الآيات 1-6

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿1﴾ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴿2﴾ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿3﴾ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿4﴾ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿5﴾ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿6﴾

بيان:

تتعرض السورة لمعان متنوعة من حكم وأدب وصفة فشطر منها في حكم الظهار والنجوى وأدب الجلوس في المجالس وشطر منها يصف حال الذين يحادون الله ورسوله، والذين يوادون أعداء الدين ويصف الذين يتحرزون من موادتهم من المؤمنين ويعدهم وعدا جميلا في الدنيا والآخرة.

والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما﴾ إلخ، قال في المجمع، الاشتكاء إظهار ما بالإنسان من مكروه، والشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه.

قال: والتحاور التراجع وهي المحاورة يقال: حاوره محاورة أي راجعه الكلام وتحاورا.

الآيات الأربع أو الست نزلت في الظهار وكان من أقسام الطلاق عند العرب الجاهلي كان الرجل يقول لامرأته: أنت مني كظهر أمي فتنفصل عنه وتحرم عليه مؤبدة وقد ظاهر بعض الأنصار من امرأته ثم ندم عليه فجاءت امرأته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسائله فيه لعلها تجد طريقا إلى رجوعه إليها وتجادله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك وتشتكي إلى الله فنزلت الآيات.

والمراد بالسمع في قوله: ﴿قد سمع الله﴾ استجابة الدعوة وقضاء الحاجة من باب الكناية وهو شائع والدليل عليه قوله: ﴿تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله﴾ الظاهر في أنها كانت تتوخى طريقا إلى أن لا تنفصل عن زوجها، وأما قوله: ﴿والله يسمع تحاوركما﴾ فالسمع فيه بمعناه المعروف.

والمعنى: قد استجاب الله للمرأة التي تجادلك في زوجها - وقد ظاهر منها - وتشتكي غمها وما حل بها من سوء الحال إلى الله والله يسمع تراجعكما في الكلام أن الله سميع للأصوات بصير بالمبصرات.

قوله تعالى: ﴿الذين يظاهرون من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم﴾ إلخ، نفي لحكم الظهار المعروف عندهم وإلغاء لتأثيره بالطلاق والتحريم الأبدي بنفي أمومة الزوجة للزوج بالظهار فإن سنة الجاهلية تلحق الزوجة بالأم بسبب الظهار فتحرم على زوجها حرمة الأم على ولدها حرمة مؤبدة.

فقوله: ﴿ما هن أمهاتهم﴾ أي بحسب اعتبار الشرع بأن يلحقن شرعا بهن بسبب الظهار فيحرمن عليهم أبدا ثم أكده بقوله: ﴿إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم﴾ أي ليس أمهات أزواجهن إلا النساء اللاتي ولدنهم.

ثم أكد ذلك ثانيا بقوله: ﴿وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا﴾ بما فيه من سياق التأكيد أي وإن هؤلاء الأزواج المظاهرين ليقولون بالظهار منكرا من القول ينكره الشرع حيث لم يعتبره ولم يسنه، وكذبا باعتبار أنه لا يوافق الشرع كما لا يطابق الخارج الواقع في الكون فأفادت الآية أن الظهار لا يفيد طلاقا وهذا لا ينافي وجوب الكفارة عليه لو أراد المواقعة بعد الظهار فالزوجية على حالها وإن حرمت المواقعة قبل الكفارة.

وقوله: ﴿وإن الله لعفو غفور﴾ لا يخلو من دلالة على كونه ذنبا مغفورا لكن ذكر الكفارة في الآية التالية مع تذييلها بقوله: ﴿وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم﴾ ربما دل على أن المغفرة مشروطة بالكفارة.

قوله تعالى: ﴿والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا﴾ إلخ، الكلام في معنى الشرط ولذلك دخلت الفاء في الخبر لأنه في معنى الجزاء والمحصل: أن الذين ظاهروا منهن ثم أرادوا العود لما قالوا فعليهم تحرير رقبة.

