الآيات 47-57

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿47﴾ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ﴿48﴾ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴿49﴾ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿50﴾ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿51﴾ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿52﴾ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿53﴾ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿54﴾ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿55﴾ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿56﴾ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿57﴾

بيان:

تتضمن الآيات افتراض طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنها لا تفارق طاعة الله تعالى، ووجوب الرجوع إلى حكمه وقضائه وأن الإعراض عنه آية النفاق، وتختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين وإيعاد للكافرين.

قوله تعالى: ﴿ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك﴾ إلخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان والطاعة أولا ثم تولوا ثانيا فالإيمان بالله هو العقد على توحيده وما شرع من الدين، والإيمان بالرسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربه أمره أمره ونهيه نهيه وحكمه حكمه من غير أن يكون له من الأمر شيء، وطاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، وطاعة الرسول الايتمار والانتهاء عند أمره ونهيه وقبول ما حكم به وقضى عليه.

فالإيمان بالله وطاعته موردهما نفس الدين والتشرع به، والإيمان بالرسول وطاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنه يخبر به وما حكم به وقضى عليه في المنازعات والانقياد له في ذلك كله.

فبين الإيمانين والطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد وضيقه، ويشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل: ﴿آمنا بالله وبالرسول﴾ فأشير إلى تعدد الإيمان والطاعة ولم يقل: آمنا بالله والرسول بحذف الباء، والإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: ﴿ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله﴾ النساء: 150.

فقوله: ﴿ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا﴾ أي عقدنا القلوب على دين الله وتشرعنا به وعلى أن الرسول لا يخبر إلا بالحق ولا يحكم إلا بالحق.

وقوله: ﴿ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك﴾ أي ثم يعرض طائفة من هؤلاء القائلين: ﴿آمنا بالله وبالرسول وأطعنا﴾ عن مقتضى قولهم من بعد ما قالوا ذلك.

وقوله: ﴿وما أولئك بالمؤمنين﴾ أي ليس أولئك القائلون بالمؤمنين، والمشار إليه باسم الإشارة القائلون جميعا لا خصوص الفريق المتولين على ما يعطيه السياق لأن الكلام مسوق لذم الجميع.

قوله تعالى: ﴿وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون﴾ يشهد سياق الآية أن الآيات إنما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منازعة وقعت بينه وبين غيره فأبى الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي ذلك نزلت الآيات.

والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾ النساء: 105.

فللحكم نسبة إليه بالمباشرة ونسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته وبنصبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكم والقضاء.

وبذلك يظهر أن المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، وبالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضى عليه بالمباشرة، وأن الظاهر أن ضمير ﴿ليحكم﴾ للرسول، وإنما أفرد الفاعل ولم يثن إشارة إلى أن حكم الرسول حكمه تعالى.

والآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاص بالنسبة إلى العام فهي تقص إعراضنا معينا منهم والإعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق.

قوله تعالى: ﴿وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين﴾ الإذعان الانقياد، وظاهر السياق وخاصة قوله: ﴿يأتوا إليه﴾ أن المراد بالحق حكم الرسول بدعوى أنه حق لا ينفك عنه، والمعنى وإن يكن الحق الذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلا لكونه عليهم لا لهم، ولازم ذلك أنهم يتبعون الهوى ولا يريدون اتباع الحق.

قوله تعالى: ﴿أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله﴾ إلى آخر الآية.

الحيف الجور.

وظاهر سياق الآيات أن المراد بمرض القلوب ضعف الإيمان كما في قوله تعالى: ﴿فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض﴾ الأحزاب: 32، وقوله: ﴿لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم﴾ الأحزاب: 60، وغير ذلك من الآيات.

وأما كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسر به فيدفعه قوله في صدر الآيات: ﴿وما أولئك بالمؤمنين﴾ فإنه حكم بنفاقهم، ولا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثم الإضراب عنه بقوله: ﴿بل أولئك هم الظالمون﴾.

وقوله: ﴿أم ارتابوا﴾ ظاهر إطلاق الارتياب وهو الشك أن يكون المراد هو شكهم في دينهم بعد الإيمان دون الشك في صلاحية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكم أو عدله ونحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة.

