قضينا لك فتح خيبر، وحال هذا القول أيضا كسابقه.

وقيل: المراد به الفتح المعنوي وهو الظفر على الأعداء بالحجج البينة والمعجزات الباهرة التي غلب بها كلمة الحق على الباطل وظهر الإسلام على الدين كله، وهذا الوجه وإن كان في نفسه لا بأس به لكن سياق الآيات لا يلائمه.

قوله تعالى: ﴿ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا﴾ اللام في قوله: ﴿ليغفر﴾ للتعليل على ما هو ظاهر اللفظ فظاهره أن الغرض من هذا الفتح المبين هو مغفرة ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ومن المعلوم أن لا رابطة بين الفتح وبين مغفرة الذنب ولا معنى معقولا لتعليله بالمغفرة.

وقول بعضهم فرارا عن الإشكال: أن اللام المكسورة في ﴿ليغفر﴾ لام القسم والأصل ليغفرن حذفت نون التوكيد وبقي ما قبلها مفتوحا للدلالة على المحذوف غلط لا شاهد عليه من الاستعمال.

وكذا قول بعض آخر فرارا عن الإشكال: أن العلة هو مجموع المغفرة وما عطف عليه من إتمام النعمة والهداية والنصر العزيز من حيث المجموع فلا ينافي عدم كون البعض أي مغفرة الذنب في نفسه علة للفتح كلام سخيف لا يغني طائلا فإن مغفرة الذنب لا هي علة أو جزء علة للفتح ولا مرتبطة نوع ارتباط بما عطف عليها حتى يوجه دخولها في ضمن علله فلا مصحح لذكرها وحدها ولا مع العلل وفي ضمنها.

وبالجملة هذا الإشكال نعم الشاهد على أن ليس المراد بالذنب في الآية هو الذنب المعروف وهو مخالفة التكليف المولوي، ولا المراد بالمغفرة معناها المعروف وهو ترك العقاب على المخالفة المذكورة فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته هو العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان، والمغفرة هي الستر على الشيء، وأما المعنيان المذكوران المتبادران من لفظي الذنب والمغفرة إلى أذهاننا اليوم أعني مخالفة الأمر المولوي المستتبع للعقاب وترك العقاب عليها فإنما لزماهما بحسب عرف المتشرعين.

وقيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة ونهضته على الكفر والوثنية فيما تقدم على الهجرة وإدامته ذلك وما وقع له من الحروب والمغازي مع الكفار والمشركين فيما تأخر عن الهجرة كان عملا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذا تبعة سيئة عند الكفار والمشركين وما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة ومقدرة، وما كانوا لينسوا زهوق ملتهم وانهدام سنتهم وطريقتهم، ولا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه وإمحاء اسمه وإعفاء رسمه غير أن الله سبحانه رزقه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الفتح وهو فتح مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة فذهب بشوكتهم وأخمد نارهم فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الذنب وآمنه منهم.

فالمراد بالذنب - والله أعلم - التبعة السيئة التي لدعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الكفار والمشركين وهو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربه: ﴿ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون﴾ الشعراء: 14، وما تقدم من ذنبه هو ما كان منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة، وما تأخر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة، ومغفرته تعالى لذنبه هي سترة عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم وهدم بنيتهم، ويؤيد ذلك ما يتلوه من قوله: ﴿ويتم نعمته عليك - إلى أن قال - وينصرك الله نصرا عزيزا﴾.

وللمفسرين في الآية مذاهب مختلفة أخر: فمن ذلك: أن المراد بذنبه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما صدر عنه من المعصية، والمراد بما تقدم منه.

وما تأخر ما صدر عنه قبل النبوة وبعدها، وقيل: ما صدر قبل الفتح وما صدر بعده.

وفيه أنه مبني على جواز صدور المعصية عن الأنبياء (عليهم السلام) وهو خلاف ما يقطع به الكتاب والسنة والعقل من عصمتهم (عليهم السلام) وقد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من الكتاب وغيره.

على أن إشكال عدم الارتباط بين الفتح والمغفرة على حاله.

ومن ذلك: أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر مغفرة ما وقع من معصيته وما لم يقع بمعنى الوعد بمغفرة ما سيقع منه إذا وقع لئلا يرد الإشكال بأن مغفرة ما لم يتحقق من المعصية لا معنى له.