وفي قوله: ﴿من قبل أن يتماسا﴾ دلالة على أن الحكم في الآية لمن ظاهر ثم أراد الرجوع إلى ما كان عليه قبل الظهار وهو قرينة على أن المراد بقوله: ﴿يعودون لما قالوا﴾ إرادة العود إلى نقض ما أبرموه بالظهار.

والمعنى: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يريدون أن يعودوا إلى ما تكلموا به من كلمة الظهار فينقضوها بالمواقعة فعليهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.

وقيل: المراد بعودهم لما قالوا ندمهم على الظهار، وفيه أن الندم عليه يصلح أن يكون محصل المعنى لا أن يكون معنى الكلمة ﴿يعودون لما قالوا﴾.

وقيل: المراد بعودهم لما قالوا رجوعهم إلى ما تلفظوا به من كلمة الظهار بأن يتلفظوا بها ثانيا وفيه أن لازمه ترتب الكفارة دائما على الظهار الثاني دون الأول والآية لا تفيد ذلك والسنة إنما اعتبرت تحقق الظهار دون تعدده.

ثم ذيل الآية بقوله: ﴿ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير﴾ إيذانا بأن ما أمر به من الكفارة توصية منه بها عن خبره بعملهم ذاك، فالكفارة هي التي ترتفع بها ما لحقهم من تبعة العمل.

قوله تعالى: ﴿فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا﴾ إلى آخر الآية خصلة ثانية من الكفارة مترتبة على الخصلة الأولى لمن لا يتمكن منها وهي صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، وقيد ثانيا بقوله: ﴿من قبل أن يتماسا﴾ لدفع توهم اختصاص القيد بالخصلة الأولى.

وقوله: ﴿فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا﴾ بيان للخصلة الثالثة فمن لم يطق صيام شهرين متتابعين فعليه إطعام ستين مسكينا وتفصيل الكلام في ذلك كله في الفقه.

وقوله: ﴿ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله﴾ أي ما جعلناه من الحكم وافترضناه من الكفارة فأبقينا علقة الزوجية ووضعنا الكفارة لمن أراد أن يرجع إلى المواقعة جزاء بما أتى بسنة من سنن الجاهلية كل ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وترفضوا أباطيل السنن.

وقوله: ﴿وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم﴾ حد الشيء ما ينتهي إليه ولا يتعداه وأصله المنع، والمراد أن ما افترضناه من الخصال أو ما نضعها من الأحكام حدود الله فلا تتعدوها بالمخالفة وللكافرين بما حكمنا به في الظهار أو بما شرعناه من الأحكام بالمخالفة والمحادة عذاب أليم.

والظاهر أن المراد بالكفر رد الحكم والأخذ بالظهار بما أنه سنة مؤثرة مقبولة، ويؤيده قوله: ﴿ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله﴾ أي تذعنوا بأن حكم الله حق وأن رسوله صادق أمين في تبليغه، وقد أكده بقوله: ﴿وتلك حدود الله﴾ إلخ، ويمكن أن يكون المراد بالكفر الكفر في مقام العمل وهو العصيان.

قوله تعالى: ﴿إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم﴾ إلخ، المحادة الممانعة والمخالفة، والكبت الإذلال والإخزاء.

والآية والتي تتلوها وإن أمكن أن تكونا استئنافا يبين أمر محادة الله ورسوله من حيث تبعتها وأثرها لكن ظاهر السياق أن تكونا مسوقتين لتعليل ذيل الآية السابقة الذي معناه النهي عن محادة الله ورسوله، والمعنى: إنما أمرناكم بالإيمان بالله ورسوله ونهيناكم عن تعدي حدود الله والكفر بها لأن الذين يحادون الله ورسوله بالمخالفة أذلوا وأخزوا كما أذل وأخزى الذين من قبلهم.

