الآيات 22-30

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ﴿22﴾ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ يُّ الْكَبِيرُ ﴿23﴾ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿24﴾ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿25﴾ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ يمُ ﴿26﴾ قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿27﴾ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿28﴾ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿29﴾ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴿30﴾

بيان:

آيات مقررة للتوحيد واحتجاجات حوله.

قوله تعالى: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة﴾ إلى آخر الآية، أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحتج على إبطال ألوهية آلهتهم بعدم قدرتهم على استجابة الدعاء، فقوله: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله﴾ أي ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله - فمفعولا ﴿زعمتم﴾ محذوفان لدلالة السياق عليهما - ودعاؤهم هو مسألتهم شيئا من الحوائج.

وقوله: ﴿لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض﴾ واقع موقع الجواب كأنه قيل: فما ذا يكون إذا دعوهم؟ فقيل: لا يستجيبون لهم بشيء لأنهم ﴿لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض﴾ ولو ملكوا لاستجابوا، ولا تتم الربوبية والألوهية إلا بأن يملك الرب والإله شيئا مما يحتاج إليه الإنسان فيملكه له وينعم عليه به فيستحق بإزائه العبادة شكرا له فيعبد، أما إذا لم يملك شيئا فلا يكون ربا ولا إلها.

وقوله: ﴿وما لهم فيهما من شرك﴾ كان الملك المنفي في الجملة السابقة ﴿لا يملكون﴾ إلخ، الملك المطلق المنبسط على الجميع والمنفي في هذه الجملة الملك المحدود المتبعض الذي ينبسط على البعض دون الكل إما مشاعا أو مفروزا، لكن المشركين ما كانوا يقولون بالملك المشترك بينهم وبين الله سبحانه مشاعا بل كانوا يقولون بملك كل من آلهتهم لنوع من الخلقة أو بعض منها، وأما الله سبحانه فهو رب الأرباب وإله الآلهة.

وعلى هذا كان من الواجب أن يستجيب آلهتهم إذا دعوا فيما يملكونه من الخلقة وعدم استجابتهم كاشف عن عدم ربوبيتهم وألوهيتهم.

وقوله: ﴿وما له منهم من ظهير﴾ أي ليس لله سبحانه منهم كلا أو بعضا من معين يعينه فيما يفرض فيه عجزه عن القيام بأمر تدبيره إذ لو كان له منهم ظهير يظهره على التدبير كان مالكا فيستجيب إذا دعي فيما هو ظهير بالنسبة إليه وإذ ليس فليس.

فتبين مما تقدم أن احتجاج الآية على نفي الملك بانتفاء استجابتهم دعاء الداعي يجري في جميع الصور الثلاث وهي ملكهم لما في السماوات وما في الأرض مطلقا وملكهم على وجه الشركة مع الله سبحانه وكونهم أو بعضهم ظهيرا لله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾ المشركون كانوا يقولون بشفاعة آلهتهم كما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله: ﴿هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾ يونس: 18، وليس مرادهم بالشفاعة شفاعة يوم القيامة التي يثبتها القرآن الكريم فإنهم ما كانوا يقولون بالمعاد بل الشفاعة في الدنيا لعبادهم عند الله سبحانه ليسعدهم بقضاء حوائجهم وإصلاح شئونهم بتوسط آلهتهم.

وإذ كانت الآلهة مخلوقين لله مملوكين له من كل وجه فلا يملكون الشفاعة من عند أنفسهم مستقلين بها إلا أن يملكهم الله سبحانه ذلك وهو الإذن لهم في أن يشفعوا فأصل شفاعتهم لو شفعوا بإذن الله سبحانه.

وقوله: ﴿إلا لمن أذن له﴾ يحتمل أن يكون اللام في ﴿لمن﴾ لام الملك والمراد بمن أذن له الشافع من الملائكة، والمعنى: لا تنفع الشفاعة إلا أن يملكه الشافع بالإذن من الله وأن يكون لام التعليل والمراد بمن أذن له المشفوع له، والمعنى: لا تنفع الشفاعة إلا لأجل من أذن له من المشفوع لهم، قال في الكشاف: وهذا يعني الوجه الثاني وجه لطيف وهو الوجه.

وهو الوجه فإن الملائكة على ما يستفاد من كلامه تعالى وسائط لإنفاذ الأمر الإلهي وإجرائه، قال تعالى: ﴿لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ الأنبياء: 27، وقال: ﴿جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة﴾ فاطر: 1، والوساطة المذكورة من الشفاعة كما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.