وقوله: ﴿أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله﴾ أي أم يعرضون عن ذلك لأنهم يخافون أن يجور الله عليهم ورسوله لكون الشريعة الإلهية التي يتبعها حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبنية على الجور وإماتة الحقوق الحقة، أو لكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يراعي الحق في قضائه.

وقوله: ﴿بل أولئك هم الظالمون﴾ إضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة وذلك أن سبب إعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو ارتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحق لهم بل كانوا يعرضون كان الحق لهم أو عليهم، وأما الخوف من أن يحيف الله عليهم ورسوله فلا موجب له فالله بريء من الحيف ورسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله ورسوله إلا لكونهم حق عليهم أنهم ظالمون.

والظاهر أن المراد بالظلم التعدي عن طور الإيمان مع الإقرار به قولا كما قال آنفا: ﴿وما أولئك بالمؤمنين﴾ أو خصوص التعدي إلى الحقوق غير المالية، ولو كان المراد مطلق الظلم لم يصح الإضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لأنها من مطلق الظلم ويدل عليه أيضا الآية التالية.

وقد بان بما تقدم أن الترديد في أسباب الإعراض على تقدير عدم النفاق بين الأمور الثلاثة حاصر والأقسام متغايرة فإن محصل المعنى أنهم منافقون غير مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم إما لضعف إيمانهم وإما لزواله بالارتياب وإما للخوف من غير سبب يوجبه فإن الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه وميله عن الحق إلى الباطل ولا يحتمل ذلك في حكم الله ورسوله.

وقد طال البحث في كلامهم عما في الآية من الترديد والإضراب ولعل فيما ذكرناه كفاية، ومن أراد أزيد من ذلك فليراجع المطولات.

قوله تعالى: ﴿إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا﴾ إلى آخر الآية سياق قوله: ﴿إنما كان قول المؤمنين﴾ وقد أخذ فيه ﴿كان﴾ ووصف الإيمان في ﴿المؤمنين﴾ يدل على أن ذلك من مقتضيات طبيعة الإيمان فإن مقتضى الإيمان بالله ورسوله وعقد القلب على اتباع ما حكم به الله ورسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله ورسوله دون الرد.

وعلى هذا فالمراد بقوله: ﴿إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم﴾ دعوة بعض الناس ممن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، ويدل عليه تصدير الجملة بلفظة ﴿إذا﴾ ولو كان المراد به دعوة الله ورسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله ورسوله كان ذلك حكما مؤبدا لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان.

وبذلك يظهر ضعف ما قيل: إن فاعل ﴿دعوا﴾ المحذوف هو الله ورسوله، والمعنى: إذا دعاهم الله ورسوله.

نعم مرجع الدعوة بآخره إلى دعوة الله ورسوله.

وكيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله ورسوله في قولهم: سمعنا وأطعنا وهو سمع وطاعة للدعوة الإلهية سواء فرض الداعي هو أحد المتنازعين للآخر أو فرض الداعي هو الله ورسوله أو كان المراد هو السمع والطاعة لحكم الله ورسوله وإن كان بعيدا.

وانحصار قول المؤمنين عند الدعوة في ﴿سمعنا وأطعنا﴾ يوجب كون الرد للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعديا عن طور الإيمان، كما يفيده قوله: ﴿بل أولئك هم الظالمون﴾ على ما تقدم، فتكون الآية في مقام التعليل للإضراب في ذيل الآية السابقة.

وقد ختمت الآية بقوله: ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ وفيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح.

قوله تعالى: ﴿ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون﴾ ورود الآية في سياق الآيات السابقة وانضمامها إلى سابقتها يعطي أنها في مقام التعليل - كالكبرى الكلية - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله ورسوله بالسمع والطاعة بقيد الإيمان كأنه قيل: إنما أفلح من أجاب إلى حكم الله ورسوله وهو مؤمن لأنه مطيع لله ولرسوله وهو مؤمن حقا في باطنه خشية الله وفي ظاهره تقواه ومن يطع الله ورسوله فيما قضي عليه ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون، والفوز هو الفلاح.