وفيه مضافا إلى ورود ما ورد على سابقه عليه أن مغفرة ما سيقع من المعصية قبل وقوعه تلازم ارتفاع التكاليف عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عامة، ويدفعه نص كلامه تعالى في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين﴾ الزمر: 2، وقوله: ﴿وأمرت لأن أكون أول المسلمين﴾ الزمر: 12، إلى غير ذلك من الآيات التي تأبى بسياقها التخصيص.

على أن من الذنوب والمعاصي مثل الشرك بالله وافتراء الكذب على الله والاستهزاء بآيات الله والإفساد في الأرض وهتك المحارم، وإطلاق مغفرة الذنوب يشملها ولا معنى لأن يبعث الله عبدا من عباده فيأمره أن يقيم دينه على ساق ويصلح به الأرض فإذا فتح له ونصره وأظهره على ما يريد يجيز له مخالفة ما أمره وهدم ما بناه وإفساد ما أصلحه بمغفرة كل مخالفة ومعصية منه والعفو عن كل ما تقوله وافتراه على الله، وفعله تبليغ كقوله، وقد قال تعالى: ﴿ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين﴾ الحاقة: 46.

ومن ذلك: قول بعضهم: إن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه مغفرة ما تقدم من ذنب أبويه آدم وحواء (عليهما السلام) ببركته (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد بمغفرة ما تأخر منه مغفرة ذنوب أمته بدعائه.

وفيه ورود ما ورد على ما تقدم عليه.

ومن ذلك: أن الكلام في معنى التقدير وإن كان في سياق التحقيق والمعنى: ليغفر لك الله قديم ذنبك وحديثه لو كان لك ذنب.

وفيه أنه أخذ بخلاف الظاهر من غير دليل.

ومن ذلك: أن القول خارج مخرج التعظيم وحسن الخطاب والمعنى: غفر الله لك كما في قوله تعالى: ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم﴾ التوبة: 43.

وفيه أن العادة جرت في هذا النوع من الخطاب أن يورد بلفظ الدعاء.

كما قيل.

ومن ذلك: أن المراد بالذنب في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك الأولى وهو مخالفة الأوامر الإرشادية دون التمرد عن امتثال التكاليف المولوية، والأنبياء على ما هم عليه من درجات القرب يؤاخذون على ترك ما هو أولى كما يؤاخذ غيرهم على المعاصي المعروفة كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ومن ذلك: ما ارتضاه جمع من أصحابنا من أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر مغفرة ما تقدم من ذنوب أمته وما تأخر منها بشفاعته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا ضير في إضافة ذنوب أمته (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه للاتصال والسبب بينه وبين أمته.

وهذا الوجه والوجه السابق عليه سليمان عن عامة الإشكالات لكن إشكال عدم الارتباط بين الفتح والمغفرة على حاله.

ومن ذلك: ما عن علم الهدى رحمه الله إن الذنب مصدر، والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول، والمراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك من مكة وصدهم لك عن المسجد الحرام، ويكون معنى المغفرة على هذا الإزالة والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين أي يزيل الله تعالى ذلك عنك ويستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكة فتدخلها فيما بعد.

وهذا الوجه قريب المأخذ مما قدمنا من الوجه، ولا بأس به لو لم يكن فيه بعض المخالفة لظاهر الآية.

وفي قوله: ﴿ليغفر لك الله﴾ إلخ، بعد قوله: ﴿إنا فتحنا لك﴾ التفات من التكلم إلى الغيبة ولعل الوجه فيه أن محصل السورة امتنانه تعالى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بما رزق من الفتح وإنزال السكينة والنصر وسائر ما وعدهم فيها فناسب أن يكون السياق الجاري في السورة سياق الغيبة ويذكر تعالى فيها باسمه وينسب إليه النصر بما يعبده نبيه والمؤمنون وحده قبال ما لا يعبده المشركون وإنما يعبدون آلهة من دونه طمعا في نصرهم ولا ينصرونهم.

وأما سياق التكلم مع الغير المشعر بالعظمة في الآية الأولى فلمناسبته ذكر الفتح فيها ويجري الكلام في قوله تعالى الآتي: ﴿إنا أرسلناك شاهدا﴾ الآية.

