الآيات32-46
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ﴿32﴾ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴿33﴾ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴿34﴾ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴿35﴾ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ﴿36﴾ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴿37﴾ لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿38﴾ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴿39﴾ فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ﴿40﴾ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ﴿41﴾ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿42﴾ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ﴿43﴾ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴿44﴾ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ﴿45﴾ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴿46﴾
بيان:
الآيات تتضمن مثلين يبينان حقيقة ما يملكه الإنسان في حياته الدنيا من الأموال والأولاد وهي زخارف الحياة وزيناتها الغارة السريعة الزوال والفناء التي تتزين بها للإنسان فتلهيه عن ذكر ربه وتجذب وهمه إلى أن يخلد إليها ويعتمد عليها فيخيل إليه أنه يملكها ويقدر عليها حتى إذا طاف عليها طائف من الله سبحانه فنت وبادت ولم يبق للإنسان منها إلا كحلمة نائم وأمنية كاذبة.
فالآيات ترجع الكلام إلى توضيح ما أشار سبحانه إليه في قوله: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا﴾ من الحقيقة.
قوله تعالى: ﴿واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب﴾ إلخ أي واضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الحياة الدنيا المعرضين عن ذكر الله مثلا ليتبين لهم أنهم لم يتعلقوا في ذلك إلا بسراب وهمي لا واقع له.
وقد ذكر بعض المفسرين أن الذي يتضمنه المثل قصة مقدرة مفروضة فليس من الواجب أن يتحقق مضمون المثل خارجا، وذكر آخرون أنه قصة واقعة، وقد رووا في ذلك قصصا كثيرة مختلفة لا معول عليها غير أن التدبر في سياق القصة بما فيها من كونهما جنتين اثنتين وانحصار أشجارهما في الكرم والنخل ووقوع الزرع بينهما وغير ذلك يؤيد كونها قصة واقعة.
وقوله: ﴿جنتين من أعناب﴾ أي من كروم فالثمرة كثيرا ما يطلق على شجرتها وقوله: ﴿وحففناهما بنخل﴾ أي جعلنا النخل محيطة بهما حافة من حولهما وقوله: ﴿وجعلنا بينهما زرعا﴾ أي بين الجنتين ووسطهما، وبذلك تواصلت العمارة وتمت واجتمعت له الأقوات والفواكه.
قوله تعالى: ﴿كلتا الجنتين آتت أكلها﴾ الآية الأكل بضمتين المأكول والمراد بإيتائهما الأكل إثمار أشجارهما من الأعناب والنخيل.
وقوله: ﴿ولم تظلم منه شيئا﴾ الظلم النقص، والضمير للأكل أي ولم تنقص من أكله شيئا بل أثمرت ما في وسعها من ذلك، وقوله: ﴿وفجرنا خلالهما نهرا﴾ أي شققنا وسطهما نهرا من الماء يسقيهما ويرفع حاجتهما إلى الشرب بأقرب وسيلة من غير كلفة.
قوله تعالى: ﴿وكان له ثمر﴾ الضمير للرجل والثمر أنواع المال كما في الصحاح، وعن القاموس، وقيل: الضمير للنخل والثمر ثمره، وقيل: المراد كان للرجل ثمر ملكه من غير جنته.
وأول الوجوه أوجهها ثم الثاني ويمكن أن يكون المراد من إيتاء الجنتين أكلها من غير ظلم بلوغ أشجارهما في الرشد مبلغ الإثمار وأوانه، ومن قوله: ﴿وكان له ثمر﴾ وجود الثمر على أشجارهما بالفعل كما في الصيف وهو وجه خال عن التكلف.
قوله تعالى: ﴿فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا﴾ المحاورة المخاطبة والمراجعة في الكلام، والنفر الأشخاص يلازمون الإنسان نوع ملازمة سموا نفرا لأنهم ينفرون معه ولذلك فسره بعضهم بالخدم والولد، وآخرون بالرهط والعشيرة والأول أوفق بما سيحكيه الله تعالى من قول صاحبه له: ﴿إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا﴾ حيث بدل النفر من الولد، والمعنى فقال الذي جعلنا له الجنتين لصاحبه والحال أنه يحاوره: ﴿أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا﴾ أي ولدا وخدما.
