الآيات 35-46

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿35﴾ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴿36﴾ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴿37﴾ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿38﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿39﴾ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴿40﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿41﴾ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿42﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴿43﴾ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ﴿44﴾ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿45﴾ لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿46﴾

بيان:

تتضمن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان والكفار، تميز المؤمنين منهم بأن المؤمنين مهديون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربهم يفيدهم معرفة الله سبحانه ويسلك بهم إلى أحسن الجزاء والفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم وأبصارهم الغطاء، والكفار لا تسلك بهم أعمالهم إلا إلى سراب لا حقيقة له، وهم في ظلمات بعضها فوق بعض ولم يجعل الله لهم نورا فما لهم من نور.

وقد بين سبحانه هذه الحقيقة بأن له تعالى نورا عاما تستنير به السماوات والأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البين أن ظهور شيء بشيء يستدعي كون المظهر ظاهرا بنفسه والظاهر بذاته المظهر لغيره هو النور فهو تعالى نور يظهر السماوات والأرض بإشراقه عليها كما أن الأنوار الحسية تظهر الأجسام الكثيفة للحس بإشراقها عليها غير أن ظهور الأشياء بالنور الإلهي عين وجودها وظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسية غير أصل وجودها.

ونورا خاصا يستنير به المؤمنون ويهتدون إليه بأعمالهم الصالحة وهو نور المعرفة الذي سيستنير به قلوبهم وأبصارهم يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، ومثل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلألأ الزجاجة كأنها كوكب دري فتزيد نورا على نور، والمصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربهم وعبادته تجارة ولا بيع.

فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقب للسعادة الخالدة، وحرمه على الكافرين وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فخص من اشتغل بربه وأعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، والله يفعل ما يشاء له الملك وإليه المصير يحكم بما أراد ينزل الودق والبرد من سحاب واحد، ويقلب الليل والنهار، ويجعل من الحيوان من يمشي على بطنه ومن يمشي على رجلين ومن يمشي على أربع وقد خلق الكل من ماء.

والآيات غير فاقدة للاتصال بما قبلها لما أن بيان الأحكام والشرائع فيما تقدم انتهى إلى مثل قوله: ﴿ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين﴾ والبيان إظهار لحقائق المعارف فهو تنوير إلهي.

على أن الآيات قرآن وقد سمى سبحانه القرآن في مواضع من كلامه نورا كقوله: ﴿وأنزلنا إليكم نورا مبينا﴾ النساء: 174.

قوله تعالى: ﴿الله نور السماوات والأرض﴾ إلى آخر الآية.

المشكاة على ما ذكره الراغب وغيره: كوة غير نافذة وهي ما يتخذ في جدار البيت من الكو لوضع بعض الأثاث كالمصباح وغيره عليه وهو غير الفانوس.

والدري: من الكواكب العظيم الكثير النور، وهو معدود في السماء، والإيقاد: الإشعال، والزيت: الدهن المتخذ من الزيتون.

وقوله: ﴿الله نور السماوات والأرض﴾ النور معروف وهو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا فالأشياء ظاهرة به وهو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر.

هذا أول ما وضع عليه لفظ النور ثم عمم لكل ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعد كل من الحواس نورا أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع والشم والذوق واللمس.

ثم عمم لغير المحسوس فعد العقل نورا يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره.

وإذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقا تاما للنور، ثم لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتم للنور فهناك وجود ونور يتصف به الأشياء وهو وجودها ونورها المستعار المأخوذ منه تعالى ووجود ونور قائم بذاته يوجد ويستنير به الأشياء.

فهو سبحانه نور يظهر به السماوات والأرض، وهذا هو المراد بقوله: ﴿الله نور السماوات والأرض﴾ حيث أضيف النور إلى السماوات والأرض ثم حمل على اسم الجلالة، وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إن المعنى الله منور السماوات والأرض، وعمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها وهو الوجود الذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك وتقدس.

ومن ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء إذ ظهور كل شيء لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهاره تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: ﴿ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه﴾ إذ لا معنى للتسبيح والعلم به وبالصلاة مع الجهل بمن يصلون له ويسبحونه فهو نظير قوله: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾ الإسراء: 44، وسيوافيك البحث عنه إن شاء الله.

فقد تحصل أن المراد بالنور في قوله: ﴿الله نور السماوات والأرض﴾ نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العام الذي يستنير به كل شيء وهو مساو لوجود كل شيء وظهوره في نفسه ولغيره وهي الرحمة العامة.

وقوله: ﴿مثل نوره﴾ يصف تعالى نوره، وإضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى - وظاهره الإضافة اللامية - دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله بل النور المستعار الذي يفيضه، وليس هو النور العام المستعار الذي يظهر به كل شيء وهو الوجود الذي يستفيضه منه الأشياء وتتصف، به والدليل عليه قوله بعد تتميم المثل: ﴿يهدي الله لنوره من يشاء﴾ إذ لو كان هو النور العام لم يختص به شيء دون شيء بل هو نوره الخاص بالمؤمنين بحقيقة الإيمان على ما يفيده الكلام.