وتشمل الآية الداعي إلى حكم الله ورسوله من المتنازعين كما يشمل المدعو منهما إذا أجاب بالسمع والطاعة ففيها زيادة على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي والمدعو جميعا.

قوله تعالى: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة﴾ إلى آخر الآية الجهد الطاقة، والتقدير في قوله: ﴿أقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم والمراد أقسموا بأغلظ أيمانهم.

والظاهر أن المراد بقوله: ﴿ليخرجن﴾ الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدة من الآيات كقوله: ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا﴾ التوبة: 47.

وقوله: ﴿قل لا تقسموا﴾ نهي عن الإقسام، وقوله: ﴿طاعة معروفة﴾ خبر لمبتدإ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج والجملة في مقام التعليل للنهي عن الإقسام ولذا جيء بالفصل، وقوله: ﴿إن الله خبير بما تعملون﴾ من تمام التعليل.

ومعنى الآية: وأقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - وهو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلظ - وإن تكونوا تقسمون لأجل أن ترضوا الله ورسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغره إغلاظكم في الإيمان.

وقيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم وأموالهم لو حكم الرسول بذلك، وقوله: ﴿طاعة معروفة﴾ مبتدأ لخبر محذوف، والتقدير: طاعة معروفة للنبي خير من إقسامكم، ومعنى الآية: وأقسموا بالله بأغلظ الأيمان لئن أمرتهم وحكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم وأموالهم ليخرجن منها قل لهم: لا تقسموا لأن طاعة حسنة منكم للنبي خير من إقسامكم بالله والله خبير بما تعملون.

وفيه أن هذا المعنى وإن كان يؤكد اتصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى السابق لكنه لا يلائم التصريح السابق بردهم الدعوة إلى الله ورسوله ليحكم بينهم لأنهم إذ كانوا تولوا وأعرضوا عن حكم الله ورسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم وأموالهم ليخرجن وهو ظاهر، اللهم إلا أن يكون المقسمون فريقا آخر منهم غير الرادين للدعوة المعرضين عن الحكم، وحينئذ كان حمل ﴿ليخرجن﴾ على هذا المعنى لا دليل يدل عليه.

قوله تعالى: ﴿قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم﴾ إلى آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين، وأمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربهم ويأمرهم به في أمر دينهم ودنياهم، وتصدير الكلام بقوله: ﴿قل﴾ إشارة إلى أن الطاعة جميعا لله، وقد أكده بقوله: ﴿وأطيعوا الرسول﴾ دون أن يقول: وأطيعوني لأن طاعة الرسول بما هو طاعة الرسول طاعة المرسل، وبذلك تتم الحجة.

ولذلك عقب الكلام: أولا بقوله: ﴿فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم﴾ أي فإن تتولوا وتعرضوا عن طاعة الرسول لم يضر ذلك الرسول فإنما عليه ما حمل من التكليف ولا يمسكم منه شيء وعليكم ما حملتم من التكليف ولا يمسه منه شيء فإن الطاعة جميعا لله سبحانه.

وثانيا بقوله: ﴿وإن تطيعوه تهتدوا﴾ أي وإن كان لكل منكم ومنه ما حمل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لأن ما يجيء به إليكم وما يأمركم به من الله وبأمره والطاعة لله وفيه الهداية.

وثالثا بقوله وما على الرسول إلا البلاغ المبين وهو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن ما حمله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلغ وإذ كان رسولا لم يحتمل إلا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله وفي طاعة من أرسله وهو الله سبحانه اهتداؤكم.

قوله تعالى ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم﴾ إلى آخر الآية.

ظاهر وقوع الآية موقعها أنها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة وهي مدنية ولم تنزل بمكة قبل الهجرة على ما يؤيد سياقها وخاصة ذيلها.

فالآية على هذا وعد جميل للذين آمنوا وعملوا الصالحات أن الله تعالى سيجعل لهم مجتمعا صالحا يخص بهم فيستخلفهم في الأرض ويمكن لهم دينهم ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا لا يخافون كيد منافق ولا صد كافر يعبدونه لا يشركون به شيئا.