وهذا الذي قاله لصاحبه يحكي عن مزعمة خاصة عنده منحرفة عن الحق فإنه نظر إلى نفسه وهو مطلق التصرف فيما خوله الله من مال وولد لا يزاحم فيما يريده في ذلك فاعتقد أنه مالكه وهذا حق لكنه نسي أن الله سبحانه هو الذي ملكه وهو المالك لما ملكه والذي سخره الله له وسلطه عليه من زينة الحياة الدنيا التي هي فتنة وبلاء يمتحن بها الإنسان ليميز الله الخبيث من الطيب بل اجتذبت الزينة نفسه إليها فحسب أنه منقطع عن ربه مستقل بنفسه فيما يملكه، وأن التأثير كله عند الأسباب الظاهرية التي سخرت له.
فنسي الله سبحانه وركن إلى الأسباب وهذا هو الشرك ثم التفت إلى نفسه فرأى أنه يتصرف في الأسباب مهيمنا عليها فظن ذلك كرامة لنفسه وأخذه الكبر فاستكبر على صاحبه، وإلى ذلك يرجع اختلاف الوصفين أعني وصفه تعالى لملكه إذ قال: ﴿جعلنا لأحدهما جنتين﴾ إلخ ولم يقل: كان لأحدهما جنتان، ووصف الرجل نفسه إذ قال لصاحبه: ﴿أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا﴾ فلم ير إلا نفسه ونسي أن ربه هو الذي سلطه على ما عنده من المال وأعزه بمن عنده من النفر فجرى قوله لصاحبه ﴿أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا﴾ مجرى قول قارون لمن نصحه أن لا يفرح ويحسن بما آتاه الله من المال: ﴿إنما أوتيته على علم﴾ القصص: 78.
وهذا الذي يكشف عنه قوله: ﴿أنا أكثر منك مالا﴾ إلخ أعني دعوى الكرامة النفسية والاستحقاق الذاتي ثم الشرك بالله بالغفلة عنه والركون إلى الأسباب الظاهرية هو الذي أظهره حين دخل جنته فقال كما حكاه الله: ﴿ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال﴾ إلى آخر الآيتين.
الضمائر الأربع راجعة إلى الرجل، والمراد بالجنة جنسها ولذا لم تثن، وقيل: لأن الدخول لا يتحقق في الجنتين معا في وقت واحد، وإنما يكون في الواحدة بعد الواحدة.
وقال في الكشاف، فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما.
وقوله: ﴿وهو ظالم لنفسه﴾ وإنما كان ظالما لأنه تكبر على صاحبه إذ قال: ﴿أنا أكثر منك مالا﴾ إلخ وهو يكشف عن إعجابه بنفسه وشركه بالله بنسيانه والركون إلى الأسباب الظاهرية، وكل ذلك من الرذائل المهلكة.
وقوله: ﴿قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا﴾ البيد والبيدودة الهلاك والفناء والإشارة بهذه إلى الجنة، وفصل الجملة لكونها في معنى جواب سؤال مقدر كأنه لما قيل: ودخل جنته قيل: فما فعل؟ فقيل: قال: ما أظن أن تبيد إلخ.
وقد عبر عن بقاء جنته بقوله: ﴿ما أظن أن تبيد﴾ إلخ ونفي الظن بأمر كناية عن كونه فرضا وتقديرا لا يلتفت إليه حتى يظن به ويمال إليه فمعنى ما أظن أن تبيد هذه أن بقاءه ودوامه مما تطمئن إليه النفس ولا تتردد فيه حتى تتفكر في بيده وتظن أنه سيفنى.
وهذا حال الإنسان فإن نفسه لا تتعلق بالشيء الفاني من جهة أنه متغير يسرع إليه الزوال، وإنما يتعلق القلب عليه بما يشاهد فيه من سمة البقاء كيفما كان فينجذب إليه ولا يلوي عنه إلى شيء من تقادير فنائه، فتراه إذا أقبلت عليه الدنيا اطمأن إليها وأخذ في التمتع بزينتها والانقطاع إليها، واعتورته أهواؤه وطالت آماله كأنه لا يرى لنفسه فناء، ولا لما بيده من النعمة زوالا ولا لما ساعدته عليه من الأسباب انقطاعا، وتراه إذا أدبرت عنه الدنيا أخذه اليأس والقنوط فأنساه كل رجاء للفرج وسجل عليه أنه سيدوم ويدوم عليه الشقاء وسوء الحال.