فالملائكة جميعا شفعاء لكن لا في كل أمر ولكل أحد بل في أمر أذن الله فيه ولمن أذن له فنفي شفاعتهم إلا مع الإذن يناسب المشفوع لهم دون الشفعاء، فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ الأنبياء: 28، لا في معنى قوله: ﴿ما من شفيع إلا من بعد إذنه﴾ يونس: 3.

قوله تعالى: ﴿حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير﴾ التفزيع إزالة الفزع وكشفه وضمائر الجمع - على ما يعطيه السياق - للشفعاء وهم الملائكة.

ولازم قوله: ﴿حتى إذا فزع عن قلوبهم﴾ - وهو غاية - أن يكون هناك أمر مغيى بها وهو كون قلوبهم في فزع ممتد في انتظار أمر الله سبحانه حتى يرتفع بصدور الأمر منه، فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿ولله يسجد - إلى أن قال - والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ النحل: 50، فالفزع هو التأثر والانقباض من الخوف وهو المراد بسجدتهم تذللا من خوف ربهم من فوقهم.

وبذلك يظهر أن المراد بفزعهم حتى يفزع عنهم أن التذلل غشي قلوبهم وهو تذللهم من حيث إنهم أسباب وشفعاء في نفوذ الأوامر الإلهية ووقوعه على ما صدر وكما أريد، وكشف هذا التذلل هو تلقيهم الأمر الإلهي واشتغالهم بالعمل كأنهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلا فعلهم وطاعتهم لله فيما أمرهم به وأنه لا واسطة بين الله سبحانه وبين الفعل إلا أمره فافهم ذلك.

وإنما نسب الفزع والتفزيع إلى قلوبهم للدلالة على أنهم ذاهلون منصرفون عن أنفسهم وعن كل شيء إلا ربهم وهم على هذه الحالة لا يشعرون بشيء غيره حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند صدور الأمر الإلهي بلا مهل ولا تخلف فليس الأمر بحيث يعطل أو يتأخر عن الوقوع، قال تعالى: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون﴾ يس: 82، فالمستفاد من الآية نظرا إلى هذا المعنى أنهم في فزع حتى إذا أزيل فزعهم بصدور الأمر الإلهي.

وقوله: ﴿قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق﴾ يدل على أنهم طوائف كثيرون يسأل بعضهم بعضا عن الأمر الإلهي بعد صدوره وانكشاف الفزع عن قلوب السائلين.

ويتبين منه أن كشف الفزع ونزول الأمر إلى بعضهم أسبق منه إلى بعض آخر فإن لازم السؤال أن يكون المسئول عالما بما سئل عنه قبل السائل.

فلهم مراتب مختلفة ومقامات متفاوتة بعضها فوق بعض تتلقى الدانية منها الأمر الإلهي من العالية من غير تخلف ولا مهلة وهو طاعة الداني منهم للعالي، كما يستفاد ذلك أيضا بالتدبر في قوله تعالى: ﴿وما منا إلا له مقام معلوم﴾ الصافات: 164، وقوله في وصف الروح الأمين: ﴿ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين﴾ التكوير: 21.

فبينهم مطاع ومطيع ولا طاعة مع ذلك إلا لله سبحانه لأن المطاع منهم لا شأن له إلا إيصال ما وصل إليه من الأمر الإلهي إلى مطيعه الذي دونه، ويمكن أن يستفاد ذلك من توصيف القول بالحق في قوله: ﴿قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق﴾ أي قال القول الثابت الذي لا سبيل للبطلان والتبدل إليه.

وما ألطف ختم الآية بقوله تعالى: ﴿وهو العلي الكبير﴾ أي هو العلي الذي دونه كل شيء والكبير الذي يصغر عنده كل شيء فليس للملائكة المكرمين إلا تلقي قوله الحق وامتثاله وطاعته كما يريد.

فقد تحصل من الآية الكريمة أن الملائكة فزعون في أنفسهم متذللون في ذواتهم ذاهلون عن كل شيء إلا عن ربهم محدقون إلى ساحة العظمة والكبرياء في انتظار صدور الأمر حتى يكشف عن قلوبهم الفزع، بصدور الأمر ونزوله وهم مع ذلك طوائف مختلفة ذووا مقامات متفاوتة علوا ودنوا يتوسط كل عال في إيصال الأمر النازل إلى من هو دونه.