فقوله ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات﴾ من فيه تبعيضية لا بيانية والخطاب لعامة المسلمين وفيهم المنافق والمؤمن وفي المؤمنين منهم من يعمل الصالحات ومن لا يعمل الصالحات والوعد خاص بالذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات محضا.

وقوله ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهية كما ورد في آدم وداود وسليمان (عليهما السلام) قال تعالى ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ البقرة: 30 وقال ﴿يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض﴾ ص: 26 وقال ﴿وورث سليمان داود﴾ النمل: 16 فالمراد بالذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه وأوليائه ولا يخلو من بعد كما سيأتي.

وإن كان المراد به إيراث الأرض وتسليط قوم عليها بعد قوم كما قال ﴿إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين﴾ الأعراف: 128 وقال ﴿إن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ الأنبياء: 105 فالمراد بالذين من قبلهم المؤمنون من أمم الأنبياء الماضين الذين أهلك الله الكافرين والفاسقين منهم ونجى الخلص من مؤمنيهم كقوم نوح وهود وصالح وشعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى ﴿وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد﴾ إبراهيم: 14 فهؤلاء الذين أخلصوا لله فنجاهم فعقدوا مجتمعا صالحا وعاشوا فيه حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.

وأما قول من قال إن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون وجنوده فأورثهم أرض مصر والشام ومكنهم فيها كما قال تعالى ﴿فيهم ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض﴾ القصص: 6.

ففيه أن المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون وجنوده لم يصف من الكفر والنفاق والفسق ولم يخلص للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة ولا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم وفيهم الكافر والمنافق والطالح والصالح.

ولو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهم وهم بنو إسرائيل كيفما كان لم يحتج إلى إشخاص المجتمع الإسرائيلي للتشبيه به وفي زمن نزول الآية وقبل ذلك أمم أشد قوة وأكثر جمعا منهم كالروم والفرس وكلدة وغيرهم وقد قال تعالى ﴿في عاد الأولى وثمود إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح﴾ الأعراف: 69 وقال ﴿إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد﴾ الأعراف: 74 وقد خاطب بذلك الكفار من هذه الأمة فقال ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض﴾ الأنعام: 165 وقال ﴿هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره﴾ فاطر: 39.

فإن قلت لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثم يؤدى حق هذا المجتمع الصالح بما يعقبه من قوله وليمكنن لهم دينهم إلى آخر الوعد قلت نعم ولكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لأن يشبه به وأن يكون المراد بالذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدم.

وقوله ﴿وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم﴾ تمكين الشيء إقراره في مكان وهو كناية عن ثبات الشيء من غير زوال واضطراب وتزلزل بحيث يؤثر أثره من غير مانع ولا حاجز فتمكن الدين هو كونه معمولا به في المجتمع من غير كفر به واستهانة بأمره ومأخوذا بأصول معارفه من غير اختلاف وتخاصم وقد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أن الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله ﴿وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم﴾ البقرة: 213.

والمراد بدينهم الذي ارتضى لهم دين الإسلام وأضاف الدين إليهم تشريفا لهم ولكونه من مقتضى فطرتهم.

وقوله ﴿وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا﴾ هو كقوله ﴿وليمكنن لهم﴾ عطف على قوله ﴿ليستخلفنهم﴾ وأصل المعنى وليبدلن خوفهم أمنا فنسبة التبديل إليهم إما على المجاز العقلي أو على حذف مضاف يدل عليه قوله من بعد خوفهم والتقدير وليبدلن خوفهم أو كون أمنا بمعنى آمين.

والمراد بالخوف على أي حال ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الإسلام من الكفار والمنافقين.

وقوله ﴿يعبدونني لا يشركون بي شيئا﴾ الأوفق بالسياق أن يكون حالا من ضمير وليبدلنهم أي وليبدلن خوفهم أمنا في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئا.

والالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلم وتأكيد يعبدونني بقوله ﴿لا يشركون بي شيئا﴾ ووقوع النكرة شيئا في سياق النفي الدال على نفي الشرك على الإطلاق كل ذلك يقضي بأن المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جلي أو خفي وبالجملة يبدل الله مجتمعهم مجتمعا آمنا لا يعبد فيه إلا الله ولا يتخذ فيه رب غيره.