والسبب في ذلك كله ما أودعه الله في فطرته من التعلق بهذه الزينة الفانية فتنة وامتحانا فإذا أعرض عن ذكر ربه انقطع إلى نفسه والزينة الدنيوية التي بين يديه والأسباب الظاهرية التي أحاطت به وتعلق على حاضر الوضع الذي يشاهده، ودعته جاذبة الزينات والزخارف أن يجمد عليها ولا يلتفت إلى فنائها وهو القول بالبقاء، وكلما قرعته قارعة العقل الفطري أن الدهر سيغدر به، والأسباب ستخذله، وأمتعة الحياة ستودعه، وحياته المؤجلة ستبلغ أجلها، منعه اتباع الأهواء وطول الآمال الإصغاء لها والالتفات إليها.
وهذا شأن أهل الدنيا لا يزالون على تناقض من الرأي يعملون ما يصدقونه بأهوائهم ويكذبونه بعقولهم لكنهم يطمئنون إلى رأي الهوى فيمنعهم عن الالتفات إلى قضاء العقل.
وهذا معنى قولهم بدوام الأسباب الظاهرية وبقاء زينة الحياة الدنيا ولهذا قال فيما حكاه الله: ﴿ما أظن أن تبيد هذه أبدا﴾ ولم يقل: هذه لا تبيد أبدا.
وقوله: ﴿وما أظن الساعة قائمة﴾ هو مبني على ما مر من التأبيد في قوله: ﴿ما أظن أن تبيد هذه أبدا﴾ فإنه يورث استبعاد تغير الوضع الحاضر بقيام الساعة، وكل ما حكاه الله سبحانه من حجج المشركين على نفي المعاد مبني على الاستبعاد كقولهم: ﴿من يحيي العظام وهي رميم﴾ يس: 78 وقولهم: ﴿أإذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد﴾ الم السجدة: 10.
وقوله: ﴿ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا﴾ مبني على ما تقدم من دعوى كرامة النفس واستحقاق الخير، ويورث ذلك في الإنسان رجاء كاذبا بكل خير وسعادة من غير عمل يستدعيه يقول: من المستبعد أن تقوم الساعة ولئن قامت ورددت إلى ربي لأجدن بكرامة نفسي - ولا يقول: يؤتيني ربي - خيرا من هذه الجنة منقلبا أنقلب إليه.
وقد خدعت هذا القائل نفسه فيما ادعت من الكرامة حتى أقسم على ما قال كما يدل عليه لام القسم في قوله: ﴿ولئن رددت﴾ ولام التأكيد ونونها في قوله: ﴿لأجدن﴾ وقال: ﴿رددت﴾ ولم يقل: ردني ربي إليه، وقال: ﴿لأجدن﴾ ولم يقل: آتاني الله.
والآيتان كقوله تعالى: ﴿ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى﴾ حم السجدة: 50.
قوله تعالى: ﴿قال له صاحبه وهو يحاوره أ كفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا﴾ الآية وما بعدها إلى تمام أربع آيات رد من صاحب الرجل يرد به قوله: ﴿أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا﴾ ثم قوله إذ دخل جنته ﴿ما أظن أن تبيد هذه أبدا﴾ وقد حلل الكلام من حيث غرض المتكلم إلى جهتين: إحداهما استعلاؤه على الله سبحانه بدعوى استقلاله في نفسه وفيما يملكه من مال ونفر واستثناؤه بما عنده من القدرة والقوة والثانية استعلاؤه على صاحبه واستهانته به بالقلة والذلة ثم رد كلا من الدعويين بما يحسم مادتها ويقطعها من أصلها فقوله: ﴿أكفرت بالذي خلقك - إلى قوله - إلا بالله﴾ رد لأولى الدعويين، وقوله ﴿إن ترن أنا أقل - إلى قوله - طلبا﴾ رد للثانية.
فقوله: ﴿قال له صاحبه وهو يحاوره﴾ في إعادة جملة ﴿وهو يحاوره﴾ إشارة إلى أنه لم ينقلب عما كان عليه من سكينة الإيمان ووقاره باستماع ما استمعه من الرجل بل جرى على محاورته حافظا آدابه ومن أدبه إرفاقه به في الكلام وعدم خشونته بذكر ما يعد دعاء عليه يسوؤه عادة فلم يذكر ولده بسوء كما ذكر جنته بل اكتفى فيه بما يرمز إليه ما ذكره في جنته من إمكان صيرورتها صعيدا زلقا وغور مائها.