وقوله: ﴿ويتم نعمته عليك﴾ قيل: أي يتمها عليك في الدنيا بإظهارك على عدوك وإعلاء أمرك وتمكين دينك، وفي الآخرة برفع درجتك، وقيل: أي يتمها عليك بفتح خيبر ومكة والطائف.

وقوله: ﴿ويهديك صراطا مستقيما﴾ قيل: أي ويثبتك على صراط يؤدي بسالكه إلى الجنة، وقيل: أي ويهديك إلى مستقيم الصراط في تبليغ الأحكام وإجراء الحدود.

وقوله: ﴿وينصرك الله نصرا عزيزا﴾ قيل: النصر العزيز هو ما يمتنع به من كل جبار عنيد وعات مريد، وقد فعل بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك إذ جعل دينه أعز الأديان وسلطانه أعظم السلطان، وقيل: المراد بالنصر العزيز ما هو نادر الوجود قليل النظير أو عديمه ونصره تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك كما يظهر بقياس حاله في أول بعثته إلى حاله في آخر أيام دعوته.

والتدبر في سياق الآيتين بالبناء على ما تقدم من معنى قوله: ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ يعطي أن يكون المراد بقوله: ﴿ويتم نعمته عليك﴾ هو تمهيده تعالى له (صلى الله عليه وآله وسلم) لتمام الكلمة وتصفيته الجو لنصره نصرا عزيزا بعد رفع الموانع بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وبقوله: ﴿ويهديك صراطا مستقيما﴾ هدايته (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد تصفية الجو له إلى الطريق الموصل إلى الغاية الذي سلكه بعد الرجوع من الحديبية من فتح خيبر وبسط سلطة الدين في أقطار الجزيرة حتى انتهى إلى فتح مكة والطائف.

وبقوله: ﴿وينصرك الله نصرا عزيزا﴾ نصره له (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك النصر الظاهر الباهر الذي قلما يوجد - أو لا يوجد - له نظير إذ فتح له مكة والطائف وانبسط الإسلام في أرض الجزيرة وانقلع الشرك وذل اليهود وخضع له نصارى الجزيرة والمجوس القاطنون بها، وأكمل تعالى للناس دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا.

قوله تعالى: ﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم﴾ إلخ، الظاهر أن المراد بالسكينة سكون النفس وثباتها واطمئنانها إلى ما آمنت به، ولذا علل إنزالها فيها بقوله: ﴿ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم﴾ وقد تقدم البحث عن السكينة في ذيل قوله تعالى: ﴿أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم﴾ البقرة: 248 في الجزء الثاني من الكتاب وذكرنا هناك أنها تنطبق على روح الإيمان المذكور في قوله تعالى: ﴿وأيدهم بروح منه﴾ المجادلة: 22.

وقيل: السكينة هي الرحمة، وقيل: العقل، وقيل: الوقار والعصمة لله ولرسوله، وقيل: الميل إلى ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: ملك يسكن قلب المؤمن، وقيل: شيء له رأس كرأس الهرة، وهذه الأقاويل لا دليل على شيء منها.

والمراد بإنزال السكينة في قلوبهم إيجادها فيها بعد عدمها فكثيرا ما يعبر في القرآن عن الخلق والإيجاد بالإنزال كقوله: ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج﴾ الزمر: 6، وقوله: ﴿وأنزلنا الحديد﴾ الحديد: 25، وقوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر: 21.

وإنما عبر عن الخلق والإيجاد بالإنزال للإشارة إلى علو مبدئه.

وقيل: المراد بالإنزال الإسكان والإقرار من قولهم: نزل في مكان كذا أي حط رحله فيه وأنزلته فيه أي حططت رحله فيه هذا.

وهو معنى غير معهود في كلامه تعالى مع كثرة وروده فيه، ولعل الباعث لهم على اختيار هذا المعنى تعديته في الآية بلفظة ﴿في﴾ إذ قال: ﴿أنزل السكينة في قلوب المؤمنين﴾ لكنه عناية كلامية لوحظ فيها تعلق السكينة بالقلوب تعلق الاستقرار فيها كما لوحظ تعلقها تعلق الوقوع عليها من علو في قوله الآتي: ﴿فأنزل السكينة عليهم﴾ الآية وقوله: ﴿فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ الآية.