فهم مع كونهم شفعاء وأسبابا متوسطة لا يشفعون ولا يتوسطون في حدوث حادث من حوادث الخلق والتدبير إلا بإذن خاص من ربهم في حدوثه فيتحملون الأمر النازل إليهم حتى يحققوه في الكون من غير أن يستقلوا من أنفسهم في شيء أو يستبدوا برأي، ومن كان هذا شأنه لا يشعر بشيء إلا طاعة ربه فيما يأمره به كيف يكون ربا مستقلا في أمره مفوضا إليه التدبير يعطي ما يشاء ويمنع ما يشاء؟ وفي الآية أقوال مختلفة أخر: منها: أن ضمير ﴿قلوبهم﴾ و﴿قالوا﴾ الثاني للمشركين دون الملائكة وضمير ﴿قالوا﴾ الأول للملائكة والمعنى: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين وقت الفزع قالت الملائكة لهم: ما ذا قال ربكم؟ قالت المشركون لهم: الحق فيعترفون بما أنكروه في الدنيا.

ومنها: أن ضمير ﴿قلوبهم﴾ للملائكة والمراد أن الملائكة الموكلين بالأعمال إذا صعدوا بأعمال العباد إلى السماء ولهم زجل وصوت عظيم خشيت الملائكة أنها الساعة فيفزعون ويخرون سجدا لله سبحانه حتى إذا كشف عن قلوبهم الفزع وعلموا أنه ليس الأمر كذلك فسألوا ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق.

ومنها: أن الله لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد فترة بينه وبين عيسى (عليه السلام) لم ينزل فيها شيء من الوحي أنزل الله سبحانه جبريل بالوحي فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف الفزع عن الملائكة الساكنين فيها فرفعوا رءوسهم وقال بعضهم لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق أي الوحي.

ومنها: أن الضمير للملائكة والمراد أن الله سبحانه إذا أوحى إلى بعض الملائكة غشي على الملائكة عند سماع الوحي ويصعقون ويخرون سجدا للآية العظيمة فإذا فزع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الذي أوحي إليه ما ذا قال ربك؟ أو سأل بعضهم بعضا ما ذا قال ربكم؟ فيعلمون أن الأمر في غيرهم.

وأنت بعد التدبر في الآية الكريمة والتأمل فيما قدمناه تعلم وجه الضعف في هذه الأقوال وأن شيئا منها على تقدير صحته في نفسه لا يصلح تفسيرا لها.

قوله تعالى: ﴿قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله﴾ إلخ، احتجاج آخر على المشركين من جهة الرزق الذي هو الملاك العمدة في اتخاذهم الآلهة فإنهم يتعللون في عبادتهم الآلهة بأنها ترضيهم فيوسعون لهم في رزقهم فيسعدون بذلك.

فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم من يرزقهم من السماوات والأرض؟ والجواب عنه أنه الله سبحانه لأن الرزق خلق في نفسه ولا خالق - حتى عند المشركين - إلا الله عز اسمه لكنهم يستنكفون عن الاعتراف به بألسنتهم وإن أذعنت به قلوبهم ولذلك أمر أن ينوبهم في الجواب فقال: ﴿قل الله﴾.

وقوله: ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾ تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا القول بعد إلقاء الحجة القاطعة ووضوح الحق في مسألة الألوهية مبني على سلوك طريق الإنصاف، ومفاده أن كل قول إما هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفيا وإثباتا ونحن وأنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فإما أن نكون نحن على هدى وأنتم في ضلال وإما أن تكونوا أنتم على هدى ونحن في ضلال فانظروا بعين الإنصاف إلى ما ألقي إليكم من الحجة وميزوا المهدي من الضال والمحق من المبطل.

واختلاف التعبير في قوليه: ﴿على هدى﴾ و﴿في ضلال﴾ بلفظة على وفي - كما قيل - للإشارة إلى أن المهتدي كأنه مستعل على منار يتطلع على السبيل وغايتها التي فيها سعادته، والضال منغمر في ظلمة لا يدري أين يضع قدمه وإلى أين يسير وما ذا يراد به؟.

قوله تعالى: ﴿قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون﴾ أي إن العمل وخاصة عمل الشر لا يتعدى عن عامله ولا يلحق وباله إلا به فلا يسأل عنه غيره فلا تسألون عما أجرمنا بل نحن المسئولون عنه ولا نسأل عما تعملون بل أنتم المسئولون.