وقوله: ﴿أكفرت بالذي خلقك﴾ إلخ الاستفهام للإنكار ينكر عليه ما اشتمل عليه كلامه من الشرك بالله سبحانه بدعوى الاستقلال لنفسه وللأسباب والمسببات كما تقدمت الإشارة إليه ومن فروع شركه استبعاده قيام الساعة وتردده فيه.
وأما ما ذكره في الكشاف، أنه جعله كافرا بالله جاحدا لأنعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافرا فغير سديد كيف؟ وهو يذكر في استدراكه نفي الشرك عن نفسه، ولو كان كما قال لذكر فيه الإيمان بالمعاد.
فإن قلت: الآيات صريحة في شرك الرجل، والمشركون ينكرون المعاد.
قلت لم يكن الرجل من المشركين بمعنى عبدة الأصنام وقد اعترف في خلال كلامه بما لا تجيزه أصول الوثنية فقد عبر عنه سبحانه بقوله: ﴿ربي﴾ ولا يراه الوثنيون ربا للإنسان ولا إلها معبودا وإنما هو عندهم رب الأرباب وإله الآلهة، ولم ينف المعاد من أصله كما تقدمت الإشارة إليه بل تردد فيه واستبعده بالإعراض عن التفكر فيه ولو نفاه لقال: ولو رددت ولم يقل: ولئن رددت إلى ربي.
فما يذكر لأمره من الأثر السيىء في الآية إنما هو لشركه بمعنى نسيانه ربه ودعواه الاستقلال لنفسه وللأسباب الظاهرية ففيه عزله تعالى عن الربوبية وإلقاء زمام الملك والتدبير إلى غيره فهذا هو أصل الفساد الذي عليه ينشأ كل فرع فاسد سواء اعترف معه بلسانه بالتوحيد أو أنكره وأثبت الآلهة، قال الزمخشري في قوله تعالى: ﴿قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا﴾ ونعم ما قال: وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه.
وقد أبطل هذا المؤمن دعوى صاحبه الكافر بقوله: ﴿أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا﴾ بإلفات نظره إلى أصله وهو التراب ثم النطفة فإن ذلك هو أصل الإنسان فما زاد على ذلك حتى يصير الإنسان إنسانا سويا ذا صفات وآثار من موهبة الله محضا لا يملك أصله شيئا من ذلك، ولا غيره من الأسباب الظاهرية الكونية فإنها أمثال الإنسان لا تملك شيئا من نفسها وآثار نفسها إلا بموهبة من الله سبحانه.
فما عند الإنسان وهو رجل سوي من الإنسانية وآثارها من علم وحياة وقدرة وتدبير يسخر بها الأسباب الكونية في سبيل الوصول إلى مقاصده ومآربه كل ذلك مملوكة لله محضا، آتاها الإنسان وملكه إياها ولم يخرج بذلك عن ملك الله ولا انقطع عنه بل تلبس الإنسان منها بما تلبس فانتسب إليه بمشيته ولو لم يشأ لم يملك الإنسان شيئا من ذلك فليس للإنسان أن يستقل عنه تعالى في شيء من نفسه وآثار نفسه ولا لشيء من الأسباب الكونية ذلك.
يقول: إنك ذاك التراب ثم المني الذي ما كان يملك من الإنسانية والرجولية وآثار ذلك شيئا والله سبحانه هو الذي آتاكها بمشيته وملكها إياك وهو المالك لما ملكك فما لك تكفر به وتستر ربوبيته؟ وأين أنت والاستقلال؟.
قوله تعالى: ﴿لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا﴾ القراءة المشهورة ﴿لكن﴾ بفتح النون المشددة من غير ألف في الوصل وإثباتها وقفا.
وأصله على ما ذكروه ﴿لكن أنا﴾ حذفت الهمزة بعد نقل فتحتها إلى النون وأدغمت النون في النون فالوصل بنون مشددة مفتوحة من غير ألف والوقف بالألف كما في ﴿أنا﴾ ضمير التكلم.
وقد كرر في الآية لفظ ﴿ربي﴾ والثاني من وضع الظاهر موضع المضمر وحق السياق ﴿ولا أشرك به أحدا﴾ وذلك للإشارة إلى علة الحكم بتعليقه بالوصف كأنه قال: ولا أشرك به أحدا لأنه ربي ولا يجوز الإشراك به لربوبيته.