وقد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نورا كما في قوله: ﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره﴾ الصف: 8، وقوله: ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾ الأنعام: 122 وقوله: ﴿يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به﴾ الحديد: 28، وقوله: ﴿أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه﴾ الزمر: 22، وهذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربهم وهو نور الإيمان والمعرفة.

وليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإن الآية تصف حال عامة المؤمنين قبل نزول القرآن وبعده.

على أن هذا النور وصف لهم يتصفون به كما يشير إليه قوله: ﴿لهم أجرهم ونورهم﴾ الحديد: 19 وقوله: ﴿يقولون ربنا أتمم لنا نورنا﴾ التحريم: 8، والقرآن ليس وصفا لهم وإن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلى ما قلناه.

وقوله: ﴿كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة﴾ المشبه به مجموع ما ذكر من قوله مشكاة فيها مصباح المصباح لا مجرد المشكاة وإلا فسد المعنى، وهذا كثير في تمثيلات القرآن.

وقوله: ﴿الزجاجة كأنها كوكب دري﴾ تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري من جهة ازدياد لمعان نور المصباح وشروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكونا من غير اضطراب بتموج الأهوية وضرب الرياح فهي كالكوكب الدري في تلألؤ نورها وثبات شروقها.

وقوله: ﴿يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار﴾ خبر بعد خبر للمصباح أي المصباح يشتعل آخذا اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة أي إنه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، والمراد بكون الشجرة لا شرقية ولا غربية أنها ليست نابتة في الجانب الشرقي ولا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار ويفيء الظل عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفو الدهن المأخوذ منها فلا تجود الإضاءة بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها.

والدليل على هذا المعنى قوله: ﴿يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار﴾ فإن ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن وكمال استعداده للاشتعال وأن ذلك متفرع على الوصفين: لا شرقية ولا غربية.

وأما قول بعضهم: إن المراد بقوله: ﴿لا شرقية ولا غربية﴾ أنها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إما في شرق أو في غرب، وكذا قول آخرين: إن المراد أنها ليست من شجر شرق المعمورة ولا من شجر غربها بل من شجر الشام الواقع بين الشرق والغرب وزيته أفضل الزيت فغير مفهوم من السياق.

وقوله: ﴿نور على نور﴾ خبر لمبتدأ محذوف وهو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، والمعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك أي في كمال التلمع.

والمراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدده فليس المراد به أنه نور معين أو غير معين فوق نور آخر مثله، ولا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل أنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه وهذا التعبير شائع في الكلام.

وهذا معنى لا يخلو من جودة وإن كان إرادة التعدد أيضا لا تخلو من لطف ودقة فإن للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالأصالة والحقيقة ونسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة والمجاز، ويتغاير النور بتغاير النسبتين ويتعدد بتعددهما وإن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح والزجاجة صفر الكف منه فللزجاجة بالنظر إلى تعدد النسب نور غير نور المصباح وهو قائم به ومستمد منه.

وهذا الاعتبار جار بعينه في الممثل له فإن نور الإيمان والمعرفة نور مستعار مشرق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به مستمد منه.

فقد تحصل أن الممثل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين والمثل هو المشبه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيد صاف وهو موضوع في مشكاة فإن نور المصباح المشرق من الزجاجة والمشكاة تجمعه وتعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوة والجودة.

فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة وانعكاسه إلى جو البيت، واعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية للدلالة على صفاء الدهن وجودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله وجودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، واعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون الزجاجة مستمدة من نور المصباح في إنارتها.

وقوله: ﴿يهدي الله لنوره من يشاء﴾ استئناف يعلل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان والمعرفة وحرمان غيرهم، فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: ﴿من يشاء﴾ القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾ إلخ، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم.

والمعنى: أن الله إنما هدى المتلبسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر - الذين سيذكرهم بعد - لمجرد مشيته، وليس المعنى أن الله يهدي بعض الأفراد إلى نوره دون بعض بمشيته ذلك حتى يحتاج في تتميمه إلى القول بأنه إنما يشاء الهداية إذا استعد المحل إلى الهداية بحسن السريرة، والسيرة وذلك مما يختص به أهل الإيمان دون أهل الكفر فافهمه.

والدليل على ذلك ما سيأتي من قوله: ﴿ولله ملك السماوات والأرض﴾ إلى آخر الآيات بالبيان الآتي إن شاء الله.

وقوله: ﴿ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم﴾ إشارة إلى أن المثل المضروب تحته طور من العلم، وإنما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبيين الحقائق والدقائق ويشترك فيه العالم والعامي فيأخذ منه كل ما قسم له، قال تعالى: ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون﴾ العنكبوت: 43.

قوله تعالى: ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه﴾ الإذن في الشيء هو إعلام ارتفاع المانع عن فعله، والمراد بالرفع رفع القدر والمنزلة وهو التعظيم، وإذ كانت العظمة والعلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلا أن ينتسب إليه، وبمقدار ما ينتسب إليه فالإذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنما هو لانتساب ما منها إليه.