وقوله ﴿ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾ ظاهر السياق كون ذلك إشارة إلى الموعود والأنسب على ذلك كون كفر من الكفران مقابل الشكر والمعنى ومن كفر ولم يشكر الله بعد تحقق هذا الوعد بالكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة فأولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق وهو الخروج عن زي العبودية.

وقد اشتد الخلاف بين المفسرين في الآية.

فقيل إنها واردة في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أنجز الله وعده لهم باستخلافهم في الأرض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا بما أعز الإسلام بعد رحلة النبي في أيام الخلفاء الراشدين والمراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الأربعة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الثلاثة الأول منهم ونسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم وهم الأربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكل كقولهم قتل بنو فلان وإنما قتل بعضهم.

وقيل هي عامة لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد باستخلافهم وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا إيراثهم الأرض كما أورثها الله الأمم الذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على اختلاف التقرير وتمكين الإسلام وانهزام أعداء الدين وقد أنجز الله وعده بما نصر الإسلام والمسلمين بعد الرحلة ففتحوا الأمصار وسخروا الأقطار.

وعلى القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أوان تحققه ولم يكن مرجوا ذلك يومئذ.

وقيل إنها في المهدي الموعود (عليه السلام) الذي تواترت الأخبار على أنه سيظهر فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا وأن المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام).

والذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدم من البحث بالتحرز عن المسامحات التي ربما يرتكبها المفسرون في تفسير الآيات هو أن الوعد لبعض الأمة لا لجميعها ولا لأشخاص خاصة منهم وهم الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات فالآية نص في ذلك ولا قرينة من لفظ أو عقل يدل على كونهم هم الصحابة أو النبي وأئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ولا على أن المراد بالذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات جميع الأمة وإنما صرف الوعد إلى طائفة خاصة منهم تشريفا لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كله تحكم من غير وجه.

والمراد باستخلافهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الأرض كما ورثها الذين من قبلهم من الأمم الماضين أولي القوة والشوكة وهذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختص به أشخاص منهم كما كان كذلك في الذين من قبلهم وأما إرادة الخلافة الإلهية بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود وسليمان ويوسف (عليهما السلام) وهي السلطنة الإلهية فمن المستبعد أن يعبر عن أنبيائه الكرام بلفظ الذين من قبلهم وقد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعا من كلامه تعالى ولم يقصد ولا في واحد منها الأنبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن نعم ذكرهم الله بلفظ رسل من قبلك أو رسل من قبلي أو نحوها بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

والمراد ﴿بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم﴾ كما مر ثبات الدين على ساقه بحيث لا يزلزله اختلافهم في أصوله ولا مساهلتهم في إجراء أحكامه والعمل بفروعه وخلوص المجتمع من وصمة النفاق فيه.

والمراد من ﴿تبديل خوفهم أمنا﴾ انبساط الأمن والسلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوا في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهرا أو مستخفيا على دينهم أو دنياهم.

وقول بعضهم إن المراد الخوف من العدو الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفار والمشركين القاصدين إطفاء نور الله وإبطال الدعوة.

تحكم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معينة للمدعى على أن الآية في مقام الامتنان وأي امتنان على قوم لا عدو يقصدهم من خارج وقد أحاط بمجتمعهم الفساد وعمته البلية لا أمن لهم في نفس ولا عرض ولا مال الحرية فيه للقدرة الحاكمة والسبق فيه للفئة الباغية.

والمراد بكونهم ﴿يعبدون الله لا يشركون به شيئا﴾ ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ وهو عموم إخلاص العبادة وانهدام بنيان كل كرامة إلا كرامة التقوى.

والمتحصل من ذلك كله أن الله سبحانه يعد الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعا صالحا خالصا من وصمة الكفر والنفاق والفسق يرث الأرض لا يحكم في عقائد أفراده عامة ولا أعمالهم إلا الدين الحق يعيشون آمنين من غير خوف من عدو داخل أو خارج، أحرارا من كيد الكائدين وظلم الظالمين وتحكم المتحكمين.