وهذا بيان حال من المؤمن قبال ما ادعاه الكافر لنفسه والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: ﴿ولو لا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله﴾ من تتمة قول المؤمن لصاحبه الكافر، وهو تحضيض وتوبيخ لصاحبه إذ قال لما دخل جنته: ﴿ما أظن أن تبيد هذه أبدا﴾ وكان عليه أن يبدله من قوله: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) فينسب الأمر كله إلى مشية الله ويقصر القوة فيه تعالى مبنيا على ما بينه له أن كل نعمة بمشية الله ولا قوة إلا به.
وقوله: ﴿ما شاء الله﴾ إما على تقدير: الأمر ما شاءه الله، أو على تقدير: ما شاءه الله كائن، وما على التقديرين موصولة ويمكن أن تكون شرطية والتقدير ما شاءه الله كان، والأوفق بسياق الكلام هو أول التقادير لأن الغرض بيان رجوع الأمور إلى مشية الله تعالى قبال من يدعي الاستقلال والاستغناء.
وقوله: ﴿لا قوة إلا بالله﴾ يفيد قيام القوة بالله وحصر كل قوة فيه بمعنى أن ما ظهر في مخلوقاته تعالى من القوة القائمة بها فهو بعينه قائم به من غير أن ينقطع ما أعطاه منه فيستقل به الخلق قال تعالى: ﴿إن القوة لله جميعا﴾ البقرة: 165.
وقد تم بذلك الجواب عما قاله الكافر لصاحبه وما قاله عند ما دخل جنته.
قوله تعالى: ﴿إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى﴾ إلى آخر الآيتين قال في المجمع، أصل الحسبان السهام التي ترمى لتجري في طلق واحد وكان ذلك من رمي الأساورة، وأصل الباب الحساب، وإنما يقال لما يرمى به: حسبان لأنه يكثر كثرة الحساب.
قال: والزلق الأرض الملساء المستوية لا نبات فيها ولا شيء وأصل الزلق ما تزلق عنه الأقدام فلا تثبت عليه.
وقد تقدم أن الصعيد هو سطح الأرض مستويا لا نبات عليه، والمراد بصيرورة الماء غورا صيرورته غائرا ذاهبا في باطن الأرض.
والآيتان كما تقدمت الإشارة إليه رد من المؤمن لصاحبه الكافر من جهة ما استعلى عليه بأنه أكثر منه مالا وأعز نفرا، وما أورده من الرد مستخرج من بيانه السابق ومحصله أنه لما كانت الأمور بمشية الله وقوته وقد جعلك أكثر مني مالا وأعز نفرا فالأمر في ذلك إليه لا إليك حتى تتبجح وتستعلي علي فمن الممكن المرجو أن يعطيني خيرا من جنتك ويخرب جنتك فيديرني إلى حال أحسن من حالك اليوم ويديرك إلى حال أسوأ من حالي اليوم فيجعلني أغنى منك بالنسبة إلي ويجعلك أفقر مني بالنسبة إليك.
والظاهر أن تكون ﴿ترن﴾ في قوله: ﴿إن ترن أنا أقل﴾ إلخ من الرأي بمعنى الاعتقاد فيكون من أفعال القلوب، و﴿أنا﴾ ضمير فصل متخلل بين مفعوليه اللذين هما في الأصل مبتدأ وخبر، ويمكن أن يكون من الرؤية بمعنى الإبصار فأنا ضمير رفع أكد به مفعول ترن المحذوف من اللفظ.
ومعنى الآية إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا فلا بأس والأمر في ذلك إلى ربي فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها أي على جنتك مرامي من عذابه السماوي كبرد أو ريح سموم أو صاعقة أو نحو ذلك فتصبح أرضا خالية ملساء لا شجر عليها ولا زرع، أو يصبح ماؤها غائرا فلن تستطيع أن تطلبه لإمعانه في الغور.
قوله تعالى: ﴿وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه﴾ إلى آخر الآية الإحاطة بالشيء كناية عن هلاكه، وهي مأخوذة من إحاطة العدو واستدارته به من جميع جوانبه بحيث ينقطع عن كل معين وناصر وهو الهلاك، قال تعالى: ﴿وظنوا أنهم أحيط بهم﴾ يونس: 22.