وبذلك يظهر أن السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر اسمه فيها، والسياق يدل على الاستمرار أو التهيؤ له فيعود المعنى إلى مثل قولنا: ﴿أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك﴾.

وقوله: ﴿في بيوت﴾ متعلق بقوله في الآية السابقة: ﴿كمشكوة﴾ أو قوله: ﴿يهدي الله﴾ إلخ، والمال واحد، ومن المتيقن من هذه البيوت المساجد فإنها معدة لذكر اسمه فيها ممحضة لذلك، وقد قال تعالى: ﴿ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا﴾ الحج: 40.

قوله تعالى: ﴿يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال﴾ إلى آخر الآية.

تسبيحه تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، والغدو جمع غداة وهو الصبح والآصال جمع أصيل وهو العصر، والإلهاء صرف الإنسان عما يعنيه ويهمه، والتجارة على ما قاله الراغب: التصرف في رأس المال طلبا للربح.

قال: وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ.

والبيع على ما قال: إعطاء المثمن وأخذ الثمن، وقلب الشيء على ما ذكره صرف الشيء من وجه إلى وجه، والتقليب مبالغة فيه والتقلب قبوله فتقلب القلوب والأبصار تحول منها من وجه من الإدراك إلى وجه آخر.

وقوله: ﴿يسبح له فيها بالغدو والآصال﴾ صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله: ﴿ويذكر فيها اسمه﴾ وكون التسبيح بالغدو والآصال كناية عن استمرارهم فيه لا أن التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبح له في غيرهما.

والاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لأنه تعالى معلوم بجميع صفاته الكمالية لا سترة عليه إذ المفروض أنه نور والنور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره وإنما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه وتنزيهه عما لا يليق به فإذا تم التسبيح لم يبق معه غيره وتمت المعرفة ثم إذا تمت المعرفة وقع الثناء والحمد وبالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى: ﴿سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين﴾ الصافات: 160، فنزهه عما يصفونه به إلا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، وقد تقدم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى.

وببيان آخر حمده تعالى وهو ثناؤه بصفة الكمال مساوي لحصول نور المعرفة وتسبيحه وهو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدمة لحصوله، والآية في مقام بيان خصالهم التي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدمة وهو التسبيح، فافهم ذلك.

وقوله: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع﴾ التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع والشراء والبيع هو العمل الاكتسابي الدفعي فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة والاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة مع كونه منفيا بنفيها الدلالة على أنهم لا يلهون عن ربهم في مكاسبهم دائما ولا في وقت من الأوقات، وبعبارة أخرى لا تنسيهم ربهم تجارة مستمرة ولا بيع ما من البيوع التي يوقعونها مدة تجارتهم.

وقيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي إلهاء التجارة أن الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة التي هي الحرفة، فعدم إلهاء التجارة لا يستلزم عدم إلهاء البيع الرابح بالفعل، ولذلك نفى البيع ثانيا بعد نفي إلهاء التجارة ولذلك كررت لفظة ﴿لا﴾ لتذكير النفي وتأكيده، وهو وجه حسن.

وقوله: ﴿عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة﴾ الإقام هو الإقامة بحذف التاء تخفيفا.

والمراد بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة الإتيان بجميع الأعمال الصالحة التي كلف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، وإقامة الصلاة ممثلة لإتيان ما للعبد من وظائف العبودية مع الله سبحانه، وإيتاء الزكاة ممثل لوظائفه مع الخلق وذلك لكون كل منها ركنا في بابه.

والمقابلة بين ذكر الله وبين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهما - وخاصة الصلاة - من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي الذي يقابل النسيان والغفلة وهو ذكر علمي كما أن أمثال الصلاة والزكاة ذكر عملي.

فالمقابلة المذكورة تعطي أن المراد بقوله: ﴿عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة﴾ أنهم لا يشتغلون بشيء عن ذكرهم المستمر بقلوبهم لربهم وذكرهم الموقت بأعمالهم من الصلاة والزكاة، وعند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة والبيع وبين ذكر الله وإقام الصلاة إلخ، لرجوع المعنى إلى أنهم لا يلهيهم مله مستمر ولا موقت عن الذكر المستمر والموقت، فافهم ذلك.

وقوله: ﴿يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار﴾ هذا هو يوم القيامة، والمراد بالقلوب والأبصار ما يعم قلوب المؤمنين والكافرين وأبصارهم لكون القلوب والأبصار جمعا محلى باللام وهو يفيد العموم.

وأما تقلب القلوب والأبصار فالآيات الواصفة لشأن يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الأمر وانكشاف الغطاء كما قال تعالى: ﴿فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ ق: 22، وقال: ﴿وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون﴾ الزمر: 47، إلى غير ذلك من الآيات.