وهذا المجتمع الطيب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة والقداسة لم يتحقق ولم ينعقد منذ بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا، وإن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهدي (عليه السلام) على ما ورد من صفته في الأخبار المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا له (عليه السلام) وحده.

فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات وليس المهدي (عليه السلام) أحد المخاطبين حين النزول ولا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم؟ قلت: فيه خلط بين الخطابات الفردية والاجتماعية أعني الخطاب المتوجه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم والخطاب المتوجه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالأول لا يتعدى إلى غير أشخاصهم ولا ما تضمنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك يسري إلى غيرهم والثاني يتعدى إلى كل من اتصف بما ذكر فيه من الوصف ويسري إليه ما تضمنه من الحكم، وخطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدم.

ومن هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنية المتوجهة إلى المؤمنين والكفار، ومنه الخطابات الذامة لأهل الكتاب وخاصة اليهود بما فعله أسلافهم وللمشركين بما صنعه آباؤهم.

ومن هذا القبيل خاصة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى: ﴿فإذا جاء وعد الآخرة ليسئوا وجوهكم﴾ الإسراء: 7 فإن الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، ونظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله: ﴿فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا﴾ الكهف: 98، وكذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة وانطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال: ﴿ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة﴾ الأعراف: 187، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم ولما يوجد أشخاص المجتمع الذي يدرك إنجاز الوعد مما لا ضير فيه البتة.

فالحق أن الآية إن أعطيت حق معناها لم تنطبق إلا على المجتمع الموعود الذي سينعقد بظهور المهدي (عليه السلام) وإن سومح في تفسير مفرداتها وجملها وكان المراد باستخلاف الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات استخلاف الأمة بنوع من التغليب ونحوه، وبتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالأمة المسلمة وعدهم الإسلام دينا لهم وإن تفرقوا فيه ثلاثا وسبعين فرقة يكفر بعضهم بعضا ويستبيح بعضهم دماء بعض وأعراضهم وأموالهم، وبتبديل خوفهم أمنا يعبدون الله ولا يشركون به شيئا عزة الأمة وشوكتها في الدنيا وانبساطها على معظم المعمورة وظواهر ما يأتون به من صلاة وصوم وحج وإن ارتحل الأمن من بينهم أنفسهم وودعهم الحق والحقيقة، فالوجه أن الموعود بهذا الوعد الأمة، والمراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزة والشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة ولا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الإسلامية.

وأما تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثة الأول أو خصوص علي (عليه السلام) فلا سبيل إليه البتة.

قوله تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون﴾ مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنها من تمامها.

فقوله: ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، وتخصيص الصلاة والزكاة بالذكر لكونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى وإلى الخلق، وقوله: ﴿وأطيعوا الرسول﴾ إنفاذ لولايته (صلى الله عليه وآله وسلم) في القضاء والحكومة.

وقوله: ﴿لعلكم ترحمون﴾ تعليل للأمر بما في المأمور به من المصلحة، والمعنى - على ما يعطيه السياق - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فينجز لكم وعده أو يجعل لكم إنجازه فإن ارتفاع النفاق من بين المسلمين وعموم الصلاح والاتفاق على كلمة الحق مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدر عليهم بكل خير.

قوله تعالى: ﴿لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير﴾ من تمام الآيات السابقة، وفيها تأكيد ما مر من وعد الاستخلاف في الأرض وتمكين الدين وتبديل الخوف أمنا.

يخاطب تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الوعد - بخطاب مؤكد - أن لا يظن أن الكفار معجزين لله في الأرض فيمنعونه بما عندهم من القوة والشوكة من أن ينجز وعده، وهذا في الحقيقة بشرى خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أكرم به أمته وأن أعداءه سينهزمون ويغلبون ولذلك خصه بالخطاب على طريق الالتفات.

ولكون النهي المذكور في معنى أن الكفار سينتهون عن معارضة الدين وأهله عطف عليه قوله: ﴿ومأواهم النار﴾ إلخ، كأنه قيل: هم مقهورون في الدنيا ومسكنهم النار في الآخرة وبئس المصير.