وقوله: ﴿فأصبح يقلب كفيه﴾ كناية عن الندامة فإن النادم كثيرا ما يقلب كفيه ظهرا لبطن، وقوله: ﴿وهي خاوية على عروشها﴾ كناية عن كمال الخراب كما قيل فإن البيوت الخربة المنهدمة تسقط أولا عروشها وهي سقوفها على الأرض ثم تسقط جدرانها على عروشها الساقطة والخوي السقوط وقيل: الأصل في معنى الخلو.
وقوله: ﴿ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا﴾ أي يا ليتني لم أتعلق بما تعلقت به ولم أركن ولم أطمأن إلى هذه الأسباب التي كنت أحسب أن لها استقلالا في التأثير وكنت أرجع الأمر كله إلى ربي فقد ضل سعيي وهلكت نفسي.
والمعنى: وأهلكت أنواع ماله أو فسد ثمر جنته فأصبح نادما على المال الذي أنفق والجنة خربة ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم أسكن إلى ما سكنت إليه واغتررت به من نفسي وسائر الأسباب التي لم تنفعني شيئا.
قوله تعالى: ﴿ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا﴾ الفئة الجماعة، والمنتصر الممتنع.
وكما كانت الآيات الخمس الأولى أعني قوله: ﴿قال له صاحبه - إلى قوله - طلبا﴾ بيانا قوليا لخطأ الرجل في كفره وشركه كذلك هاتان الآيتان أعني قوله: ﴿وأحيط بثمره - إلى قوله - وما كان منتصرا﴾ بيان فعلي له أما تعلقه بدوام الدنيا واستمرار زينتها في قوله: ﴿ما أظن أن تبيد هذه أبدا﴾ فقد جلى له الخطأ فيه حين أحيط بثمره فأصبحت جنته خاوية على عروشها، وأما سكونه إلى الأسباب وركونه إليها ﴿وقد قال لصاحبه أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا﴾ فبين خطاؤه فيه بقوله تعالى: ﴿ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله﴾ وأما دعوى استقلاله بنفسه وتبجحه بها فقد أشير إلى جهة بطلانها بقوله تعالى: ﴿وما كان منتصرا﴾ .
قوله تعالى: ﴿هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا﴾ القراءة المشهورة ﴿الولاية﴾ بفتح الواو وقرىء بكسرها والمعنى واحد، وذكر بعضهم أنها بفتح الواو بمعنى النصرة وبكسرها بمعنى السلطان، ولم يثبت وكذا ﴿الحق﴾ بالجر، والثواب مطلق التبعة والأجر وغلب في الأجر الحسن الجميل، والعقب بالضم فالسكون وبضمتين: العاقبة.
ذكر المفسرون أن الإشارة بقوله: ﴿هنالك﴾ إلى معنى قوله: ﴿أحيط بثمره﴾ أي في ذلك الموضع أو في ذلك الوقت وهو موضع الإهلاك ووقته الولاية لله، وأن الولاية بمعنى النصرة أي إن الله سبحانه هو الناصر للإنسان حين يحيط به البلاء وينقطع عن كافة الأسباب لا ناصر غيره.
وهذا معنى حق في نفسه لكنه لا يناسب الغرض المسوق له الآيات وهو بيان أن الأمر كله لله سبحانه وهو الخالق لكل شيء المدبر لكل أمر، وليس لغيره إلا سراب الوهم وتزيين الحياة لغرض الابتلاء والامتحان، ولو كان كما ذكروه لكان الأنسب توصيفه تعالى في قوله: ﴿لله الحق﴾ بالقوة والعزة والقدرة والغلبة ونحوها لا بمثل الحق الذي يقابل الباطل، وأيضا لم يكن لقوله: ﴿هو خير ثوابا وخير عقبا﴾ وجه ظاهر وموقع جميل.
والحق والله أعلم أن الولاية بمعنى مالكية التدبير وهو المعنى الساري في جميع اشتقاقاتها كما مر في الكلام على قوله تعالى: ﴿إنما وليكم الله ورسوله﴾ المائدة: 55 أي عند إحاطة الهلاك وسقوط الأسباب عن التأثير وتبين عجز الإنسان الذي كان يرى لنفسه الاستقلال والاستغناء ولاية أمر الإنسان وكل شيء وملك تدبيره لله لأنه إله حق له التدبير والتأثير بحسب واقع الأمر وغيره من الأسباب الظاهرية المدعوة شركاء له في التدبير والتأثير باطل في نفسه لا يملك شيئا من الأثر إلا ما أذن الله له وملكه إياه وليس له من الاستقلال إلا اسمه بحسب ما توهمه الإنسان فهو باطل في نفسه حق بالله سبحانه والله هو الحق بذاته المستقل الغني في نفسه.