فتنصرف القلوب والأبصار يومئذ عن المشاهدة والرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحق والحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة والرؤية وهو الرؤية بنور الإيمان والمعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه وهو نور الإيمان والمعرفة فينظر إلى كرامة الله، ويعمى الكافر ولا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى: ﴿و أشرقت الأرض بنور ربها﴾ الزمر: 69 وقال: ﴿يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم﴾ الحديد: 12، وقال: ﴿ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى﴾ الإسراء: 72، وقال: ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ القيامة: 23 وقال: ﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون﴾ المطففين: 15.

وقد تبين بما مر: أولا: وجه اختصاص هذه الصفة أعني تقلب القلوب والأبصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر وذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدايته تعالى إلى نوره وهو نور الإيمان والمعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة ويبصر به.

وثانيا: أن المراد بالقلوب والأبصار النفوس وبصائرها.

وثالثا: أن توصيف اليوم بقوله: ﴿تتقلب فيه القلوب والأبصار﴾ لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب والأبصار، وإنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله والنظر إلى كرامته وهو الشقاء الدائم والعذاب الخالد وفي الحقيقة يخافون أنفسهم.

قوله تعالى: ﴿ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب﴾ الظاهر أن لام ﴿ليجزيهم﴾ للغاية، والذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة والأجر الجميل على كل صالح مما ينص عليه كلامه تعالى فقوله: إنه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنه يجزيهم بإزاء عملهم في كل باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، ومرجع ذلك إلى أنه تعالى يزكي أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها وانحطاط قدرها فيعد الحسن منها أحسن.

ويؤيد هذا المعنى قوله في ذيل الآية: ﴿والله يرزق من يشاء بغير حساب﴾ فإن ظاهره عدم المداقة في حساب الحسنات بالإغماض عن جهات نقصها فيلحق الحسن بالأحسن.

وقوله: ﴿ويزيدهم من فضله﴾ الفضل العطاء، وهذا نص في أنه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، وأوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: ﴿لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد﴾ ق: 35، حيث إن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلق به مشيتهم.

وقد دل كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاءون قال تعالى: ﴿أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين﴾ الزمر: 34، وقال: ﴿أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين﴾ الفرقان: 16، وقال: ﴿لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين﴾ النحل: 31.

فهذا المزيد الذي هو وراء جزاء الأعمال أمر أعلى وأعظم من أن تتعلق به مشية الإنسان أو يوصل إليه سعيه، وهذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين ويبشرهم به فأجد التدبر فيه.

وقوله: ﴿والله يرزق من يشاء بغير حساب﴾ استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: ﴿يهدي الله لنوره من يشاء﴾ على ما مر بيانه.

ومحصله أنهم عملوا صالحا وكان لهم من الأجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: ﴿وتوفى كل نفس ما عملت﴾ النحل: 111، وما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى وأرفع من أن تتعلق به مشيتهم وهذه أيضا موهبة ورزق بغير حساب، والرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء.

غير أنه تعالى وعدهم الرزق وأقسم على إنجازه في قوله: ﴿فورب السماء والأرض إنه لحق﴾ الذاريات: 23، فملكهم الاستحقاق لأصله وهو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم وأما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية وللكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل.

قوله تعالى: ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء﴾ إلى آخر الآية.

السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء ولا حقيقة له، والقيع والقاع هو المستوي من الأرض ومفرداهما القيعة والقاعة كالتينة والتمرة، والظمآن هو العطشان.

لما ذكر سبحانه المؤمنين ووصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة ولا بيع، وأن الله الذي هو نور السماوات والأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، وتارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها وهي حاجزة عن النور، وهذه الآية هي التي تتضمن الوصف الأول.

فقوله: ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا﴾ شبه أعمالهم - وهي التي يأتون بها من قرابين وأذكار وغيرهما من عباداتهم يتقربون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء ولا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش وغير ذلك.

وإنما قيل: يحسبه الظمآن ماء مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء لأن المطلوب بيان سيره إليه ولا يسير إليه إلا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمأ، ولذلك رتب عليه قوله: ﴿حتى إذا جاءه لم يجده شيئا﴾ كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظمآن ماء فيسير إليه ويقبل نحوه ليرتوي ويرفع عطشه به، ولا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

والتعبير بقوله: ﴿جاءه﴾ دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه ونحوها للإيماء إلى أن هناك من يريد مجيئه وينتظره انتظارا وهو الله سبحانه، ولذلك أردفه بقوله: ﴿ووجد الله عنده فوفاه حسابه﴾ فأفاد أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم وجبلتهم وهو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته وجبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، ولا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنا منهم لهم حقيقة بل الذي ينتهي إليه أعمالهم ويحيط هو بها ويجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، وتوفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال وإيصال ما يستحقه صاحب الأعمال.

ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، وتشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء وعنده عذب الماء لكنه يعرض عنه ولا يصغي إلى مولاه الذي ينصحه ويدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه ويقبل نحوه، وتشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال وعند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه وعنده مولاه الذي كان ينصحه ويدعوه إلى شرب الماء.

فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربهم والأعمال الصالحة الهادية إلى نوره وفيه سعادتهم وحسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم والأعمال المقربة إليهم وفيها سعادتهم فأكبوا على تلك الأعمال السرابية واستوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم وشارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم ولا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم والله سريع الحساب.

وقوله: ﴿والله سريع الحساب﴾ إنما هو لإحاطة علمه بالقليل والكثير والحقير والخطير والدقيق والجليل والمتقدم والمتأخر على حد سواء.

واعلم أن الآية وإن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل وخاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الإنسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة ولا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع ويراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه والفوز بالسعادة التي يقدرها له، وإن كان ممن ينكره وينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر والطبيعة والمادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بما وراءها.

فهؤلاء يرون المؤثر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى ولا مؤثر غيره ويرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم وليست إلا سرابا لا حقيقة له ولا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الأعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئا وعاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، وعند ذلك يوفيهم الله حسابهم والله سريع الحساب.

قوله تعالى: ﴿أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب﴾ تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، وقد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: ﴿والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات﴾ البقرة: 257، وقوله: ﴿كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾ الأنعام: 122، وقوله: ﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون﴾ المطففين: 15.

وقوله: ﴿أو كظلمات في بحر لجي﴾ معطوف على ﴿سراب﴾ في الآية السابقة، والبحر اللجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر وهي تردد أمواجه، والمعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي.

وقوله: ﴿يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب﴾ صفة البحر جيء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنه يغشاه ويحيط به موج كائن من فوقه موج آخر كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس والقمر والنجوم.

وقوله: ﴿ظلمات بعضها فوق بعض﴾ تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، وقد أكد ذلك بقوله: ﴿إذا أخرج يده لم يكد يراها﴾ فإن أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه وهو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لأنه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده ولم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.

فهؤلاء وهم سائرون إلى الله وصائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون ولا نور هناك يستضيء به فيهتدي إلى ساحل النجاة.

وقوله: ﴿ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور﴾ نفي للنور عنهم بأن الله لم يجعله لهم، كيف لا؟ وجاعل النور هو الله الذي هو نور كل شيء، فإذا لم يجعل لشيء نورا لم يكن له نورا إذ لا جاعل غيره تعالى.

قوله تعالى: ﴿ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات﴾ إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه أنه نور تستنير به السماوات والأرض وأنه يختص بمزيد نوره المؤمنين من عباده والذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتج على ذلك بما في هذه الآية والآيات الأربع التالية لها.

فكونه تعالى نور السماوات والأرض يدل عليه أن ما في السماوات والأرض موجود بوجود ليس من عنده ولا من عند شيء مما فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الذي ينتهي إليه الحاجات.

فوجود كل شيء مما فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدل على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشيء ويدل على منوره بما أشرق عليه من النور وأن هناك نورا يستنير به كل شيء فكل شيء مما فيهما يدل على أن وراءه شيئا منزها من الظلمة التي غشيته، والفاقة التي لزمته، والنقص الذي لا ينفك عنه، وهذا هو تسبيح ما في السماوات والأرض له سبحانه، ولازمه نفي الاستقلال عن كل من سواه وسلب أي إله ورب يدبر الأمر دونه تعالى.

وإلى ذلك يشير قوله: ﴿ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه﴾ وبه يحتج تعالى على كونه نور السماوات والأرض لأن النور هو ما يظهر به الشيء المستنير ثم يدل بظهوره على مظهره، وهو تعالى يظهر ويوجد بإظهاره وإيجاده الأشياء ثم يدل على ظهوره ووجوده.

وتزيد الآية بالإشارة إلى لطائف يكمل بها البيان: منها: اختصاصها من في السماوات والأرض والطير صافات وهم العقلاء وبعض ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾.

ولعل ذلك من باب اختيار أمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإن ظهور الموجود العاقل الذي يدل عليه لفظ ﴿من في السماوات والأرض﴾ من عجيب أمر الخلقة الذي يدهش لب ذي اللب، كما أن صفيف الطير الصافات في الجو من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور وأبدعه.

ويظهر من بعضهم أن المراد بقوله: ﴿من في السماوات﴾ إلخ، جميع الأشياء وإنما عبر بلفظ أولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شئون أولي العقل أو للتنبيه على قوة تلك الدلالة ووضوح تلك الإشارة تنزيلا للسان الحال منزلة المقال.

وفيه أنه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد: ﴿كل قد علم صلاته وتسبيحه﴾.

ومنها: تصدير الكلام بقوله: ﴿ألم تر﴾ وفيه دلالة على ظهور تسبيحهم ووضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيرا ما يعبر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى: ﴿ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض﴾ إبراهيم: 19، والخطاب فيه عام لكل ذي عقل وإن كان خاصا بحسب اللفظ.

ومن الممكن أن يكون خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان أراه الله تسبيح من في السماوات والأرض والطير صافات فيما أراه من ملكوت السماوات والأرض وليس ببدع منه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفه كما وردت به الأخبار المعتبرة.