وهذا تمهيد لما في الآية التالية من حديث الجمع والفتح فإن الطائفتين إذا اختلفا في الأعمال خيرا وشرا كان من الواجب أن يفتح بينهما ويتميز كل من الأخرى حتى يلحق به جزاء عمله من خير أو شر أو سعادة أو شقاء والذي يفتح ويميز هو الرب تعالى.

وفي التعبير عن عمل أنفسهم بالإجرام وفي ناحية المشركين بقوله: ﴿تعملون﴾ ولم يقل تجرمون أخذ بحسن الأدب في المناظرة.

قوله تعالى: ﴿قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم﴾ لما كان من الواجب أن يلحق بكل من المحسن والمسيء جزاء عمله وكان لازمه التمييز بينهما بالجمع ثم الفرق كان ذلك شأن مدبر الأمر وهو الرب أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكرهم أن الذي يجمع بين الجميع ثم يفتح بينهم بالحق هو الله، فهو رب هؤلاء وأولئك فإنه هو الفتاح العليم يفتح بين كل شيئين بالخلق والتدبير فيتميز بذلك الشيء من الشيء كما قال: ﴿إن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما﴾ الأنبياء: 30، وهو العليم بكل شيء.

فالآية تثبت البعث لتمييز المحسن من المسيء أولا ثم انحصار التمييز والجزاء في جانبه تعالى بانحصار الربوبية فيه ويبطل بذلك ربوبية من اتخذوه من الأرباب.

والفتاح من أسماء الله الحسنى والفتح إيجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتب عليه كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه والفتح بين الشيئين ليتميز كل منهما عن الآخر بذاته وصفاته وأفعاله.

قوله تعالى: ﴿قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم﴾ أمر آخر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم أن يروه آلهتهم حتى يختبر هل فيهم الصفات الضرورية للإله المستحق للعبادة من الاستقلال بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر؟ وهذا معنى قوله: ﴿أروني الذين ألحقتم به شركاء﴾ أي ألحقتموهم به شركاء له.

ثم ردع بنفسه وقال: كلا لا يكونون شركاء له لأنهم إما أن يروه الأصنام بما أنها معبودة لهم معدودة آلهتهم وهي أجسام ميتة خالية عن الحياة والعلم والقدرة وإما أن يروه أرباب هذه الأصنام وهم الملائكة وغيرهم بجعل الأصنام تماثيل مشيرة إليهم وهم وإن لم يخلوا عن حياة وعلم وقدرة إلا أن ما لهم من صفات الكمال مفاضة عليهم من الله سبحانه لا استقلال لهم في شيء من هذه الصفات ولا في الأفعال المتفرعة عليها فأين الاستقلال في التدبير الذي يدعون أنه مفوض إليهم فالوجود الواجبي بكماله اللامتناهي يمنع أن يكون في خلقه من يشاركه في شيء من كماله.

اللهم إلا أن يدعوا أنه شاركهم في بعض ما له من الشئون لتدبير خلقه من غير صلاحية لهم ذاتية وهذا ينافي حكمته تعالى.

وقد أشير إلى هذه الحجة بقوله: ﴿بل هو الله العزيز الحكيم﴾ فإن عزته تعالى - وهو منع جانبه أن يعدو إلى حريم كماله عاد لكونه لا يحد بحد - تمنع أن يشاركه في شيء من صفات كماله كالربوبية والألوهية المنتهيتين إلى الذات أحد غيره هذا لو كانت الشركة عن صلاحية ذاتية من الشريك ولو كانت عن إرادة حزافية منه من غير صلاحية حقيقة من الشريك فالحكمة الإلهية تمنع ذلك.

وقد تبين بذلك أن الآية متضمنة لحجة قاطعة برهانية فأحسن التدبر فيها.

قوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ قال الراغب في المفردات:، الكف كف الإنسان وهي ما بها يقبض ويبسط وكففته أصبت كفه، وكففته أصبته بالكف ودفعته بها وتعورف الكف بالدفع على أي وجه كان بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره، وقوله: وما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي والهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية وعلامة ونسابة.

ويؤيد هذا المعنى توصيفه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبشير والنذير، فقوله: ﴿بشيرا ونذيرا﴾ حالان يبينان صفته لقوله: ﴿كافة للناس﴿.