وإذا أخذ بالقياس بينه - تعالى عن القياس - وبين غيره من الأسباب المدعوة شركاء في التأثير كان الله سبحانه خيرا منها ثوابا فإنه يثيب من دان له ثوابا حقا وهي تثيب من دان لها وتعلق بها ثوابا باطلا زائلا لا يدوم وهو مع ذلك من الله وبإذنه، وكان الله سبحانه خيرا منها عاقبة لأنه سبحانه هو الحق الثابت الذي لا يفنى ولا يزول ولا يتغير عما هو عليه من الجلال والإكرام، وهي أمور فانية متغيرة جعلها الله زينة للحياة الدنيا يتوله إليها الإنسان وتتعلق بها قلبه حتى يبلغ الكتاب أجله وإن الله لجاعلها صعيدا جرزا.
وإذا كان الإنسان لا غنى له عن التعلق بشيء ينسب إليه التدبير ويتوقع منه إصلاح شأنه فربه خير له من غيره لأنه خير ثوابا وخير عقبا.
وذكر بعضهم أن الإشارة بقوله: ﴿هنالك﴾ إلى يوم القيامة فيكون المراد بالثواب والعقب ما في ذلك اليوم.
والسياق كما تعلم لا يساعد على شيء من ذلك.
قوله تعالى: ﴿واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء﴾ إلخ هذا هو المثل الثاني ضرب لتمثيل الحياة الدنيا بما يقارنها من الزينة السريعة الزوال.
والهشيم فعيل بمعنى مفعول من الهشم، وهو على ما قال الراغب كسر الشيء الرخو كالنبات، وذرا يذرو ذروا أي فرق، وقيل: أي جاء به وذهب، وقوله: ﴿فاختلط به نبات الأرض﴾ ولم يقل: اختلط بنبات الأرض إشارة إلى غلبته في تكوين النبات على سائر أجزائه، ولم يذكر مع ماء السماء غيره من مياه العيون والأنهار لأن مبدأ الجميع ماء المطر، وقوله: ﴿فأصبح هشيما﴾ أصبح فيه - كما قيل - بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح.
والمعنى: واضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الدنيا المعرضين عن ذكر ربهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء وهو المطر فاختلط به نبات الأرض فرف نضارة وبهجة وظهر بأجمل حلية فصار بعد ذلك هشيما مكسرا متقطعا تعبث به الرياح تفرقة وتجيء به وتذهب وكان الله على كل شيء مقتدرا.
قوله تعالى: ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ إلى آخر الآية الآية بمنزلة النتيجة للمثل السابق وهي أن المال والبنين وإن تعلقت بها القلوب وتاقت إليها النفوس تتوقع منها الانتفاع وتحف بها الآمال لكنها زينة سريعة الزوال غارة لا يسعها أن تثيبه وتنفعه في كل ما أراده منها ولا أن تصدقه في جميع ما يأمله ويتمناه بل ولا في أكثره ففي الآية - كما ترى - انعطاف إلى بدء الكلام أعني قوله: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها﴾ الآيتين.
وقوله: ﴿والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا﴾ المراد بالباقيات الصالحات الأعمال الصالحة فإن أعمال الإنسان محفوظة له عند الله بنص القرآن فهي باقية وإذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات، وهي عند الله خير ثوابا لأن الله يجازي الإنسان الجائي بها خير الجزاء، وخير أملا لأن ما يؤمل بها من رحمة الله وكرامته ميسور للإنسان فهي أصدق أملا من زينات الدنيا وزخارفها التي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعد، والآمال المتعلقة بها كاذبة على الأغلب وما صدق منها غار خدوع.
وقد ورد من طرق الشيعة وأهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عدة من الروايات: أن الباقيات الصالحات التسبيحات الأربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وفي أخرى أنها الصلاة وفي أخرى مودة أهل البيت وهي جميعا من قبيل الجري والانطباق على المصداق.