ومنها: أن الآية تعمم العلم لكل ما ذكر في السماوات والأرض والطير، وقد تقدم بعض البحث عنه في تفسير قوله: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾ الإسراء: 44، وستجيء تتمة الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

وقول بعضهم: إن الضمير في قوله: ﴿قد علم﴾ راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق وخاصة لقوله بعده: ﴿والله عليم بما يفعلون﴾ ونظيره قول آخرين: إن إسناد العلم إلى مجموع ما تقدم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوة دلالته على تسبيحه وتنزيهه.

ومنها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أن الأشياء تشير إلى صفات كماله تعالى وهو التحميد كما تسبحه على ما يدل عليه البرهان ويؤيده قوله: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾ ولعل الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد ونفي الشركاء وذلك بالتنزيه أمس فإن من يدعو من دون الله إلها آخر أو يركن إلى غيره نوعا من الركون إنما يكفر بإثبات خصوصية وجود ذلك الشيء للإله تعالى فنفيه إنما يتأتى بالتنزيه دون التحميد فافهمه.

وأما قوله: ﴿كل قد علم صلاته وتسبيحه﴾ فصلاته دعاؤه والدعاء توجيه من الداعي للمدعو إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعو في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء والتحميد.

ومنها: أن الآية تنسب التسبيح والعلم به إلى من في السماوات والأرض فيعم المؤمن والكافر، ويظهر بذلك أن هناك نورين: نور عام يعم الأشياء والمؤمن والكافر فيه سواء، وإلى ذلك تشير آيات كآية الذر: ﴿وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين﴾ الأعراف: 172، وقوله: ﴿فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ ق: 22 إلى غير ذلك، ونور خاص وهو الذي تذكره الآيات ويختص بأوليائه من المؤمنين.

فالنور الذي ينور تعالى به خلقه كالرحمة التي يرحمهم بها قسمان: عام وخاص وقد قال تعالى: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ الأعراف: 156، وقوله: ﴿فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته﴾ الجاثية: 30، وقد جمع بينهما في قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا﴾ الحديد: 28، وما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء الثاني من كفلي الرحمة.

وقوله: ﴿والله عليم بما يفعلون﴾ ومن فعلهم تسبيحهم له سبحانه، وهذا التسبيح وإن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعد فعلا لهم بهذه العناية.

وفي ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين وشكر لهم بأن ربهم يعلم ذلك منهم وسيجزيهم جزاء حسنا، وإيذان بتمام الحجة على الكافرين، فإن من مراتب علمه تعالى كتب الأعمال والكتاب المبين التي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثم إنكارهم بألسنتهم.

قوله تعالى: ﴿ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير﴾ سياق الآية وقد وقعت بين قوله: ﴿ألم تر أن الله يسبح له﴾ إلخ، وهو احتجاج على شمول نوره العام لكل شيء، وبين قوله: ﴿ألم تر أن الله يزجي﴾ إلخ، وما يتعقبه وهو احتجاج على اختصاص النور الخاص، يعطي أنها كالمتوسط بين القبيلين أعني بين الأمرين يحتج بها على كليهما، فملكه تعالى لكل شيء وكونه مصيرا لها هو دليل على تعميمه نوره العام وتخصيصه نوره الخاص يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

فقوله: ﴿ولله ملك السماوات والأرض﴾ يخص الملك ويقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكل شيء، وإذ كان لا مليك إلا هو وإليه مرجع كل شيء ومصيره فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

ومن هنا يظهر أن المراد - والله أعلم - بقوله: ﴿وإلى الله المصير﴾ مرجعيته تعالى في الأمور دون المعاد نظير قوله: ﴿ألا إلى الله تصير الأمور﴾ الشورى: 53.

قوله تعالى: ﴿ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله﴾ إلى آخر الآية.

الإزجاء هو الدفع، والركام المتراكم بعضه على بعض، والودق هو المطر، والخلال جمع الخلل وهو الفرجة بين الشيئين.

والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، والمعنى: ألم تر أنت وكل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله وفرجه فينزل على الأرض.

وقوله: ﴿وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار﴾ السماء جهة العلو، وقوله: ﴿من جبال فيها﴾ بيان للسماء، والجبال جمع جبل وهو معروف، وقوله: ﴿من برد﴾ بيان للجبال، والبرد قطعات الجمد النازل من السماء، وكونه جبالا فيها كناية عن كثرته وتراكمه، والسنا بالقصر الضوء.

والكلام معطوف على قوله: ﴿يزجي﴾ والمعنى: ألم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع والبساتين وربما قتل النفوس والمواشي ويصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالأبصار.

والآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، والمعنى: أن الأمر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم ومواشيهم ومزارعهم وبساتينهم، وإذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء.

قوله تعالى: ﴿يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار﴾ بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى فقط.

تقليب الليل والنهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع﴾ بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى محضا حيث يخلق كل دابة من ماء ثم تختلف حالهم في المشي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات والديدان، ومنهم من يمشي على رجلين كالأناسي والطيور ومنهم من يمشي على أربع كالبهائم والسباع، واقتصر سبحانه على هذه الأنواع الثلاثة - وفيهم غير ذلك - إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار.