والمراد بزيادة الإيمان اشتداده فإن الإيمان بشيء هو العلم به مع الالتزام بحيث يترتب عليه آثاره العملية، ومن المعلوم أن كلا من العلم والالتزام المذكورين مما يشتد ويضعف فالإيمان الذي هو العلم المتلبس بالالتزام يشتد ويضعف.

فمعنى الآية: الله الذي أوجد الثبات والاطمئنان الذي هو لازم مرتبة من مراتب الروح في قلوب المؤمنين ليشتد به الإيمان الذي كان لهم قبل نزول السكينة فيصير أكمل مما كان قبله.

كلام في الإيمان وازدياده الإيمان بالشيء ليس مجرد العلم الحاصل به كما يستفاد من أمثال قوله تعالى: ﴿إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى﴾ سورة محمد: 25، وقوله: ﴿إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى﴾ محمد: 32، وقوله: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم﴾ النمل: 14، وقوله: ﴿وأضله الله على علم﴾ الجاثية: 23، فالآيات - كما ترى - تثبت الارتداد والكفر والجحود والضلال مع العلم.

فمجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقا لا يكفي في حصول الإيمان واتصاف من حصل له به، بل لا بد من الالتزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه بحيث يترتب عليه آثاره العملية ولو في الجملة، فالذي حصل له العلم بأن الله تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه وهو عبوديته وعبادته وحده كان مؤمنا ولو علم به ولم يلتزم فلم يأت بشيء من الأعمال المظهرة للعبودية كان عالما وليس بمؤمن.

ومن هنا يظهر بطلان ما قيل: إن الإيمان هو مجرد العلم والتصديق وذلك لما مر أن العلم ربما يجامع الكفر.

ومن هنا يظهر أيضا بطلان ما قيل: إن الإيمان هو العمل، وذلك لأن العمل يجامع النفاق فالمنافق له عمل وربما كان ممن ظهر له الحق ظهورا علميا ولا إيمان له على أي حال.

وإذ كان الإيمان هو العلم بالشيء مع الالتزام به بحيث يترتب عليه آثاره العملية، وكل من العلم والالتزام مما يزداد وينقص ويشتد ويضعف كان الإيمان المؤلف منهما قابلا للزيادة والنقيصة والشدة والضعف فاختلاف المراتب وتفاوت الدرجات من الضروريات التي لا يشك فيها قط.

هذا ما ذهب إليه الأكثر وهو الحق ويدل عليه من النقل قوله تعالى: ﴿ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم﴾ وغيره من الآيات، وما ورد من أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الدالة على أن الإيمان ذو مراتب.

وذهب جمع منهم أبو حنيفة وإمام الحرمين وغيرهما إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واحتجوا عليه بأن الإيمان اسم للتصديق البالغ حد الجزم والقطع وهو مما لا يتصور فيه الزيادة والنقصان فالمصدق إذا ضم إلى تصديقه الطاعات أو ضم إليه المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا.

وأولوا ما دل من الآيات على قبوله الزيادة والنقصان بأن الإيمان عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد الأمثال فهو بحسب انطباقه على الزمان بأمثاله المتجددة يزيد وينقص كوقوعه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا على التوالي من غير فترة متخللة وفي غيره بفترات قليلة أو كثيرة فالمراد بزيادة الإيمان توالي أجزاء الإيمان من غير فترة أصلا أو بفترات قليلة.

وأيضا للإيمان كثرة بكثرة ما يؤمن به، وشرائع الدين لما كانت تنزل تدريجا والمؤمنون يؤمنون بما ينزل منها وكان يزيد عدد الأحكام حينا بعد حين كان إيمانهم أيضا يزيد تدريجا، وبالجملة المراد بزيادة الإيمان كثرته عددا.

وهو بين الضعف، أما الحجة ففيها أولا: أن قولهم: الإيمان اسم للتصديق الجازم ممنوع بل هو اسم للتصديق الجازم الذي معه الالتزام كما تقدم بيانه اللهم إلا أن يكون مرادهم بالتصديق العلم مع الالتزام.

وثانيا: أن قولهم: إن هذا التصديق لا يختلف بالزيادة والنقصان دعوى بلا دليل بل مصادرة على المطلوب وبناؤه على كون الإيمان عرضا وبقاء الأعراض على نحو تجدد الأمثال لا ينفعهم شيئا فإن من الإيمان ما لا تحركه العواصف ومنه ما يزول بأدنى سبب يعترض وأوهن شبهة تطرأ، وهذا مما لا يعلل بتجدد الأمثال وقلة الفترات وكثرتها بل لا بد من استناده إلى قوة الإيمان وضعفه سواء قلنا بتجدد الأمثال أم لا.