بحث روائي:

في المجمع، في قوله تعالى: ﴿ويقولون آمنا بالله﴾ الآيات قيل: نزلت الآيات في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهودي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف.

وحكى البلخي أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار وأراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني وبينك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه فنزلت الآيات، وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أو قريب منه أقول: وفي تفسير روح المعاني، عن الضحاك: أن النزاع كان بين علي والمغيرة بن وائل وذكر قريبا من القصة.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿إنما كان قول المؤمنين﴾ الآية: وروي عن أبي جعفر: أن المعني بالآية أمير المؤمنين (عليه السلام).

وفي الدر المنثور، في قوله تعالى: ﴿فإن تولوا فإنما عليه ما حمل - وعليكم ما حملتم﴾ الآية، أخرج ابن جرير وابن قانع والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجهني قال قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء من بعدك يأخذونا بالحق الذي علينا ويمنعونا الحق الذي جعله الله لنا نقاتلهم ونبغضهم؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم.

أقول: وفي معناه بعض روايات أخر مروية فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أن الإسلام بما فيه من روح إحياء الحق وإماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم وإباحة السكوت وتحمل الضيم والاضطهاد قبال الطغاة والفجرة لمن يجد إلى إصلاح الأمر سبيلا وقد اتضح بالأبحاث الاجتماعية اليوم أن استبداد الولاة برأيهم واتباعهم لأهوائهم في تحكماتهم أعظم خطرا وأخبث أثرا من إثارة الفتن وإقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحق والعدل.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم﴾ الآية: واختلف في الآية والمروي عن أهل البيت (عليهم السلام) أنها في المهدي من آل محمد.

قال: وروى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين (عليهما السلام): أنه قرأ الآية وقال: هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا وهو مهدي هذه الأمة، وهو الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا: وروي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: وبذلك وردت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تقدم بيان انطباق الآية على ذلك.

وقال في المجمع، بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام انتهى.

وقد عرفت أن المراد به عام والرواية لا تدل على أزيد من ذلك حيث قال (عليه السلام): هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا الحديث.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء: في قوله: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم﴾ الآية قال: فينا نزلت ونحن في خوف شديد.

أقول: ظاهره أن المراد بالذين آمنوا الصحابة وقد عرفت أن الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه.

وفيه، أخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات﴾ الآية.

أقول: هو لا يدل على أزيد من سبب النزول وأما أن المراد بالذين آمنوا من هم؟ وأن الله متى أنجز أو ينجز هذا الوعد؟ فلا تعرض له به.

ونظيرته روايته الأخرى: لما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات﴾ الآية قال: بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب.

فإن تبشير الأمة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالذين آمنوا في الآية جميع الأمة أو خصوص الصحابة أو نفرا معدودا منهم.

وفي نهج البلاغة، في كلام له لعمر لما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال (عليه السلام): إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعزه وأيده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا.

والله تعالى منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق ورب متفرق لم يجتمع، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض تنقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، وكان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك.

فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة.

أقول: وقد استدل به في روح المعاني، على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الإسلام وارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين وهو بمعزل عن ذلك بل دليل على خلافه، فإن ظاهر كلامه أن الوعد الإلهي لم يتم أمر إنجازه بعد وأنهم يومئذ في طريقه حيث يقول: والله منجز وعده، وأن الدين لم يمكن بعد ولا الخوف بدل أمنا وكيف لا؟ وهم بين خوفين خوف من تنقض العرب من داخل وخوف من مهاجمة الأعداء من خارج.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال: كنت جالسا مع حذيفة وابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما هو اليوم الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات﴾ إلى آخر الآية.

أقول: ليت شعري أين ذهب منافقو عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وشواهد الكتاب العزيز والتاريخ تدل على أنهم ما كانوا بأقل من ثلث أهل المدينة ومعظمهم بها أصدقوا الإسلام يوم رحلته (صلى الله عليه وآله وسلم) أم تغيرت آراؤهم في تربصهم الدوائر وتقليبهم الأمور؟.