وقوله: ﴿يخلق الله ما يشاء﴾ تعليل لما تقدم من اختلاف الدواب، مع وحدة المادة التي خلقت منها يبين أن الأمر إلى مشية الله محضا فله أن يعمم فيضا من فيوضه على جميع خلقه كالنور العام، والرحمة العامة وله أن يختص بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض كالنور الخاص والرحمة الخاصة.

وقوله: ﴿إن الله على كل شيء قدير﴾ تعليل لقوله: ﴿يخلق الله ما يشاء﴾ فإن إطلاق القدرة على كل شيء يستوجب أن لا يتوقف شيء من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيته وإلا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الأمر وهذا خلف.

وهذا باب من التوحيد دقيق سيتضح بعض الاتضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي.

بحث فلسفي إنا لا نشك في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى وأن كثيرا منها - وخاصة في الماديات - تتوقف في وجودها على شروط لا تحقق لها بدونها كالإنسان الذي هو ابن فإن لوجوده توقفا على وجود الوالدين وعلى شرائط أخرى كثيرة زمانية ومكانية، وإذ كان من الضروري كون كل مما يتوقف عليه جزء من علته التامة كان الواجب تعالى على هذا جزء علته التامة لا علة تامة وحدها.

نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة إذ لا يتوقف على شيء غيره وكذا الصادر الأول الذي تتبعه بقية أجزاء المجموع، وأما سائر أجزاء العالم فإنه تعالى جزء علته التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل وما هو معه من الشرائط والمعدات.

هذا إذا اعتبرنا كل واحد من الأجزاء بحياله ثم نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.

وهاهنا نظر آخر أدق وهو أن الارتباط الوجودي الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كل شيء وبين علله الممكنة وشروطه ومعداته يقضي بنوع من الاتحاد والاتصال بينها فالواحد من الأجزاء ليس مطلقا منفصلا بل هو في وجوده المتعين مقيد بجميع ما يرتبط به متصل الهوية بغيرها.

فالإنسان الابن الذي كنا نعتبره في المثال المتقدم بالنظر السابق موجودا مستقلا مطلقا فنجده متوقفا على علل وشروط كثيرة والواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هوية مقيدة بجميع ما كان يعتبر توقفه عليه من العلل والشرائط غير الواجب تعالى فحقيقة زيد مثلا هو الإنسان ابن فلان وفلانة المتولد في زمان كذا ومكان كذا المتقدم عليه كذا وكذا المقارن لوجوده كذا وكذا من الممكنات.

فهذه هو حقيقة زيد مثلا ومن الضروري أن ما حقيقته ذلك لا تتوقف على شيء غير الواجب فالواجب هو علته التامة التي لا توقف له على غيره، ولا حاجة له إلى غير مشيته، وقدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة ولا مقيدة، وهو قوله تعالى: ﴿يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير﴾.

قوله تعالى: ﴿لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ يريد آية النور وما يتلوها المبينة لصفة نوره تعالى والصراط المستقيم سبيله التي لا سبيل للغضب والضلال إلى من اهتدى إليها كما قال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ الفاتحة: 7، وقد تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة.

وتذييل الآية بقوله: ﴿والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ هو الموجب لعدم تقييد قوله: ﴿لقد أنزلنا آيات مبينات﴾ بلفظة إليكم بخلاف قوله قبل آيات: ﴿لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين﴾.

إذ لو قيل: لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات والله يهدي.

تبادر إلى الذهن أن البيان اللفظي هداية إلى الصراط المستقيم وأن المخاطبين عامة مهديون إلى الصراط المستقيم وفيهم المنافق والذين في قلوبهم مرض والله العالم.

بحث روائي:

في التوحيد، بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿الله نور السماوات والأرض﴾ فقال: هاد لأهل السماوات وهاد لأهل الأرض.

وفي رواية البرقي: هدى من في السماوات وهدى من في الأرض.

أقول إذا كان المراد بالهداية الهداية الخاصة وهي الهداية إلى السعادة الدينية كان من التفسير بمرتبة من المعنى، وإن كان المراد بها الهداية العامة وهي إيصال كل شيء إلى كماله انطبق على ما تقدم.

وفي الكافي، بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني امرأة أن أدخلها على أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت ومعها مولاة لها فقالت له: يا أبا عبد الله قول الله: ﴿زيتونة لا شرقية ولا غربية﴾ ما عنى بهذا؟ فقال لها: أيتها المرأة إن الله لم يضرب الأمثال للشجر إنما ضرب الأمثال لبني آدم.

وفي تفسير القمي، بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): في هذه الآية ﴿الله نور السماوات والأرض﴾ قال: بدأ بنور نفسه ﴿مثل نوره﴾ مثل هداه في قلب المؤمن ﴿كمشكوة فيها مصباح﴾ والمصباح جوف المؤمن والقنديل قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله في قلبه.