ثم أكده بقوله: ﴿وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين﴾ أي لا ريب في كونها منا وفي أن رسولنا صادق أمين في تبليغها، وللكافرين بها الرادين لها عذاب مهين مخز.

قوله تعالى: ﴿يوم يبعثهم الله فينبؤهم بما عملوا﴾ ظرف لقوله: ﴿وللكافرين عذاب أليم﴾ أي لهم أليم العذاب في يوم يبعثهم الله وهو يوم الحساب والجزاء فيخبرهم بحقيقة جميع ما عملوا في الدنيا.

وقوله: ﴿أحصاه الله ونسوه﴾ الإحصاء الإحاطة بعدد الشيء من غير أن يفوت منه شيء، قال الراغب: الإحصاء التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا، وذلك من لفظ الحصى، واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع.

وقوله: ﴿والله على كل شيء شهيد﴾ تعليل لقوله: ﴿أحصاه الله﴾ وقد مر تفسير شهادة الله على كل شيء في آخر سورة حم السجدة.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج ابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبرئيل بهذه الآيات ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها﴾ وهو أوس بن الصامت.

أقول: والروايات من طرق أهل السنة في هذا المعنى كثيرة جدا، واختلفت في اسم المرأة واسم أبيها واسم زوجها واسم أبيه والأعرف أن اسمها خولة بنت ثعلبة واسم زوجها أوس بن الصامت الأنصاري وأورد القمي إجمال القصة في رواية، وله رواية أخرى ستوافيك.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿والذين يظاهرون من نسائهم - ثم يعودون لما قالوا﴾ فأما ما ذهب إليه أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو أن المراد بالعود إرادة الوطء ونقض القول الذي قاله فإن الوطء لا يجوز له إلا بعد الكفارة، ولا يبطل حكم قوله الأول إلا بعد الكفارة.

وفي تفسير القمي، حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن امرأة من المسلمات أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إن فلانا زوجي وقد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته لم تر مني مكروها أشكوه إليك.

قال: فيم تشكونيه؟ قالت: إنه قال: أنت علي حرام كظهر أمي وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري.

فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضي فيه بينك وبين زوجك وأنا أكره أن أكون من المتكلفين، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله عز وجل وإلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانصرفت.

قال: فسمع الله تبارك وتعالى مجادلتها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في زوجها وما شكت إليه، وأنزل الله في ذلك قرآنا ﴿بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها﴾ إلى قوله ﴿وإن الله لعفو غفور﴾.

قال: فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المرأة فأتته فقال لها: جيئي بزوجك، فأتته فقال له: أقلت لامرأتك هذه: أنت حرام علي كظهر أمي؟ فقال: قد قلت لها ذلك.

فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد أنزل الله تبارك وتعالى فيك وفي امرأتك قرآنا وقرأ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم - قد سمع الله قول التي تجادلك إلى قوله إن الله لعفو غفور﴾ فضم إليك امرأتك فإنك قد قلت منكرا من القول وزورا، وقد عفا الله عنك وغفر لك ولا تعد.

قال: فانصرف الرجل وهو نادم على ما قال لامرأته، وكره الله عز وجل ذلك للمؤمنين بعد وأنزل الله: ﴿الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا﴾ يعني لما قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي.

قال: فمن قالها بعد ما عفا الله وغفر للرجل الأول فإن عليه ﴿تحرير رقبة من قبل أن يتماسا﴾ يعني مجامعتها ﴿ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير - فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا - فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا﴾ قال: فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا.

ثم قال: ﴿ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله﴾ قال: هذا حد الظهار.

أقول: الآية بما لها من السياق وخاصة ما في آخرها من ذكر العفو والمغفرة أقرب انطباقا على ما سيق من القصة في هذه الرواية، ولا بأس بها من حيث السند أيضا غير أنها لا تلائم ظاهر ما في الآية من قوله: ﴿الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا﴾.