مضافا إلى بطلان تجدد الأمثال على ما بين في محله.

وقولهم: إن المصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ضم إليه المعاصي لم يتغير حاله أصلا ممنوع فقوة الإيمان بمزاولة الطاعات وضعفها بارتكاب المعاصي مما لا ينبغي الارتياب فيه، وقوة الأثر وضعفه كاشفة عن قوة مبدإ الأثر وضعفه، قال تعالى: ﴿إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾ فاطر: 10، وقال: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون﴾ الروم: 10.

وأما ما ذكروه من التأويل فأول التأويلين يوجب كون من لم يستكمل الإيمان وهو الذي في قلبه فترات خالية من أجزاء الإيمان على ما ذكروه مؤمنا وكافرا حقيقة وهذا مما لا يساعده ولا يشعر به شيء من كلامه تعالى.

وأما قوله تعالى: ﴿ولا يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ يوسف: 106، فهو إلى الدلالة على كون الإيمان مما يزيد وينقص أقرب منه إلى الدلالة على نفيه فإن مدلوله أنهم مؤمنون في حال أنهم مشركون فإيمانهم إيمان بالنسبة إلى الشرك المحض وشرك بالنسبة إلى الإيمان المحض، وهذا معنى قبول الإيمان للزيادة والنقصان.

وثاني التأويلين يفيد أن الزيادة في الإيمان وكثرته إنما هي بكثرة ما تعلق به وهو الأحكام والشرائع المنزلة من عند الله فهي صفة للإيمان بحال متعلقه والسبب في اتصافه بها هو متعلقه، ولو كان هذه الزيادة هي المرادة من قوله: ﴿ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم﴾ كان الأنسب أن تجعل زيادة الإيمان في الآية غاية لتشريع الأحكام الكثيرة وإنزالها لا لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين هذا.

وحمل بعضهم زيادة الإيمان في الآية على زيادة أثره وهو النور المشرق منه على القلب.

وفيه أن زيادة الأثر وقوته فرع زيادة المؤثر وقوته فلا معنى لاختصاص أحد الأمرين المتساويين من جميع الجهات بأثر يزيد على أثر الآخر.

وذكر بعضهم أن الإيمان الذي هو مدخول مع في قوله: ﴿ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم﴾ الإيمان الفطري والإيمان المذكور قبله هو الإيمان الاستدلالي، والمعنى: ليزدادوا إيمانا استدلاليا على إيمانهم الفطري.

وفيه أنه دعوى من غير دليل يدل عليه.

على أن الإيمان الفطري أيضا استدلالي فمتعلق العلم والإيمان على أي حال أمر نظري لا بديهي.

وقال بعضهم كالإمام الرازي: إن النزاع في قبول الإيمان للزيادة والنقص وعدم قبوله نزاع لفظي فمراد النافين عدم قبول أصل الإيمان وهو التصديق ذلك وهو كذلك لعدم قبوله الزيادة والنقصان، ومراد المثبتين قبول ما به كمال الإيمان وهو الأعمال للزيادة والنقصان وهو كذلك بلا شك.

وفيه أولا: أن فيه خلطا بين التصديق والإيمان فالإيمان تصديق مع الالتزام وليس مجرد التصديق فقط كما تقدم بيانه.

وثانيا: أن نسبة نفي الزيادة في أصل الإيمان إلى المثبتين غير صحيحة فهم إنما يثبتون الزيادة في أصل الإيمان، ويرون أن كلا من العلم والالتزام المؤلف منهما الإيمان يقبل القوة والضعف.

وثالثا: أن إدخال الأعمال في محل النزاع غير صحيح لأن النزاع في شيء غير النزاع في أثره الذي به كماله ولا نزاع لأحد في أن الأعمال والطاعات تقبل العد وتقل وتكثر بحسب تكرر الواحد.

وقوله: ﴿ولله جنود السماوات والأرض﴾ الجند هو الجمع الغليظ من الناس إذا جمعهم غرض يعملون لأجله ولذا أطلق على العسكر المجتمعين على إجراء ما يأمر به أميرهم، والسياق يشهد أن المراد بجنود السماوات والأرض الأسباب الموجودة في العالم مما يرى ولا يرى من الخلق فهي وسائط متخللة بينه تعالى وبين ما يريده من شيء تطيعه ولا تعصاه.

وإيراد الجملة أعني قوله: ﴿ولله جنود﴾ إلخ، بعد قوله: ﴿هو الذي أنزل السكينة﴾ إلخ، للدلالة على أن له جميع الأسباب والعلل التي في الوجود فله أن يبلغ إلى ما يشاء بما يشاء ولا يغلبه شيء في ذلك، وقد نسبت إلى زيادة إيمان المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم.

وقوله: ﴿وكان الله عزيزا حكيما﴾ أي منيعا جانبه لا يغلبه شيء متقنا في فعله لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته والجملة بيان تعليلي لقوله: ﴿ولله جنود﴾ إلخ، كما أنه بيان تعليلي لقوله: ﴿هو الذي أنزل السكينة﴾ إلخ، كأنه قيل: أنزل السكينة لكذا وله ذلك لأن له جميع الجنود والأسباب لأنه العزيز على الإطلاق والحكيم على الإطلاق.

قوله تعالى: ﴿ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ إلى آخر الآية، تعليل آخر لقوله: ﴿أنزل السكينة في قلوب المؤمنين﴾ على المعنى كما أن قوله: ﴿ليزدادوا إيمانا﴾ تعليل له بحسب اللفظ كأنه قيل: خص المؤمنين بإنزال السكينة وحرم على غيرهم ذلك ليزداد إيمان هؤلاء مع إيمانهم وحقيقة ذلك أن يدخل هؤلاء الجنة ويعذب أولئك فيكون قوله: ﴿ليدخل﴾ بدلا أو عطف بيان من قوله.

﴿ليزدادوا﴾ إلخ.

وفي متعلق لام ﴿ليدخل﴾ إلخ، أقوال أخر كالقول بتعلقها بقوله: ﴿فتحنا﴾ أو قوله: ﴿يزدادوا﴾ أو بجميع ما تقدم إلى غير ذلك مما لا جدوى لإيراده.

وضم المؤمنات إلى المؤمنين في الآية لدفع توهم اختصاص الجنة وتكفير السيئات بالذكور لوقوع الآية في سياق الكلام في الجهاد، والجهاد والفتح واقعان على أيديهم فصرح باسم المؤمنات لدفع التوهم كما قيل.

وضمير ﴿خالدين﴾ و﴿يكفر عنهم سيئاتهم﴾ للمؤمنين والمؤمنات جميعا على التغليب.

وقوله: ﴿وكان ذلك عند الله فوزا عظيما﴾ بيان لكون ذلك سعادة حقيقية لا ريب فيها لكونه عند الله كذلك وهو يقول الحق.

قوله تعالى: ﴿ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ إلى آخر الآية معطوف على قوله: ﴿يدخل﴾ بالمعنى الذي تقدم، وتقديم المنافقين والمنافقات على المشركين والمشركات في الآية لكونهم أضر على المسلمين من أهل الشرك ولأن عذاب أهل النفاق أشد قال تعالى: ﴿إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار﴾.

وقوله: ﴿الظانين بالله ظن السوء﴾ السوء بالفتح فالسكون مصدر بمعنى القبح والسوء بالضم اسم مصدر، وظن السوء هو ظنهم أن الله لا ينصر رسوله وقيل: المراد بظن السوء ما يعم ذلك وسائر ظنونهم السيئة من الشرك والكفر.

وقوله: ﴿عليهم دائرة السوء﴾ دعاء عليهم أو قضاء عليهم أي ليستضروا بدائرة السوء التي تدور لتصيب من تصيب من الهلاك والعذاب.

وقوله: ﴿وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم﴾ معطوف على قوله: ﴿عليهم دائرة﴾ إلخ، وقوله: ﴿وساءت مصيرا﴾ بيان مساءة مصيرهم، كما أن قوله: ﴿وكان ذلك عند الله فوزا عظيما﴾ بيان لحسن مصير أهل الإيمان.

قوله تعالى: ﴿ولله جنود السماوات والأرض﴾ تقدم معناه، والظاهر أنه بيان تعليلي للآيتين أعني قوله: ﴿ليدخل المؤمنين والمؤمنات﴾ إلى قوله ﴿وأعد لهم جهنم﴾ على حذو ما كان مثله فيما تقدم بيانا تعليليا لقوله: ﴿أنزل السكينة في قلوب المؤمنين﴾ إلخ.

وقيل: إن مضمونه متعلق بالآية الأخيرة فهو تهديد لهم أنهم في قبضة قدرته فينتقم منهم، والوجه الأول أظهر.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا﴾ حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان سبب نزول هذه الآية وهذا الفتح العظيم أن الله جل وعز أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في النوم أن يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلق مع المحلقين فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج فخرجوا.

فلما نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة وساقوا البدن وساق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة وستين بدنة وأحرموا من ذي الحليفة ملبين بالعمرة وقد ساق من ساق منهم الهدي معرات مجللات.

فلما بلغ قريشا بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا يستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يعارضه على الجبال فلما كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم لأنهم لا يقطعون صلاتهم ولكن تجيء الآن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصلاة الخوف في قوله عز وجل: ﴿فإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة﴾ الآية.

قال: فلما كان في اليوم الثاني نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحديبية، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستنفر الأعراب في طريقه فلم يتبعه أحد ويقولون: أ يطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، أنه لا يرجع محمد وأصحابه إلى المدينة أبدا.

وفي المجمع، قال ابن عباس: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج يريد مكة فلما بلغ الحديبية وقفت ناقته فزجرها فلم تنزجر وبركت الناقة فقال أصحابه: خلأت الناقة، فقال: ما هذا لها عادة ولكن حبسها حابس الفيل.

ودعا عمر بن الخطاب ليرسله إلى أهل مكة ليأذنوا له بأن يدخل مكة ويحل من عمرته وينحر هديه فقال: يا رسول الله ما لي بها حميم وإني أخاف قريشا لشدة عداوتي إياها ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان فقال: صدقت.

فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عثمان فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين أن عثمان قد قتل.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا الناس إلى البيعة فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الشجرة واستند إليها وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفروا.

قال عبد الله بن مغفل: كنت قائما على رأس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك اليوم وبيدي غصن من السمرة أذب عنه وهو يبايع الناس فلم يبايعهم على الموت وإنما بايعهم على أن لا يفروا.

وروى الزهري وعروة بن الزبير والمسور بن مخرمة قالوا: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش.

وسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا جموعا وهم قاتلوك أو مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): روحوا فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين.

فسار حتى إذا كان بالثنية بركت راحلته فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما خلأت القصواء ولكن حبسها حابس الفيل.

ثم قال: والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت به.

قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضا فشكوا إليه العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه في الماء فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.

فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا لم نجىء لقتال أحد وإنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلو بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذ الله تعالى أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.

فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وأنه يقول: كذا وكذا فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته فقالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نحوا من قوله لبديل.

فقال عروة عند ذلك: أي محمد أ رأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أشابا من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات أ نحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قال: أبو بكر.

قال: أما والذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

قال: وجعل يكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن لا ترجع إليك، فقال: من هذا؟ قال المغيرة بن شعبة.

قال: أي غدر أولست أسعى في غدرتك.

قال: وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم.

ثم جاء فأسلم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدر لا حاجة لنا فيه.

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابتدروا أمره، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له.

قال: فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها فبعثت له واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.

فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): قد سهل عليكم أمركم فقال: اكتب بيننا وبينك كتابا.

فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم فقال المسلمون: والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اكتب باسمك اللهم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لرسول الله وإن كذبتموني ثم قال لعلي امح رسول الله فقال: يا رسول الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة فأخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمحاه.

ثم قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض وعلى أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام فهو آمن على دمه وماله، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهده دخل فيه.

فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): على أن تخلو بيننا وبين البيت فنطوف فقال سهيل: والله ما تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل.

فكتب فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ومن جاءنا ممن معك لم نرده عليك فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا.

فقال سهيل: وعلى أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا ولا تدخلها بالسلاح إلا السيوف في القراب وسلاح الراكب، وعلى أن هذا الهدي حيث ما حبسناه محله لا تقدمه علينا فقال: نحن نسوق وأنتم تردون.

فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا لم نقض بالكتاب بعد.

قال: والله إذا لا أصالحك على شيء أبدا فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فأجره لي فقال: ما أنا بمجيره لك قال: بلى فافعل، قال ما أنا بفاعل.

قال مكرز: بلى قد أجرناه، قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما أ لا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا.

فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: ألست نبي الله؟ فقال: بلى.

قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف حقا؟ قال: بلى أ فأخبرتك أن نأتيه العام؟ قلت: لا.

قال: فإنك تأتيه وتطوف به فنحر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدنة فدعا بحالقه فحلق شعره ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات﴾ الآية.

قال محمد بن إسحاق بن يسار: وحدثني بريدة بن سفيان عن محمد بن كعب: أن كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصلح كان علي بن أبي طالب فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو فجعل علي يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا محمد رسول الله فقال رسول الله: فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد، فكتب ما قالوا.

ثم رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلا يأكلان من تمر لهم قال أبو بصير لأحد الرجلين: وإني لأرى سيفك جيدا جدا فاستله فقال: أجل إنه لجيد وجربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد وفر الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول.

قال: فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله قد أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر.

وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت عليه عصابة.

قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش قد خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم فأتوه.

وفي تفسير القمي، في حديث طويل أوردنا صدره في أول البحث قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه بعد ما كتب الكتاب: انحروا بدنكم واحلقوا رءوسكم فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة فاغتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشكا ذلك إلى أم سلمة فقالت: يا رسول الله انحر أنت واحلق فنحر رسول الله وحلق فنحر القوم على حيث يقين وشك وارتياب.

أقول: وهو مروي في روايات أخر من طرق الشيعة وأهل السنة.

وهذا الذي رواه الطبرسي مأخوذ مع تلخيص ما عما رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن مروان والمسور.

وفي الدر المنثور، أخرج البيهقي عن عروة قال: أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا وعكف رسول الله بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا.

فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قول رجال من أصحابه: إن هذا ليس بفتح فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بئس الكلام.

هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإياب وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح.

أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أ نسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟.

قال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا فأنزل الله سورة الفتح.

أقول: والأحاديث في قصة الحديبية كثيرة وما أوردناه طرف منها.

وفي تفسير القمي، بإسناده إلى عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله في كتابه: ﴿ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ قال: ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفر لها.

وفي العيون، في مجلس الرضا مع المأمون بإسناده إلى ابن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، إلى أن قال قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾.

قال الرضا (عليه السلام): لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق فلما فتح الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة قال: يا محمد إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند مشركي مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم، وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم.

فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.

وفي تفسير العياشي، عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم﴾ حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

أقول: وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا، والحديث لا يخلو من شيء لأنه مبنى على كون المراد بالذنب في الآية هو المعصية المنافية للعصمة.

وفي الكافي، بإسناده إلى جميل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين﴾ قال: الإيمان قال عز من قائل: ﴿ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم﴾.

أقول: ظاهر الرواية أنه (عليه السلام) أخذ قوله تعالى في الآية: ﴿ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم﴾ تفسيرا للسكينة، وفي معنى الرواية روايات أخر.

وفيه، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أيها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: ما لا يقبل الله شيئا إلا به.

قلت: وما هو؟ قال: الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظا.

قال: قلت: ألا تخبرني عن الإيمان أ قول هو وعمل أم قول بلا عمل؟ قال: الإيمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بين في كتابه واضح نوره ثابتة حجته يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه.

قال: قلت: صف لي جعلت فداك حتى أفهمه قال: الإيمان حالات ودرجات وصفات ومنازل فمنه التام المنتهي تمامه ومنه الناقص المبين نقصانه ومنه الراجح الزائد رجحانه.

قلت: إن الإيمان ليتم وينقص ويزيد؟ قال: نعم.

قلت: كيف ذلك؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها فمن لقي الله عز وجل حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عز وجل عليها لقي الله مستكملا لإيمانه وهو من أهل الجنة، ومن خان في شيء منها أو تعدى ما أمر الله عز وجل فيها لقي الله عز وجل ناقص الإيمان.

قلت: وقد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عز وجل: ﴿وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول - أيكم زادته هذه إيمانا - فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون - وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم﴾ وقال: ﴿نحن نقص عليك نبأهم بالحق - إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾.

ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرطون النار.