وربما قيل: إن التقدير وما أرسلناك إلا إرساله كافة للناس ولا يخلو من تكلف وبعد.

وأما كون كافة بمعنى جميعا وحالا من الناس، والمعنى: وما أرسلناك إلا للناس جميعا فهم يمنعون عن تقدم الحال على صاحبه المجرور.

واعلم أن منطوق الآية وإن كان راجعا إلى النبوة وفيها انتقال من الكلام في التوحيد إلى الكلام في النبوة على حد الآيات التالية، لكن في مدلولها حجة أخرى على التوحيد وذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم ومسيرهم إلى غايات وجودهم فعموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو رسول الله تعالى لا رسول غيره دليل على أن الربوبية منحصرة في الله سبحانه فلو كان هناك رب غيره لجاءهم رسوله ولم يعم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عمتهم واحتاجوا معه إلى غيره، وهذا معنى قول علي (عليه السلام) - على ما روي - لو كان لربك شريك لأتتك رسله.

ويؤيده ما في ذيل الآية من قوله: ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه أمس بجهل الناس من كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا ونذيرا.

فمفاد الآية على هذا: لا يمكنهم أن يروك شريكا له والحال أنا لم نرسلك إلا كافا لجميع الناس بشيرا ونذيرا ولو كان لهم إله غيرنا لم يسع لنا أن نرسلك إليهم وهم عباد لإله آخر والله أعلم.

قوله تعالى: ﴿ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ سؤال عن وقت الجمع والفتح وهو البعث فالآية متصلة بقوله السابق: ﴿قل يجمع بيننا ربنا﴾ الآية، وهذا أيضا من شواهد ما قدمنا من المعنى لقوله: ﴿وما أرسلناك إلا كافة﴾ وإلا كانت هذه الآية والتي بعدها متخللتين بين قوله: ﴿وما أرسلناك﴾ الآية، والآيات التالية المتعرضة لمسألة النبوة.

قوله تعالى: ﴿قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون﴾ أمر منه تعالى أن يجيبهم بأن لهم ميعاد يوم مقضي محتوم لا يتخلف عن الوقوع فهو واقع قطعا ولا يختلف وقت وقوعه البتة أي إن الله وعد به وعدا لا يخلفه إلا أن وقت وقوعه مستور لا يعلمه إلا الله سبحانه.

وما قيل: إن المراد به يوم الموت غير سديد فإنهم لم يسألوا إلا عما تقدم وعده وهو يوم الجمع والفتح والجمع ثم الفتح من خصائص يوم القيامة دون يوم الموت.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿حتى إذا فزع عن قلوبهم - قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير﴾ وذلك أن أهل السماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين أن بعث عيسى بن مريم إلى أن بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما بعث الله جبرئيل إلى محمد سمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا فصعق أهل السماوات.

فلما فرغ عن الوحي انحدر جبرئيل كلما مر بأهل سماء فزع عن قلوبهم يقول: كشف عن قلوبهم، فقال بعض لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير: أقول: وروي مثله من طرق أهل السنة موصولا وموقوفا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومدلول الرواية على أي حال مصداق من مصاديق الآية ولا تصلح لتفسيرها البتة.

وفي الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس وفي المجمع عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي.

بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، ونصرت بالرعب يرعب مني عدوي على مسيرة شهر، وأطعمت المغنم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي إلى يوم القيامة وهي إن شاء الله نائلة من لا يشرك بالله شيئا.

أقول: وروي أيضا هذا المعنى عن ابن المنذر عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

والرواية معارضة لما ورد مستفيضا أن نوحا كان مبعوثا إلى الناس كافة وذكر في بعضها إبراهيم (عليه السلام) وفي بعضها أن أولي العزم كلهم مبعوثون إلى الدنيا كافة، وتخالف أيضا عموم الشفاعة للأنبياء المستفاد من عدة من الروايات وقد قال تعالى: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ الزخرف: 86، وقد شهد القرآن بأن المسيح (عليه السلام) من الشهداء قال تعالى: ﴿ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا﴾ النساء: 159.

والروايات من طرق العامة والخاصة كثيرة في عموم رسالته للناس كافة وظاهر كثير منها أخذ ﴿كافة﴾ في قوله تعالى: ﴿ما أرسلناك إلا كافة للناس﴾ حالا من ﴿للناس﴾ قدم عليه ويمنعه البصريون من النحاة ويجوزه الكوفيون.