﴿يوقد من شجرة مباركة﴾ قال: الشجرة المؤمن ﴿زيتونة لا شرقية ولا غربية﴾ قال: على سواد الجبل لا غربية أي لا شرق لها، ولا شرقية أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها وإذا غربت غربت عليها ﴿يكاد زيتها يضيء﴾ يكاد النور الذي في قلبه يضيء وإن لم يتكلم.

﴿نور على نور﴾ فريضة على فريضة، وسنة على سنة ﴿يهدي الله لنوره من يشاء﴾ يهدي الله لفرائضه وسننه من يشاء ﴿ويضرب الله الأمثال للناس﴾ فهذا مثل ضربه الله للمؤمن.

ثم قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله نور، ومخرجه نور، وعلمه نور، وكلامه نور، ومصيره يوم القيامة إلى الجنة نور.

قلت لجعفر (عليه السلام): إنهم يقولون: مثل نور الرب.

قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله: ﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ .

أقول: الحديث يؤيد ما تقدم في تفسير الآية، وقد اكتفى (عليه السلام) في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالذي ذكره في ذيل قوله: ﴿يكاد زيتها يضيء﴾ وقوله: ﴿نور على نور﴾.

وأما قوله: ﴿سبحان الله ليس لله مثل﴾ فإنما ينفي به أن يكون المثل مثلا للنور الذي هو اسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلا له تعالى يؤدي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات والأرض، وأما الضمير في قوله: ﴿مثل نوره﴾ فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح.

وفي التوحيد، وقد روي عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿الله نور السماوات والأرض - مثل نوره كمشكوة فيها مصباح﴾ فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبي والأئمة (صلى الله عليه وآله وسلم) من دلالات الله وآياته التي يهتدى بها إلى التوحيد ومصالح الدين وشرائع الإسلام والسنن والفرائض، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق وهو من أفضل المصاديق وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والطاهرون من أهل بيته (عليهم السلام) وإلا فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) والأوصياء والأولياء.

نعم ليست الآية بعامة لجميع المؤمنين لأخذها في وصفهم صفات لا تعم الجميع كقوله: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾ إلخ.

وقد وردت عدة من الأخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) وهي من التطبيق دون التفسير، ومن الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق كرواية الكليني في روضة الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها: أن المشكاة قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمصباح النور الذي فيه العلم، والزجاجة علي أو قلبه، والشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية ولا غربية إبراهيم (عليه السلام) ما كان يهوديا ولا نصرانيا، وقوله: ﴿يكاد زيتها يضيء﴾ إلخ، يكاد أولادهم أن يتكلموا بالنبوة وإن لم ينزل عليهم ملك.

وما رواه في التوحيد، بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقر (عليه السلام) وفيه: أن المشكاة نور العلم في صدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والزجاجة صدر علي ﴿يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار﴾ يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل ﴿نور على نور﴾ إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر الإمام من آل محمد.

وما في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني عن الصادق (عليه السلام) وفيه: أن المشكاة فاطمة (عليها السلام)، والمصباح الحسن (عليه السلام)، والزجاجة الحسين (عليه السلام)، والشجرة المباركة إبراهيم (عليه السلام)، ولا شرقية ولا غربية ما كان يهوديا ولا نصرانيا، ونور على نور إمام بعد إمام، ويهدي الله لنوره من يشاء يهدي الله للأئمة (عليهم السلام) من يشاء وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: ﴿زيتونة لا شرقية ولا غربية﴾ قال: قلب إبراهيم لا يهودي ولا نصراني.

أقول: وهو من قبيل ذكر بعض المصاديق، وقد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما تقدم.

وفيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قالا: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع﴾ فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء.

فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة؟ قال: نعم من أفاضلها.

أقول: ورواه في المجمع، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسلا، وروى هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) ولفظه: قال: هي بيوت الأنبياء وبيت علي (عليه السلام) منها.

وهو على أي حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدم.

وفي نهج البلاغة، من كلام له (عليه السلام) عند تلاوته ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾ وإن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم يشغلهم تجارة ولا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر وينتهون عنه.

كأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع﴾ وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام): أنهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وانطلقوا إلى الصلاة وهم أعظم أجرا ممن لم يتجر.

أقول: أي لم يتجر واشتغل بذكر الله كما في روايات أخر.

وفي الدر المنثور، عن ابن مردويه وغيره عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾ قال: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله.

أقول: كأن الرواية غير تامة وتمامها فيما روي عن ابن عباس قال: كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿والله سريع الحساب﴾ وسئل أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.

وفي روضة الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز وجل جعل السحاب غرابيل المطر هي تذيب البرد حتى يصير ماء لكي لا يضر شيئا يصيبه، والذي ترون فيه من البرد والصواعق نقمة من الله عز وجل يصيب بها من يشاء من عباده.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿فمنهم من يمشي على بطنه - ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع﴾ قال: على رجلين الناس، وعلى بطنه الحيات، وعلى أربع البهائم، وقال أبو عبد الله (عليه السلام): ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك.